رواية لا يليق بك الا العشق الفصل الرابع عشر 14 بقلم سماح نجيب
شئ من الحنان يكفى "
سبق جوابها على سؤاله ، صوت المؤذن يردد آذان الظهر ، فى ذلك المسجد الكبير على مشارف ذلك الحى الفقير ، فصمتت تردد الأذان تنتظر أن ينتهى المؤذن ، فطفق يردد هو الآخر بصوت هامس ، وعيناه عالقة بهؤلاء الأطفال الراكضون خلف الكرة ، يحاول كل منهم النيل منها ، ليستطيع أحدهم ركلها بقوة ، ويكون مصيرها الاصطدام بمقدمة السيارة ، فالوقت الذى أستغرقها لتردد الأذان منحها السكون وبعض الهدوء ،وشئ من التفكير ، فى منحه إجابة تكون شافية وكافية حتى لا يبادر بسؤالها عن شئ أخر ، بإنتهاء المؤذن عادت هى لقول ما إستطاعت حبكه بعقلها ، فهى يجب عليها الحفاظ على البقية المتبقية من كبرياءها الذى كان على وشك الهدر والدعس بخسة ودناءة شكرى وزوجته المصون قسمت
فأزدردت لعابها قائلة بصوت هادئ :
– المسجد ده كان بابا الله يرحمه بناه والحى ده كان مولود ومتربى فيه وكان معتز بحياته هنا ، علشان كده بنى المسجد وكمان ده
أشارت بيدها لمبنى ملحق بالمسجد عبارة عن طابقين فسيحين ، فبالطابق الأول لافتة كبيرة كتب عليها " دار الحياء لتحفيظ القرآن الكريم " والطابق الثانى شقة سكنية
فعاودت حديثها قائلة بإبتسامة حنين :
– بابا بنى المبنى ده علشان الاولاد فى الحى يتعلموا حفظ القرأن والدور التانى شقة كنا بنقعد فيها فى شهر رمضان كنا بنقضى الشهر كله هنا ، بس من ساعة ما سافرت أمريكا أكمل تعليمى وأنا مجتش هنا إلا دلوقتى ، تقريبا كنت نسياه ودلوقتى أفتكرته ، وحابة أن أعيش الذكريات اللى كانت ليا مع بابا وماما هنا
إسترسلت بحديثها ظناً منها أنها تحدث ذاتها ، تقص عليه سبب بناء المسجد والمبنى ، تذكر نفسها بتلك الأيام الغابرة ، فهى لم تطأ ذلك الحى منذ سنوات ، فبخضم تلك المأساة والمعاناة التى واجهتها بالأونة الأخيرة ، غفلت عن ذلك المكان ، فهى لم يكن لديها الوقت الكافى لتعيد ترتيب حياتها بهدوء ، فكل الصدمات جاءت تباعاً ، ولكن من لطف الله ورحمته بأن جعلها تتذكر ما كانت تنساه ، وبأن ذلك الحى سيكون مآواها الآن ، فالمحامى لم يأتى على ذكر تلك الشقة لكونها ملحقة بدار تحفيظ القرآن الكريم وبالمسجد ، فقسمت لن تهتم بذلك وهى من صارت تملك عدة منازل وبنايات سكنية فخمة تدر ربحاً وفيراً
لماذا مازال عقله رافضاً تلك الأسباب والمبررات ؟ فحتى صوتها الذى شابه الحنين ، لم يكن كافياً لإقناعه بإنها فتاة حنت لماضيها وجاءت لتستعيد ذكرياتها ، ولكن قبل أن ينبث ببنت شفة ، كانت هى الأسرع بفتح باب السيارة من جانبها ، وترجلت منها وأغلقت الباب سريعاً
فهتفت به قبل أن تحث الخطى على الابتعاد :
– مع السلامة يا دكتور راسل والبالطو إن شاء الله هبعتهولك
بخطوات قليلة وجدها تقطع المسافة بين السيارة وبين المبنى ، ورآها تلج للداخل ، فترجل من السيارة ، ووقف بجوار بابها لهنيهة ، وسرعان ما ولج للمسجد فتوضأ وأدى الصلاة خلف الإمام ، وبعد الانتهاء ، أقترب من إمام المسجد
فتبسم للرجل العجوز وجلس بجواره ، فتبسم له الإمام بدوره ، وعلم أنه يريد منه شيئاً ، فسبقه القول قائلاً بتساؤل :
– خير يا ابنى شكلك عايز تسأل على حاجة
هز راسل رأسه بحركة خفيفة قائلاً بفضول :
– قولى يا شيخ هو المسجد ده ودار تحفيظ القرآن اللى جمبه فعلا اللى بناهم المرحوم عرفان الطيب
– أيوة يا ابنى هو اللى بناهم وكمان فى شقة هنا كان هو ومراته الله يرحمها وبنته بيجوا هنا فى الشهر الكريم علشان كان بيقضى الشهر كله هنا وكمان كان بيعمل موائد إفطار للصائمين الله يرحمه كان راجل خير
قالها الإمام وطغى على صوته الحزن بتذكره عرفان ، فرفع يده يدعو لله بالرحمة والمغفرة ، وعاد يدير مسبحته بين أصابعه ، فشكره راسل ونهض تاركاً مكانه ، وخرج من المسجد ، رفع يده ينظر لساعته فوجدها تشير للواحدة ظهراً
فشهق بخفوت :
– ياخبر أبيض دا كان فى عملية المفروض هعملها الساعة ١٢ والوقت أتأخر
أخرج هاتفه فوجده مغلقاً لنفاذ شحن البطارية ، فطفلته لابد أنها تنتظره هى الأخرى ، فبدون تردد أخذ سيارته ينطلق للمشفى لتأدية عمله ، وهناك سيخبر وفاء بضرورة الذهاب لسجود لعدم تمكنه من فعل ذلك
أمام نافذة عريضة ..كانت تختفى عن الأنظار خلف الستار الأبيض ، فبعد أن دلفت للمبنى وصعدت الدرج ، تذكرت أنها لا تحمل معها مفتاح للشقة ، فقبل أن تندب حظها ، تذكرت نسخة المفتاح الاحتياطى التى كانت تضعها مديحة ببوتقة الكهرباء تواريها عن الأنظار ، وكانت تفعل ذلك تحسباً لنسيانها أو ضياع مفتاحها ، ففتشت حياء عنه ووجدته ، وأدارته بمقبض الباب ، وولجت للداخل تغلقه خلفها ، فضغطت على زر الإنارة ، فطافت عيناها بالصالة ، فالاثاث مرتب وبحالة جيدة ، ولكن ربما تكسوه ذرات الغبار ، أستندت على الباب بجسدها تغلق عيناها بشعور الإرهاق الذى سحق خلاياها وما تبقى لها من قدرة ، لا تعلم كم ظلت واقفة هكذا ، حتى قررت تحريك قدميها وأقتربت من النافذة التى مكنتها من رؤية الشارع بوضوح ، فقبل أن تزيح الستائر ، لتغيير الجو الخانق بالشقة ، لمحته وهو يستقل سيارته ينطلق بها
