رواية لا يليق بك الا العشق الفصل الثالث عشر 13 بقلم سماح نجيب
آراك فى كل مكان "
لبُرْهَةُ ظن أنها خضعت له أخيراً ، بعد أن سد عليها منافذ الهرب أو الفرار منه أو من الغرفة ، فبعد قتالها المستميت ورفسها له بقدميها وضربات كفيها المتلاحقة على وجهه وصدره ، إستطاع تشتيت إنتباهها بلكمة قوية سددها لها بوجهها وأصابت شفتيها ، فبغلظة يده إستطاع أن يجعل الدماء تنزف من شفتها السفلى تكسو أسنانها بالدماء ، تألمت وفزعت بشدة ، بعدما رأت تصميمه على إنهاء ما بدأه ، فإجتاحها الاشمئزاز والغثيان من رؤية وجهه المطل عليها بإبتسامة شيطانية ، كمن تخبرها أن أمرها سينتهى بين الفنية والأخرى ، ولكن لن ترتضى بذلك ، فما كاد أن يبتعد بجسده قليلاً ، حتى نشبت أظافرها فى السجادة السميكة ، يتأهب جسدها كاملاً لخطوتها التالية ، فسحبت قدمها وسددت له ضربة قوية مؤلمة بين ساقيه دونما أى إهتمام أو وخز بالضمير ، بل تبسمت بتشفى لصنيعها به ، فهو لا يستحق تلك الضربة وحسب ، بل يستحق القتل على إقدامه إنتهاك حرمة جسدها بفعله الشيطانى
تلك الضربة التى باغتته بها جعلته يصرخ عالياً :
– أااااااااااه
تعالت صيحته وصراخه كوحش جريح ، كأنه نغمة تُطرب أذنيها المعذبتين بصوت لهاثه القمئ ، تراخت قبضته عنها قليلاً ، فتحررت منه بسرعة البرق ، وهبت واقفة تركض من الغرفة ، بينما هو مازال يفترش الأرض بجسده يتلوى من الألم والضرر الملحق به
لم يعد البقاء بهذا المنزل ، أمراً متاحاً الآن ، فهى لن تحيا هنا وخاصة أن ذلك الرجل الدنئ ، كان سيسلبها عفتها وطهارتها ، فأطلقت لساقيها الريح ولم تتوقف قدميها عن الركض
ولكن الركض إلى أين ؟
فهى لا تعلم أين تذهب هى الآن ؟ فهى لم تنجو من ذلك الرجل ، سوى بثوب ممزق وحجاب على وشك السقوط من رأسها ، ضمت القطع الممزقة لصدرها وهى تحاول أن توارى جسدها ، الذى تركت أصابعه أثارها عليه ، من خدوش بسبب وحشيته بتمزيق ثوبها ، تحسست شفتيها ، فشعرت بدفء دماءها النازفة منها ، فأنسكبت دموعها قهراً على وضعها المزرى ، وما آل إليه أمرها ، فالوقت شارف على الثانية صباحاً ، والشوارع هادئة وساكنة بذلك الطقس الشتوى القارص البرودة
لفحتها نسمات الهواء الباردة فأنكمشت على نفسها تتلمس الدفء ، فهى صارت وحيدة شريدة ، لا تنتعل حتى حذاء بقدميها تسير حافية القدمين ، فمن يراها لا يصدق أن تلك الفتاة التى تشبه المتشردين ، بثيابها الممزقة ، وقدميها الحافيتين ، كانت تنعم بثراء ودلال كان يحسدها عليه الكثير ، ولكن أنقلب النعيم فجأة ، وتحولت حياتها من حلم وردى لكابوس أسود لا ينتهى
رفعت وجهها للسماء ، وهى تنشد العون من الله ، فنادت ببكاء وقهر وحزن وألم :
– يااااااااااارب
وضعت يدها على فمها تغمغم بشهقات متلاحقة :
– يارب أروح فين دلوقتى وأنا معرفش حد
تذكرت مربيتها صالحة ، ولكن كيف لها أن تذهب لهناك ؟ وهى لا تملك نقوداً ولا هاتفاً ، يمكنها من مهاتفتها وإخبارها بمكان وجودها
فنظرت حولها تستطلع المكان ، فوجدت أنها تركت ذلك الحى الذى كانت تقطن بها ، وسارت بمكان لا تعرف أين هو بالتحديد ، فهى عندما أطلقت العنان لقدميها بالركض والفرار ، لم تعلم كم من الوقت ظلت تركض ؟ ولا أين وصلت ؟
فالمكان أمامها عبارة عن بعض البنايات المتراصة بجانب بعضها البعض ، فهو حى لا بأس به من حيث نظافة الشارع ، وتناسق البنايات السكنية ، فكرت فى طرق باب إحدى الشقق لعل أحد يساعدها ، ولكن سريعاً عدلت عن تلك الفكرة ، فهى لا تعلم ما يمكن أن يكون بإنتظارها إذا فعلت ذلك
فبعد أن ولجت إحدى البنايات ووقفت أمام إحدى الشقق ، وقبل أن تعيد أدراجها ، إستمعت لأصوات أقدام قادمة ، ورجال يهرولون بسرعة ، علمت فى الحال أنهم رجال للشرطة ، قبل أن تنأى بجسدها المتيبس من أمام باب الشقة ، تحاول الهرب
وجدت شرطى يصيح بها ، وهو يقبض على ذراعها بغلظة :
– تعالى هنا راحة على فين يا روح أمك
أنفرجت شفتيها الدامية لتقول شيئاً ، فوجدت رجال الشرطة يقتحمون تلك الشقة التى كانت على وشك الطرق على بابها ، وتعالت الصيحات والصرخات من الداخل ، سرعان ما رآت حياء رجال ونسوة ملتفين بأغطية فراش بيضاء ، فعلى ما يبدو أن تلك الشقة ماهى إلا وكر للمذات والمحرمات
جحظت عينيها بفزع وهى تستجدى الشرطى قائلة بتوسل :
– أبوس إيدك سيبنى أنا مش معاه والله
جرها الشرطى من مرفقها يدفعها أمامه وهو يقول :
– يلا يا روح أمك قدامى أومال كنتى بتعملى ايه هنا جاية تاخدى الدرس قدامى
فرمقها من رأسها لقدميها ، يلوى شفتيه بإستهزاء :
– الظاهر كده الزبون دماغه عالية أوى وليه فى شغل التعذيب ، قدااامى يا حلوة يلا هنكمل الدرس فى القسم
حاولت حياء سحب يدها ، من يد الرجل القابض على كفها يجرها ليجعلها تستقل سيارة الشرطة ، فبإحجامها عن إطاعته وأن لا تجعله يفعل بها ذلك ، إحتكت قدميها بحصى الأرض ، ولكنها تغاضت عن ذلك الألم الذى تشعر به ، فهل هى نجت بنفسها من براثن شكرى ، حتى ينتهى أمرها بقسم الشرطة ؟ وليس هذا وحسب ، ولكن تهمة بشعة تلوح لها بالأفق
