رواية اليمامة والطاووس الفصل العاشر10 بقلم مني الفولي
اللهم أغفر لنا ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس
اللهم ثبت أقدامهم وسدد رميهم
❈-❈-❈
الحلقة العاشرة
حاول التهدئة من غضبه وهو يتمتم بعصبية: حضرتك أزاي متقوليليش أن أختك مش ممكن تخلف.
نظرت سلوى باتجاه نجوى التي زاد تقوقعها على نفسها بقلق: أنا قولت لحضرتك أنها مش حامل، وكنت لسه هاقولك أنها مش هينفع تخلف، لكن حضرتك قاطعتني، وقولت أن مفيش حاجة ممكن تقف قدامك، وأنه لو حتى طعن في التقرير الطبي وطلب تحويلها للطب الشرعي، أنك ليك رجالتلك اللي تكتب التقرير اللي على مزاجك.
صرخ مستاءا: أنا أه الحاوي يا مدام بس مش ساحر، يعني أقدر اتلاعب بالحقيقة بس مقدرش أغيرها، ممكن أقدر اتلاعب وأماطل وأجل لغاية متتعرض على اللجنة اللي فيها حبايبي في الطب الشرعي، اللي ممكن يكتبوا أنها كانت حامل ده لو هي طبيعية، لكن مين ده اللي هيضيع مستفبله ويمضي على تقرير زي ده لوحدة مبتخلفش [متهكما] لا وسايبة للخصم ملف كامل لحالتها الصحية.
انفغر فاهها بصدمة وهي تتذكر نسيانهما للملف الطبي وقت فرارهما.
لم يبالي بصدمتها وهو يستطرد لائما بغضب: أنا بعد العمر ده كله أقف قدام واحد من زمايلي، مش عارف أرد عليه بسببكم، وبدل ما كنت ماسك موكله من رقبته، التقرير الطبي اللي قدمناه بقى دليل ضدنا مش لينا.
صرخت نجوى بصدمة: يعني أيه، يعني احنا هنخسر القضية، وممكن نتحبس عشان احنا اللي ضربناه.
احتضنتها سلوى تهدئ من روعها، متخافيش يا حبيتي متخافيش. ليزفر هو بضيق محاولا التحكم بعصبيته: أن شاء الله الأمور مش هتوصل لده، هما عندهم استعداد للصلح، ومحاميه بلغني أنه هينتظرني ننهي الموضوع بهدوء، بس طبعا هيملوا علينا شروطهم.
صاحت سلوى مستاءة: يعني كمان هما اللي هيتحكموا فين ويتشرطوا، بعد ما بقينا في الموقف الأضعف.
أخذ نفسا عميقا محاولا تنظيم أفكاره قبل أن يقول بخبث: مش احنا لوحدنا، محدش ملوش نقطة ضعف، ولو لاقينا نقطة ضعفه أو حتى خلقناها، هيفرق معانا كتير وقت التفاوض.
تمتمت بحيرة: مش فاهمة!
فكر أمامها بصوت عالي: هاحاول أشوف ممكن نمسك عليه أيه، [ليصمت لحظات شاردا ليسألها بعدها] أنت قولتي أنه كان بيضربكم عشان بيتهمكم أنكم السبب في دمار جوازته الأولى.
أجابته مستاءة وهي تشعر بانقباض جسد شقيقتها بأحضانها لذكره ما حدث: أيو، بس طبعا احنا ملناش ذنب.
تجاهل تعليقها وهو يسأل باهتمام: طيب هو أيه علاقته بطليقته حاليا.
أجابته متعجبة باهتمامه بأمر كهذا: مفيش علاقة بينهم تقريبا؟
عقد حاجبيه وضاقت عينيه وهو يسألها ثانية: يعني أداها حقوقها ولا بينهم مشاكل.
أعترضت مستنكرة: هي مكنش ليها حقوق تقريبا، هو اللي كان فارش الشقة بالكامل ومؤخرها وصل لها لحد عندها.
تسائل باهتمام: وهي مضت على استلام المؤخر ده.
أجابته بتلقائية: لا مكنش فارق معنا، كل اللي كان يهمنا أننا نقطع عليها أي سكة للتواصل معه.
ابتسم بخبث وقد أيقن بأنها ليست بريئة كما تدعي، وأنها أحد أسباب الطلاق، أن لم تكن السبب الرئيسي، ولكن هذا لا يعنيه، فهي موكلته وكسب قضيتها هي ما يهمه، مهما كان موقفها وصحته من عدمه، لذا أردف بمهنية: هاشوف ممكن نستفيد من الموضوع ده أزاي، ولو منفعش نبقى نرجع نقابلهم ونتفاوض.