فأزاحت الستائر جانباً وفتحت زجاج النافذة ، وأبتعدت بعد ذلك قبل أن يراها أحد ، وهى مازالت بتلك الحالة الرثة والمزرية ، ذهبت لتلك الغرفة التى كانت مخصصة لها بالإقامة فيها ، فرأت الدمى المحشوة التى تراصت على الفراش وأيضاً الأغطية التى ما أن رأتها شعرت بالنعاس يداهم جفنيها ، فهى لم تنم منذ البارحة ، بدون تفكير أرتمت على الفراش تسحب الأغطية على جسدها لتغفو قليلاً ، فهى حتى لم تنزع عنها معطف راسل ، بمجرد وضع رأسها المثقل بالهموم على الوسادة حتى غرقت بسبات عميق ، لم يخلو نومها من إستعادة أحداث ليلة البارحة ، فتنكمش ملامح وجهها بتذكر جلوسها وسط السجينات ، اللاتى لم تنجو من شرهن إلا بحماية إمرأة لها ، ولكن تبدل ذلك الكابوس بحلم أخر ، فأنقبضت أساريرها ، وهى ترى نفسها راكضة بطريق مظلم لا تعلم إلى أين هى ذاهبة ، كأنه نفق ضيق ، فكلما زاد ركضها زاد النفق ضيقاً حتى شعرت بجسدها يكاد يسحق بين جدارين مطبقان عليها من كل جانب ، فصرخت تنادى لعل أحد يساعدها ، فكلما أطبقت عليها الجدران ، زادت بمناجاة الله تنادى وتردد ما تيسر لها من القرآن الكريم ، فوضعت وجهها بين كفيها تبكى وتنادى ولم تشعر إلا بيد تربت على كتفها ونسمات عليلة تلامسها ، كمن جاءتها بعد يوم شديد الحرارة ، رفعت رأسها لترى من يربت على كتفها بذلك الحنان الطاغى ، فلم تستبين ملامحه جيداً
فهتفت به متسائلة :
– أنت مين ؟
– خلى بالك من الحية يا حياء
لم تسمع منه سوى تلك الكلمة ، ووجدت نفسها تنظر حيث تشير يده ، فرآت حية عملاقة تكشر عن أنيابها ، صوت فحيحها جعل الدماء تفر هاربة من عروقها ، فرأتها تزحف إليها وكلما أقتربت ، زحفت هى بجسدها للخلف ، حتى دنت منها تفتح فمها ، ولكنها أستيقظت من نومها وهى تشهق بصوت مسموع ، كمن ظلت حبيسة بقاع البحر ، وحان وقت خروجها منه
وضعت يدها على صدرها بعدما هبت جالسة بالفراش وهى تردد :
– بسم الله الرحمن الرحيم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ظلت تتحسس وجهها وجسدها معقبة :
– الحمد لله يارب أنه كابوس الحمد لله
نظرت حولها كأنها تتذكر أين هى الآن ؟ فالغرفة غارقة بالظلام ، بعدما كان يملأها نور الصباح ، فعلمت أن المساء قد حل الآن ، وربما هى نائمة منذ وقت طويل ، فنظرت للساعة المعلقة على الجدار وجدتها لا تعمل ، فزفرت بخفوت وأزاحت الأغطية عنها وتركت الفراش
وقفت بجوار الفراش تتحسس معدتها ، فتقلصات شديدة أصابتها ناتجة عن شعورها بالجوع ، ففكرت أن تتحمم أولاً وتصلى ما فاتها من الصلاة ولتبحث عن شئ تأكله ، فتحت خزانة الثياب ، فظلت تجيل ببصرها تبحث عن شئ ترتديه ، فتلك الثياب كانت لها وهى مراهقة ، فالأن ربما لن يكون قياسها مناسباً ولكن لا حل أمامها غيرها ، فتناولت ثياب نظيفة وولجت للمرحاض ، قضت وقتها به وبعد أن أنتهت خرجت تعقص شعرها بمنشفة ، فوقفت أمام المرآة ، فرغماً عنها تبسمت على مظهرها بتلك الثياب البيتية التى لا تصل لكاحليها ولا معصميها ، ولكن الشئ الوحيد الذى وجدته فضفاضاً هو ثوب الصلاة فأرتدته وأدت ما عليها من صلاة
تلك الغرفة التى كانت مخصصة لعرفان وزوجته ، كانت هى الاولى بزيارتها لها لتفتش عن نقود ، فولجت الغرفة بسكون سرعان ما انتشر الضوء بالغرفة ، بعد ضغطها زر المصباح الكهربائي ، فتشت بالأدراج وأسفل الوسائد ولم تجد شيئاً
فجلست على الفراش تتحسه بيدها ، تنزلق دموعها بصمت ، فأتجهت بعد ذلك لخزانة الثياب الخشبية التى تحوى ثياباً لمن رحلوا عن عالمها ، تاركين إياها تصارع الحياة وحدها
فتحتها من المنتصف ، فرأت تلك الخزنة بالحجم المتوسط ، فتبسمت عندما تذكرت أنها كانت دائمة العبث بأرقامها متفكهة بذلك أنها تريد أن تعلم كلمة السر الخاصة بها ، فتتعالى ضحكات عرفات على ما تفعله ، يخبرها أنها هى الوحيدة التى تستطيع فتحها ، فالرقم السرى هو رقم يوم مولدها المدرج بشهادة الميلاد
برغبة طفلة صغيرة ، أرادت تذكر كيف ستتمكن من فتحها ، فبعدة خطوات بسيطة بتحريك مؤشر الخزنة بالأرقام التى تعلمها عن ظهر قلب ، سمعت صوت تكة خفيفة ، تنبأها بنجاحها فى فعل ذلك
فتبسمت وأدارت المقبض المعدنى ، وفتحت الخزنة ، شعور بالاندهاش والصدمة حل على حواسها كاملة ، فهى ترى الآن عدة صفوف من النقود ، فالخزنة مملوءة بالنقود التى تم ترتيبها بالفئات العالية ، فالخزنة مكتظة بالنقود ، وبعض الحُلى والمشغولات الذهبية كمن وجدت صندوقاً لكنز قد تم إيداعه بعيداً عن أعين المتطفلين
وضعت يدها على فمها مشدوهة وهى تردد :
– معقولة دى فلوس بجد ولا أنا اللى بحلم علشان جعانة
بتلك اللحظة ، شكت بقواها العقلية ، من أن ما تراه ما هو إلا حلم ينسجه لها عقلها ، وعندما تمد يدها الآن ستجدها فارغة