ولكن جسدها الذى لم يعد قادراً على بذل المزيد من الجهد بالدفاع ، تراخى أخيراً وصار ليناً وهى يدفعها الرجل ، لتتخذ مكانها بين هؤلاء النسوة ، جمدت عينيها وهى تطالع من يجلسوا حولها ، فمنهن من تحاول ان تستر جسدها ، وأخرى لا تبالى تتشدق بعلكتها ، كأنها معتادة على الأمر ، وأخرى أخرجت سيجاراً رفيعاً من مخبأه بين طيات ثيابها الفاضحة
وصلت السيارة قسم الشرطة ، فترجلوا من السيارة تباعاً ، وعندما حاولت أن تلوذ حياء بالفرار ، سد أحد العساكر الطريق أمامها بجسده ، فصارت كفرخ الطير ، الذى وقع بشباك صياد ، لن يتركه بحاله
تدافعوا جميعهم رجال ونساء ، لداخل قسم الشرطة ، فتقدم الضابط يصيح بالعساكر :
– يلا ودوهم على الزنزانات على ما النهار يطلع ، علشان نعمل معاهم الواجب الصبح على رواقة
دمدمت إمرأة تقف بجوار حياء قائلة بسخط :
– ظابط أعوذ بالله عليك ، عليه كل كبسة وكبسة يخرب بيته ومبيجيش إلا فى نصاص الليالى زى العفاريت
هى أخر من تم دفعه بيدى العسكرى ،داخل تلك الحجرة المخصصة للسجينات ، فسريعاً ما أخذت كل منهن مكانها على الأرض ، فظلت هى واضعة يديها خلف ظهرها ، تستند على الباب الحديدى للغرفة ، تنظر بوجوههن برعب وفزع ، فدخان السجائر ملأ الحجرة ، تفوح روائح كريهة ، كأنها بأحد مكبات النفايات ، وضعت يدها على فمها وأنفها ، تمنع غثياناً سيؤدى حتماً للقئ
أغمضت عينيها وبدأت بالعد ، فتلك العادة كانت تتبعها عندما يصيبها القلق أو الخوف ، فتبدأ بعد الأرقام ببطئ وتمهل ، وهى تزفر أنفاسها ببطئ ، لعل عندما تفتح عينيها ، تجد أن كل هذا ماهو إلا أضغاث أحلام ، أو ربما شاهدت فيلماً مأسوياً ودرامياً وتعيش أحداثه ، مثلما كانت بصغرها ، تعمل على إسترجاع الاحداث التى شاهدتها ، ينسجها لها الوهم والخيال بأنها هى بطلة تلك المأساة
تحفز جسدها ،وتأهبت حواسها ، فتبسمت شفتيها بأمل ، بأنه عندما تفتح عينيها الآن ، ستجد نفسها بالمنزل جالسة برفقة والدايها
فتحت عينيها رويداً رويداً ، فأصتطدمت عيناها برؤية تلك التى تقف أمامها ، يرتسم على وجهها ملامح الشر والخبث ، فندبة بطول خدها الأيسر ، أضفت على ملامح وجهها سيمات الإجرام البين
مدت تلك المرآة يدها ، تتحسس ذلك السلسال الذهبى حول جيدها ، فعبثت بيدها بذلك الخاتم المتدلى منه ، فهى بعدما أخذت متعلقاتها من دار الرعاية ، وضعت السلسال بعنقها ، تحتفظ به ، كتذكار لطفولة ونسب لا تعلم عنه شيئاً
أرعبها أكثر صوتها الغليظ المتحشرج وهى تقول :
– إسمك إيه يا بت أنتى وجاية فى إيه
أرتعش جسدها وهى تجيبها :
– إسمى حياء وجاى هنا مظلومة والله العظيم
ضحكت المرأة بصوت رقيع ، وعادت تحتضن الخاتم بكف يدها كمن تزنه وتقيمه ، فأجابتها بفظاظة :
– صادقة يا أختى صادقة كلنا هنا مظلومين ، إحنا هنا بنصدق بعض جدعة
فرمقتها بنظرة مطولة ، ومالبثت أن قالت :
– السلسلة دى تلزمنى إقلعيها
– لاء
قالتها حياء ، وهى تضم ثوبها الممزق ، تخفى السلسال عن عين تلك المرأة ، ولكن رأت وجهها يصير أكثر شراً وتصميماً على أخذه ، ولكن قبل أن تقحم يدها بداخل ثوبها لتنزعه منها ، وجدت إمرأة أخرى تأخذ يدها بين كفها تكاد تعتصره بقوة
فتألمت المرأة تحاول سحب يدها ، ففحت المرأة بوجهها :
– فى إيه يا ولية أنتى ما تتلمى مش لاقية حد يلمك أنتى مش شايفاها واقفة مرعوبة إزاى يلا غورى نسوان هم
دفعتها حتى ترنحت بوقفتها تفسح المجال أمام حياء ، التى سارت خلف المرأة التى هبت لنجدتها ، فدعتها للجلوس بجانبها فلم تمانع ، لعل تقضى تلك الساعات برفقتها ، لكى تتجنب المضايقة من السجينات الأخريات ، فلم تمانع المرأة بأن تحيطها برعايتها ، حتى ينبلج النهار ، وربما لن تراها ثانية ،ولكنها شعرت بالشفقة تجاه حياء ، خاصة أنها من النظر إليها علمت أنها فتاة ليست بالسيئة أو رديئة الأخلاق أو المستوى المعيشى ، فعلى الرغم من هيئتها المبعثرة إلا أن ملامحها وثيابها ورقتها بالكلام معها ، تدل على أنها فتاة حسنة النشأة والتربية
فظلتا يتجاذبان أطراف الحديث ، وقتاً طويلاً ،علمت حياء من خلاله ، أن تلك المرأة تم إيداعها هنا من أجل إعتداءها بالضرب على زوجها ، نتيجة خيانته لها وجلب إمرأة أخرى لشقتهما ، يدنس عش الزوجية أثناء غيابها ، فلم تتحمل الأمر وأسرعت بقذفة بمزهرية أدت لإصابته بجروح بالرأس ، أودع على أثرها بالمشفى
بعطفها الواضح ، إستطاعت حياء الشعور ببعض الراحة ، فتناولت من يدها ثمرة تفاح كانت تختزنها من الطعام المرسل إليها ، رفضت حياء فى البدء أن تأخذها ، ولكن بإلحاحها ، بدأت بقضمها بتأنى وهى مسترسلة بحديثها معها ، تقص عليها كل ما حدث لها بالأونة الأخيرة
______________
فى اليوم التالى بالصباح الباكر ...
