رواية حافية علي جسر عشقي الفصل السادس 6 بقلم سارة محمد
حافية على جسر عشقي
الفصل السادس:
دلفت "فريدة" إلى الغرفة القابع بها "مازن" و على يدها صينية بها تحمل طبق من الحساء الساخن ، وجدته مستنداً على فخذيه برمفقيه محاوطاً رأسه بعينان مغلقتان ، تنحنحت "فريدة" لتلفت أنتباهه و هي تتمتم :
- الأكل ..
-مش عايز ..!!!
قال بأقتضاب و هو لازال على وضعه ، تقدمت منه واضعة الصينية على الكومود بجانب الفراش قائلة ببرودٍ و رسمية :
- الأكل عندك أهو .. هسيبهولك لحد مـ تجوع و آآآ
شهقت "فريدة عندما دفع "مازن" الصينية لتسقط على الأرضية ليتناثر الحساء مزمجراً بقوة واثباً بأندفاع :
- بقولك مـش عـايـز أنتِ مبتفهميش !!!
تراجعت "فريدة" للخلف من غضبه الجحيمي ، جف حلقها و هي تراقب وجهه شديد الإحمرار وعيناه اللتان تحولتان لجمرتين من الجحيم ، صرخت "فريدة" و هي تقول بلا وعي وحدةٍ :
- أنت مش طبيعي .. أنت مريض مستحيل تكون طبيعي !!!!!
تخشبت عيناه عليها ليقترب منها موجههاً لها نظرات مرعبة ، أبتعدت "فريدة" عدة خطوات للخلف حتى وجدت أنها حوصرت بين يداه فـ خلفها ذلك الحائط المنيع و من أمامها صدره العريض ، إزدردت ريقها تراقب وجهه الجامد وعيناه الباردتان ، لم تجد بمقلتيه ذرة من الشفقة .. لم تجد سوى جحودٍ و قسوة جعلتها ترتعد من الداخل مما هي مقبلة عليه ..!!
أفاقت على صوته المخيف و هو يقول بنبرة مشتعلة :
- كنتِ بتقولي أيه يا حلوة ؟!!!
أستعادت رباطة جأشها لتنتصب أمامها قائلة بشجاعةٍ :
- بقول أنك مستحيل تكون طبيعي ..لأن دي مش أفعال ناس سويّة !!!
تلاعبت أصابعه على وجنتيها و هو يقول بوقاحةٍ بالغة :
- خافي على نفسك يا فريدة .. أنا مبرحمش !!!!
أبعدت وجهها بتقزز و هي تنظر له بإشمئزاز قائلة :
- أنا مبخافش ..!!!
رمى بها بنظرة متوعد ليلتوى ثغره بإبتسامة خبيثة و هو يقول متلاعباً بأعصابها التالفة :
- أخبار أخوكي الصغير أيه .. "يزيد" !!!!
جحظت عيناها تلك المرة بصدمة و كأنه أسقط دلواً بارداً فوق رأسها ، تعالت نبضات قلبها فهو علِم نقطة ضعفها الوحيدة لترتجف شفتيها أمام عيناه التي تراقبها كالصقر ، نظفت حلقها بعد أن شعرت بجفافه التام لتقول بنبرة مهتزة :
- أنت تعرف يزيد منين ..!!! ، أسمع ، ورحمة أبويا و أمي لو لمست شعرة من أخويا هندمك باقي حياتك !!!!
تعالت ضحكاته الصاخبة الرجولية مقهقهاً بتسلية ليبتعد عنها .. سرعان ما ظهر وجهه الحقيقي لتتوّحش حدقتيه مكشراً عن أنيابه ، أمسك بخصلاتها البندقية بقوة يكاد أن ينزع جذورها بين يداه ، شهقت "فريدة" بقوة لتضع يدها على كفه الغليظ تحاول أن تبعده و هي تصرخ به بعنف :
- أبعد عني يا حيوان .. ألـحـقـونـي !!!
