رواية اليمامة والطاووس الفصل الحادي عشر11 بقلم مني الفولي
اللهم أغفر لنا ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس
اللهم ثبت أقدامهم وسدد رميهم
❈-❈-❈
الحلقة الحادية عشر
تمتمت بحسرة: وأنا ساعدتهم، فضلت كل شوية اجيبله في سيرتها ولو مكنش واخد باله من مشاعرها ناحيته بعمايلي دي لفت نظره ليها، [هامسة بصوت مختنق لائم] وأنت كمان يا ماما ساعدتيهم.
أمأت برأسها ايجابا مغمغمة: لهفتك على الجوازة وموافقتك على كل اللي يقولوا رخصتيني في عينيهم، خليتيهم يتعاملوا معايا من فوق، وخلتيني أنا متحفزة لكل كلمة يقولوها.
اندفعت تدافع عن نفسها: أنا مكنتش عايزة حاجة تبوظ الجوازة، كنت فرحانة أن ربنا كرمك بجوازة مرتاحة مكنتش عايزكي تشوفي اللي أنا شوفته.
اعترضت ببساطة تناقشها بتعقل: لو لينا نصيب مع بعض، مكنتش هتبوظ من غير ما أقل من نفسي.
صاحت مستنكرة تنافي ما اتهمتها به: مكنتش بأقل منك يابنتي، بس أنا مصدقتش لما لاقيته موافق يجهز، كنا هنلاقي فين حد كده وأنت عارفة الظروف.
حاولت تبسيط الأمر لوالدتها لتفهمه: مسألة أنه يجهز دي حقي الطبيعي أصلا، وكون أننا بنسهل على بعض فده مش معناها أنه بقى قانون، وأنه بيمن علي لو مشينا على شرع ربنا، خصوصا وهو مقتدر.
هتفت والدتها ساخطة على عادات صارت شرعا أقوى من شرع الله: محدش بيمشي بالشرع دلوقتي، العوايد هي اللي بتمشي واللي ممهوش مايلزمهوش.
ارخت كتفيها بلامبالاة: هو اللي كان مستعجل، وحتى لو مستعجلش، هو دخل البيت وهو عارف ظروفي، وأن امكانياتي مختلفة ومتسمحش أن أجهز في المستوى اللي هو بيجهز بيه، يبقى يا كان قبل بامكانياتي، يا شاف اللي تناسب مستواه.
نظرت لها والدتها بنظرة ذات مغزى: اللي يسمعك دلوقتي ميشوفش فرحتك وقتها.
أجابتها بصدق: مابنكرش أني كنت ميالة له جدا، وأني فرحت بتمسكه بيا، بس كرامتي أهم يا أمي، ولو محصلش نصيب كنت هازعل، بس شوية وهانسى، وكنت هلاقي شخص مناسب لظروفي، أو ظروفي أنا تختلف بعد التخرج، وأقدر اشتغل وأساعد في الجهاز.
غمغمت والدتها بندم: والله يابنتي أنا مكنتش عايزة حاجة من الدنيا غير مصلحتك، ومكنتش طمعانة في حاجة لنفسي.
أمأت مؤكدة: طبعا يا ماما أنا واثقة، ده أنت كنتي بتزعقي لو جبنا شوية فاكهة واحنا جاين، حاجة أيه اللي هتطمعي فيها بس، ده....
قطع حوارهما طرقات على الباب تبعها دخول أبيها متوترا: دعاء في واحد محامي بره جاي يقابلك، بيقول أنه جاي في موضوع يخصك ومش هيقوله لحد غيرك.
توترت والدتها بينما كست ملامحها الحيرة، وهي تتأكد من هندامها قبل خروجها إليه، لتخرج متطالعة لذلك الشاب الأنيق بريبة متمتمة بالتحية: السلام عليكم.
ابتسم بعملية: وعليكم السلام، حضرتك مدام دعاء.
أجابته بتحفز شاعرة نحوه بعدم الإرتياح: ايوه يا فندم، أي خدمة.
اتسعت ابتسامته مقدما نفسه: أنا محمد الدسوقي من مكتب المستشار عبد المجيد الحاوي.
أجابته متحفزة، فاسم الحاوي غير جديد بالنسبة لها، حيث يتداول زملائها بالجامعة بعض سيرته: اهلا بحضرتك، ممكن أعرف حضرتك عايزني في أيه.