❈-❈-❈
استيقظ من نومه على ربتات خفيفة فوق كتفه، وصوت زينهم القريب من أذنه يناديه همسا: أصحى يا أستاذ، اصحى أنت مدوقتش الزاد من امبارح.
فتح عينيه يستطلع ما حوله بدهشة قبل يستعيد عقله وعيه كاملا، فينهض متأوها من قسوة الفراش وهو يغمغم بنعاس: هي الساعة كام، وأنت جيت امتى.
ابتسم له زينهم بسماحة: جيت من نص ساعة بس مرتضينش أصحيك قبل ما أجهز الأكل.
شكره ياسر ممتنا: متشكر، تعبت نفسك.
تمتم زينهم بحرج: تعب أيه الأكل مش قد المقام، بس الجودة بالموجودة.
نظر ياسر للطعام مبتسما بمجاملة: وهو في أحلى من كده، طب ده أنا باحب الفول والطعمية جدا.
ابتسم زينهم بخجل: معلش النهاردة بس أي حاجة كده بس بكرة بإذن الله هاعمل حسابي.
جلسا متقابلان أمام الطعام، فجاذبه ياسر أطراف الحديث ليرفع عنه الحرج: أنت تعرف الناس اللي ساكنين هنا كلهم.
ابتسم زينهم مؤكدا بفخر: طبعا مش زمايلي وكمان جيراني.
تمتم ياسر بحيرة: أزاي يعني.
ابتسم زينهم مستمتعا بدور العالم ببواطن الأمور: أصل دي مش عمارة اهالي دي عمارة المزرعة، المزرعة هنا فيها سكنين، سكن العمال وده هناك في اخر المزرعة، أوض أوض كل أوضة فيها واحد بمراته أو أوضتين لو معهم عيال، انما هنا ده سكن الإداريين.
تسائل ياسر بفضول: يعني كل اللي ساكنين هنا شغالين في المزرعة.
تحدث زينهم بعفوية بفم مملوء بالطعام: لا مش كلهم، الدور الأول ساكنة الست فاتن، جوزها مش شغال هنا بس هو يبقى قريب صاحب المزرعة، وهو قصده يأجرله الشقة لمدة سنة واحدة يتجوزوا فيها، لأنه كان ملوش شقة هنا والمفروض ياخدها ويسافر بس هي بعد ما تجوزوا، وهو سافر يبعت لها استقدام، بس معرفش مسافرتش ليه.
سأله ياسر وقد جذبه الحديث: والدور التاني.
حشر بعض لقميات بفمه وهو يغمغم: الدور التاني ده بقى فيه الدكتور البيطري، دكتور يوسف ومراته الست فاطمة، ناس محترمين قوي.
سأله محاولا استدراجه للحديث: بس واضح أن البيت كله عائلات، ومع ذلك مسمعتش صوت أولاد خالص.
ازدرد الطعام وهو يجيبه، الست فاتن معندهاش ولاد طبعا لأنها لسه عروسة، بس دكتور يوسف عنده ولدين بس بياخدهم وهو نازل بيوديهم المدرسة.
تجنب ياسر السؤال عن النساء حتى لا يثير ريبته، ووجد بالسؤال عن الأطفال أمر أكثر قبولا، لذا استطرد قائلا: يعني العمارة دي كلها مفيهاش غير عيلين.
أمأ زينهم نافيا بحماس: لا طبعا عندهم عيال بس مش كلهم، يعني الدور التالت ساكن فيه الأستاذ فهمي وده المهندس الزراعي، وده معندهوش عيال لأنه متجوز جديد، ربنا يرزقه يارب أصله مش صغير، عنده خمسة وتلاتين سنة، وشكله كان مش عايز يتجوز، كان بيجي المزرعة يومين كل شهر بس من سنة شاف بنت صغيرة يتيمة بتاع سبعتاشر سنة بتشتغل في المزرعة، اسمها هناء وحبها واتجوزها واتفق مع صاحب المزرعة أن بدل اليومين هيجي أسبوع كل شهر، بس مراته تفضل هنا، وهو بيتنقل بين المزارع اللي بيشرف عليها، ويرجع هنا، بس بيقولوا أنه بيغير عليها قوي.