صرخت بكل ما أوتيت من قوة ليكتم "مازن" صراخها بكفه الأخر ، أشتدت قبضته على خصلاتها محدقاً بحدقتيها الثابتتان ، أراد أن يرى ولو ذرة من الخوف في عيناها ولكن تطايرت آماله و هو لازال يرى عيناها تحطم ذلك العهد الذي أخذ به على نفسه على أن يذُلها ويجعلها كالحشرة يتركون بصمات أحذيتهم عليها، أتخذ وعداً بأن يمزق تلك الفتاة أشلاء مبعثرة حتى لا تعود و تتحدى أسيادها ، أعاد رأسها للوراء و الألم الذي يعصف بخصلاتها التي تكاد تتمزق من جذورها لا يُحتمل ، ظهر عنقها الطويل أمامه لينظر لها برغبةٍ سرعان دفن أنفه بعنقها و رائحة زهور اللافندر المنبعثة منها تجعله كالثمل الضال .. أغمضت "فريدة" عيناها بألمٍ جسدي و نفسي ، تشعر بروحها تتمزق عندما تعصف أنفاسه الغاضبة بشرة نحرها الرقيق ، ظنت أنه سيفعل ما أراد فعله بتلك الفتاة التي نجت من بين براثنه ، ولكنها عادت لفتح عيناها بقوةٍ تكاد تخرج من محلها عندما أستطرد بأنفاسٍ لاهثة :
- هتجوزك يا فريدة ، غصب عنك أو برضاكي هتجوزك ..
شهقت بقوة لتلكم صدره بقوة ليبتعد "مازن" ينظر لها بحدقتان زائغتان لاهثتان، بللت شفتيها الجافة مبتعدة عدة خطوات للخلف و نبرته التي تشع أصراراً عميقاً أخافتها ، هي تعلم إن وضعها برأسه لن يتركها إلا وهي بقايا انسانه محطمة، عند تلك النقطة نفت برأسها بقوة هيستيرية و هي تُردد :
-مستحيل .. مستحيل أتجوزك فـاهـم !!!!
-بـرا ..
قال ببرودٍ مشيراً نحو الباب وكأنه لا يأخذ برأيها بل جوازها منه هو واقع محتوم ستتقبله رغماً عنها
• • •
تجولت "رهف" في منزلها بحرصٍ تتفرسه ، رأت غرفة مغلقة لتتجه نحوها ، طرقت على الباب بخفة لتسمع صوته المحبب إلى قلبها مردفاً :
- أدخلي يا رهف ..
كم تعشق أسمها عندما يخرج من ثغره ، أدارت مقبض الباب لتدلف ، وجدت الغرفة يُطغى عليها اللون الرمادي و ذلك الفراش الوثير الذي يتوسطها ، تنحنحت بإحراج عندما وجدته مستلقي على الفراش و جزعه العلوي عاري واضع ذراعه الملئ بالعضلات على عيناه ، أعتدل "باسل" ليجلس على الفراش ناظراً لها بحدقتيه السمرواتين الناعستان :
- عايزة حاجة يا رهف ؟
نظرت "رهف" أرضاً بوجهٍ متورداً وهو تقول بقنوط :
- ألبس حاجة يا باسل ..
رفع "باسل" كِلتا حاجبيه قائلاً بمزاحٍ :
- بس أنا مش بعرف أنام غير وانا قالع التيشرت وبعدين انا نايم ف أوضتي ..!!
رفعت "رهف" عيناها له لتلتفت نحو الباب قائلة بحزنٍ :
- أسفة أزعجتك ..
نهض "باسل" سريعاً من على الفراش ليلتقط ذراعها مانعاً إياها من الذهاب و هو يقول :
- أستني يا بنتي أنتِ بتقفشي ليه كدا أنا كنت بهزر والله .. خلاص يا ستي هلبس اهو عشان خاطر خدودك الحمرا دي !!!