ولكن ما تتحسسه بيدها لم يكن وهماً أو سراباً فتلك نقود حقيقية والحُلى الذهبية أيضاً ، فمديحة لم تكن من هواة إرتداء المشغولات الذهبية على الرغم من أن عرفان كان يغدقها بها
فتلك الحُلى الذهبية والماسية ، التى تركتها بالمنزل بعد رحيلها ، أخذتها قسمت تتزين بها ، فكم من مرة شعرت هى بالحزن والحسرة وهى ترى قسمت تتبختر وتتباهى بما ترتديه من إرث شقيقها وزوجته ، فمديحة لم يكن لها أشقاء أو شقيقات
أخذت حفنة من النقود تقلبها بين يديها ، لعلها تصدق أن ما تراه حقيقة ، أغمضت عينيها وهى تردد الشكر لله على عطاياه ، فتلك النقود هى من ستجعلها تطعم نفسها ، حتى تبدأ فى البحث عن عمل لتعيل ذاتها ، فهى يجب عليها التفكير بحياتها المقبلة ، فالنقود لن تكون كافية وباقية لتعيش بها طوال حياتها
________________
تأففت تلك المراهقة من النظر لنفسها بالمرآة ، فلما هى مازالت بذلك الجسد الطفولى ، وأن مفاتنها كأنثى لم تظهر بعد ، فهى ترى صديقات لها بجسد ممتلئ ، فمن يراهن لا يصدق أنهن فتيات مازالن بطور النضوج ، ولكن هى بسبب نحول جسدها الشديد الذى لا تعرف له سبباً غير إن والدتها الراحلة كانت هكذا بصباها وحتى وفاتها ، فلعل الأمر يعود للعامل الوراثى ، ولكن زوجة أبيها إمرأة بجسد متناسق ، وكم من مرة تركت عيناها للمقارنة بينهما ، الطرق المستمر على باب الغرفة ، جعلها ترتدى ثيابها بسرعة ، وذهبت للباب الذى حرصت على إغلاقه بالمفتاح ، حتى لا يقتحم أحد عليها الغرفة وهى تقف أمام المرآة بخلوة صنعتها لنفسها للتفتيش عن حل يمكنها من أن تكون فاتنة لجذب أنظار معلمها العزيز
فتحت سهى الباب وهى تبتسم بدون مرح :
– أيوة يا طنط خير فى إيه
ضيقت زوجة أبيها ما بين حاجبيها متسائلة :
– فى إيه يا سهى قافلة على نفسك الباب ليه كده
حكت سهى فروة رأسها وهى تقول :
– بذاكر يا طنط أنتى عارفة بقى فى ثانوى وكده والإمتحانات مبقاش عليها كتير والوقت بيجرى فبلحق ألم المنهج وعلشان كمان ولادك ما يدخلوش الأوضة ويزعجونى ويلعبوا فى كتبى ويشتتوا تفكيرى
عبست زوجة أبيها من ذكرها الدائم لشقيقيها بأنهما أولادها ، غير مقرة بذلك أنهما شقيقيها من أبيها فهتفت بها بضيق :
– هم ولادى دول مش أخواتك دايما تقوليلى ولادك ولادك هم جيباهم من الشارع مش أخواتك من أبوكى
قلبت سهى عينيها بملل ونفخت بضيق وهى تقول :
– بقول لحضرتك ايه يا طنط ممكن تسيبينى علشان أكمل مذاكرتى إذا سمحتى
يأست المرأة من أفعال تلك المراهقة ، التى لم تتقبل يوماً أنها بديلة لأمها ، على الرغم من محاولتها فى مصداقتها ، فهى تراها أنها إمرأة مخادعة لزواجها من أبيها وهى من كانت الصديقة المقربة لأمها الراحلة ، فعقلها جعلها تستنتج أنها كانت طامعة بزوج صديقتها منذ البداية ، وأنتهزت تلك الفرصة بموت أمها وتزوجت زوجها
تركت سهى الباب ، وجلست خلف مكتبها الصغير ، وبدأت بفتح كتبها ، لعل زوجة أبيها تعلم أنها هكذا أنهت المناقشة والجدال بينهما ، فما كان منها سوى أن خرجت من الغرفة تغلق الباب ، بعد أن أخبرتها بضرورة تناول طعامها
نظرت سهى بهاتفها ، ووجدت أن الوقت مازال مبكراً على موعد ذهابها لدروس اللغة الفرنسية ، فهى تنتظر الموعد بترقب وشوق لرؤية كرم ، فلم تكفيها رؤيته بالمدرسة ، ولكن وجوم ملأ وجهها بعدما تذكرت صديقتها ، التى لن تتركها تنعم بحلمها الوردى ، وستظل توكزها من وقت لأخر ، لكى تغض البصر عن التحديق والحملقة بكرم
ذاكرت ما عليها من دروس وأدت ما عليها من واجبات ، حتى تثير إنتباه وإعجاب معلمها بفطنتها وبراعتها باللغة الفرنسية ، فكم تشعر هى بالفخر عند إشادته بذكاءها الحاد ، وأنها هى الطالبة الأفضل بين زميلاتها
فبعد أن رأت إقتراب الموعد ، قفزت من على مقعدها ، تتجه لخزانة ثيابها ، فوقع إختيارها على ثوب باللون الرمادى ، فأرتدته ، ووضعت حجاب على رأسها ، ولكنها ازاحته قليلاً من مقدمة رأسها ، فظهر شعرها واضحاً لكل من يراها ، فهى فكرت أن هكذا لن تأثم ، فهى مرتدية الحجاب ، تلك القناعة الغريبة التى أصابت جيلاً بأكمله بأن بتلك الفعلة هى ترتدى الحجاب ولا حرج ولا ذنب عليها بأن يرى الناس مقدمة شعرها
بعد أن أنتهت أخذت حقيبتها على ظهرها وخرجت من الشقة ، هاتفت صديقتها التى سرعان ما وجدتها خارجة من البناية المجاورة
تبسمت لها ولكن ما كان من صديقتها سوى مد يدها تسحب للأمام حجابها المنزلق ، فعاتبتها بلين :
– كده يا سهى خارجة من البيت ونص شعرك تقريبا باين
أصابها الضيق من فعل صديقتها ، الذى رأته أفسد مظهرها الذى كلفها عناء الوقوف كثيراً امام المرآة ، فصاحت بها :
– يوووه حلو كده بوظتيلى الدنيا
تبسمت صديقتها بحزن وهى تقول :
– قصدك بسترك من فتن الدنيا يا سهى هو أنتى فاكرة أنك كده لابسة الحجاب ، يا حبيبتى الحجاب له احترامه هتلبسيه بما يرضى الله كان بها مش هتحترميه يبقى متلبيسهوش خالص ، مش ماشية وشعرك باين وتقولى على نفسك محجبة ، بلاش يا سهى حجاب الموضة ده اللى هيوديكى فى داهية