انهيا طعامهما، فاستطرد زينهم وهو ينظف المكان: لكن الدور الرابع في تلات عيال اللهم بارك، ربنا يحفظهم، زينة العمارة كلها، ولاد الأستاذ غسان المحاسب ومراته الست رانيا العطار، ودول ناس ولاد أصول وفحالهم، ولا ابنهم الكبير معتز، ربنا يبارك فيه ويحفظه زينة عيال العمارة كلها.
ورغما عنه تمتم ياسر بلا وعي: روقة.
زفر زينهم بغضب: تبقى سمعت شوقية اللي في الدور الخامس بتناديها، طب والله هي اللي روقة وستين روقة، دي الست رانيا ست الستات كلها.
فغر ياسر فاهه لا يعي كلماته، لينفجر فجأة ضاحكا: هو أنت عارف يعني أيه روقة؟
أمأ زينهم مؤكدا بثقة: أه طبعا، يعني واحدة رايقة ميهمهاش غير نفسها، بس الست رانيا مش كده خالص، دي طيبة قوي ومحترمة وحنينة، ساعات بحس أنها فيها كتير من ستي الله يرحمها.
رق قلبه لعفويته، وكتم ضحكته وهو يشرح له موضحا: لا مش كده، روقة دي كلمة بيوصفوا بيها الست اللي بتحافظ على بيتها وتريح جوزها حتى لو حساب راحتها هي.
ابتسم زينهم برضا: بجد، لا تبقى الست رانيا هي اللي روقة فعلا، الست شوقية مكدبتش.
ابتسم ياسر لعفويته: بس واضح أنك مبتحبش مدام شوقية دي.
أشاح بوجهه ممتعضا: لا احبها ولا أكرهها ربنا يكفيني شرها، بس هي شايفة نفسها قوي وبتكلمني من طرف مناخيرها،
افترش الأرض مستطردا: اكمنها تبقى مرات الأستاذ فضل مسئول المخازن، ويعتبر الريس بتاعي، أصل عن شغلي كله في المخازن، وعلى فكرة هما كمان عندهم عيلين ربنا يهديهم، وهما وعيال الأستاذ غسان متفقين مع تاكسي بيجي ياخدهم للمدرسة الصبح.
انهى كلماته الأخيرة بصوت متعب ناعس.
ليربت عليه ياسر برفق: قوم يا زينهم على سريرك، قولتلك متنمش على الأرض تاني أنا مبنامش بليل.
أطاعه وهو يقوم مترنحا من أثر النعاس، ليرتمي على فراشه قائلا بإجهاد: تصبح على خير.
ثواني معدودة وارتفع غطيطه، ولعجبه لم يثر ضيقه كالأمس بل أثار شفقته، فيبدو أن عمل زينهم مجهد وشاق وهذا ما يجعله يرتمي هكذا بثواني معدودة، تذكر عمله بالبنك وكم كان يراه مرهقا وامتدت مقارنته لكل أوجه حياتهما، فتمتم بحمد الله على نعمه واستغفر على اعتياد النعم التي لم يشعر بتمتعه بها إلا بعد فقدانها.
تحرك خارج الغرفة بإريحية وقد استتر بالظلام الذي حل منذ قليل، تحرك ذهابا وإيابا كأسد حبيس، اقترب من الدرج لتلتقط أذناه تلك الضجة الصادرة من الأسفل بارتطام شيئا ما بالأرض مصحوبة بهتاف رجلا غاضب: دي مش عيشة دي؟
تبعه هتاف شوقية الساخط: في أيه يا فضل، أنت مبتزهقش.
تحركت قدميه دون إرادة باتجاه الصوت، فأخيرا وجد ما يشغل به عقله عن تلك الأفكار التي تكاد تذهب به، ليصله صوت فضل أكثر وضوحا: لا مزهقتش ولا هازهق، وباقولك أهو يا شوقية أنا من حقي اتجوز، وهاتجوز أن مكنش النهاردة يبقى بكرة.
أجابته بلامبالاة متجاهلة تصريحه: متولعش السيجارة هنا يا تطلع على السلم يا تطلع البلكونة.
انتفض جسده وهو يسمع لاحتمالية خروجه إليه، ليهرول هابطا دون وعي، وقف يلتقط انفاسه ملتصقا بالحائط، وهو يأمل أن يكون عدم خروجه، يعني دخوله للشرفة، ولكنه تمهل خوفا من حدوث ما لا يحمد عقباه، ليكتم أنفاسه بقوة وهو يستمع لصوت رانيا الحنون: أهدى بس يا غسان مينفعش تحرق دمك كل شوية كده على الفاضية والمليانة.