نظرت "رهف" أرضاً لتبتسم بخجلٍ ، ألتقط "باسل" كنزته ليرتديها سريعاً ثم نظر إلى "رهف" قائلاً بتساؤل :
- قوليلي بقا كنت عايزة حاجة ؟ الأكل برا عندك على السفرة طلعيه وكلي .. وفي التلاجة اللي أنتِ عايزاه و آآآ....
- أنت زعلان مني صح ..؟
بترت "رهف" عبارته قائلة وهي تنظر بالأسفل بحزنٍ أعتلى صفحات وجهها ، قطب "باسل" حاجبيه بدهشة لتعتلي أبتسامة حانية وجهه ليمسك بذقنها رافعاً إياها بلطف قائلاً بحنو :
- أولاً أياكي تنزلي عينك قدام أي حد حتى لو أنا ، ثانياً بقا أنا مقدرش أزعل منك أساساً وانتِ معملتيش حاجة تزعل ..
شخصت أنظارها على عيناه السوداوية البرّاقة ، لم تستطيع وصف مشاعرها نحوه ، كل ما تعلمه أنه حنون كأبيها التي تفتقده بشدة الأن ، أبتسمت بحزن عندما تذكرت أبيها وذلك الرجل المحتل مكانهِ ، أغرورقت عيناها بالدموع عندما تذكرت ما كان يفعله بها ذلك الرجل ومحاولته للتحرُش بها وأنتهاك حُرمة جسدها
قطب "باسل" حاحبيه و هو يرى الدمعة التي فرت من عيناها بل و نبرتها التي تقول أنها على مشارف البكاء :
- باسل أنا شوفت حاجات كتيرة وحشة في حياتي ، فجأة لقيت بابا بيضيع من بين أيديا .. كان مريض وبيحتاج أدوية كتير و أحنا وقتها ظروفنا مكانتش أد كدا بس أنا كنت بحاول أوفرله اللي أقدر عليه كنت بشتغل صبح وبليل و كنت بدرس كمان ، و ماما مكانش بيهمها حاجة وكانت بتكره بابا أوي وكان نفسها يموت النهاردة قبل بكرة عشان تعيش حياتها ، و فعلاً بابا توفى بعد شهر ووصى ماما عليا ، و أول مـ العدة بتاعة ماما خلصت أتجوزت على طول يا باسل كأنها مصدقت ، و ماما حبته جداً لدرجة أنها كتبت كل حاجة بابا سابهالنا ليه و حتى الشقة كتبتها بأسمه .. و كنت دايماً بشوف الراجل دة بيبصلي بنظرات مكنتش مرتحالها لحد مـ فيوم ماما كانت برا و أنا كنت نازلة رايحة الشغل .. و بكل وقاحة دخل أوضتي وكان عايز آآآ ..
أظلمت مقلتيّ "باسل" لترتجف خلايا جسده غضباً شديداً ، نبض فكه كالطبول ليغمض عيناه بتوعد ليقول يحثّها على الكلام :
- كملي ..
إزدردت ريقها لتكمل بقية الحديث بنبرة متألمة :
- و لما روحت أقول لماما مصدقتنيش .. أفتكرت أني بقول كدا بس عشان أخليهم يطلقوا عشان هي عارفة أني مش برتاحله ، بدأ أنه يتمادى لما بقى واثق أن ماما مش هتصدقني و أنا للأسف مكنتش بفتح بوقي ولا بقول لحد حاجة ، لدرجة أنه في يوم خلاص كان هينفذ اللي في دماغة وقتها أنا هربت من البيت وقابلت أخوك و للأسف هو كمان كان هيكمل عليا ، أنا مريت بظروف صعبة يا باسل أنا حقيقي تعبانة أوي و حاسة أن روحي بتتسحب مني بالبطئ !!