عملت يد سهى على ضبط الحجاب ، وهى تشعر بغليان دماءها من أقوال وأفعال صديقتها ، ولكنها لم تشأ أن تثار بينهما مشادة كلامية أو شجاراً وتتأخران على موعدهما
بعد ذلك تأبطت ذراعها تجرها معها ، وهى تدمدم بسخط :
– دا كان يوم ما يعلم بيه إلا ربنا لما اتولدنا فى يوم واحد وأتصاحبنا يا شيخة يلا بينا
تبسمت الفتاة على قولها ، ولكنها لم تعقب على ما قالته ،فهى تعلمها خير العلم ، وتعلم أن خلف تلك الافعال والتصرفات الجنونية بعد الأحيان فتاة تشعر بالتخبط والحيرة ، فبرحيل والدتها فقدت مأمنها ومن كانت تبوح لها بالصغيرة قبل الكبيرة ، غير راغبة فى منح زوجة أبيها هذا الدور ، مكتفية بذاتها وبصداقتها لها ، فهى تحاول ما أمكنها أن تكون عوناً لها على مجاهدة نفسها بتلك المرحلة العمرية ، التى تمر بها من تغيير رداء الطفولة برداء الشباب الزاهى ، الذى ربما يكون بعض الأحيان براقاً يعمى الأبصار عن رؤية الأمور بعقلانية ، فعنفوان الشباب إذا لم تلجمه القيم والأخلاق ، صار فساداً يعيث فى الأرض خراباً ودماراً
فكم من مرة أخطأ كرم فى شرح الدرس ، حتى أثار غرابة الطالبات ، فهن غير معتادات على ذلك ، فذلك التيه الذى يشعر به يختبرونه منه لأول مرة ، فحاول نفض ذهنه عن تلك الأفكار التى تداخلت ببعضها البعض ، فمنذ مقابلته لراسل وماحدث له بيوم إحتفال هند بمولدها ، وهو يسير بمتاهة ،من إقدامه على تنفيذ ما قاله راسل ، بأن يستمر بحبه لهند ، وبين أن يتخلى عن ذلك ويفكر بالانتقام منها على إهانتها له
وصل لحافة صبره وطاقته على الإحتمال ، فعلا صوته قائلاً بإرهاق :
– معلش كفاية كده ونكمل الحصة الجاية
لملمت الطالبات كتبهن يستعدن للمغادرة ، ولكن سهى لم ترتضى الرحيل إلا أن تكون أخر من يغادر ، فالوقت الذى خصصته لرؤياه ، لم ينقضى مثلما أرادت
فأقتربت منه تبدى إهتمامها وهى تقول :
– مالك يا مستر كرم حضرتك تعبان
رفع كرم وجهه ، بعدما كان يطرق برأسه أرضاً ، فأستند بها على أحد كفيه مغمغماً :
– شوية يا سهى المرة الجاية هعوضلكم الوقت اللى مكملش
– طب حضرتك ....
قبل أن تكمل حديثها وجدت صديقتها تسحبها من ذراعها وهى قائلة بسرعة :
– ألف سلامة عليك يا مستر كرم
دفعتها حتى تتقدمها بالسير ، فكم تمنت لو تقذفها بالحقيبة فى وجهها البهى الطلة ، فدائماً ما تفسد عليها أوقاتها ، فلم تأبه صديقتها لنظراتها النارية ، فأرادت إكمال إثارة غضبها
فأخرجت لسانها لإغاظتها وقالت :
– أحسن أحسن وهفضل أفسد عليكى كل حاجة بتفكرى فيها بعقلك الأهبل ده
فعقدت سهى ذراعيها قائلة بحيرة :
– بس أنا بحبه أعمل ايه يعنى بحب كرم بحبه
غفلت هى عن أن مكانه القريب منهما ، مكنه من سماع قولها ، فشحب وجهه على الفور بسماع قول تلك الفتاة ، فبما تهذى هى الآن ؟ ففكر أن كل ذلك التودد بصوتها لم يكن سوى شعورها تجاهه وليس إحتراماً منها له كونه معلمها وهى تلميذته ، تيبست قدماه وتصنمت ملامحه ، وتلك الجملة التى تركتها تلك الفتاة قبل رحيلها تتردد بأذنيه مراراً و تكراراً
_________________
تشق مقدمة تلك السفينة الماء ، تطرحها على جانبيها ، كأنها تسابق الوقت والحقيقة ، فالوقت الذى أستغرقته بالوصول من اليونان إلى مصر وبالأخص مدينة الإسكندرية ، كان الأفيد لها هى ، تلك المرأة التى تقف تستند على السور المعدنى على سطح السفينة ، تنظر للماء المنجرف بفعل الأمواج وثقل محتوى تلك السفينة الضخمة ، شعرت ببرودة مفاجئة ، وكيف لا وهى من أقتربت من موطنها ، ذلك الوطن الذى هجرته منذ أعوام ، فتلك النسمات الرقيقة ، التى ما برحت تضرب وجهها ، كلسعات خفيفة ، جعلت الدموع تتجمع بمآقيها ، هاتان العينان التى لا يراهما أحد إلا وقع صريعاً ببحر عشقهما ، فهى من كانت يطلقون عليها فاتنة الإسكندرية ، ومن أجمل ما أنجبت من صبايا ، بتذكرها ذلك اللقب ، تبسمت شفتيها النضرتين ، كأن السنوات توقفت عندما كانت بالعشرين من عمرها ، ولكن تلك الشعيرات الفضية ، التى أختلطت بخصيلاتها النحاسية ، كانت الأدعى بتذكيرها بسنوات عمرها الأثنى والأربعون ، فلا يستطيع أحد رؤيتها إلا أذا كان قريباً منها ، فتلك الشعيرات هى دليلها الوحيد ، على مرور تلك السنوات ، فلم تنال من شئ أخر من جمالها
تطاير ثوبها حول كاحليها ، وشعرها سأمت من إعادة ترتيبه خلف أذنيها ، فالهواء كأنه سعيد بتخريب تسريحتها الأنيقة والوقورة ، خفضت وجهها تنظر لثوبها بشقيه الأبيض والأسود ، فالشق الأبيض بجانبها الأيمن ، والشق الأسود بجانبها الأيسر ، فربما هذا الثوب كان هو الأنسب لعودتها إلى الأسكندرية ، فهى عائدة بفرحة وخوف ، بسعادة وشقاء ، عائدة بكل شئ ونقيضه
فقبل أن تنسكب دموعها ، شعرت بيد دافئة تلمست كفها بحنان ، فتبسمت بعد رؤية ذلك الشاب الوسيم ، فهتفت بصوتها الناعم :
– خلاص قربنا نوصل المينا فى إسكندرية يا معتصم
إستند معتصم بمرفقيه ، على الإطار المعدنى ، فأنحنى قليلاً نظراً لطوله الفارع ، فرفع إحدى يديه وحك لحيته :
– تفتكرى كان قرارنا صح إن إحنا نسيب اليونان ونرجع إسكندرية تانى يا غزل
