رواية مذاق العشق المر الفصل العاشر 10 بقلم سارة المصري
رأى صدمتها جلية فى عينيها ودمعة تحجرت كصخرة صلبة فيهما تشتهي بعضا من ضعفها لتتفتت وينحدر حطامها على وجنتيها ولكن كبريائها المعهود يحمي صلابتها ويحفظ قوتها كالمعتاد ..
طالعته للحظات عاجزة عن الرد..أخفض رأسه يتحاشى نظراتها.. أدرك أخيرا وقاحة ما نطق به ..
رفعت رأسها في شموخ لتخبره في حسم حررت به نبرتها المختنقة :
” فعلا مش لازم تستمر ولازم يكون لها نهاية ودلوقتي ”
تنهد في عمق وهم أن يعتذر عما تفوه به لولا دخول والده المفاجىء وهو يلهث بشده ووجهه يبدو عليه الاضطراب :
” يوسف مبتردش على تليفونك ليه ؟؟“
والتفت الى ايلينا في قلق ساده ترقب وهو يقول :
” عمك سمير تعب شوية ونقلناه المستشفى ”
***********************************
احتضنت صوفيا كف ايلينا بين راحتيها وهي تقول فى حنان
” اهدى يا ايلينا ..عمو محمود هيبقى كويس ان شاء الله ”
التفتت ايلينا فى ألم الى علي الجالس جوارها مطرقا فى حزن معاتبة :
” تبقا عارف يا علي وما تقوليش ؟؟“
رد علي فى هدوء:
” دى كانت رغبته يا ايلينا ”
هتفت فى ضيق :
” رغبته ”
اقترب حينها محمود ليربت على كتفها فى رفق مواسيا :
” ايوة يا ايلينا باباكى مكنش عايزك انتى بالذات تعرفى حاجة عن مرضه ”
والتفت الى يوسف الذى وقف يستند الى الحائط ليحثه باشارة من عينيه على النطق بأي شىء ولكن ناظريه المعلقين بايلينا لم يلتقطا اشارته بل تابعاها في صمت ، تؤلمه دموعها الحبيسة ...يقتله حزنها وخوفها فى وجوده ، كم تمنى لو أزاح صوفيا جانبا واحتواها بين ذراعيه حتى تهدأ..كم تمنى لو ضغط كفها بين كفيه يمنحها الأمان والعطف ..يشعر أنه أحق منهم جميعا بها في تلك اللحظات ..
يعلم جيدا انها لن تقبل منه اى كلمة بعد ما تفوه به فى الصباح وهو لا يعرف حقا كيف يعتذر ، كلمات المواساة والاعتذار كلاهما تجمد على لسانه ..
خرج الطبيب من عند سمير فهرع الجميع اليه ليضع يده فى جيب معطفه ويتحدث بعمليه بحته :
” الاستاذ سمير حالته متأخرة للاسف ...الجراحة هيا الحل الوحيد رغم انها فى سنه هتبقى مغامرة بس مفيش اختيار تانى ”
اقتربت ايلينا وهى تمسح دمعة لم يعطها قلقها على أبيها الرفاهية في محاولة اخفائها :
” انا هتمسك بأى امل يرجع بابا لينا ”
رد الطبيب وهو يهز رأسه فى تفهم :
” الجراحة هتتكلف حوالى 300الف ..والأمل برضه مش كبير ”
هنا تدخل يوسف وقد تضايق من لهجة الطبيب المحبطة ”مادام فيه امل هنتمسك بيه والفلوس مش مشكلة خالص شوف الأنسب ايه واعمله ”
هز الطبيب رأسه ليستأذن الذهاب فنظرت ايلينا الى يوسف تخبره فى حدة :
” محدش هيدفع مليم واحد فى علاج بابا ”
نظر يوسف ومحمود الى بعضهما البعض فواصلت في حسم :
” انا هبيع الكافيه وبابا عنده رصيد كويس فى البنك ولو وصلت هبيع البيت كمان بس مح.“
قاطعها محمود وهو يقطب جبينه فى استنكار :