بجديلة فرنسية كانت وفاء تلملم خصيلات سجود الحريرية ، واضعة إياها على أحد كتفيها تضفى عليها مظهراً خلاباً ، فتلك الصغيرة التى جمعت مزيجاً من جمال أمها الفاتنة ، ووسامة أبيها ، لينتج بالأخير فتاة شديدة الجمال كالدمى الحية ، فإن كانت أكثر ملامحها شبيه بوالدتها ، فلا أحد يستطيع نكران ، شخصية أبيها التى أسبغت روح تلك الفتاة المشاكسة ، فحتماً إذا صارت فتاة يافعة ، ستكون فتاة صعبة المراس ، ولا يستطيع أحد إلجام روحها الثائرة كأبيها ، الذى لا ينصاع لأحد سواء بقول أو فعل
وضعت وفاء قبلة على رأسها وهى تضمها من الخلف تجعلها تنظر بالمرآة ، لترى كيف صففت لها شعرها :
– ها إيه رأيك يا سجود حلوة
وضعت الصغيرة يدها أسفل ذقنها تنقر بإصبعها بتفكير :
– بابى بيعملها أحسن يا آنا
شهقت وفاء بصوت منخفض وضيقت عينيها :
– أه يا بنت أبوكى دا بدل متقوليلى شكرا يا تيتة ، أنتى هتجبيه من برا أبوكى مين
– بتقولى إيه يا ماما سامعك
ذلك هو صوته الصادح ،وهو يلج الغرفة لأخذ الصغيرة اليوم لتوصيلها إلى روضتها بعد إلحاحها عليه البارحة ، فأعطاها وعده بأنه سيرافقها إلى الروضة
إلتفتت وفاء برأسها للخلف وهى تبتسم :
– هو أنا أقدر أقول حاجة يا قلب ماما دا أنا بقولها أنتى عسل يا سجود زى أبوكى
ركضت الصغيرة إليه وهى تشرأب بعنقها تنظر إليه :
– لاء يا بابى آنا وفاء بتقولى أنتى هتجبيه من برا أبوكى مين علشان مش قولتلها شكراً
– اه يا سجود يا فتانة
قالتها وفاء وهى تقترب منه تقبله على وجنته ، قبل رحليهما ، فتبسم راسل على قول وفاء ، وحمل الصغيرة على ذراعه وهبطوا الدرج ليتناولوا إفطارهم ، قبل ذهاب كل منهم لوجهته
فى السيارة كانت سجود تجلس بجواره وهى تصفق بيدها بحماس وهى ترى أبيها يرافقها للمرة الأولى ، فأدارت رأسها الجميل له وهى تقول :
– بابى هتيجى تاخدنى من الحضانة مش كده بليز يا بابى تعال علشان نروح سوا
غمر وجنتها المكتنزة بكفه العريض باسماً :
– حاضر يا قلب بابى هاجى أخدك النهاردة بس عايزك تبقى شطورة ومتتخانقيش مع حد
أماءت الصغيرة برأسها مؤكدة :
– حاضر يا بابى أصلا الحضانة دى الاولاد مش بيضايقونى والميس بتقولى شطورة وبقى عندى أصحاب
فرح راسل بسماع ذلك من صغيرته ، فهو أراد لها تكوين صداقات عوضاً عن الوحدة التى كانت تعانى منها بعدم تأقلمها وتكيفها مع الآخرين ، وصل بسيارته أمام الروضة فترجل منها ودار حولها ، وفتح الباب بجوار سجود وأنحنى حاملاً إياها حتى وصل بها للمعلمة وأعطاها لها ، وخرج يتأهب للذهاب للمشفى
ولكن استرعى أنتباهه مشاجرة بين شابين ربما لم تتعدى أعمارهما التاسعة عشر ، وصل الأمر بينهما لإخراج أحدهما مدية من جيبه يلوح بها فى وجه الآخر ، فأسرع فى الذهاب إليهما ، لفض العراك قبل أن يتفاقم الأمر أكثر
فصاح بهما قائلاً بصوت جهورى :
– بس يا ابنى أنت وهو هتعوروا بعض
فلوح ذلك الفتى بالمدية وهو يزجره بنظرات إجرامية :
– يلا ياعم أمشى من هنا ملكش فيه
فباغت خصمه بضربة من المدية أصابت ذراعه بجرح ليس ببليغ ، وفر هارباً بعد ذلك ، إتسعت مقلتى راسل وهو يرى الفتى الاخر يضع يده مكان الجرح وملامحه متألمة ، فقبض على ذراعه يرى مدى الضرر الملحق به
فنظر إليه قائلاً بمهنية :
– الجرح سطحى متقلقش هيخف تعال معايا
سحبه من ذراعه السليم ، حتى وصل للسيارة ، فأخرج منها علبة خاصة بالإسعافات الأولية يحتفظ بها دائماً فى سيارته ، تحسباً لأي أمر قد يحدث ، فضمد جراح الفتى ،وأمره بأن يستقل السيارة للذهاب لمركز الشرطة ، لتسجيل تلك الواقعة حتى ينال ذلك الفتى الهارب جزاءه ، خاصة بعدما تجاذب أطراف الحديث مع الفتى المصاب وعلم أنه كان سيكون ضحية للسرقة بالإكراه
وصلا لقسم الشرطة ، فترجل راسل من السيارة يحث الفتى على الخروج من السيارة ، رغم خوفه من ان يعاود الفتى إيذاءه إذا علم أنه تقدم ببلاغ للشرطة بالواقعة