– كان لازم يوم نرجع فيه مكناش هنفضل هربانين عمرنا كله يا معتصم
قالتها غزل بغصة علقت بحلقها ، فتمنت أن لا ينتبه معتصم لها
إستقام معتصم بوقفته بعد إنحناءه ، فربت على صدره بحركات رتيبة ، كأنه يفكر فيما قالته ، فربما وقع ما حدث ماضياً لم يكن له منه النصيب الأكبر ، فهى وشقيقه هما من نال القسط الأكبر بتلك الفاجعة
غير دفة الحديث ، لعله يرفه عنها قليلاً ، فتبسم ممازحاً إياها :
– بس إيه الفستان القمر ده يا غزل أنا كده أول ما ننزل من الباخرة مش هلاحق على اللى هيبقوا عينهم منك ويمشوا وراكى يغازلوكى
تبسمت رغماً عنها وهى تقول :
– خلاص بقى يا معتصم الكلام ده كان زمان تصدق أنا فرحانة أن عمران مرجعش معانا دلوقتى وإلا كان عملنا مصيبة
تذكر معتصم شقيقه الأكبر ، وتذكر تلك المشاجرات والعراك ، الذى يفتعله مع أى حد يقدم على مضايقتها أو مغازلتها ، فهما الاثنان يحافظان عليها كأنها جوهرة ثمينة
فأخذ معتصم يدها بين راحتيه وهو يقول بحنان :
– لينا حق نخاف عليكى يا غزل إحنا ملناش حد غيرك
جذبته غزل وطوقته بذراعيها ، فلم يكن الفارق بالطول بينهما شاسعاً ، فهى الأخرى تتمتع بالطول المناسب ، الذى يمكنها من ضمهما إليها ، بدون أن تشعر بقصر قامتها ، فقوامها الرشيق وجمالها الساحر للأنظار ، كان مدعاة لأن يطلقون عليها شتى الألقاب الخاصة بالجمال والجاذبية
فبعد وصول السفينة لمرفأها الأخير ، حاولت غزل إستنشاق أكبر قدر من الهواء ، كأنها بإنتظار مواجهة محتومة ومصيرية ، فتعلقت بيد معتصم الممدودة لها ، كأنه يدعوها بأن تجعل منه حارساً ضد الذكريات ، التى ستداهمها بمجرد أن تطأ قدميها الأرض
أسرع معتصم بإنهاء المعاملات اللازمة ، وهى مازالت متعلقة بذراعه ، فهى لم تنسى وضع نظارتها الشمسية الكبيرة ، لإخفاء عبراتها ، ولكن يستطيع كل من يراها ، أن يتكهن بأنها تبكى ، فإحمرار أنفها من كثرة إستعمال المحارم الورقية ، وإختلاج شفتيها ، دلا على صعوبة سيطرتها على دموعها
وجدا سيارة بإنتظارهما ، فعمران حتى وإن لم يعد معهما ، فهو حرص على أن يصلا للمنزل بسلام ، فهو حتى لم ينسى بأن يكلف العديد من الخدم ، بتنظيف ذلك القصر المهجور ، او كما يطلق عليه عمران دائماً " قصر الدماء "
جلست غزل بجوار معتصم بالمقعد الخلفى بتلك السيارة الفارهة ، وضعت رأسها على كتفه لعلها تغفو قليلاً قبل وصولهما ، فهى تعلم بأن النوم سيجافيها ، عندما تعود للقصر ثانية
أشفق معتصم علي حالها ، فهو أبدى إقتراحه بعدم العودة لذلك القصر ثانية ، وأن يبتاعوا منزلاً جديداً ، ولكن غزل رفضت ذلك رفضاً قاطعاً وأيدها عمران بقرارها ، فهو أيضاً يريد العودة لنقطة البداية ، حتى يستطيع تسطير النهاية بيده ، ولن يصح ذلك إلا بعودتهم لذلك القصر
بعد أن قطعت السيارة المسافة اللازمة للوصول ، هزها معتصم برفق ، فباعدت بين جفنيها بصعوبة ، فأول ما سقط عليه عيناها ، هو المسبح الواسع
فخرجت من السيارة ، ووقفت أمامه ، تنظر للماء الرائق به ، فبثانية واحدة كأنها رأت المياة تحولت للون الأحمر ، تطفو تلك الأجساد المغدورة به
فأنتفضت وهى صارخة :
– لااااااء لااااااء
أصاب معتصم الرعب من صرختها ، فأخذها بين ذراعيه يهدهدها قائلاً برفق :
– إهدى يا حبيبتى إهدى قولت بلاش نرجع القصر تانى يلا يا غزل نمشى من هنا لو فضلتى هنا هتتعبى زيادة
أغمضت غزل عينيها ، ريثما تستعيد هدوءها ، فربما هى حقاً مخطئة بقرارها بالعودة لهنا ثانية ، ولكنها لن تظل هاربة طوال عمرها
فأبتعدت عن معتصم وهتفت بضعف :
– خلاص يا معتصم أنا كويسة متخافش يلا بينا ندخل جوا
وجدا العديد من الخدم بإنتظارهما ، فبعد الترحيب بقدومها ، صعدت غزل بحذر لغرفتها القديمة ، فهى كأنها تركتها بالأمس القريب ، فثياب طفولتها وشبابها ، مازالت موجودة بخزانة الثياب ، وتلك الصور بداخل الإطارات الذهبية ، موضوعة على الكومود بجوار الفراش ، فربما عمران أصدر أوامره بتنظيف القصر ، على أن يترك كل شئ على حاله سابقاً
فأخذت تلك الصورة الجماعية وتلمستها بحنان ونحيب :
– وحشتونى أوى كلكم و الغزال كبر وكمان عمران ومعتصم ، وغلاوتكم عندى ما هرتاح إلا ما اجيب حقكم كلكم ، وحمام السباحة اللى اتملى بدمكم هيتملى بدم اللى عمل فيكم كده ، بس مش هخلى عمران ومعتصم ايدهم تتلوث بالدم
ضمت الصورة لصدرها ، وتحجرت عينيها وهى تنظر من مكانها وهى جالسة على طرف الفراش ، لذلك المسبح بالحديقة ، فكم كانت تعشق هى السباحة به ، ولن تسبح ثانية إلا بدماء عدوها ، فكل دمعة ذرفتها هى حسرة وحزناً ، ستحرص على أن يذرفها هو دماً ، فهى عادت للإسكندرية ، من أجل القصاص ، ولن يكون القصاص عادلاً ، إلا إذا جعلته يعانى أولاً ، وتجرده من كل ما يملكه ، ستجعله بالبداية يعانى الفقر والحاجة ، وربما بعدما يصل للنزع الأخير ، ستكون رحيمة به وتطلق عليه رصاصة الرحمة ، حريصة على أن تختلط دماءه بدماء من سبقوه