أنفجرت في بكاءٍ مرير ليجذبها "باسل"إلى صدره يدفن وجهها بجانب قلبه تحديداً ، حاوط خصرها النحيل بقوة و باليد الأخرى ربّت على خصلاتها الحريرية لتحاوط هي الأخرى خصره و بكائها يزداد ، تذكرت عناق والدها الذي مان يشبه عناق "باسل" بالضبط ، فزوجها يمتلك دفئ والدها وحنوه المفرط ، شددت على خصره لتتبلل كنزته أثر دموعها ، مسح على ظهرها مغمضاً عيناه بألمٍ ، صوت بكاءها يتردد بأذنه ممزقاً قلبه تمزيقاً .. جسدها المرتجف بين يداه جعله يود لو أن يقتل كل من تسبب بنزول دمعاتها ، توعد أمام نفسه و أمام خالقه على أن لا يترك من أذاها وجعل تتذوق المرار كؤوساً ، ألتهبت عيناه بقوة لتصتك أسنانه ببعضهما حتى كاد أن يحطمهما ، أنحنى بعيناه لها عندما وجد جسدها يتراخى بأحضانه ، نبرتها الواهنة و عيناها الناعسة التي تشبه الغزلان ترتفع نحو عيناه قائلة بإرهاقٍ :
- أنا تعبانه و عايزة أنام ..
أنحنى بجزعه ليضع ذراع على ظهرها والأخر أسفل ركبتيها ليحملها بخفةٍ ، تشبثت "رهف" بعنقه بعفوية لتستند برأسها على صدره ، وضعها "باسل" على الفراش بلطفٍ شديد ليجدها قد نامت ، أنحنى نحوها وعيناه تتأمل كل إنشٍ بوجهها ، أمتدت أنامله لتُزيل العبرات العالقة بعيناها و على وجنتيها الناعمة ، مال أكثر مقبلاً جبهتها ليُطيل بالقبلة مغمضاً عيناه ليُشبع نفسه بتلك القبلة البريئة ، أبتعد ينظر لها بشفقةٍ .. ف هي لا زالت لم تُكمل العشرون ولكن عيناها الحزينة تخبرك بأن الهموم أثقلت ظهرُها ..
كاد أن يذهب حتى ينام خارج الغرفة ليجدها مشبثة بكفه الغليظ وهي لازالت مغمضة العينان لا تعي ما تتفوه به :
- بابا متمشيش أرجوك .. متسبنيش لوحدي يا بابا خليك جنبي !!!!
رقت عيناه السمراء ليبتسم بحنوٍ نحوها ، و سرعان ما أستلقى بجانبها واضعاً ذراعه المفتول أسفل رأسها والأخر حاوط خصرها النحيل ، أستند برأسه على خاصتها دافناً وجهه بخصلاتها لتكن نائمة داخل أحضانه الدافئة .. وبين ذراعيه الحنونة ..
• • • •
أمسك ذلك الرجل بالهاتف المحمول واضعاً إياه على أذنه و هو يقول بنشوةٍ تجلت في نبرته :
- أنا عملت اللي قولتيلي عليه يا ملاذ هانم .. بس أهم حاجة تحليلي بؤي يا ست البنات !!!
على الطرف الإخر ، زمت "ملاذ" شفتيها ليتقلص وجهها بإشمئزاز قائلة :
- أي الأسلوب المقرف اللي بتتكلم بيه دة مش انا قولتلك هديلك الفلوس مش عايزة رغي كتير بقا ..
لم تنتظر إجابته لتُنهي المكالمة بنفاذ صبر ، وضعت الهاتف على الأريكة وقد أصابها ضيقٌ كبير ، صدرها مختنق وكأن الهواء لا يصل إلى رئتيها ، أنزوى مابين حاحبيها و هي تقول موبخة نفسُها :
- مالك يا ملاذ مش اللي عايزاه حصل و فضحتي عيلة الهلالي فضيحة مش هتتنسي بسهولة ؟!! أومال أنا مالي مخنوقة ليه وحاسة اني مش كويسة ..