فترجل الفتى قائلاً بصوت مرتجف :
– خلاص حضرتك جت سليمة ملوش لازمة نعمل محضر
نهره راسل عن ذلك وهو يقول بثقة :
– أنا عارف أنك خايف منه بس لو الولد ده ما أخدش جزاءه وخصوصا هو بلطجى يبقى المرة الجاية مش هتبقى الاصابة فى دراعك هتبقى فى مكان تانى وإحتمال تخسر حياتك ، لكن الولد ده لو لقى حد يقفله ، يمكن يبطل اللى بيعمله ، وخصوصاً أمور التشرد والبلطجة دى وهو عمره لسه صغير
إستطاع راسل بالأخير ، إقناع الفتى أن يلج معاه للداخل ، فطلب من أحد العساكر الدخول لأحد الضباط ، فولج العسكرى وسرعان ما خرج يأذن لهما بالدخول
_____________
لو كانت السجادة ذات الفراء الأزرق ، قادرة على التحدث ، كانت أبدت إعتراضها من كثرة ذهاب ومجئ ولاء عليها ، تدعس الفراء بخفها البيتى ، تذهب من ذلك الجدار إلى ذلك الجدار ، كأنها أضاعت شيئاً ، وتبحث عنه بغياهب المجهول ، فلم ترحم خصيلاتها السوداء من الشد تكاد تقتلعها ، وهى تفكر فى تلك الكارثة التى ستحل على رأسها جراء تلك الزيحة ، التى يريد أبيها أن توافق على الاقتران بذلك العابث المدعو فؤاد سالم
ذلك الوعد الذى أعطته لها وفاء بالاطمئنان ، من أنها ستجعل راسل يحول بين وقوع تلك الزيجة ، هو ما يجعلها تهدأ قليلاً ، ولا تقدم مثلاً على قذف المزهرية بزجاج المرآة ،أو أن تعمل على أن تبعثر محتويات غرفتها ، فغضبها على أشده ،كالنيران التى تزداد إشتعالاً بسكب المزيد من المواد المشتعلة ، فتلك هى حالتها يزداد الغضب والنفور كلما تتذكر وجه ذلك العريس المرتقب
– وبعدين يا ولاء فى المصيبة دى أعمل ايه بس ياربى
قالتها ولاء وعادت تنفخ بضيق وقلة حيلة أمتزجا بخوف ،من أن يخفق راسل بتقديم العون لها ، فهى تعلم مدى إجحاف أبيها بكل المحيطين به ، فهى لا تريد أن تجعل راسل يواجه ابيها وينال هو من كرامته وكبرياءه ، فلو حدث ذلك سينتهى الأمر بفاجعة ، فإذا كانت تعلم طباع أبيها ، فهى تعلم طباع راسل حالياً الذى ربما لا يطيق تطاول أحد عليه بقول أو فعل
رآت والدتها تلج الغرفة ، فألقت عليها لمحة سريعة ، وعادت تكمل حركتها المفرطة بالذهاب والإياب ، فأقتربت منها إسعاد تقبض على كتفها لتجعلها تكف عن تلك الحركة الزائدة، التى ستجعلها بالأخير تصاب بالدوار أو الصداع
هزت إسعاد كتف ولاء برفق وهى تقول :
– إهدى يا ولاء وبطلى فرك شوية إن شاء الله خير مش وفاء قالتلك هتكلم راسل
وضعت ولاء رأسها على كتف أمها وهى تقول بيأس :
– أنا خايفة يا ماما من اللى هيحصل أبيه راسل عصبى وبابا أنتى عرفاه كويس مبيهموش وأخاف أبيه راسل يتأذى ولو ده حصل مش هسامح نفسى أن سببتله ضرر
ربتت إسعاد على ظهرها بشفقة :
– متخافيش يا حبيبتى حتى لو وصل الأمر أقف انا قدامه هقف لأن مش عايزة أخسرك أنتى كمان يا حبيبتى ولا عيزاكى تتجوزى واحد بالاخلاق دى وتعيشى الهم اللى أنا عيشته من أول ما أتجوزته مش هيحصل مش هيحصل مش هسيبك تعيشى عيشتى يا ولاء
فماضيها تذكرته دفعة واحدة ، ورأت تلك الفتاة التى لاذت بالفرار برفقة زوجها بعدما أنهت حياة وغد كان على وشك الاعتداء عليها ، ولم يكن ليحدث كل هذا من البداية إلا بسبب أخلاق زوجها الفاسدة
أبتعدت ولاء عنها قليلاً ، فتفرست بوجهها وعينيها الباكيتين ، فرأت من ضعف أمها ، مازاد عن كل مرة كانت تراها خاضعة لأبيها ، فتلك ربما فرصة سانحة لسؤالها عن سبب خوفها من والدها
فأخذتها من يدها وجلستا على طرف الفراش ، فعملت يد إسعاد على مسح دموعها المنهمرة من عينيها ، فأحتوت ولاء كفى والدتها بين راحتيها
فسألتها بنبرة حانية ومشجعة أن تبوح لها بما يألمها :
– ماما يا حبيبتى قوليلى كل اللى فى قلبك أنا بنتك حبيبتك وستر وغطا عليكى وأنا مبقتش صغيرة وهتفهم كل اللى هتقوليه متخلنيش عايشة متعذبة بأفكارى وأنا مش عارف ايه اللى وجعك ومسكتك عليه قولى يا ماما