_____________
بثوب الصلاة الفضفاض ، كانت واقفة أمام أحد المتاجر الخاصة بعمل وجبات الطعام السريعة بذلك الحى ، فبالسنوات الأخيرة صار الحى أكثر تحضراً عن أخر مرة كانت هنا ، فالعديد من المتاجر أحتلت الأدوار الاولى من البنايات السكنية ، فصار الحصول على ما تريده يسيراً عن ذى قبل ، حمدت الله أن لا أحد يعرفها ولا يتذكرها ، فبثوب الصلاة كانت شبيهة بساكنات الحى من النسوة و الفتيات ، فهى لا تريد أن تثار التساؤلات حول وجودها هنا ، وخاصة الآن بعد موت عرفان ومديحة ، ولما هى فضلت المكوث هنا عوضاً عن المنزل الفخم بذلك الحى الراقى
ناولها الرجل حقيبة بلاستيكة ، تم وضع الطعام الذى أوصت به ، فأخذته عائدة للمنزل ، ولكن قبل أن تلج للداخل أستوقفها صوت إمام المسجد
– أنتى يا بنتى راحة فين ، تحفيظ القرأن بيكون الصبح هو أنتى مين
قالها إمام المسجد وهو يحث خطاه البطيئة فى الاقتراب منها
إزدردت حياء لعابها قبل أن تدير جسدها وتصبح وجهها لوجه معه ، فهى لم تكن تريد مقابلة أحد الآن قبل أن تستعيد هدوءها وإتزانها المفقود
ولكنها لم تجد مفر من المواجهة المحتومة فتبسمت بحرج وهى تقول :
– دا أنا حياء
دقق الرجل العجوز بملامحها ، حتى تهللت أساريره وصاح بصوت ملأه السعادة لرؤياها :
– حمد الله على السلامة يا بنت الغاليين ، مقولتيش ليه أنك جيتى كنا رحبنا بمجيتك يا ألف أهلا وسهلا
ولكن تبدل صوته من الفرح للحزن وهو معقباً :
– البقاء لله يا بنتى والله كلنا قلبنا انخلع لما سمعنا الخبر ربنا يرحمهم يارب ، بس أنتى كنتى فين كده بالاسدال
رفعت حياء الحقيبة البلاستيكية قائلة بهدوء شابه الخجل :
– مفيش كنت بشترى أكل من المحل اللى قريب من هنا ، أصل ملقتش حاجة فوق فى الشقة ، عن إذن حضرتك وإن شاء الله نتكلم تانى ، لأن أنا هقعد هنا شوية
أبدى الإمام غرابته بسماع قولها بتقطيب حاجبيه ، ولكنه لم يشأ لها البقاء بالوقوف أمامه هكذا ، فتنحنح قائلا بمودة :
– تنورى يا بنتى أتفضلى أنتى
صعدت حياء للشقة ، أدارت المفتاح بالمقبض ، فأنفتح الباب ، ولكن قبل أن تلج للداخل سمعت صوت مواء هرة ، يأتى من مكان قريب ، فأنارت الضوء أمام الشقة ، فرأت هرة باللون الأبيض و الرمادى تنزوى بأحد الأركان يبدو عليها الوداعة والجوع أيضاً ، فربما أشتمت رائحة الطعام الذى تحمله حياء ، فأبدت رغبتها فى الحصول على بعض منه بصوت مواءها الضعيف
أقتربت منها حياء قائلة بصوت مشفق على حالتها :
– يا حرام أنتى باين عليكى جعانة أوى زيى ، تعالى معايا
قبل أن تهم بحملها ، فكرت مليا بأنها يمكن أن تكون مريضة ، أو بها داء أو علة ، ولكن يبدو عليها أنها ليست قطة ربيبة الأزقة ، بل تشبه الهررة الثمينة ، ففكرت أولاً بأن تقدم لها بعض المغريات بالطعام حتى تتبعها للداخل ، وبعد ذلك سترى ماذا تفعل معها
لم تجد جهداً يذكر بجعل الهرة تتبعها ، فربما جوعها هى الأخرى جعلها سهلة الانقياد خلفها ، بحثت حياء عن طبق ووضعت لها الطعام بجانب المائدة ، التى جلست هى عليها تتناول طعامها هى الأخرى
تناولت كل منهما طعامها بنهم وجوع شديد ، فحياء زفرت براحة وشعور بالامتلاء ، شاركتها الهرة بتمددها على الأرض بإرتياح بعد أن سدت رمقها هى الأخرى
فتبسمت حياء وهى ترمقها :
– تصدقى أول مرة أكل بالشكل ده كأنى مأكلتش قبل كده ، بس مقولتليش إسمك إيه بقى يا حلوة
أصدرت الهرة مواء ضعيف ، تفتح عينيها ببطئ لتعيد وتغلقهما ، كأنها بحاجة للنعاس ، ولكن تركت حياء مكانها تنحى إليها تشير إليها بأن تتبعها :
– تعالى علشان تاخدى شاور وتبقى نضيفة على ما أشوف دكتور أوديكى ليه لتكونى تعبانة وبعد كده هخليكى تعيشى معايا إيه رأيك
عادت الهرة لمواءها ، كمن تخبرها بموافقتها على ما أبدت من إقتراح بشأنها ، فبعد ثلاث دقائق ،كانت حياء تغمرها بالماء وبعض السوائل الخاصة بالاستحمام ، وبعد الانتهاء جففتها حياء جيداً ، وأخذتها عائدة للصالة ، وضعتها بجانبها على الأريكة ، تمسد عليها من وقت لأخر ، بعدما فتحت التلفاز ، لتروح عن نفسها قليلاً ، سمعت حياء صوت جرس الباب فتركت مكانها ، لترى من القادم
نظرت من ثقب الباب ، فرآت إمام المسجد يصطحب زوجته ، فأسرعت بفتح الباب قائلة بترحيب :
– أهلا وسهلا أتفضلوا
ولج الإمام وزوجته ، ولكن سمعوا صوتاً قائلاً بمرح :
– إستنوا أنا جاى
تبسمت زوجة الإمام على قول ولدها ، الذى رآته يصعد الدرج مهرولاً ، حتى وصل إليهما ، فوضع يده على صدره يلتقط أنفاسه ، كمن كان يركض بطريق طويل
فربتت والدته على كتفه قائلة بحنان :
– خد نفسك يا بلال هو أنت داخل سباق
تبسم بلال على قول والدته ، سرعان ما عاود النظر لحياء قائلاً :
– حمد الله على السلامة يا أنسة حياء
تذكرته حياء ، تذكرت ذلك الشاب اليافع ، الذى كلما كانت تأتى لهنا ، تجده يسرع لمساعدتها بأى شئ تريده ، يساعد والده وعرفان بتحضير موائد الإفطار ، فكم تغيرت ملامحه عن السابق ، فصار أكثر طولاً ، وأشتد ساعديه ، وأصبح يمتلك ملامح وجه رجولية مليحة ، خاصة بلحيته السوداء ، وغمازتيه البارزتين بوجنتيه ، والتى كلما تبسم أو ضحك ، تكون أشد ظهوراً بخديه