ليجيبها صوت رجولي رخيم مستهجنا: على الفاضي، يعني لما يبقى بيتي وولادي محتاجين حاجة وأنا مقصر ومش قادر أكفيهم يبقى موضوع فاضي.
صاحت مستنكرة: مين ده اللي مقصر، ليه هتعمل أيه أكتر من اللي بتعمله، هتضرب الأرض تطلع بطيخ، [لان صوتها وهي تستطرد بحنان] يا حبيبي الرزق ده بتاع ربنا، ياما ناس بتنزل خمس دقايق ولا تتك على زرار النت وهي قاعدة في بيتها وربنا يكرمهم ويرزقهم من وسع، وناس تانية بتلف على كعوبها اليوم بطوله ويدوب بترجع باللي يسد الرمق أو حتى من غيره.
أطلق ضحكة مرة مبتورة: يعني أيه أبلط جنبك في البيت وأقول رزقي كده.
أجابته بإيمان: أنت المطلوب منك تكفينا سعي لكن الرزق ده بتاع ربنا، وأنت عامل اللي عليك بزيادة يبقى هون عن نفسك يا حبيبي. لان صوته واختفى حزنه وهو يتمتم برضا: والله ما مهون علي الدنيا كلها غيرك أنت يا جميل، ربنا ميحرمنيش منك.
ضحكت بنعومة: ولا منك يا قلبي.
استطرد معتذرا بحب: والله أنا ما في حاجة مضايقني غير أني تعبك معايا عشان توفري كام جنيه.
أجابته بحب: تعبك راحة وكفاية عندي أنك مقدر ومهتم.
كانت المدة كافية ليطمئن لعدم خروج فضل، فابتعد عن بابهما صاعدا ولكن بحال غير الحال بعدما حركت كلماتهما ذكرى لجحود النعم لا اعتيادها فقط.
وتردد بأذنه أصداء الماضي تحمل صوت دعاء المتوسل: يا حبيبي الحمد لله احنا ظروفنا كويسة جدا مش محتاجين حاجة من حد، نصيبك من الايجار ممكن يكفينا ويزيد لو عشنا بالعقل، مش محتاجين نضحي باجمل أيام حياتنا، عشان حد يأكلنا ويصرف علينا.
أصابت كلماتها غروره الذكوري بمقتل، خاصة وهو يعلم صحتها، فاتخذ من الهجوم سبيلا للدفاع حتى لو جرحها بدون وجه حق: مين ده اللي بيصرف علينا، اللي بيني وبين أخويا ميخصكيش، وكونك واخدة على عيشة الفقر والتوفير، فده ياريت تنسيه وتعرفي أنك اتنقلتي ناقلة تانية لازم تكوني قدها.
تذكر ذلك الألم النابض بعينيها حينها، والذي تغاضى عنه منتشيا باسكاتها وحفظ ماء وجهه كما توهم وقتها، ولكنه الأن يعلم كم كان جاحدا لنعمة الزوجة القانعة الراضية فحرمه الله منها وأبدله بتلك الخبيثة الطامعة.
❈-❈-❈
استلقت فوق فراشها، تنظر للفراش المجاور حيث نامت شقيقتها بعد نوبة من البكاء الهيستيري، تسترجع كل ما مر بها، تعرف كل خطأ اقترفته وأن انكرته أمام أقرب الناس إليها، ولكنها غير نادمة حتى لو أخطأت، فمن ندم ممن أخطأوا بحقها، هي ضحية الجميع والجانية عليهم، هي من ستفوز أخيرا بعدما خسرت سابقا، خسرت حب حياتها واستقرارها النفسي والأسري من قبل، فماذا سيبقى لها لو خسرت أموال زوجها كذلك، صحيح أن الاستيلاء السلمي عليها عن طريق زواج شقيقتها من شقيقه قد فشل ولكن لا بأس، فزوجها لن يترك شقيقه الغالي يحبس، ارتعدت فرائصها، وهي تتصور أن تضطر للتنازل بعد ذلك الخطأ الكارثي وتركها لفحوصات شقيقتها خلفها، خاصة وهي غير مرتاحة لذلك الأسلوب الفاتر لمحاميها من بعد حماسه، ولكن لا بأس فمازالت تقف على أرض صلبة، فحب ياسين ثابت مهما أخطأت، ولن يتطلب الأمر كثيرا لاستعادته، لن يتطلب الأمر سوى بعض الدموع ومبررات واهية، سيكون أكثر من مرحب بتصديقها عوضا عن مواجهته لحقيقة مشاعرها نحوه منذ زواجهما.