اليوم ربما حانت تلك اللحظة الحاسمة ، التى حاولت أن لا تأتيها وتكشف أوراق ماضيها أمام إبنتها ، ولكن لمتى ستظل صامتة ؟ فولاء محقة فهى الآن صارت فتاة بالغة وراشدة ، وبإمكانها أن تتفهم إقدامها على ما فعلته
فأماءت إسعاد برأسها بخفة ، فخرجت أنفاسها مضطربة وهى تقول :
– هقولك على كل حاجة يا ولاء وهريحك جايز أنا كمان أرتاح من السر اللى مستخبى جوا قلبى بياكل فيه من الخوف اللى عيشاه وخلانى السنين دى كلها عايشة جبانة وخايفة
تنبهت حواسها بأكملها لسماع ما ستقصه عليها أمها ، فأطرقت إسعاد برأسها قليلاً وهى تبدأ بسرد حكايتها كاملة :
– أنا كنت بنت يتيمة عايشة فى بلد فى الأرياف عند ناس قرايبنا ولما وصلت سن ١٨ سنة أبوكى أتقدم يتجوزنى فرحت أن هخرج من البيت اللى كنت عايشة فيه بس طلعت غلطانة طلعت العيشة مع ابوكى أسوء ، من بعد أول أسبوع فى جوازنا بدأ يعمل قعدات شرب وسكر فى الشقة اللى كان مأجرها واتجوزنا فيها ، فى يوم كان معاه واحد صاحبه بس مش من البلد كان من بلد تانية جمب بلدنا بيشربوا سوا وابوكى كالعادة مكنش شايف قدامه ، صاحبه ده حاول يعتدى عليا ، فعلشان ادافع عن نفسى ضربته بالسكينة ، وقع غرقان فى دمه ، جريت على ابوكى افوقه علشان اقوله على المصيبة اللى حصلت ، دمه هرب هو كمان فإحنا الاتنين لفينا جثته ومسحت أثار الدم اللى كانت فى الشقة ، فأبوكى كان سواق على عربية نقل ، اخده فى العربية ، وبعد عن البلد ، كان الوقت ده بعد نص الليل والبلد كانت هادية والناس نايمة وصل لحد مكان مهجور بعيد عن البلد شوية ورمي الجثة ورجع الشقة تانى لميت هدومنا وحسان قالى هنروح على إسكندرية بعيدة ومحدش هيعرفنا فيها ، وفعلاً هربنا وجينا هنا وأبوكى طلعلى ورق بإسم إسعاد محمد النبوى وأنا إسمى الحقيقى نبيلة سعد وهبى ، وكان كل حاجة يهددنى أنه هيبلغ عنى ويحبسنى وممكن أتعدم كمان ، بس خلفت أشجان ، خفت انه ينفذ تهديده وأسيب اختك بقيت أقوله على كل حاجة حاضر وطيب ،ومكنتش عايزة أخلف منه تانى بس ربنا أراد ورزقنى بيكى ، هى دى كل حكايتى يا ولاء
أول ما أرتسم على وجه ولاء علامات الصدمة ممزوجة بدهشة عارمة مما سمعته ، فما هذا الذى سمعته لتوها ، أمها قاتلة وهاربة ، تعيش بهوية أخرى غير هويتها الحقيقية
حاولت الكلام فخرجت حروفها مبعثرة :
– مم ماما بتتقولى إيه أنتى قتلتى واحد بجد
حركات رأس أمها المتتالية ، جعلت تلك الحقيقة راسخة بعقلها ، ولكن تذكرت أيضاً أنها لم تفعل ذلك برضاها أو بميل منها لسفك الدماء ، ولكن كان الأمر برمته دفاعاً عن النفس وعن عفتها ، تدرأ عنها شيطان كان يريد جرها لطريق الفساد والفتن ، فأتخذت أول حل تبادر لذهنها فى ردعه عنها ، ولكن أنتهى أمرها بالعيش برفقة رجل ، عوضاً عن أن يتحلى بسيمات الرجولة ، محافظاً عليها ، جعل من الأمر وسيلة ليخضعها له
رمقت إسعاد ولاء بخوف من أن ترى رد فعل منها ، يزيد من أوجاعها ، خاصة بعد علمها الآن بما فعلته ماضياً ،ولكنها وجدتها ترتمى بين ذراعيها ، وهى تطوق كتفيها ، تبكى بصوت مسموع
فخرج صوتها الباكى بألم :
– يا حبيبتى يا ماما وعايشة عمرك ده مستحملة عمايله ، مع ان المفروض هو اللى يبقى حاميكى ، لأن فى الأساس كل ده حصل بسببه هو ، وصدقينى يا ماما اللى عرفته ده أكدلى حاجة واحدة أن أفتخر أنك أمى علشان مرضتيش على نفسك أن واحد يلمسك ودافعتى عن نفسك ، أى نعم الطريقة صعبة بس أنتى مكنش بايدك حاجة تنقذى نفسك بيها غير كده
فرفعت ولاء رأسها عن كتف أمها تطالعها بحب :
– وأنا مش عيزاكى تخافى منه بعد كده حتى لو حب يعمل حاجة أنا اللى هقفله ومش هسيبه يأذيكى ، وخليه فاكر أن أنا معرفش حاجة ، وهكلم أبيه راسل تانى علشان يحل موضوع العريس ده حتى لو أضطرينا ل....