دعاها للجلوس ليجلس بعدما جلست بجوار والدها، ليبدأ حديثه فورا بعملية: الحقيقة أن عندنا خبر بطلاق حضرتك، وأنك ماخدتيش مستحاقاتك من طليقك، ومكتبنا مستعد يقف جنب سيادتك ويرجع لك حقوقك كاملة، [متداركا بسرعة] ومن غير اتعاب، كل اللي على حضرتك مشوار للشهر العقاري تعملي توكيل لسيادة المستشار وهو هيقوم باللازم كله، وممكن معلش نحتاج أمضة حضرتك على كام محضر تعدي بتاريخ قديم، بس مش هتحتاجي تروحي القسم غير مرة واحدة.
هتفت بحدة: محاضر تعدي ضد مين وليه؟
أجابها ببساطة وكأن ما يقوله بديهيا: محاضر ضد طليقك، عشان نقدر نرجع لحضرتك كل حقوقك نفقة عدة ومتعة وقايمة ومؤخرا ده غير التمكين ونفقة الولد والحضانة أول ما تقومي بالسلامة.
أسرع والدها يعترض: بس هي ملهاش قايمة، وهو بعت لها المؤخر من نفسه.
ارتسمت ابتسامة ملتوية على شفتيه وهو يردف بخبث: حتى لو مش ماضي علي قايمة في حاجة أسمها قايمة المثل، وهو صحيح بعت لها المؤخر بس هي ممضيتش بالاستلام.
انتفض والدها مرددا: حد الله مابينا وبين الحرام.
لم يبالي برد فعل والدها، وهو ينظر لصمتها وتحديقها به بنظرات غامضة، وبينما تمنى أن يكون صمتها موافقة وأن شك بذلك، كانت هي تحترق داخليا خوفا على ياسر، لا تعرف ما بينه وبين هؤلاء ليفكروا بإيذائه عن طريقها.
تسائل ببرود محاولا إنهاء تلك المصارعة البصرية: أيه رأيك يا مدام دعاء.
انتفضت واقفة تنهي الزيارة بوقاحة، وهي تصفعه بردها القاسي وهي تربت على بطنها المنتفخة: صحيح أن ياسر طليقي، بس لو حاول حد يأذيه، فأنا لو قدرت أساعد هاساعده هو، لأنه صحيح مبقاش جوزي بس هيفضل أبو ابني العمر كله.
لم تبالي بانصرافه الغاضب، كان كل اهتمامها منصب على محاولاتها الفاشلة في الاتصال بياسر والأطمئنان عليه، لتزفر بنفاذ صبر: أنا هاتجنن أتصلت بيه أكتر من عشر مرات تليفونه مقفول، حتى دوست على نفسي وطلبت نمرة الدكتور برضو مقفول.
حاول والدها طمآنتها رغم انتقال قلقها إليه: يا بنتي الغايب حجته معاه، ممكن يكونوا في مكان مفيهوش شبكة، ولا الدكتور في عملية،أكيد شوية وتليفون حد منهم يفتح.
دعت الله أن يكون والدها على حق، ولكن هاتف بداخلها كان يخبرهاعكس ذلك، و يؤكده عدم حضوره اليوم لرؤيتها كعادته الأسبوعية.
❈-❈-❈
استيقظ من نومه ليفاجأ بأنه قد نام مكانه مستندا على الحائط خلفه، اعتدل وهو ينتبه لتلك الخطوات الصاعدة تقترب، ليهدأ وتنفرج أساريره عندما ظهر زينهم أمامه بابتسامته السمحة، زحف يسبقه للغرفة، بينما تتبعه أعين زينهم بحزن وهو يدعو له بانكشاف الهم، ورفع الهامة، فما أصعب أن تنحني ناصية الرجال.
جلس أمامه وهو يفض تلك اللفافة مخرجا ذلك الطعام الفواح وهو يهتف بحماس: فطير بالسمن البلدي يستاهل بوقك، حظك حلو ده من أيد الست آمنة.
سأله ياسر بحيرة: مين الست آمنة دي.