ابتسمت للخاطرة الأخيرة، وأغلقت عينيها تنام بسلام.
فكل شيئ زاد عن حده انقلب لضده، وأن كان التسامح سلوكا محمود فقد ينقلب لكارثة أن أصبح مباحا مضمونا ما هما كان الخطأ خاصة مع من لا يستحق ولا يفهم مثل ذلك الرقي.
❈-❈-❈
استيقظ زينهم باكرا، لينتفض جالسا بمجرد انتباهه لنومه فوق الفراش، ليخرج باحثا عن ضيفه ليجده بنفس مكانه بالأمس، زفر براحة وهو يهمس بحرج: صباح الخير يا أستاذ، معلش والله مدرتش بنفسي ومخدتش بالي أني نمت على السرير.
ابتسم له ياسر بود: أنا اللي قومتك ونيمتك على السرير، ومش هتنام على الأرض تاني أنا مبنامش بليل، ساعتين تلاتة كده وأنام، وصحيني لما ترجع.
ابتسم له زينهم ممتنا وكأنه جامله برغم أنه مضيفه، وهو يغمغم خجلا: معلش هتفطر بباقي العشا، وانا هاجيب أكل وأنا جاي.
أجابه ياسر بعفوية وهو يخرج من حافظته مبلغ مالي كبير: طيب خلي دول معاك.
انطفئت عيني زينهم وهو يرمقه عاتبا: مستورة يا أستاذ ميصحش تدفع تمن ضيافتك.
سحب يده بالمال وهو يغمغم معتذرا: قدها وقدود والله أنا بس حاسس أن مفيش فرق مابينا.
ابتسم زينهم بتسامح: تسلم يا أستاذ، ربنا يكرم أصلك، بالأذن عشان متأخرش.
ودعه ياسر يتابع انصرافه بتقدير واحترام لشخصه ورجولته رغم ظروفه، وتحفز وحماسة لما سيتبع ذلك الانصراف، ولم يطل انتظاره كثيرا لتصدح تلك الزغرودة تشق السكون وصوت فاطمة المرح مهللا: أفراج يا بنات اطلعوا ياقمرات.
ارتفع صوت هناء الطفولي سعيدا، صباح الخير يابطوط.
تبعه صوت رانيا الهادئ: صباح الخير يا بطوطة، صباح الخير ياهنون عاملين...
ارتفع صوت فاتن مستغيثا: الحقوني، يا بنات الحقوني.
اختلطت اصواتهم الجزعة المتسائلة عما حدث في نفس الوقت الذي ارتفع به صوت شوقية القوي: في أيه مالكم على الصبح.
ارتفع صوت فاتن الباكي: مصيبة يا شوشو مصيبة، هزارك امبارح، خلى الفار لعب في عبي، وافتكرت أني معايا الباس ورد بتاع حساب هشام، ودخلت الحساب وياريتني ما دخلت، البيه
لاقى اللي تفطر معه عشان كده بطل زن.
ساد الصمت فاجأة قبل أن تقطعه شوشو صارخة: يا ابن ال....
قاطعتها رانيا ناهرة: بس يا شوشو، أنت متأكدة يا فاتن.
ارتفع بكاء فاتن: باقولك فتحت الحساب وشوفت كل حاجة بنفسي، الزبالة بتسهر معايا بليل وتكمل معاه الصبح.
هتفت رانيا بحيرة: هي مين دي.
صاحت فاتن بقهر، صاحبتي الجديدة، الأدمن بتاعة (جوزي مسافر وفي الدنيا بعافر).
صاحت فاطمة بصدمة: ده الجروب بتاع الأسئلة الهبلة أياها.
لتصرخ فاتن بهيستريا: ده أنا اللي طلعت هبلة، كل يوم سؤال وأنا عمالة أدلق زي الجردل، مرة جوزك مسافر بعد قد أيه من جوازكم، أخر هدية بعتها كانت أيه، أكتر حاجة بتتخانقوا عليها، وبعد ماعرفت كل اللي عايزه لعبت لعبتها ولفت عليه.
صاحت شوقية منبهرة: يا بنت اللعيبة.