أمتنعت ولاء عن تكملة حديثها ، وتبيان ذلك السبيل الذى سيسلكه راسل لإنهاء تلك الزيجة ولكن فطنت إسعاد لمغزى حديثها الغير مكتمل
فقطبت حاجبيها قائلة بتساؤل:
– وتفتكرى راسل يعملها يا ولاء
زفرت ولاء قائلة بحيرة :
– مش عارفة يا ماما إذا كان ممكن يعملها ولا لاء أنا أصلاً محتارة ، وعايزة أفشكل الجوازة دى بأى شكل ، بس برضه خايفة أبيه راسل يزعل أو أحرجه فى حاجة زى دى ، وأنتى عرفاه ، حتى لو كان مش حابب ولا عايز فممكن يعملها إكراماً ليا وليكى
نظرت كل منهما للأخرى ، ينسجان أقوالاً وخيالاً وآمالاً بأفق التمنى ، تجلسان على طرف الفراش ، وكل منهما متشبثة بيد الأخرى ، تحاول ولاء أن تزوغ بنظراتها من مرمى بصر إسعاد ، فهى تكره التفكير بذلك الأمر ، ولكنها بالوقت الحالى لا تملك حلاً أو مخرجاً من تلك الكارثة سوى ذلك الحل ، الذى تعلم أنه ربما سيتسبب فى حدوث خلافاً بينها وبين راسل ، وهو أخر من تتمنى أن يكون بينهما خصاماً أو سوء فهم
_____________
إستمع الضابط لكل ما قاله راسل ، فأمر بتحرير محضر بالواقعة ، وجلب ذلك الفتى الهارب ، مع الوعد بإتخاذ كافة الاجراءات القانونية بحقه ، فشكره راسل وخرج برفقة الفتى من غرفة الضابط
تبسم له الفتى شاكراً إياه :
– أنا متشكر لحضرتك على مساعدتى أنا لازم أروح البيت لأن كده المحاضرة بتاعتى خلاص ضاعت عليا
اخرج راسل من جيب سترته الداخلى بطاقة تعريفية ، فقدمها له وهو يقول :
– ده الكارت بتاعى فيه ارقام تليفوناتى لو النيابة أستدعتك علشان المحضر والتحقيق ، كلمنى وأنا هاجى علشان أشهد معاك ، تحب أوصلك
أخذها من يده وهو يطالعه بإبتسامة هادئة يقرأ فحوى البطاقة التعريفية ، فهز الفتى رأسه برفض :
– لاء متتعبش نفسك أنا بيتى مش بعيد عن هنا سلام يا دكتور راسل صفى الدين
رحل الفتى تتبعه نظرات راسل الهادئة ، فوضع يديه بجيبى معطفه وبدأ السير للخروج من مركز الشرطة ولكن أسترعى أنتباهه ذلك الصوت الذى لم يكف عن البكاء والنحيب ، فتوقفت قدماه عن إكمال سيره ، فإلتفت برأسه ليعلم علام كل ذلك الصياح ، فذلك الصوت يعلم من تكون صاحبته
فتحققت ظنونه وزوى ما بين حاجبيه قائلاً بدهشة :
– حياء
فعاد أدراجه ووقف أمام تلك الغرفة الخاصة بأحد الضباط بقسم الشرطة ، فتناهى إلى مسامعه صوت الضابط الصارخ بها:
– بطلى يا بت أنتى صويت بقى وجعتى دماغى أخرسى خالص يا روح أمك دا أنتى هتروحى فى ستين داهية
تقدمت منه قليلاً قائلة بدموع وإستجداء :
– والله حضرتك فاهم غلط والله أنا مش كده
لم ينتظر سماع كلمة أخرى ، فأقتحم الغرفة بخطوات سريعة ، ليعلم ما الأمر ، أتسعت حدقتيها وهى تراه يلج الغرفة وعيناه لم تحيد عن وجهها ، كأنها تبادر بسؤالها بسبب مجيئها لهنا ، فكم تمنت هى أن تختفى من الوجود بتلك اللحظة ، فهو أخر من تريد رؤيته وخاصة الآن
فهتف راسل بالضابط قائلاً بإهتمام :
– هو حضرتك بتزعلقها ليه أو قابض عليها ليه
تعجب الضابط بالبداية ولكنه ظن أن ربما يكون ذلك الرجل محامى جاء للدافع عنها فرد قائلاً بصوت لامبالى :
– مقبوض عليها فى شقة مشبوهة بتهمة أعمال منافية للأداب
هزة خفيفة لرأسه حاول بها أن ينفضها ، كأن شئ علق بأذنيه ، جعله يتوهم أن ذلك الشرطى ، أخبره بأن حياء فتاة سيئة الخلق ، وليس هذا وحسب ، بل تم القبض عليها بممارسة الرزيلة
فخرج صوته مشدوهاً وهو يقول :
– حضرتك بتقول إيه أكيد أنت غلطان مش ممكن مش ممكن
طفق يردد الكلمتين الاخريتين ، وهو يرمقها بصدمة ، لعلها تخرج عن صمتها ،وتقول شيئاً تمحى به عنها تلك التهمة النكراء
فما كان منها سوى وضع وجهها بين راحتيها ، وأجهشت بالبكاء ، وعلت وتيرته أكثر بتشديد أمر الضابط لها بأن تكف عن البكاء والنحيب
أرتجف جسدها وهى تشعر بشئ يلامس كتفيها ، فأزاحت كفيها عن وجهها ،وجدته خلع عنه معطفه ، يضعه على كتفيها ، فأسرعت بإقحام ذراعيها بأكمامه الطويلة ، تضم طرفيه تتخذه ستاراً يوارى ثوبها الممزق وحالتها المزرية
رفعت عينيها الدامعتين ، وطالعته بصمت قابله بحيرة من عدم قدرته على فهم ما يحدث الآن ، لم يقطع حوار الأعين الصامت سوى صيحة الضابط بصوته الخشن
– أنت مين يا أستاذ أنت وبتعمل إيه
قالها الضابط وهو يترك مكانه خلف مكتبه ، ودار حوله يقف وجهها لوجه أمام راسل ، الذى لا يعلم تلك الرغبة التى واتته بتحطيم فك ذلك الشرطى
حاول تصنع الهدوء وهو يجيبه :
– حضرتك أنا أعرف الأنسة ، وباباها الله يرحمه كان رجل أعمال مشهور وخطيبها دكتور أو جوزها حالياً ، يعنى هى بنت ناس ومتربية ومستحيل تعمل اللى أنت بتقول عليه ده أكيد فى سوء تفاهم