– الله يسلمك أزيك يا أستاذ بلال أتفضلوا
قالتها حياء بإبتسامة ، وهى تتنحى جانباً تسمح لهم بالمرور للداخل
فتبسم بلال بدوره قائلاً :
– الحمد لله أزيك أنتى
حسناً ..فهى مازالت تتذكره ، وتتذكر أيضاً إسمه ، فهو كان يخشى أنها لم تعد تتذكر ذلك الحى وساكينه ، اتخذ كل منهم مقعده ، فذهبت حياء للمطبخ ، للبحث عن أى مشروب تستطيع به مضايفتهم ، فلم تجد سوى الشاى ، فجلبت الاكواب وبدأت بإعداد المشروب ، ولكنها من داخلها تخاف من أن يكتشف أحد أمرها ، وأنها ليست إبنة صاحب تلك الشقة ، فحتما ستثار الأقاويل والتساؤلات حول مكوثها هنا بالفترة القادمة ، فبما هى تجيب ؟
أخذت الصينية وخرجت للصالة ، ووضعتها على الطاولة ، وجلست بمقعد منفرد ، تفرك يدها بتوتر وهى تقول :
– أهلا وسهلا نورتونى
تبسمت زوجة الإمام قائلة بمودة :
– دا نورك أنتى يا بنتى أعذرينا لو كنا جينالك كده على غفلة بس لما عرفنا انك هنا جينا نعمل الواجب ، ربنا يرحمهم يارب
– اللهم أمين ، متقوليش كده تنوروا فى أى وقت
نطقت بها حياء وعيناها تتأمل السجادة أسفل قدميها
تناول بلال كوب الشاى يرتشف منه قائلاً بفضول :
– هو أنتى خلصتى دراستك وأتخطبتى ولا لسه هو أنتى قاعدة هنا على طول
لمحة مستاءة من عينى والده ، جعلته يطرق برأسه أرضاً ، يأنب نفسه على رعونة تصرفه ، فرغبته فى معرفة كل ماحدث لها بالسنوات الماضية ، كانت هى الغالبة على رزانته وعقلانيته ، فحمحم يبدى أسفه على ما قاله ، إلا أن حياء تبسمت بهدوء و هى تقول:
– أيوة خلصت دراستى ، وأتخطبت بس محصلش نصيب ، وأيوة أنا هقعد هنا الفترة الجاية ، حبيت أبعد شوية عن الذكريات الحزينة ، وعلشان بابا وماما الله يرحمهم كانوا بيحبوا المكان هنا أوى ، وأنا كمان بحبه ، فعايزة أعيش فى أكتر مكان كانوا هم بيحبوه ، علشان كده جيت هنا
تمنت أن تنطلى عليهم تلك الكذبة الواضحة للعيان ، فملامح الغرابة التى أرتسمت على وجوههم من قولها ، جعلها تتيقن من أن إذا مررا لها تلك الكذبة ، فسيكون ذلك من باب الذوق لا أكثر ، فربما هم يفكرون من يكون لديها من المال والارث المتروك من جانب عرفان ، وتترك كل هذا وتأتى لهنا
فحاول الإمام رفع عاتق الحرج عنها بقوله :
– دا أنتى تنورى العمر كله يا بنتى دا الحى زاد نور بوجودك وإن شاء الله تكونى مرتاحة بقعدتك هنا
كانت زوجة الإمام هى الاقرب إليها بالمجلس ، فمدت يدها تربت بها على كفيها المضمومين ، تحاول أن تبث بها بعض الأمان:
– أعتبرينا زى أهلك يا بنتى ولو أحتجتى أى حاجة أحنا فى الخدمة
أماءت حياء برأسها بإمتنان لقولها ، فحنانها الظاهر من جانبها وجانب زوجها ، والمودة بصوت إبنهما ، إن لم تكن مقلقة فهى مطمئنة ، فأنقضت ساعة كاملة ، وحياء جالسة معهم يتحدثون بعدة أمور عامة ، ولم يتطرق أحد للسؤال عن لما عمتها المدعوة قسمت جعلتها تسكن تلك الشقة بمفردها ، ولم تدعوها مثلاً لأن تعيش برفقتها خاصة أنها لم يعد لديها أقارب سواها
______________
ذلك الهدوء الذى ساد محياها ، كان مبعثاً على القلق ، فهى منذ أن أفضت لها بمكنون قلبها ، وإفشاء ذلك السر الدفين بين أضلاعها ، تجدها تجلس سارحة بأفكارها ، تضع وجنتها على يدها وتجلس بالشرفة تحملق بالفراغ ، فهل هى مخطئة لفعلها ذلك ؟ ولكن بما يفيدها الندم الآن ، ففكرت أن ربما تصنع لها قالب الحلوى بالشيكولاتة ، الذى تفضله دائماً ، فذهبت للمطبخ وبدأت بإعداده ، وكم كانت محقة بتفكيرها أن إبنتها ، حتى وإن أظهرت لها تقبلها للأمر الذى أخبرتها به ، فهى تعلم أن خلف ذلك الهدوء ، ربما العديد من الأفكار التى تشبه الحمم البركانية ، ستطفو على عقلها ، وستجعلها تشعر بالخوف مثلها تماماً
بعد أن أنتهت وضعت قطع الحلوى بطبق ، فحملته إليها ونادتها بهدوء :
– ولاء
انتفضت ولاء أثر سماع صوت والدتها ، فنظرت لها وهى ترمش بعينيها قائلة بتساؤل :
– خير يا ماما بتنادى عليا ليه فى حاجة يا حبيبتى
قدمت لها إسعاد الطبق ، وهى تأخذ مكانها بأحد المقاعد :
– كنت عملالك كيكة بالشيكولاتة اللى بتحبيها قولت جايز تفرحى لما عملتهالك بدل ما أنتى قاعدة كده سرحانة أنتى خايفة منى يا ولاء
سؤالها الغريب ، ترك أثره على وجه ولاء ، من تقطيبة حاجبيها ودهشة عينيها فقالت بغرابة :
– وأنا هخاف منك ليه يا ماما
إستندت إسعاد بمرفقها على سور الشرفة ، فزفرت قائلة:
– خفتى علشان عرفتى إن أمك قاتلة وهربانة
وضعت ولاء الطبق من يدها ، وربتت على يدها الاخرى الموضوعة على ساقها ، فحاولت الإبتسام ولكن فشلت محاولتها بفعل ذلك ، فهى لا تخشاها ، فهى تخشى عليها من أن يأتى ذلك اليوم ولا تجدها بجانبها
فأمتلأت عينيها بحنان وهى تقول :
– ماما أنا قولتلك أنا يشرفنى أنك تكونى أمى هو كل خوفى عليكى صدقينى وكمان اليومين دول بفكر فى موضوع عريس الغفلة ده كمان إحنا حاولنا نأجل الموضوع على قد ما نقدر ، بس أنا عارفة أن بابا هيجى عليه وقت ويزهق والاقيه داخل علينا وهو فى ايده