لتزداد ثورة فاتن: دي مخلتش كلمة قولتهلها مستغلتهاش، فهمته أنها بتحب لونه المفضل ونفس الأكل وبتضايق من نفس الحاجات، ولما جاوبت على سؤال الزفت الخناقة بأنه نفسه اصحى اتكلم معه الصبح، بقيت هي اللي تصحيه ويتفقوا سواه يفطروا أيه وهما بيتكلموا.
لتخبرها شوقية بثقة: وتلاقيها كمان بتسهرك كل يوم قاصدة، عشان متقدريش تصحيله.
شهقت هناء بصدمة: للدرجة دي.
اجابها صوت رانيا الهادئ: مرة واحدة نزلت بوست أنها جاوبت على السؤال بتاع عرفتي أزاي أنه بيخونك وطلعت في الأخر واحدة بتجمع معلومات عن الرجالة اللي ليها في العك، وبتتصل بيهم وطبعا بتختار اللي مستواهم عالي سواء من صور مراته أو بوستاتها.
ارتفع نحيب فاتن: وسبق وحذرتيني، بس أنا اللي غبية.
كاد يصرخ فاضحا وجوده يتهمها بالغباء، يوبخها كيف سمحت لنفسها بإفشاء سر بيتها لآخرين يفشونه أو يستغلونه كمعول هدم للبيت ولكن شل لسانه وهو يتذكر أنه سبقها بفعلها، حكى لسلوى كل تفاصيل حياته لتنسج من حكاياته حبل احكمت لفه حول قدميه لتسحبه من حياته الهانئة غصبا، ضاق صدره لتنزل كلمات رانيا كنسمة تخفف عنه رغم عدم إدراكها لوجوده، وهو يسمع كلماتها المواسية لصديقتها: لا يا حبيتي محدش مبيغلطش، المهم عرفتي غلطك وهاتصلحيه.
علا صوت نحيب فاتن: أصلح أيه بقى ما خلاص.
قاطعتها شوقية بحزم: بس يا عبيطة هو أيه اللي خلاص، أنت ناوية تسيبهولها بالسهل كده.
أكدت رانيا حديثها: عندك حق يا شوشو، كله بيتصلح، المهم دلوقتي تقربي لجوزك، وتشغلي تفكيره.
أضافت فاطمة بنعومة: وسافريله يا خايبة، مش عارفة أزاي واحدة تلاقي فرصة تبعد بجوزها عن الناس وقرفهم وترفض.
أمأ برأسه مشجعا يوافقهم الرأي بحماس وأمل، نعم كل خطأ قابل للتصحيح، وكل شيئ يهون برفقة الأحبة.
تساءلت فاتن بحيرة وقد هدأ نحيبها: يعني أعمل أيه، أنا هاتجنن، من ساعة ما عرفت حاولت أكلمها مردتش، وهو طبعا معرفتش أكلمه لأن ممنوع يستقبل مكالمات وقت الشغل.
أجابتها رانيا بحكمة: طيب الحمد لله، أول حاجة أوعي يحس أنك عارفة حاجة، لأنه ليبجح، لينكسر بينكم حاجز الستر وده هيوجعه كرجل، والأهم بقى أنك تهتمي بيه من غير أفورة، يعني تصحي تكلميه بس متلزقلوش، وحاسسيه قد أيه هو وحشك، وخليه هو اللي يطلب منك تاني أنك تسافريله، بس وقتها توافقي علطول.
أضافت شوقية بخبث: اسمعي كلام روقة في أمور النحنحة دي، وتعاليلي اقولك أزاي تطيري الأمورة.
تسائلت فاتن بلهفة: أزاي يا شوشو؟
أجابتها شوقية بحنكة: أنت تكلميها أول ما تكلمك عادي ولا كأنك عرفتي حاجة، ولما تسألك اتصلتي ليه قولي لها أنك كنتي عايزة تسأليها على أحسن ماركة ميك أب وبرفيوم، عشان في واحد جاي بعد عشر أيام من عند جوزك وهو سألك يبعت لك أيه معه.
غمغمت فاتن بحيرة: بس مفيش حد جاي.
ضحكت شوشو بخبث: ده المطلوب، هي طبعا أول ما تعرف، هتحاول تستغل الموقف وتطلب حاجة منه، وطبعا هو هيقول معندوش حد جاي، وهي لتفتكره بخيل وتخلع، يتفضل تزن وتزهقه.
ضحكت فاطمة بمرح: يا شوشو يا جامدة.