وضع الضابط يديه بخصره ، يطالعه بسخرية قائلاً :
– وهو فين أهلها دول ولا جوزها اللى بتقول عليه ، دى حتى مطلبتش أنها تكلم حد ييجى يخرجها من هنا
وضع راسل يده على ذراع الضابط ، وحاول سحبه بعيداً عنها ، فما كان منه سوى نفض يده عنه ، فمارس راسل أقصى درجات ضبط النفس حتى لا يثور بوجه ذلك الشرطى ، وعوضاً عن مساعدتها سيجد نفسه رفيقها بتهمة التعدى على ضابط شرطة أثناء تأدية عمله
مسح راسل على لحيته قائلاً بهدوء:
– باباها ومامتها للأسف أتوفوا فى حادث من وقت قريب ، وممكن يكون بس هى من ساعة الحادثة أعصابها تعبانة بس ممكن يكون حصل حاجة خلتها تخرج كده من بيتهم
إستند راسل بقوله ، لحالتها النفسية وقت وقوع حادث أبويها ، فهو مازال متذكراً إتهامها له وقت العزاء ، فربما تطور الأمر معها حتى صارت تعانى حالة من حالات عدم الوعى والإدراك
ظلت هى تتخذ من صمتها درعاً ، لترى ما سيؤل إليه الأمر ، وهل سيستطيع تقديم العون والمساعدة لها ؟ فعلى الرغم من ضيقها من أنه أقدم على تقديم مبررات لفعلها ناتج عن إصابتها بما يشبه الجنون ، إلا أنها لم تبادر بتصحيح ذلك المفهوم لديه
دلك الشرطى عنقه مغمغماً :
– هو أنت من ساعة ما دخلت عمال تتكلم وتدافع عنها هو أنت محامى ولا ايه حكايتك أنت كمان
أسرع راسل بإخراج هويته الشخصية ، وناولها للظابط ، الذى راح يجيل بعينيه فى تلك البيانات المدونة بالهوية ، فسرعان ما رفع وجهه له ، وقبل أن يفه بكلمة
تبسم راسل إبتسامة سخيفة ، قائلاً من بين أسنانه :
– حضرتك عرفت أنا مين وأن كان على الأنسة أنا هجبلها محامى حالاً
أخرج راسل هاتفه ، يفتش بين كل تلك الأرقام المدونة على الهاتف ، فوجد رقم من يبحث عنه ، ثوانى وجاءه الرد على الطرف الاخر
– عايزك تجيلى حالا على قسم شرطة ***** بس بسرعة فى ظرف عشر دقايق تكون هنا
أغلق راسل الهاتف بعد أن أنهى المكالمة ، فنظر إليها يحاول بث الاطمئنان بها ، فخرج صوته هادئاً خلاف كل مرة كانا يتحدثان بها :
– إهدى يا أنسة حياء وأطمنى
لا يتذكر أى شئ الآن ، سوى أنه يريد إخراجها من هنا ، ليتسنى له هو سؤالها عما حدث ، فأشار لها الضابط بالمكوث جانباً حتى مجئ ذلك المحامى ، ليبدأ هو سؤال المتهمين الآخرين
وضعت يدها على شفتها المتورمة ، تحسستها بألم ، فمازالت تشعر بطعم الدماء بفمها ، فرأت محرمة بيضاء أمام وجهها ، رفعت رأسها وجدته يمد يده لها بها ، فأخذتها منه على إستحياء
ولكن ما نفع تلك المحرمة بحالتها الرثة والمزرية ، ولكن عملت على تنظيف وجهها ما أمكنها من فعل ذلك ،
وجدته يبتعد عن مجلسها وهو يرى رجل يهرول إليه ، علمت أنه المحامى ، فبعد عدة كلمات بينهما
أقترب منها المحامى قائلاً بهدوء :
– قوليلى يا أنسة اللى حصل بالضبط
قصت له حياء أنه تم إلقاء القبض عليها من أمام الشقة ، وأنها لم تكن تعلم بما يجرى بالداخل وأى شقة تلك التى كانت تقف أمامها ، وتفادت ذكر سبب خروجها من المنزل ، ولكن أخبرتهما بقصة أخرى نسجتها من وحى خيالها ، من أنها أستيقظت من كابوس مرعب بحادث والدايها ، وخرجت من المنزل ولم تفيق سوى أمام الشقة ، ففكرت هل تلك الكذبة ستنطلى عليهما
ربما ستفلح مع راسل أولاً ، فهو أختبر جنونها وصدمتها من قبل
زفر المحامى براحة :
– تمام كده إن شاء الله هتخرجى لأن أصلاً مش مقبوض عليكى داخل الشقة أو بحالة تلبس ، يعنى كل ده هيطلع خطأ فى الاجراءات وهتخرجى إطمنى
تركها المحامى بعهدة راسل ، ووقف أمام الضابط يخبره بحنكته القانونية ، من أن ما حدث معها لم يكن سوى سوء فهم من البداية ، مشدداً على أن موكلته بريئة من تلك التهمة ،وبإمكانه سؤال صاحبة تلك الشقة إذا كانت تعرفها أم لاء
فنادى الضابط على العسكرى بإحضار تلك المرأة صاحبة تلك الشقة ، التى سرعان ما جلبها ،تقف أمامه تبتسم بعدم إكتراث
فضربت كفيها تتمايل بوقفتها بميوعة :
– خير يا باشا أنا مش كنت عندك من شوية ، أنا حتى ملحقتش أكل اللقمة
ضرب الضابط على سطح المكتب هادراً بها :
– أتلمى يا روح امك وأتعدلى أحسن ما أعدلك أنا
أستقامت بوقفتها وهى تزدرد لعابها قائلة بصوت مرتجف :
– أسفة يا باشا خير كنت عايزنى فى ايه
رفع الضابط يشير لحياء قائلاً :
– تعرفيها دى ؟ بتشتغل عندك فى الشقة ؟
إلتفتت المرأة حيث أشار ، وهى تضيق عينيها ، خشيت حياء من قول تلك المرأة ، أو أن تحاول توريطها بالأمر ، ولكنها وجدتها تقول :
– لاء يا باشا معرفهاش ولا عمرى شفتها قبل كده أصل لسه مفتحتش قسم للمحجبات
– طب يلا غورى خدها يا عسكرى
سحب العسكرى المرأة من مرفقها يجرها خلفه ، تنفست حياء الصعداء ، وهى تستمع لقول الضابط معقباً :