” ايه يا ايلينا الكلام الفارغ ده عايزة تبيعى اللى وراكي واللى قدامك ...واحنا لزمتنا ايه ؟؟؟“
واصل يوسف الحديث غير مكترث بما قالته:
” سيبك منها يا بابا ..انا هجهز الفلوس وهتابع كل حاجة بنفسى ”
هنا قطبت ايلينا حاجبيها وهتفت فى غضب :
” انت بتتكلم بصفتك ايه ؟؟؟انت بالذات مش هقبل منك حاجة ..احنا نهينا كل حاجة بينا خلاص نسيت ولا ايه ؟؟“
وزع محمود نظراته بينهما ليسأل في حذر
" نهيتو ايه ؟؟؟...ايه الكلام الفاضى ده ؟؟؟؟...هوا شغل عيال ولا ايه ؟؟؟“ ...بتتصرفو من دماغكو ملكوش كبير ..اسمعو بقا ...مجرد ما سمير ما يفوق هيتكتب كتابكو وده بناء على رغبته ”
التفتت له ايلينا فى تمعن لتتبين صدق ما قاله.. ، اهذه خطة جديدة ام ماذا ؟؟..فليكن الأمر ما يكن لقد اكتفت منه وانتهى الأمر ..
” حضرتك بتقول ايه ؟؟“
هدأمحمود من نبرته واقترب ليمسك بكتفيها فى رفق هامسا :
” حبيتى باباكى عاوز يطمن عليكى ...وهوا ده اللى حصل صدقينى وهتتأكدى بنفسك اول ما يفوق ان شاء الله ”
نظرت الى يوسف وتذكرت كلامه الجارح صباحا ورفضه المتكرر لها مرة بعد اخرى واتهامها بالتساهل مع أخيه ..ألجمت انتفاضة كرامتها مشاعرها هذه المرة وانفردت بالقرار فاختنق صوتها وهي تضع النهاية غير قابلة بحلول أخرى مطلقا :
” لا ياعمى اسفة ؟؟؟مش هفرض وجودى على حد تانى ..اتفاقنا لحد هنا وانتهى ”
والتفت اليه ترمقه بنظرة عاتبه لتذهب من أمامه ..
دوى صدى كلمتها في اذنيه ...اتفاق !!!...أي اتفاق ..دارت كل الأحداث الماضية في رأسه لتتلاحم مع جملتها الأخيرة متأهبة أن تعطه اجابة صريحة على سؤال طالما طرحه عليها ورفضت اعطاءه ولو توضيح ..التفت الى ابيه ينهي حيرته :
” اتفاق ايه اللى بتتكلم عنه ؟؟؟“
زفر محمود فى ضيق يسأله بدوره :
” انت فعلا قولتلها انها مفروضه عليك ”
ازدرد يوسف لعابه ليقاوم ألمه وهو يتذكر ما أخبرها به صباحا فأشاح بوجهه في توتر ففهم محمود ان ولده قد قال ما هو أبشع فتنهد ليخفى ضيقه ويخبره في لوم:
” بص يا يوسف ايلينا الف مين يتمناها واذا كنت فاكر ان احنا فرضناها عليك فالعكس هوا اللى حصل ”
نظر له يوسف فى حيرة لم يتركه أبوه غارقا فيها طويلا ليقص له كل شىء من البداية.. فلم يصدق ما سمعه وهتف فى صدمة :
” ده الاتفاق اللى تقصدوه ؟؟؟...يعنى كانت عاوزة تتجوزني عشان كدة بس ...دخلت معاكو فى لعبه لعبتوها سوا عشان كدة؟؟؟“
رمقه محمود فى صرامة :
” البت مكدبتش عليك فى حاجة يا يوسف اتقدمتلك للشغل عادى وانت وافقت وانت بنفسك بعد كدة اللى خلتها مديرة لمكتبك ”
تنهد حينها وهو يتذكر أن هذا ما حدث بالفعل ..نظر اليها وقد وقفت تنظر الى ابيها من خلال النافذة الزجاجية للعناية المركزة ، نظرة لم يفهم محمود محتواها ...اهى نظرة غضب ام غيظ ام حب ام كل هذه المشاعر امتزجت فى تلك النظرة التى يراها فى عينى ولده للمرة الاولى ، تابعها فى حيرة ، حيرة من نفسه قبل كل شىء...ولكن لا... لن يتركها تنهى لعبتها متى شاءت وبقواعدها هي ..