نفت برأسها بقوة مبعدة تلك الأفكار عن ذهنها لتعود قائلة بأنفٍ شامخ :
- لاء يا ملاذ فوقي .. اللي مضايقة عشانه دة أبوه رفض يساعد أختك ودمر أسرة كاملة ، و لسة لحد دلوقتي أختي بتكرهني بسببه .. الرجالة كلهم ملهمش أمان ..!!!
صدح رنين الهاتف مجدداً لتنظر له بقنوط ، ألتقطته
لتضعه على أذنها مستطردة بنبرة فاترة :
- في أيه يا عماد ..
على الجانب الأخر .. زفر "عماد" بحزنٍ مغمضاً عيناه ، أخذ نفساً عميقاً متأهباً لتلك القُنبلة التي ستنفجر بوجهُها ، نظف حلقه لتتسلل العبارات من بين ثغره قائلاً :
- ملاذ آآآ .. أنا عرفت مين اللي سرق التصاميم بتاع ال show اللي كان لـ "سالم العياط" ..
أنتصبت "ملاذ" منتفضة معها حواسُها بالكامل قائلة بإنتباه :
- مين يا عماد !!!!
- لما عرفت البنت اللي خدتهم طلعت من قسم الحسابات .. لما جبتها وحبستها عندنا في المخزن وخليتها تعترف .. عرفت أن براءة أختك هي اللي بعتاها وهي اللي قالتلها تسرق التصاميم عشان تبوظلك شغلك !!!!!
توقف قلبها عن النبض .. أو هذا ما تخيلته ، سارت برودة غريبة في جسدها ، برقت عيناها بدموعٍ تسربت إلى حدقتيها لتشرد في اللاشئ .. ليسقط الهاتف من كفها ليستكين على الأرضية أسفلها تاركاً "عماد" ينادي عليها ، بدت وكأنها بعالمٍ منزوي عن ذلك العالم الشرير ، شعرت بشئٍ يكمن على صدرها مانعاً إياها في التنفس ، و لأول مرة تشعر أنها لا ترغب في التنفس .. بل لا ترغب في الحياة أبداً ، أستندت على الحائط بجانبها بصدرٍ يعلو ويهبط ، رفعت رأسها إلى الأمام تنظر إلى سقف الغرفة واضعة كفها على صدرها لا تستطيع التنفس ، جلست على الأرضية تشهق بقوة تشعر بأنها بين الحياة والموت !!!
تصببت عرقاً من جميع أنحاء جسدها رُغم ملابسها الفضفاضة ، وبصعوبةٍ شديدة أسترقت السمع للباب الذي يُضرب بعُنفٍ شديد ، تحاملت على نفسها لتنهض رُغم جسدها الذي بدأ بالتراخي ، توجهت نحو الباب بصعوبة مستندة عليه لتفتحه و ليتها لم تفعل .. فقد رأت أكثر وجهه تبغضه لتقول بصعوبةٍ ونبرة خافتة :
- سـالـم !!!!
دفعها "سالم" بذراعه القوي لتترنح "ملاذ" للخلف و هي تراه يدلف مغلقاً الباب خلفه و قد أرتسمت على وجهه معالم الخُبث و هو يقول بصوته المخيف :
- أيوا سالم يا ملاذ .. سالم اللي هيطلع عليكي القديم والجديد !!!!
ثم هبط بأنظاره متفرساً جسدها الرشيق و الملابس التي تظهر حدقتيه أمتلئت بالرغبة المُقززة ..!
• • • •
طرح بالمزهرية الموضوعة على الكومود أرضاً لتُبرز عروقه ، أشتدت عيناه أحمراراً ملتهباً ، لم يستطيع إخبار أخيه بما قاله مدير الجريدة ، هو موقن إن أخبره ربما يؤذي "رهف" لما تسببت لهم بفضيحة لن تُمحى بسهولة ، و لكن و للأسف لا مفر من إخباره .. سينتظر إلى الغد و من ثم يُخبره بما فعلته وجهاً إلى وجه ، مسح على وجهه بعصبية مفرطة لينظر لهاتفه الذي يرن ، أمسك به و بنبرة لاهثة قال :
- في حاجة يا صلاح ؟!