– خلاص أنتوا ممكن تاخدوا بس حد يضمنها
– أنا هضمنها يا حضرة الظابط
نطق بها راسل وهو يقترب من مكتبه ، لتوقيع تلك الورقة ، التى جاء بها ضمان خروجها من القسم ، فخرج ثلاثتهم من غرفة الضابط ، فتنحى راسل والمحامى جانباً ، وبعد دقيقتين وجدت حياء المحامى ينصرف ، بينما هى مازالت مكانها ، فقدميها متقرحتان من السير بدون حذاء ، فلم ينتبه راسل لذلك ، لكون ثوبها يصل إلى الأرض يخفى قدميها
فهتف بها بهدوء ، خلاف ذلك التيه الذى يعتمل بداخل صدره :
– أنتى كويسة ولا تحبى اوديكى المستشفى يا أنسة حياء
هزت رأسها رافضة فأجابته بخفوت :
– ملوش لزوم أروح المستشفى
ولكنها خشيت أن يختفى ، ولا تعلم لما ذلك الشعور بالخوف الذى تكتل بقلبها من فكرة ذهابه وتركه لها ، فمن كانت تريد محوه عن وجه الحياة ، صارت بلحظتها تلك تتمنى عدم ذهابه ، ليس إلا لكونها لا تعلم ماذا تفعل هى الآن ؟
– طب يلا تعالى أوصلك
قالها وهو يشير بيده أن تتقدمه بالسير ، فبخطوات بطيئة بدأت قدميها الحركة ، تحاول أن تتغاضى عن الألم الذى تشعر به بباطن قدميها
وصلا لسيارته التى صفها أمام قسم الشرطة ، ففتح لها الباب يدعولها للدخول ، وبعد أن أتخذت مقعدها ، أغلق الباب ودار حول السيارة يتخذ مكانه خلف المقود ، فتذكر علبة الاسعافات الأولية ، التى استخدمها اليوم من أجل الفتى المصاب ، فمد يده يأخذها من المقعد الخلفى
فقربها منها قائلاً :
– خدى دى إسعافات أولية علشان شفتك المجروحة
أخذتها منه تضعها على ساقيها ، فأدار لها مرآة السيارة ، لتستطيع رؤية وجهها بوضوح ، ولكن ما أن وقع بصرها على رؤية وجهها بالمرآة حتى فغرت فاها ، فعينيها داميتان من كثرة البكاء ، وشفتها متورمة ، يكسو وجهها غبرة خفيفة
شعور بالحرج أكتسح ما لديها من قوة تجعلها تنظر بالمرآة ، أو أن تلتفت بجانبها ، فأسرعت بتنظيف وجهها ، ووضعت دواء على شفتها ، وعملت على ضبط حجابها المهمل على رأسها ، بعد إنتهاءها وضعت العلبة أمامها وخدعتها عيناها ثانية بذرف دموع القهر والذل على ما صار إليه أمرها
من حين لأخر ، يلقى ببصره عليها ، وهى قابعة على المقعد المجاور له بسيارته ، نظرة يتبعها إلتفاته للطريق أمامه ، يتأكله عقله من كثرة التفكير ، فيما أوصلها لتلك الحالة المزرية التى رآها بها اليوم ، صوت نهنهة خفيفة وصلت لأذنيه ، فهى توارى وجهها بين كفيها ، تنكمش بجسدها داخل معطفه السميك ، بدت كطفلة خائفة حائرة ، أشبه للمتشردة منها لتلك الفتاة التى يعلمها ، فماذا حدث لها ، فإن كان أسرع فى مساعدتها بالخروج من قسم الشرطة ، بدون أن يوجه لها كلمة ، غير أنه أراد معرفة سبب القبض عليها ، فطار عقله بعدما أخبره الشرطى بتلك التهمة النكراء التى وجهها لها ، فبعد عدة محاولات إستطاع هو حل الأمر ، و اصر على أن لا يترك مكتب الضابط إلا وهى برفقته
ابتلع غصة خفيفة ألجمت لسانه منذ أن أستقلا السيارة ، فخرج صوته هادئاً بتساؤل :
– أنسة حياء أنتى كويسة ، هو مين اللى عمل فيكى كده ، وفين نادر هو مش أنتوا أتجوزتوا ، إزاى يسيبك يحصلك كده ، لأن الصراحة مش مصدق ولا كلمة من اللى قولتيها جوا
أنفرجت شفتيها الجافتين ، ولكن سرعان ما ضمتهما سريعاً بعد تسرب عبراتها إليهما ، بديهياً ضمت معطفه الذى غرقت بين طياته ، ففاحت منه رائحة عطر ، ربما كان هو الأمثل بذلك الوقت ، حتى لا تفقد وعيها ، نتيجة لضغوطها النفسية العصيبة
ففغرت فاها ، تستنشق أكبر قدراً من الهواء قبل أن تقول بخفوت :
– دكتور راسل أنا مقدرة مساعدتك ليا ووقوفك جمبى النهاردة بس أرجوك متسألنيش على حاجة ، والبالطو بتاعك أنا هبقى ابعتهولك على المستشفى
يأس من الحصول على جواب يشفى فضوله ، فأماء برأسه بهدوء سائلا إياها :
– طب تحبى اوصلك فين ؟ أوصلك بيتكم
– لاء
صيحة محتجة ، كانت هى الأسرع فى إجابته ، فزاد الشك بعقله ، فلم هى رافضة العودة لمنزلها ، قبل أن يفتح فمه للحديث ، سبقته هى القول :
– لو سمحت هقولك على عنوان وصلنى ليه لو مش هزعجك
كأن تلك التى تحدثه ليست حياء ، التى لم تخلو مقابلتهما سوياً من المشادات الكلامية ، طالقة العنان للسانها فى الرد على كل ما كان يشاكسها به ، فعلى الفور وافق على مطلبها ، فأخبرته بالعنوان المفترض به إيصالها إليه ، فقاد السيارة حتى وصل لذلك المكان الذى أخبرته به
فقطب حاجبيه وأخفض رأسه ، عبر الواجهة الزجاجية الأمامية للسيارة ليستطلع ذلك المكان الذى توقفت به
فألتفت إليها قائلاً بغرابة :
– معقولة أنتى كنتى عيزانى أوصلك هنا للمكان ده طب ليه ؟
____________
يتبع...!!