– أنتى كلمتى راسل
قالتها إسعاد بتساؤل ، فهى لا تعلم إذا كانت أخبرته بشأن ذلك الاقتراح أم لاء
فقالت ولاء وهى تهز رأسها بنفى :
– لاء مقولتلوش وكمان خايفة من ردة فعله حاجات كتير جوا دماغى لحد ما هتجنن بس أقولك هقوم أرن عليه واقوله واللى يحصل يحصل
خرجت ولاء من الشرفة ، واتجهت إلى غرفتها ، وأخذت هاتفها من على الفراش ، فتحته وبحثت عن إسم راسل ، بعد طلبها له ، وضعت الهاتف على أذنها ، ولكن سرعان ما اغلقت الهاتف ثانية ، فهى يجب أن تتحدث معه وجهها لوجه ،وليس عبر الهاتف
فبالمشفى كان كافة العاملين بها ، ينظرون لغرفة مكتب صاحب المشفى بتعجب ، فهو منذ مجيئه ، لم يبرح الغرفة ، فكافة أعماله اليوم ألقى بها على عاتق أطباء أخرين ، فليس لديه المقدرة الكافية ، بأن يجعل حياة الأخرين بخطر ، بسبب عقله المشغول بالتفكير بحياء
فبداخل الغرفة ، كان يدور بأرجاءها تارة ، ويجلس خلف مكتبه تارة أخرى ، حتى سأم من أفعاله ، فأرتمى على الأريكة وهو يزفر بحنق على حالته
فدمدم ساخطاً :
– خلاص بقى يا راسل أنت ايه اللى جرالك
معاتباً لذاته مؤنباً لها ، هكذا هو حاله بسبب كثرة تفكيره بحالها الآن ، وبتلك الأسباب التى أدت بها ، لتلك الحالة المزرية التى رآها بها ، فكيف أنقلب عالمها هكذا ؟ وقبل كل هذا أين ذهب نادر ؟
حاول البحث بهاتفه عن رقم نادر ، وبعد إيجاده ، حاول الإتصال به ، ولكن وجد هاتفه مغلق ، فأشتعل القلق بقلبه أكثر ، فبالأمر لغزاً يحيره ، ولكن ماهو ؟
فعاد ثانية للتفكير لما يشغله أمرها إلى هذا الحد ؟ فهو قدم لها المساعدة قدر إستطاعته ، وقدر سماحها له بالإقتراب ، فليدعها بحالها ، فاليوم برمته مر عليه كأنه دهراً بأكمله ، على الرغم من أنه لم يفعل شئ بيومه
بعد إنهاك عقله بكثرة التفكير والتأنيب ، أخذ سترته ولملم حاجته ، ليعود للمنزل ، فخرج من المشفى وأستقل سيارته ، ولكن قبل أن يفكر بالعودة لمنزله ، ويتلقى التقريع الطفولى من صغيرته ، على أنه حنث بوعده لها اليوم ، ولم يأتى للروضة ليعيدها للمنزل ، كان يصف سيارته أمام متجر لبيع الألعاب والدمى ، فربما بشراء دمية جديدة لها ، سيستطيع صرف غضبها منه ، فبعد أن ولج للداخل وانتقى أفضل الدمى وأغلاها ، عاد لسيارته ثانية ، قاد السيارة ولكن أنحرف مسارها ، ليجد نفسه ذاهباً لذلك المنزل الذى كان يمتلكه عرفان الطيب ، فهو طيلة يومه ، لم تبارح تفكيره ، يتأكله الفضول لمعرفة ماحدث بالأيام الماضية ، منذ أن وقع على إستقالة نادر من المشفى ، فهو لن يهدأ إلا بعد أن يعلم ماذا حدث لها أوصلها لتلك الحالة التى رآها بها
أوقف محرك السيارة وترجل منها ، فأقترب من البوابة الكبيرة للمنزل ، ظل يجوب بعينيه ليرى حارس المنزل أو ما شابه ، ولكن قبل أن ينادى ، وجد رجل يقترب من الباب ، تتبعه قسمت
فهتف الرجل براسل متسائلاً :
_ مين حضرتك
أجابه راسل قائلاً بهدوء :
– أنا كنت عايز دكتور نادر هو مش عايش هنا ومتجوز بنت عرفان بيه
قبل أن يفه الرجل بكلمة ، أشارت له قسمت بالانصراف ، بعدما أمرته بفتح الباب ودعت راسل للدخول
عقدت قسمت ذراعيها أمام صدرها ، ترمق راسل ملياً بعدما عبر من البوابة للداخل ، فتبسمت قسمت بعدم إكتراث :
– أنت بتسأل على دكتور نادر ، بس للأسف هو مش عايش هنا ولا متجوز بنت عرفان بيه ، علشان عرفان اخويا معندوش بنات
قطب راسل حاجبيه قائلاً بغرابة :
– ملوش بنات ازاى طب أنسة حياء دى تبقى مين ،مش هى ساكنة هنا
نظرت قسمت لأطراف أصابها قائلة بصوت شامت :
– حياء مش ساكنة هنا دى طفشت الله أعلم بقى راحت فين وهى متبقاش بنت أخويا دى بنت كان جايبها من الملجأ زى ما تقول كده لقيطة وصحينا الصبح لقيناها طفشت وإحنا ملناش صلة بيها ولا عايزين نعرف هى راحت فين ، أتمنى أكون جاوبتك على سؤالك ومع السلامة ومتجيش تسأل على حد منهم هنا تانى
بمعاملتها الجافة والصلدة ، وحديثها المهين عن حياء ، جعله لو يود أن يدق عنقها ، فأسرع بالخروج حتى وصل لسيارته وعقله لم يعى ما سمعه للتو ، فربما اليوم برمته نائماً ويحلم بأحداث ربما يراها أنها أشبه للخيال ، فحديث قسمت معه ، لم يكن سوى فتيل أشعل لهيب الفضول وعدم التصديق لما سمعه ، ولكن يعلم شئ واحد فقط ، أن من تستطيع إعطاءه جواباً شافياً هى حياء بذاتها
عادت قسمت للداخل ، ولكن قبل أن تلج الغرفة ، التى لم يبارحها شكرى منذ الصباح ، بعدما أخبرها بشأن سقوطه من على الدرج ، بعد أطمئنانه على أبناءهما ، فأخطأ موضع قدمه وسقط متضررا بساقيه
سمعت صوتاً يشبه الشجار بين شكرى وهبة ، مما أصابها بالغرابة ، فتلك هى المرة الأولى التى تسمع صوت إبنتها عالياً وخاصة مع والدها
فأرهفت السمع لترى علام يتشاجران فسمعت هبة قائلة بتحدٍ:
– بابا لو مخليتش ماما توافق على أن أروح لوحيد جوزى أنا هقولها حياء هربت من البيت ليه ، وبسبب إيه أنت نايم فى سريرك ومش قادر تتحرك
_________
يتبع....!!!