صاح مستنكرا جهله بأعلام حياته البسيطة: الحاجة آمنة، دي ست الكل، ست تتحط على الجرح يطيب، خيرها على الكل ومبيفوتهاش واجب، وتبقى أم الدكتور يوسف وحماة الست فاطمة.
سأله بفضول: وهي اللي بتبيع الفطير ده.
أجابه مستنكرا: لا طبعا، دي ست مقتدرة وابنها دكتور، ولا محتاجة تبيع ولا تشتري، دي بتعمله صدقة عشان مهاب، [مستدركا بإباء] بس أنا طبعا مش بتديهوني صدقة، ده هدية عشان أنا اللي بلف أوزعه.
تسائل ياسر بفضول: مين مهاب ده، وبتفرق فطيرعشانه ليه؟
غلف الحنان صوته وهو يجيبه بحزن: مهاب ده حتة سكر، حنية الدنيا فيه، بس ياخسارة مولود عنده داون، وكان عيان من كام يوم فهي اتصدقت عنه بأكتر حاجة بيحبها.
تأثر صوته بحالة الصغير، خاصة وهو بانتظار طفله الذي يدعو له بالمعافاة: هو مهاب يبقى أبن الحاجة آمنة وأخو دكتور يوسف.
أمأ له زينهم نافيا: لا، هو حفيد الست آمنة، ويبقى ابن الست وفاء بنت الحاجة آمنة وأخت الأستاذ يوسف.
ابتسم للحنان صوته فيما يخص الطفل: أنت بتحبه قوي كده.
ابتسم زينهم بحب: باقولك حنية الدنيا فيه، ده غير أنه نضيف جدا ومؤدب، أصلهم مهتمين بيه قوي، وست وفاء بتقول أنها هتدخله مدرسة للحالات اللي زيه مع أنها في المركز مش هنا.
زفر بضيق لجحود أشباه الرجال، متذكرا أحد معارفه الذي طلق زوجته لإنجابها طفل مثل مهاب، ليتسائل بشك: وباباه كمان موافق يدخله المدرسة.
زفر بحزن: الله يرحمه بقى، كان زينة الرجالة كلهم زي ما بسمع، بس والست وفاء حامل في مهاب، ربنا أراد انه ينصاب بعيار طايش في خناقة.
غمغم ياسر بحزن متأثرا بحمل تلك السيدة التي ينوء بحمله أعتى الرجال: ربنا يعينها.
ندم زينهم على ذكر مثل هذه الأمور على الطعام، وإفساد شهية ضيفه، ليغتصب ابتسامة مردفا: كل الفطير بقى النهاردة، وبكرة السوق وهتدوق من إيدي أنا أحلى أكل.
لفت انتباه الحديث المتكرر عن السوق ليتسائل بحيرة: هو أيه حكاية بكرة السوق دي، مش السوق مفتوح علطول عادي يعني.
ضحك زينهم وهو يومأ نافيا: الكلام ده عندكم في مصر، هنا السوق يوم في الأسبوع، بنجيب كل حاجات الأسبوع.
سأله باهتمام: يعني كل البلد بتروح السوق ده.
أمأ ايجابا بفم ممتلئ ليبتلع طعامه مجيبا بعدها: أه طبعا واللي ميعرفاش يروح بيحتاس الأسبوع بحاله لحد السوق اللي بعده، وبصراحة أنا باطلع لي بقرشين حلويين قوي اليوم ده، وبإذن الله الرزق هيزيد على وشك الحلو.
تمتم ياسر بفضول: ليه هو أنت بتبيع أيه هناك.
ابتسم زينهم برضا: لا أنا مش بابيع، أنا باوصل، أول حاجة باوصل حريم البيت هنا للسوق، وباسيبهم هناك يشتروا حاجتهم وأي حد اشترى حاجة وعايز يوصلها باوصله وأهي بترزق.
هتف ياسر بلهفة: طيب أنا عايز أروح السوق.
وقف الطعام بحلق زينهم ليسعل بشدة، مد يده يلتقط زجاجة المياه يتجرع منها بلهفة، حتى هدأ نسبيا، ليهتف بعدها بنفس متقطع: تروح فين؟
أجابه ياسر مطمئنا: أهدى بس يا زينهم، أنت بتقول أن البلد كلها بتروح السوق، يعني زحمة وزيطة ومحدش حاسس بحد، وطبيعي يبقى في ناس غريبة عن البلد.