ربما كانت تلك وقتها حجته ...حجة ساقتها مشاعره أمام غروره وعناده لتبرر رغبته في وجودها ...
ضيق عينيه في تمعن حين اتسعت عيناها فجأة وفغرت ثغرها وهى تهتف فى سعادة :
” بابا فاق ”
*************************************" حمدلله ع السلامة يا بابا ”
قالتها ايلينا وهى تقبل كف ابيها الذى قرب جبينها منه ليقبله فهمست اليه فى عتاب :
” كدة برضه يا بابا تخبى عليا ”
ابتسم وهو يمرر يده على رأسها :
” الظاهر خلاص يا ايلينا مبقاش فيه فايدة من المقاوحة اكتر من كدة ”
قاطعه محمود في صرامة امتزجت بكثير من العطف :
” متقولش كدة يا راجل ..ان شاء الله تقوم بالسلامة وتفرح بيهم ”
اضافت ايلينا وهى تصدق على كلمات محمود :
” ايوة يا بابا ان شاء الله تعمل العملية وتقوم وبالسلامة ”
وضع سمير يده على صدره وتنهد فى الم :
” عملية ايه بس ؟؟؟...دى غالية اوى والامل فيها مش كبير ”
تخلص يوسف من صمته أخيرا هذه المرة :
” ملكش دعوة بالمصاريف خالص ياعمى ..احنا مش اهل ولا ايه ؟؟؟“
نظرت له ايلينا فى ضيق بينما رد محمود بابتسامة ممتنة :
” تعيش يا يوسف انا كل اللى بفكر فيه دلوقتى علي وايلينا لو جرالي حاجة مش هيبقا ليهم حد غيركو ”
دمعت عينا ايلينا وهمست بصوت متلعثم وقد ارتعد داخلها لمجرد الخاطرة
” بابا متقولش كدة انت هتعمل العملية وهتبقى كويس ”
نظر سمير اليها وواصل فى حنان :
” انا خايف عليكي انتي بالذات ايلينا ابن عمك شكله مش هيجيبها البر ابدا ”
قطب يوسف حاجبيه متسائلا في حيرة :
” ابن عمها ..ايه الحكاية بالظبط ”
تنهد سمير ليخبره :
” طلبها للجواز وانا رفضت مش فارق معاه كونها مخطوبة من غيره ...طول الوقت عمال يهددنى ويهددها ”
نظر يوسف الى ايلينا هاتفا فى استنكار :
” انتى ازاى متقوليليش على حاجة زى دى ؟؟؟“
رمقته بنظرة معناها وهل كنت تهتم يوما بشىء يتعلق بي ، أفحمته نظرتها فازدرد ريقه وهو يقول بنبرة أهدأ
” متخافش ياعمي ..محدش يقدر يأذي ايلينا وانا على وش الدنيا ..ومادام الموضوع وصل لكدة يبقى اسمحلي اناعارف انه مش وقته بس لو هنعجل بكتب الكتاب يكون أفضل“
نظر الجميع اليه فى ذهول وأولهم ايلينا هل طلب الزواج حقا ؟؟...هل جن هذا الرجل وسيدفعها للجنون معه ..عن أي زواج يتحدث ..تهكمت فى نفسها حين فهمت مقصده ..فالموقف لا يحتاج الى شرح مطلقا .. شهامة ليس اكثر..شفقة ربما ..تختلف أسبابه ولكنها تتفق في اجباره على الزواج من جديد ولكن بشكل غير مباشر ...قبلت أن تجبره سابقا وهي تنكر حبها له مدعية رغبتها في اصلاحه ..أما اليوم وكل جزء من كيانها يصدح بعشقه لن ترضى بشفقة او شهامة ، تفاجئت بسمير يرد نيابة عنها :
” انا عن نفسي موافق ..لما تتجوزو محدش هيقدر ييجي جنبها لا ابن عمها ولا غيره ”
حملقت به ايلينا ..أبوها قد وصل خشيته عليها حد الذعر ..حد قبوله بيوسف وهو يعرف عنه ما تعرفه .. اذن قد استسلم لمرضه ويأسه