ضحكت شوقية بثقة: ولسه يا بنتي.
سألت فاتن بحماس: لسه أيه يا شوشو؟
أجابتها شوقية بخبرة: مش أنت قولتي ممنوع يستقبل مكالمات وقت الشغل، أنت بقى أول ما يدخل الشغل تتصلي من أي تليفون قديم من حسابه لحسابك وتفتحي المكالمة، وتدخلي تنامي وتريحي نفسك عشان تعرفي تسهري معها وتصحيله، بس تظبطي منبهك على قبل وقت رجوعه وتقفلي الخط وتمسحي إشعار المكالمة من عنده.
تسائلت هناء ببراءة: ليه يا شوشو؟
تابعت شوقية بإنتشاء لذكاءها وحيرتهم فيما تخطط: عشان نجننها يا قلب شوشو، فاتن هاتبلغها أنها بتكلمه لما تسألها مشغولة ليه علطول، وهو هينشغل عنها الصبح وبليل مع تونة، فتحاول تكلمه وقت شغله.
شهقت فاتن بصدمة: ده يتجنن كله إلا شغله.
ضحكت شوقية منتشية: هيتجنن عليها هي، أنت مؤدبة وبتتصلي بميعادك، لكن هي هتبتدي تقرفه والرجالة بتزهق بسرعة من اللزقة ديه ولو من مراته، فمابلك بواحدة عارفها طايري.
انطلقت زغرودة مرحة من فاطمة: نصرة قوية وفرحة، يا شوشو يا معلمة.
انطلق الجميع بالضحك بينما داعبتها رانيا ضاحكة: أنت مولودة في فرح يا بنتي.
صاحت فاتن مشاكسة: أمال لو كنتي ساكنة تحتيها زي، والموسيقى والرقص فوق دماغك علطول كنتي قولتي أيه.
ضحكت فاطمة بميوعة: يا هبلة ما أنت لو ناصحة تسيبك من كل ده وتسجلي له فيديو ترقصي فيه، كان جالك طاير.
عادت الضحكات تنطلق بمرح، قبل أن تقول رانيا بحنان: خشي بقى أنت يا فاتن نامي، ولو احتاجتي أي حاجة يا حبيبتي احنا موجودين.
تمنى لو باح لهم بما ضاق به صدره ويسمعونه ويشرون عليه باهتمام كما اهتممن بصديقتهن، ولكن ألم ينصحه عمر أكثر من مرة، وهو من صم أذنيه عن نصيحته، فليتها تكن أكثر منه عقلا واستجابة.
شكرتهن فاتن بامتنان، لتنصرف متقلبة ما بين ندم ورجاء، ليرتفع صوت شوقية بفخر: مش عارفة من غيري كنتوا عملتوا أيه.
صاحت هناء بلهفة: المهم دلوقتي أنتوا رايحين بكرة السوق الساعة كام.
لتضحك شوقية بسماجة: وانت خلاص رايحة معانا.
تقهقرت اللهفة من صوت هناء ليحل محله الخجل وهي تغمغم بصوت يكاد يسمعونه: أنا محوشة حاجات كتير شوفي هتاخدي أيه.
أجابتها شوقية بسخافة: عندك أيه.
تمتمت هناء بحرج: عندي كيسين مكرونة وتلاتة أكياس رز، وفرخة وعلبة سمنة وباكوين شاي.
هتفت رانيا بإستياء: أنا مش راضية عن اللي بتعملوه ده أبدا.
صاحت بها شوقية ساخطة: وراضية على أنه يسيبها من غير مليم، ويمشيها في وسطنا محرومة عشان مستخسر يديها فلوس، وبيجبرها تروح السوق فاضية؛ عشان خايف تقعد في البيت لوحدها وكلنا في السوق.
زجرتها رانيا ناهرة: هي مين دي يا بنتي اللي محرومة، ماهو بيجيب لها كل اللي تحتاجه، وهي بتبيعهلك وترجع تشتري أكل بدل الأكل، ما تقوله من الأول على اللي نفسها فيه.
أجابتها شوقية بمكابرة: النفس وما تشتهي، حتى لو طلبت حاجة وراحت السوق وشافت حاجة تانية نفسها راحت لها تبقى كفرت يعني، سيبك منها يا هنون أنا هاخد كل اللي عندك، وهاحسبك على كله وتعالي معنا وانبسطي.