اعترض زينهم متوترا: طيب وأهل البيت هنا.
أجابه ياسر ببساطة: مش أنت بتقول أنك بتوصل حريم البيت كله للسوق، وبتسيبهم هناك وبعدين ترجع لهم لما يشتروا توصلهم تاني، أنا بقى هانزل بعد ماتنزلوا وهارجع قبلكم ولا مين شاف ولا مين دري.
اعترض زينهم متوترا: طيب ما أنا ممكن أجيبلك كل اللي أنت عايزه ومفيش داعي للمخاطرة.
أجابه بلهجة هادئة محاولا امتصاص توتره: مفيش مخاطرة ولا حاجة، أنا محدش يعرفني، وبعدين أنا هانزل لابس الجلبية اللي لبستهاني واحنا جايين على هنا عشان ملفتش النظر بلبسي.
كان يعلم بحرج زينهم من قلة ما يجود به رغم أنه اقصى ما يستطيعه، فأكد رافعا عنه الحرج: وبعدين أنا فعلا مش ناقصني أي حاجة عشان تجيبهالي، أنا بس ناقصني أخرج وأشوف الناس بدل ما اتجنن من الحبسة دي، والسوق فرصة حلوة.
أندفع زينهم صائحا باهتمام: بعد الشر ربنا يحفظك من كل شر، خلاص يا أستاذ، أخرج وربنا يسترها ولا تشيل في نفسك أبدا وتضايقها.
ابتسم ياسر مستمتعا بعفويته، يتعجب أن شخصا مثله يتخذ هذا الموقف الشهم تجاهه رغم عدم معرفتهم السابقة، انتفض من أفكاره على غطيط زينهم الذي نام لتوه كعادته.
❈-❈-❈
استيقظ زينهم صباحا على نداء ياسر الخافت بجواره: أصحى يا زينهم، اصحى بقى هنتأخر على السوق.
دلك وجهه بكفه بقوة وهو يتطلع بهاتفه بأعين نصف مفتوحة، ليغمم بدهشة: سوق أيه السعادي.
أجابه ياسر بحماس: السوق اللي قولت عليه اللي بيجي كل أسبوع.
ابتسم زينهم وهو يستوي على فراشه: هو أنت مستعجل قوي كده ليه مش قبل ساعتين تلاتة.
صاح ياسر بخيبة أمل: كل ده.
ابتسم زينهم مراضيا تعاطفا معه: هيعدوا هوا عقبال ما تفطر وتريح شوية أكون رجعت.
تمتم ياسر بدهشة: رجعت منين؟
أجابه زينهم شارحا: ما أنا يوم السوق بروح الأول المزرعة أجيب شغل من هناك أنزله السوق، وبعدين أرجع على هنا أخد حريم البيت نطلع على بيت الحاجة آمنة ناخد الست وفاء ونطلع على السوق.
سأله بفضول: وبيروحوا للحاجة آمنة ليه قبل ما يروحوا السوق؟
أجابه متعجبا جهله وكأن ما يقوله أمرا بديهي: طبعا لازم يروحولها أمال هيسيبوا العيال دي كلها فين، وكمان عشان ياخدوا الست وفاء معهم السوق، مش بأقولك الست آمنة دي ست الكل.
تمتم ياسر بتقدير لتلك السيدة المعطاءة: ربنا يباركلها.
آمن زينهم على دعاءه وهو يستعد للرحيل: آمين يارب، بالأذن أنا بقى عشان الحق كل اللي ورايا.
خرج زينهم يلحق به ياسر يراقب انصرافه وهو يتسائل هل سينعقد الحديث اليومي، أما سينشغلوا عنه بالاستعداد للخروج للسوق، ولم يطل انتظاره، ورغم عدم أنطلاق صفارة البداية الخاصة بفاطمة، الا أن صوت هناء الطفولي ارتفع مناديا: صباح الخير يا بنات أنتوا نايمين ولا أيه، زينهم نزل على فكرة.
أجابها صوت رانيا الهادئ: صباح الخير يا هنون، هو في حد بينام يوم السوق، بس معرفش فاطمة راح عليها نومة ولا السرينة بتاعتها عطلانة.
انطلق صوت فاطمة هادئا فاقدا لمرحه لأول مرة منذ سمعه: أنا صاحية يا بنات صباح الخير.