تابع محمود الحديث عنه فى سعادة:
” يبقى خلاص على بركة الله نكتب الكتاب وبعدها نستناك تقوم بالسلامة من العمليه عشان نعمل الفرح ”
تردد سمير قائلا :
” عملية بس انتو عا...“
قاطعته ايلينا هذه المرة وهى تعرف طريقها جيدا ” بابا لازم تعرف ان مفيش جوازة هتتم من قبل ما توافق انك تعمل العملية ”
نظر لها سمير بابتسامة يسألها في رفق
” انتى بتساوميني يا بنت انتى ؟؟؟“
وبرغم انها كانت مزحة الا انها كانت حقيقة لقد كانت بالفعل تساومه وهو تقبل مساومتها تلك بصدر رحب ..يعلم أن ابنته تحب هذا اليوسف ..تحب للمرة الأولى في حياتها ..ويشعر من نظرات يوسف اليها أنه يبادلها الشعور ذاته ولكن بعده لم يرضخ ..يعلم أن ابنته قوية وستغير فيه الكثير ..فقديما عشقه لأمها غير حياتهما سويا ..ربما تكررت القصة من جديد ..من يدري ؟؟
**********************************************
تم عقد قرانهما بالفعل فى المشفى ،ورغم السعادة التى حلقت فوق الجميع الا ان الحزن والقلق كان من نصيبها وهى تشعر ان حبيبها يتزوجها رغما عنه للمرة الثانية وان ادعى عكس ذلك ليحافظ على ماء وجهه لا أكثر ، نعم تغير وقد لمست بنفسها هذا التغيير ووقعت فى غرام يوسف الجديد بكل ما فيه حتى بغروره وعنجهيته ...غرقت بكل مشاعرها وكيانها فى كل تفاصيله ولن تقبل منه ابدا بأقل مما تشعر به تجاهه ، لن تقبل ان تعيش عذابات حبه وحدها لتكون وسيلته لارضاء غروره كرجل ليس اكثر
أما الحيرة فكانت من نصيبه هو ... يرى غيامة حزن تعكر صفحة وجهه الصافي .. اهو ندم ؟؟
ام انها تخشى تلك الخطوة وتفتقد الامان معه ؟؟؟
ام لأن لعبتها خرجت عن الحد الذى رسمته لها ؟؟
أم هو قلقها على أبيها ؟؟ .
................
انفرد كل منهما بالآخر بعد عقد القران فى حديقة المشفى ...
طال الصمت بينهما كأن كل منهما يعطي للاخر فرصة فى توضيح موقفه أولا .
كانت هى الأسرع فى تمزيق هذا الصمت السخيف فقالت وهي تنظر امامها :
” على فكرة انا وافقت على الجواز بس عشان بابا يوافق يعمل العملية ..لكن متخافش مش هدبسك معايا كتير ”
عض يوسف على شفتيه فى غيظ وهو يتذكر كلماته الوقحة وهمس في خجل :
” انا اسف مقصدتش المعنى ده ابدا ”
ابتسمت فى حزن قائلة:
” متعتذرش انت فعلا معاك حق ..أنا فعلا زودتها ..انت رفضتني اكتر من مرة وكان لازم يكون عندى كرامة ”
كاد ان يصرخ بها أن تتوقف ولكنها واصلت :
” انا طبعا بشكرك على شهامتك ووقفتك معايا ..واوعدك ان التدبيسة دى مش هتستمر كتير وبمجرد ما بابا يفوق ويبقى كويس هننفصل وتقدر تشوف حياتك ”
ولم تمهله فرصة للرد ابدا فلو امهلته ستحرم نفسها من الاحتفاظ بكرامتها للحظة الأخيرة.. سيرى دموعها التى اخفتها عنه فى كبرياء وأطلقت عنانها بمجرد أن أعطته ظهرها ...كيف سمحت لنفسها بالتورط في حبه هكذا !!..كيف ؟؟ .