أجاب المدعو صلاح و عيناه تراقب ما أمر به "ظافر" كالصقر :
- أنا واقف قدام بيت "ملاذ" هانم زي ما حضرتك أمرتني ، و في واحد طلع البُرج و سأل البواب عن شقتها .. ولما سألت البواب مين دة قالي أنه سالم العياط يا ظافر باشا ..
لا .. ذلك كثير على أن يتحمله .. ماذا يُريد منها ذلك الذي صفعه بمكتبها ، تدفق الأدرينالين بأوردته عندما مرّ على ذهنه ما يُمكن أن يفعله لينتقم منها ، أنطلق كالذئب الجريح ملتقطاً مفاتيح سيارته و هاتفه ليعبُر الدرج سريعاً غير مُنتظر ذلك المصعد ، أستقل سيارته و لأول مرة من مجيئه لخبر أنتقال أبيه إلى المشفى يسوق بذلك التهور ، كاد أن يفتعل حوادث كفيلة أن تؤدي بحياته ولكن رغبته في الذهاب إليها والأطمئنان عليها من ذلك الـ "سالم" كانت أقوى بكثير ، وصل و أخيراً عبر ذلك الموقع الذي أرسله له "صلاح" حارسه و المكلّف بمراقبة "ملاذ" و جمع أدق المعلومات عنها ، ترجل من السيارة غير عابئاً بـ بابُها الذي تُرك مفتوحاً للعنان ، وجد "صلاح" بإنتظاره مخبره بالطابق التي تسكن به ليصعدا الأثنان لها
وقفا خلف الباب ليسترق "ظافر" السمع .. وجد "سالم" يصرخ بصوته الجهوري ونبرته الحاقدة :
- مش هسيبك يا ملاذ .. مش سالم العياط اللي يضحك عليه فــوقـي أنا مش عيل برياله سامعه !!!!
لم يجد "ظافر" رد من "ملاذ" .. أنقبض قلبه بألم من أحتمالية أن يكن فعل لها شئ يتمنى ان لا يحدث ، تراجع للخلف خطواتٍ قليله ليركض تلك المسافة مرتطماً بالباب بقوة ليسقط الباب محطماً ، غلت الدماء بدمه عندما وجد "ملاذ" مستلقية على الأرضية بسكونٍ تام مغمضة عيناها بينما "سالم" يشرف عليها صافعاً إياها بكل ما أوتي من قوة ، ركض "ظافر" نحوه ليبعده عنها ، سدد له لكمات ليتكوم "سالم" على الأرضية صارخاً بألمٍ بصوته الجهوري ليركله "ظافر" في معدته و "تحت الحزام" جاعلاً "سالم" يتلوى على الأرضية يجأر بقوة و هو يقول مقبلاً حذاء "ظافر" بدنائةٍ وبخس :
- أرحمني يا ظافر باشا أرجوك سيبني !!!
أنحنى له بجزعه ليقبض على فكه بقوة كادت أن تُسحق أسنانه ، تشنج وجه "ظافر" بوضوح وعيناه الملتهبة تُصدر شرارات جحيمية نحو "سالم" قائلاً بزمجرةٍ كالأسد :
- اللي يتجرأ ويتطاول على أسياده وعلى حاجة تخص ظافر الهلالي لسة متخلقش يا روح أمك .. و أنا هخليك تبوس رجلها هي وتتوسلها عشان تسامحك يا *****
أنتصب بقوة ليضغط على وجه "سالم" كالحشرة الحقيرة بحذائه البراق ليجعل من كرامته ورجولته خرقة ينظف بها الأرضيات ، ألتفت إلى "صلاح" ذو الجسد الضخم قائلاً بنبرة جحيمية :
- أربطه يا صلاح و وديه المخزن وخلي الرجالة يعملوا أحلى شغل معاه !!!