ارتفع صوت شوقية بفضول: لا أخفى الله لكي حسا، مالك يا بنتي على الصبح.
تمتمت رانيا متشككة: صباح الخير يا حبيبتي، أمال فين الزغرودة.
ضحكت فاطمة مشاكسة؛ محاولة التظاهر بالمرح: أنتم مش عاجبكم حاجة خالص، لا أزغرد نافع ولا أهدى نافع.
تسألت رانيا بقلق: مالك يا بطوطة، صوتك مش عاجبني.
زفرت فاطمة بضيق: موال كل يوم.
تمتمت رانيا بلين: طيب وهو هيعمل أيه يا حبيبتي مهما كان أمه وأخته برضو ومسئولين منه.
زفرت بحرارة تعكس نيران روحها: هو من أول ما اتقدم وقال أنه شقته في بيت عيلة وأهلي رفضوه، وهو اللي رجع وقال أنه وفر سكن تبع شغله، واتعهد أن لو حتى ساب الشغل هيشتري بره، ليه دلوقتي جاي يغير كلامه، ومش مقدر أني عشانه سيبت بلدي وأهلي وجيت عيشت معاه في البلد هنا.
حاورتها رانيا مبررة: ياحبيبتي هو مغيرش كلامه، ظروفه هي اللي اتغيرت، يعني وقت ما أتعهد بده كانت أخته متجوزة ابن خالتها وعايشة فوق مامتها ومطمن عليهم، وخصوصا وأنتم قريبين وبتزورهم باستمرار، لكن طبعا بعد المرحوم وتعب والدته وظروف أخته وابنها، بقم محتاجينه جنبهم باستمرار، وطبيعي أنه يطلب منك تنقلوا شقته هناك.
مصمصت شوقية شفتيها معترضة: أديكي بتقولي ظروفه هو اللي اتغيرت مش هي، يبقى ملهاش ذنب، وكل واحد يشيل شيلته.
احتد صوت رانيا زاجرا: الحياة أخد وعطا مش قفش، وهو الراجل ومراته أيه، مش واحد، وعلى الحلوة والمرة سوا.
غمغمت فاطمة باعتراض: بس شوشو معها حق، أنا مليش ذنب عشان حياتي تتشقلب بالشكل ده.
لعنت رانيا بداخلها أراء شوقية التي طالما أوقعت من يتبعها بالمصائب، وحاولت أن تستميل فاطمة لتمحو أثر كلمات شوقية الفاسدة: يابنتي جوزك راجل محترم بيراعي ربنا في كل اللي يخصه، والمفروض الموضوع ده يطمنك لأن اللي ملوش خير في أهله ملوش خير في حد.
صاحت فاطمة بمكابرة: أه يراعيهم ويحافظ على حقوقهم هما، وأنا مليش حق أنه يراعيني ويهتم براحتي.
أجابتها رانيا مؤكدة: حقك طبعا، وهو مش بيقصر على قد مايقدر، ولو الظروف اضطرته يقصر معاكي شوية عشان ظروفهم، فربنا يجعله بميزان حسناتك ويبارك لكم في أولادكم.
انفجرت بالبكاء فاجأة وهي تغمغم بقهر: لا أنا خايفة وحاسة أني مش هارتاح، أنت مبتسمعيش عن بيوت العيلة واللي بيحصل فيها، وبعدين أنا من حقي شرعا سكن مستقل.
هدأتها رانيا مطمئنة: طبعا يا حبيتي حقك، بس ماهو وعدك أنكم لو نقلتم هناك مش هيسمح لحد أنه يتدخل في أموركم وخصوصيتكم وتربيتك لولادك، ولا حتى هتكوني ملزمة بخدمتهم وأنك لو مش عايزة تباتي تحت خالص فهو مش هيغصبك وهيسيبك على حريتك، وشهادة لله، الحاجة آمنة الكل بيشهد بدينها وأخلاقها هي وفاء.
صاحت شوقية معترضة وهي تلتمس تأثير كلمات رانيا وخفوت صوت بكاء فاطمة: وهي أيه ضمنها بقى أنه يلتزم بوعده، مش يمكن بيثبتها لحد ما يوصل للي عايزه.