راقبها في ألم وهي تختفي من أمامه وسخطه على ذاته يزداد... لماذا لم ينتزعها من افكارها السخيفة هذه ؟؟
لماذا يرفض ان يعترف لنفسه بانه لايتحمل فكرة ابتعادها ؟؟
يرفض هجرها ..
يكره حزنها..
يمقت شعورها بالخوف فى وجوده ..
يحب قوتها عنادها مشاكستها...
كل شىء فيها يثير جنونه ..
لماذا لم يستجب لمشاعره وألجم جسده الذي كاد أن يتحرك ليزرعها بين ذراعيه بقوة لتكون تلك الاجابة الصحيحة والرد المناسب على كل ما زعمته .
. ***********************************
كانت صوفيا فى غرفتها تضع اللمسات الاخيرة لبورتريه خاص مزجت فيه الالوان بشكل رائع فبدت حتى أجمل بكثير من الصور التى التقطتها للنيل فى الغروب ، تأملته فى رضا قبل ان تزيحه جانبا وتستلقى على فراشها وهي تتأوه فى خفوت ، اغمضت عينيها لحظات ثم فتحتهما وهي تبتسم فى خبث ، مدت يدها تلتقط هاتفها من على المنضدة تطالع عليه صورة زين الذى يضعها على تطبيق ” الواتس اب ” صورة يبتسم فيها بوداعة أخذت لبها منذ ان طالعتها للمرة الاولى ، ملامحه الشرقية المنحوته تتوه فيها دائما وتذكرها بفرسان العرب القدامى التى قرأت عنهم فى الاساطير ، لا تستطيع حتى الان تحديد ماهية شعورها نحوه فكثيرا ما تشعر بالحنق منه حين يتجنبها او يشيح بنظره عنها وذاتها تلك الافعال تجذبها اليه اكثر ، نظرت الى صورته من جديد وهي تمرر اصبعها على ملامحه كأنها تريد ان تحفرها بذاكرتها ، نهضت من جديد وابتسامة حالمة تزين ثغرها وهى تتجه الى كراس الرسم وتبدأ فى خط ملامحه بدقة ومهارة ، وبعد ساعة او يزيد انتهت من رسمه بالقلم الرصاص فوضعت القلم فى فمها ورفعت حاجبيها قائلة :
” طبعا الأصل احلى ..بس انت اجمل حاجة رسمتها فى حياتى ”
ابتسمت وهي تضع يدها على ثغرها ...لقد أصبحت تستخدم العربية في التفكير وتلاشى دور اللغة الفرنسية التي لم تتحدث غيرها لسنوات تماما ..أمسكت الصورة واخذت تتأملها وهى تجوب الغرفة بلاهدف ..
لحظات وخطرت على بالها فكرة لم تأخذ سوى لحظات أقل لتضعها قيد التنفيذ ، قامت بتصوير الرسم وأرسلته الى رقمه الذى تحتفظ به منذ ان اعطته لها ايلينا وهى فى المطار ، تعلم انه لا يمتلك رقمها فهل سيكتشف انها من فعلت هذا ؟؟؟هل تراه يشعر بهذا الاضطراب الذى تشعر به .