غمغمت رانيا باستسلام: ربنا يهديكم، المهم نخلي بالنا من تونة ولو مش قادرة تروح السوق بكرة نجيب لها معانا.
أكد الجميع على كلماتها وهنا يتحسرن على غدر الرجال تارة، وسوء التصرف تارة أخرى.
انصرف ذهنه عن حديثهن وهو يفكر بتحايل هناء على تصرفات زوجها، بزاوية مختلفة عن تلك التي نظر بها لتحايل دعاء عليه وإدعاءها المرض لتستبقيه بجوارها، يومها صال وجال وهو ينهرها ويهتمها بممارسة الاعيب النساء كما لقبها وقتها، ولكنه الأن يلوم نفسه على أنه اضطرها للتحايل للحصول على أبسط حقوقها بإهتمام زوجها ورعايته، كما يلوم زوج هناء على أنه اضطرها للتحايل للحصول على ما تشتهي، برغم أنه ينفق عليها بسخاء، نعم النساء مخطئات بلجاؤهن للتحايل ولكن الرجال ملومين أيضا لإجبارهن على اللجوء إليه، إلا من كان التحايل صفة أصيلة بنفسها كشوقية.
❈-❈-❈
استلقت دعاء فوق سريرها ببيت أبيها، تتحسس بطنها المتكورة وهي تهمس بحزن مخاطبة جنينها: واحشني قوي يا عبد الرحمن، هو فاكر أني مكنتش باشوفه لما بيجي كل أسبوع يبص علينا، بس أهو مجاش الأسبوع ده، تفتكر أنه خلاص كده نسينا.
دخلت أمها إليها تتسائل بقلق: مالك يا حبييتي جيتي من بره حالك مقلوب، ومردتيش تاكلي معنا، أنت في حاجة واجعك.
ارتمت بحضن والدتها، وانفجرت بالبكاء فجأة وكأنما ناء قلبها بما يحمل، تتعثر الكلمات على شفتيها: تعبانة قوي يا ماما، تعبانة، حاسة أني قلبي اتكسر ماية حتة.
احتصنتها أمها بحنان وقد انفطر قلبها حزنا على فلذة كبدها: سلامة قلبك ياحبيتي، أن شاء الله هو وعيلته كلها.
صاحت تعترض بلهفة: لا بالله عليكي ما تدعي عليه، ربنا يسامحه، أدعيلي أحسن أن ربنا يكشف سترهم ويشوفهم على حقيقتهم
آمنت على دعاء ابنتها وهي تغمغم مستنكرة: خايفة عليه بعد كل اللي عمله.
انتحبت وهي تبرر له فعلته: غصب عنه، ده أخوه اللي مربيه، صعب يصدق أنه يشهد زور، وبدل ما أهدى وأفكر أزاي أثبتله اللي حصل، اتصرفت بجنان، واتهجمت عليهم وفضحتهم وحطيته في موضع اختيار بيني وبينه، وطبيعي أنه يختار أخوه.
صاحت أمها مستهجنة: بس أزاي يصدق أنك تتبلي عليهم في حاجة زي كده.
أجابت بصدق مواجهة نفسها قبل أمها بخطأها: أنا اللي غلطانة، فضلت اشتكي منهم على الفاضية والمليانة، لحد ما حس أني بكرههم وبتلككلهم، وبقى مستعد يصدق أني ممكن اتبلى عليهم، عشان كده، خد صفهم.
حاولت الأم تهدئتها مبررة: ماهو من غلبك يا بنتي، ماهو برضو كان مزودها.
تمتمت بندم: وأنا برضو زودتها، كان بيبقى راجع واقع ومش شايف قدامه، وبدل ما اريحه واحتويه، وأبقى أرجع اعاتبه وهو مرتاح وفايق، مكنش بيحللي الخناق والمناكفة غير وهو راجع مش طايق نفسه، فضلت أزن واضغط عليه، لحد مابقيت أنا النكدية المقرفة، وهما الحبايب اللي حاسين بقيمته ومقدرينه.
صاحت أمها معترضة: أه طبعا ماهو ده اللي بيخططوله من الأول.
تمتمت بحسرة: وأنا ساعدتهم، فضلت كل شوية اجيبله في سيرتها ولو مكنش واخد باله من مشاعرها ناحيته بعمايلي دي لفت نظره ليها، [هامسة بصوت مختنق لائم] وأنت كمان يا ماما ساعدتيهم.
شهقت أمها بصدمة وهي تتسائل مستنكرة: أنا يا بنتي.