احتد صوت رانيا مغتاظا وهي تجاوبها بانفعال: ممكن يعملوا قاعدة يتعهد فيها قدام أعمامه وأهلها باتفاقهم ده، ويبقوا شاهدين عليه.
جادلتها بسماجة: وهي تضمن منين أنه يلتزم بعهده ده هو الناس هيعيشوا وسطهم.
زجرتها رانيا بحدة: يبقى ساعتها في كلام تاني، عشان حتى تبقى حاسة أنها مقصرتش وعملت إللي عليها، بس ياريت منقدرش البلا قبل وقوعه، وربنا هيكرم بدل النية خير.
مصمصت شفتيها متهكمة: يبقى ابني في حجري وأروح أدور عليه.
نهرتها رانيا بضيق: لو عندك كلمة حلوة قوليها يا تسكتي شوية، [تستطرد حديثها لفاطمة متجاهلة لها] اصبري يا حبيبتي محدش عارف بكرة فيه أيه، مش يمكن ربنا يفرجها من عنده.
اندفعت شوقية مستنكرة: هيفرجها أزاي يعني، مين ممكن يتجوز واحدة عندها ابن بظروف مهاب، بالعكس ده بكرة أمه تموت ويقولها أختي وملهاش غيري.
صاحت بها رانيا مستاءة: أنت دخلتي في علم ربنا كمان، سيبك منها يابنتي ومتخربيش على نفسك، وأهم حاجة تغيري أسلوبك والتصرفات اللي بتضايقه متعملهاش.
زفرت فاطمة بضيق: هو أنا باعمله أيه يعني، ده أنا على يدك بعامله بما يرضي الله، ومديله حقه بزيادة.
أجابتها رانيا بهدوء: ياستي عمليه بالفضل مش بالحق، يعني بلاش كل شوية تجيبي سيرتهم وتشتكي من اهتمامه بيهم عشان ميحسش أنك بتكرهيهم وعايزة تفرقي بينه وبينهم وساعتها يتمسك أكتر بيهم ويحاول يفرض وجودهم عليكي، وأوعي تقارني أو تخيريه بينك وبينهم، يا بنتي كبري مرة عليكي ومرة عليهم.
زفرت فاطمة بضيق: أكتر من كده تكبير يا رانيا، ده يوميا هناك وأنا مبنطقش.
زفرت رانيا بنفاذ صبر: ماهو عشان كده عايزكم تنقلوا هناك، متفتكريش أنه مرتاح كده، ده مضغوط أكتر منك، ومحتاج اللي يطبط عليه، لكن ولو فضلتي تزني كل شوية وتضغطي عليه أكتر هيميل للجنب اللي يريحه وحاسين بقيمته وتعبه، الرجل بعد الجواز محتاج يحس أن مراته مقدرة تعبه وكل اللي بيعمله عشانها.
هتفت فاطمة معترضة: يعني هو اللي مضغوط وأنا اللي مرتاحة يعني، وحتى مليش حق أن افتح بوقي ولا حتى اعاتبه، لما يجي عليا.
أردفت رانيا بحنان أمومي: يا حبيبتي عاتبيه براحتك ده حتى بيقولوا العتاب محبة، لكن العتاب مش الخصام والقمصة، المفروض تبقي فاهمة الأول تعاتبيه أمتى وأزاي مش تحسسيه أنك بتخانقيه وتقولي بعاتب، هي شوية حاجات بسيطة بس لو راعتيها تكسبي جوزك لصفك ويديكي عينيه.
تكلمت هناء لأول مرة منذ بدأ الحديث وهي تسأل باهتمام: حاجات أيه دي، وتكسبه أزاي؟
اندفعت رانيا تشرح مقاطعة تلك المصمصة الصادرة عن شفتي شوقية: تحسسه أنها مقدرة اهتمامه بأهله، وأنه راجل بجد عشان متخلاش عن اللي منه وبيهتم بيهم، هيفرح وتلاقيه لوحده بيزود اهتمامه بيها، وتهتم هي كمان بأهله، وتسأل عنهم، ولو تقدر تساعد بحاجة تساعد وتخف عنه بدل ما تشتكي أنه بيساعدهم.
ضحكت شوقية متهكمة: متجبلوش ديفيدي بالمرة.
تجاهلتها رانيا وهي تسأل فاطمة باهتمام: ناوية على أيه يا فاطمة.