رن جرس هاتفه يعلن عن وصول رسالة عبر الواتس اب ففتحها ليجد صورة مرسومة له بالقلم الرصاص فى غاية الدقة والاتقان خطتها انامل بارعة ومحترفة ، قطب حاجبيه فى تفكير من فعل هذا ؟؟، لحظات مرت قبل ان يبتسم وهو يفرك جبينه ، تراها هى ؟؟، حوريته الجميلة التى لاتفارق باله والتى افقدته توازنه وجعلت قلبه ينبض كمراهق دون ادنى ارادة منه ، هل قضت الليلة بأكملها تخط ملامحه ؟؟هل يشغل نفس الحيز الذى تشغله فى حياته ؟؟هل يشاركه قلبها تلك النبضات الغريبة التى يشعر بها للمرة الاولى ، لا يعرف لماذا اصبح شعوره يقينا وهو يعطيها رده بتغيير صورة ملفه الشخصي الى تلك الرسمة الدقيقة التى أرسلتها واستوعبت هي هذا الرد منه ولم تصدقه ، ولكن تراه فهم ما تعنيه ؟؟؟
أو بالأحرى هل تفهم هي ماذا تعني من خلف ما فعلته ، الأمر قد تعدى كثيرا مجرد انجذاب.. لقد وصل بها الى تنحية فكرة سفرها تماما ..فوجودها في مصر لم يعد مقتصرا على مرض محمود فقط كما تدعي .
***************************
تنهد يوسف وهو يتهالك على مقعده متمتما فى حزن ” لاحول ولا قوة الا بالله ”
تلقى الخبر من أبيه منذ لحظات عبر الهاتف ، أخبره بصوت متهدج يحاول أن يسيطر على نبرته بأن رفيق العمر انتقل الى جوار ربه، مات الرجل قبل أن يستمتع بدفء وطنه ويعوض حرمان الغربة ، مات بعد أن اطمئن الجميع الى استقرار حالته وهجرته الامه ، مات قبل موعد جراحته بيوم واحد فلله في خلقه شئون ..
وكل اليه والده مهمة ابلاغ ايلينا بالأمر ،بقي على وضعه هكذا لدقائق ينظر الى الباب في شرود ينبش به عقله عن أي طريقة تحمل الخبر دون أن يصدمها به ، مرر يده على وجهه في ألم فكل الطرق ستؤدى الى حقيقة واحدة..
لقد رحل والدها الذى لمس بنفسه كم تحبه وتحترمه وتعده صديقا وليس مجرد اب ، كيف ستسقبل خبر موته بعدما عاشت في أمل نجاته طيلة الأيام الماضية .. مجرد تخيل الحزن على وجهها يفزعه ، ماذا عساه ان يفعل ؟؟
نهض من كرسيه اخيرا واتجه للباب الذى يفصل بينهما ليفتحه فى بطء ، لم تنتبه له وقد انهمكت فى العمل، فبعد ان اطمأنت على صحة ابيها عادت لتنجز بعض الاعمال الهامة التى كانت تحت مسئوليتها رغم انه اعفاها من ذلك ، ظل واقفا للحظات وهو يبحث مجددا عن أكثر الكلمات رقة لينقل لها به الخبر
شعرت برائحة عطره كالعادة فرفعت اليه رأسها بابتسامة متعبة وقالت :
” يوسف ..انا قربت اخلص اهو بس فيه حاجات كتير محتاجة امضتك عليها ”
نظر اليها للحظات في حزن عقد لسانه عن نطق حرف فأطرق برأسه في عجز لتشعر بأن هناك خطب ما ، نهضت من مكتبها وسألته فى حذر:
” يوسف مالك حصل ايه ؟؟“
انتفض قلبها ليضرب صدرها في قوة وهو يشيح بوجهه عنها ، وضعت يدها على على صدرها تقاوم ألم انقباضه فالأمر يبدو انه يخص صحة ابيها ، التمعت الدموع فى عينيها وهى تقترب منه أكثر قائلة فى تلعثم وشفتاها ترتجف فى خوف :
” الموضوع ليه علاقة ببابا ..رجع انتكس تانى ..رفض يعمل العملية ولا ..“
وصاحت به وهي على وشك الانهيار :
” يوسف رد عليا بقا ”