غمغمت فاطمة مترددة، ربنا يسهل احنا أصلا متخاصمين ومش هينفع اكلمه دلوقتي.
أخبرتها رانيا مشجعة بحماس: ابعتيله بس انت كام كلمة حنينة على الواتس، وممكن لينك بوست ولا اتنين لشيوخ ناقشوا المواضيع اللي زي دي بلين وحكمة كده، وأهو النهاردة السوق خليه يرجع يلاقيكي عاملة أكلة حلوة وبعد الأكل أقعدوا على رواقة اتفهموا واتكلموا، [مشددة بلهجة ذات مغزى]عشان توصلوا لحل مش عشان تثبتي أنك أنت اللي صح، لأنه وقتها هيعند أكتر ومش هيسمعلك، ولو مقصر في حاجة الفتي نظره بدلع كده هو أنا اللي هافهمك ده أنت الدلع كله.
صاحت شوقية مستنكرة وقد ساءها تجاهل رانيا لرأيها أكثر من مرة: أكتر من كده دلع دي فاتن كانت لسه بتشتكي من المزيكا والرقص.
أخبرتها رانيا هادئة وقد اطمئنت لهدوء فاطمة النسبي، فمعرفتها بها تؤكد لها أنها ستركن للصواب: مش هاكدب وأقول أن الموضوع ده مش مهم، بس مين قال أنه الأهم، في حاجات تانية كتيرة لو متوجدتش الحياة بتخرب مهما كانت الست مهنية الراجل ومدلعه، والراجل اللي يستكفى بساعات قصاد حياة كاملة ميبقاش رجل أصلا، ودكتور يوسف مش كده ولا أنت يا فاطمة نفسك هترضي تعيشي مع راجل دي طريقة تفكيره، والحمد لله أنكم متوافقين بأموركم الخاصة، لكن الأهم أن التوافق ده يكون موجود في نواحي تانية أهم وابقى.
زفرت رانيا براحة وهي تستمع لصوت فاطمة الهادئ: عندك حق يا رانيا، خلاص لما نرجع من السوق هاشوف هاعمل أيه.
اندفعت هناء بحماسة: أيوه، ركزوا في السوق، أمال فين تونة مصحيتش ليه.
اجابتها رانيا ببساطة: هي كلمتني وأستأذنت نجيب لها حاجتها معانا، عشان تريح شوية قبل ميعاد رجوع هاشم من الشغل، [بسعادة وحماس] وعلى فكرة بتطمنكم أن الخطة ماشية تمام التمام، والزبالة دي تقريبا هتتجنن ومش فاهمة هو بعد فجأة كده أزاي، وأخر مالقيت حساب فاتن مشغول علطول، بعتت لها رسالة، بس فاتن قالتلها معلش مشغولة في الكلام مع جوزي.
انطلقت ضحكاتهن بسعادة، بينما وجدت شوقية بالخبر تعويضا عن تخطيها منذ قليل، فأردفت بخيلاء: مش عارفة من غيري كنتم عملتم أيه، عشان تعرفوا بس قيمتي، وأن أفكاري هي الصح.
غمغمت رانيا بلهجة ذات مغزى: في الخير يا شوشو، في الخير.
هتفت فاطمة تنهي تلك الحرب الباردة: أنتوا لسه هتحكوا، زينهم زمانه على وصول، روحوا لبسوا العيال واجهزوا خلينا نلحق نروح ونيجي.
انفض الجمع وكان كل ما يصله بعد الهمهمات أو صرخات بأسماء الصغار.
دقائق ووجد زينهم أمامه يمد له يده بمفتاح وهو يهمس له باهتمام: ده مفتاح البوابة تحت أول ما أمشي بيهم، أخرج أنت علطول، أمسك الطريق على يمينك لاتحود شمال ولا يمين هتلاقي نفسك بقلب السوق.
القى كلماته وهو يهرول نزولا بعدما استمع لنداء شوقية المحتد، تابعه بنظره وهو يحمد الله أنه لم يعرف بعد ببقاء فاتن بالمنزل، وألا لمنعه من الخروج فهو لا يعلم بأنها نائمة، بمجرد استماعه لصوت الدراجة يبتعد، هبط بهدوء محذرا أن يصدر عنه أي صوت، بمجرد خروجه من البوابة الخارجية سحب نفسا عميقا من الهواء النقي حوله، وبرغم أنه لم يكن حبيس غرفة زينهم وأن السطح مفتوح هواءه حر كهواء الشارع، إلا أنه شعر بأختلاف تأثيره على رئتيه، ففوق السطوح كان كعصفور ربط بخيط طويل يسمح لهو بالطيران نعم ولكن بحدود، ولكن الأن قطع الخيط وشرع جناحيه بسماء الحرية ولو لساعات معدودة.
التزم خط السير الذي رسمه له زينهم، وبعد دقائق معدودة ظهر السوق أمامه، حث السير بهمة حتى دخله متلهفا لرؤية البشر والأختلاط بهم، سار يشاهد المعروضات بحماس وبعد فترة قصيرة، تفاجأ بصوت زينهم يصله قائلا: حمد الله على السلامة لفوا لفتكم وأنا هارجع لكم.
التفت لاتجاه الصوت بلهفة، كانت دراجة زينهم البخارية تقف جانبا، بينما تترجل من كابينتها خمسة من النساء، تمعن بهن يحاول معرفة شخصية كلا منهن من خلال ما يعرفه عنهن، كانت أول من نزلت سيدة جميلة ذات زينة متقنة، تبعتها تلك العابسة ذات الوجه الحزين، تلتها سيدة متوسطة الجمال تعلو وجهها تعبير مريح للعين، تمسك بيدها سيدة محتشمة تغض بصرها أرضا بحياء، وأخيرا سيدة جميلة بلا زينة تعلو وجهها ابتسامة راضية.
صرف نظره عنهن مبتعدا وهو يرى زينهم يرمقه بضيق وعدائية ملحوظة، ولكنه كان قد رآهم على نحو كافي لتمييز شكلهم وتذكره، فأخذ عقله يربط تلك الأشكال بما يعرفه عنهم، ليستنتج ان رانيا هي إحدى الجميلتين أما أنها الجميلة ذات الزينة المتقنة، أو أنها الجميلة بلا زينة ذات الابتسامة الراضية وأن كان يرجح أنها الأخيرة، بينما يظن أن فاطمة هي الأولى فتلك الزينة المتقنة تتوافق مع شخصيتها المنطلقة، أما تلك السيدة متوسطة الجمال فمن المؤكد أنها شوقية، أما المحتشمة الخجول فمؤكد أنها هناء وأن كان مظهرها الأكبر من سنها الحقيقي يعود لملابسها الفضفضة لغيرة زوجها الشديدة، ومن المؤكد أن سيدة بتلك الظروف التي سمعها عن تلك الأرملة شقيقة يوسف لن تكون سوى تلك العابسة ذات الوجه الحزين.
كاد يجزم بصحة تخميناته بشأنهن وهو يتجول فاحصا المعروضات، بسعادة حبيس خرج أخيرا للحياة، جذب انتباهه بعض الفاكهة الطازجة، فقرر شراء بعضها كهدية، فزينهم نبه عليه ألا يشتري أيا من الأطعمة فهو كفيل بها، وقف يلتقط تلك الفاكهة واضعا أياها داخل أحد الأكياس، ليرتفع صوت شوقية من خلفه تسأل البائع بحدة: هو مفيش مرة تجيب حاجة صابحة.
التفت بشكل لا إرادي لتتسع عينيه بصدمة وهو يرى أن صوت شوقية يصدر عن تلك الجميلة ذات الزينة المتقنة، بينما تتمسك بيدها كطفلة تائهة تلك العابسة ذات الوجه الحزين التي ولصدمته للمرة الثانية كانت هناء حيث استمع لصوتها الطفولي معلقة: المحاجة حلوة أهي يا شوشو.
لكزتها شوشو خفية تمنعها من الاعتراض حتى تستطيع التفاوض بإريحية.
حمد الله أن أيا منهما لم تنتبه لتحديقه بهما، ليلتفت دافنا وجهه بالمعروضات متظاهرا بتفحصها، ليتنفس الصعداء بمجرد ابتعدهما.
لم يتخيل أن تخيب توقعاته لهذا الحد، تحرك دون إرادة يبحث عن الباقيات ليعرف لأي مدى صابت باقي توقعاته أو خابت