أمسكت بذراعه في توسل وهي تكرر سؤالها فرفع نظره اليها والمته نظرة الهلع والخوف والضياع فى عينيها فلم يشعر بنفسه تماما وهو يحتويها بين ذراعيه كأنه يحميها من قسوة الحقيقة ويخفيها عن مرارة واقعها وأدركت هي كل شىء فبقيت جامدة وهى تتمتم فى صدمة :
” ازاي ؟؟...انا سايباه كويس ....ازاي”
وسالت دموعها ليشعر بها يوسف تبلل قميصه لتحرقه تماما وهو يراها للمرة الأولى ، زاد من ضمته لها وهي تهمس فى انهيار :
” بابا مات يا يوسف.. بابا مات ”
مسح على رأسها فى حنان قائلا بنبرة متهدجة :
” انتى ايمانك قوى يا ايلينا ..ادعيله حبيبتى ”
نطقها بصدق وباحساس عاشق يتعذب من اجل محبوبته نطقها دون ان يشعر أنه قالها ..نطقها دون أن يفكر كيف خرجت بتلك السهولة ...نطقها من أعماقه حين اعترف ألمه من أجلها بالحقيقة ..ولسوء حظه لم تشعر بها أبدا .. لم تشعر بأنها انتزعت اعترافا صريحا منه ،ألم فقدان الأب والصديق كان كافيا لعزلها عن العالم بأسره ..كافيا عن عدم ادراكها أنها بين ذراعيه تتلقى منه حنانا لم تعهده مطلقا ... أغمضت عينيها فى ألم وهي ترفع رأسها من على صدره هامسة بايمان تحاول به مقاومة انهيارها :
” انا لله وانا اليه راجعون ”
اخذت ترددها وهو يمسك بكتفيها ويشعر بارتجافها حتى خفتت حركتها فجأة لتسقط فجأة بين ذراعيه مغشيا عليها ليهتف فى ذعر ” ايلينا ”
******************************************
تكفل محمود وابنائه بدفن سمير واقامة العزاء له فى الوقت الذى كانت ايلينا فيه تحاول التماسك قدر المستطاع هى واخيها وتعينها على ذلك صوفيا وسميرة وايتن .
وبعد مرور اسبوع دق الباب ففتحته صوفيا لتجد يوسف ومعه زين يحملا بعضا من الطعام كعادتهما كل يوم منذ وفاة محمود ، ألقى يوسف التحية عليها وسألها فى روتينيه عن أحوالها وأحوال علي ليذهب بعدها الى ايلينا مباشرة التي أخبرته صوفيا انها لاتفارق غرفة ابيها .
تركها مع زين التى نظرت اليه وسألته في تردد
" تشرب ايه زين ؟؟“
ابتسم زين قائلا
” مش عاوز اتعبك ”
شبكت اناملها قائلة :
” يبقى قهوة مظبوطة انا بشوفك على طول بت..“ وتوقفت عن استرسالها وهي تحك رأسها فى خجل لقد اخبرته ببلاهة انها تهتم بأدق التفاصيل به فتنحنح هو ليخفى سعادته قائلا :
” خلاص ..يبقى قهوة مظبوط ”
راقبها وهي تدلف الى المطبخ وتلتفت اليه فى توتر ، لقد كاد ان يخبرها حين وقعت عيناه عليها منذ لحظات الأسود يليق بك يا جميلة ولكن لا ليس الاسود فحسب بل كل الوان الدنيا كأنها خلقت من اجلك كأنك من تعطينها رونقها وبريقها وتميزها ، بريئة كالاطفال وعيناك تلك اه منها لم أعرف من قبل عينين بصفائهما أبدا ، حدائق الجنة ورياضها يعيشها من ترمقينه فقط بنظرة منهما..
لمح على المائدة كراس رسم صغير فابتسم في خبث وهو ينظر باتجاه المطبخ ليتأكد انها لا تراه ، اخذ يبحث فيه عن شىء واحد يؤكد له حقيقة ظنه ، ظل يبحث ولكنه لم يجد مبتغاه حتى انتفض على صوتها وهى تقول بينما تضع القهوة أمامه :
” عجبك رسمي؟؟“
تنهد زين وهو يهز رأسه بالايجاب وقال في احباط لاحظته صوفيا على الفور :
” حلو اوي ..فنانة بجد ”
وأعاد اليها دفترها وهو يتساءل في نفسه هل لم تكن هي بالفعل ؟؟، لا ربما امتلكت دفترا غيره ...
قالت صوفيا فى خبث وقد أدركت ما يفكر فيه :
” شكله معجبكش وبتجامل وشك باين عليه انه متضايق ”
ارتشف زين من القهوة أمامه ليزدردها عوضا عن ريقه الذى كاد ان يجف من فرط التوتر والاحباط :
” أبدا..اصل ....“ وهز رأسه وهو يتمتم
” الظاهر اني كنت فاهم غلط ”
رسمت صوفيا البلاهة على وجهها وقالت:
” بتقول حاجة زين !! ؟؟“
تنهد في عمق قائلا :
” متاخديش فى بالك ”
دلف يوسف الى غرفة ايلينا فوجدها تقف بجوار النافذة وهى تحمل بيدها صورة لأبيها وتتأمل الدنيا في شرود ، شعور بالضياع يراه فى عينيها ويمقت ان تشعر به فى وجوده ، لم يخفي ألمه وهو يراها على هذا الضعف الذى لم يعهدها عليه ، التفتت له وابتسمت فى شحوب وقبل أن تمد اناملها لتمسح دموعها كانت أنامله هى الأسرع تلك المرة فمسح دموعها بابهاميه وتأملها للحظات وهو يضع كفيها فى كفيه قبل أن يأخذها لتجلس على أريكة قريبة ويأخذ الصورة منها ليضعها على المنضدة المقابلة ، ركع على ركبتيه أمامها قائلا :
” ايلينا اتكلمى معايا قولى اى حاجة ”
ازداد بكائها وهى تقول بصوت تمزقه الدموع
” اقول ايه ..انا خلاص اتيتمت ومبقاش ليا حد .بابا مكنش مجرد أب وبس ...بابا كان صديق وصاحب عمره فى مرة ما خذلني..عمره مازعقلي ولا زعلني فى يوم حتى وأنا غلطانة ..اتعلمت منه كل حاجة حلوة ..لما كنت بقع فى مشكلة كنت عارفة انى آخر اليوم هرجع الاقيه وأعيط فى حضنه لحد ما ارتاح ..انا مؤمنة بقضاء ربنا بس انا انسانة وموت بابا كسرني ”
مد ابهاميه ليمسح دموعها ويحتوى وجهها بين كفيه قائلا :
” وأنا روحت فين ...كلنا روحنا فين ...انا جنبك ايلينا ومش هسيبك ابدا ”
وأخفض رأسه وهو يحفز نفسه بقوة ، هيا خذها بين ذراعيك الان واخبرها بالحقيقة وكفى مراوغه أخبرها انك تحبها كما لم تحب أنثى من قبل ،تحبها !!!!...أجل أنت تحبها وهذا هو أدق مسمى لكل ما مررت به معها معها تألمت...
معها شعرت بالغيرة
معها عشت كل المتناقضات
معها ....
عرفت الحب لأول مرة
أنت ...أنت تحبها يا يوسف
تلك المخلوقة ..
تلك الأنثى ..
ليست أي أنثى ...
انها التي نبض خافقك بحبها
أنت ...تحبها ...تحبها ...تحبها
وهي تستحق ..لن تخذلك..
هيا كن شجاعا وواجه مشاعرك ...
خذ بيدها الى جنتك وعلمها العشق بمبادئك انت
رفع رأسه من جديد وحين هم أن ينطق سمع صوت جلبة فى الخارج ، فنظر اليها فى استفهام لتهز رأسها فى حيرة وهي تخرج معه لترى ماذا هناك ، وحين خرجت تفاجئت بفؤاد ابن عمها وهو يقول فى سخرية
” الله الله يا ست هانم ..خارج من أوضة نومك كمان ..ابوكي مات من هنا وانتى قلبتهالى مفروش !!!!“
+
الحادي عشر من هنا