أوماً "صلاح" دون أن ينطق ، تركه "ظافر" ليتوجه نحو تلك المسجية أرضاً .. آلمه قلبه لرؤية خصلاتها المشعثة و وجهها الأحمر المكدوم وكنزتها التي تمزق جزء منها ، جلب "ظافر" إحدى الشراشف الموضوعة على الطاولة ليحاوط جسدها به ثم وضع ذراعٍ عند ظهرها والأخر أسفل ركبتيها ليحملها ، تراخى جسدها بين ذراعيه ليقترب بوجهه من وجهها ليجد أنفاسها بطيئة وكأنها تُصارع الموت ..
تجمعت الجيران أثر صوت الصراخ ليشهقوا جميعهم مشفقين على حال تلك الفتاة ، يتمنوا أن تكثُر أمثال "ظافر" بذلك المجتمع ، أنزوت إحدى الجارات لتمسك بهاتفها واضعة إياه على أذنها و هي تقول بفزعٍ :
- ألحقي يا ست فتحية في مصيبة!!!!
نزل بها الدرج بسرعة شديدة ليستقل السيارة واضعاً إياها في المقعد بجانبها ، ألتفت سريعاً ليحتل مقعده هو الأخر ، أدار السيارة ذاهباً إلى مشفى "الهلالي" و هو يقبض على كفها الصغير متمتماً بصدرٍ مهتاج :
- مافيش حاجة هتحصلك .. متخافيش !!!
وصل سريعاً إلى المشفى فرع القاهرة ليترجل من السيارة حاملاً "ملاذ" ليصرخ بالأطباء و الممرضين الذين ألتفتوا له بفزعٍ :
- هاتوا تروللي بسرعة يا شوية بـهـايـم !!!!
و بالفعل أحضروا فراش نقل المرضى و عندما حاول طبيب ما أن يمسك هو "بملاذ" عنه صرخ به "ظافر" بنبرة أخرسته أمراً إياه بأن يبتعد إلى الخلف .. وضعها "ظافر" ليتجهوا نحو غرفة العناية المركزة ، أنتظر "ظافر" بالخارج جالساً على المقعد و قدميه تهتز بتوترٍ ، عيناه تجول هنا وهناك ذلك الذي لا يؤثر به شئ .. لا يعلم لمَ تعلق بها في الفترة الأخيرة و لذلك أمر بأن يجلب جميع المعلومات عنها ، و علِم وقتها أن تلك الفتاة الناضجة هي نفسُها تلك الطفلة العنيدة الذي أنقذها من براثن أبيه في ذلك الوقت رُغم صِغر سنه بذلك الوقت .. و عند تلك النقطة إزداد تعلقه بها فهو كان يشك من البداية أنها تلك نفسها .. فعيناها السمراء الواسعة تلك من الصعب نسيانها فمقلتيها التي تجنع بين الحدة والبراءة حُفرت في ذاكرته و أؤرخت بين ثنايا قلبه وروحه ، لن يجعبها تبتعد بعدما وجدها أخيراً ..!!
تذكر عندما سرد له "صلاح" الكثير عنها ..
• عودة إلى الوقت السابق •
- ملاذ خليل الشافعي .. عندها 24 سنة وأختها عندها 22 .. و زي مـ حضرتك عارف يا ظافر باشا أن ملاذ الشافعي عندها شركة كبيرة بأسمها وليها كذا فرع في دول عربية مختلفة ، شخصيتها قوية جداً وصعب حد يتحداها دة غير أنها بتدرب بوكس و ملاكمة .. بتحب الرسم بس مش بتعرف ترسم وبتحب الموسيقى الهادية الكلاسيكية و بتعشق القهوة ، أكتر حد بتحبه في حياتها أختها وللأسف أختها دي نصها السُفلي مشلول وقاعدة على كرسي من وهي صغيرة بسبب الحادثة لما كانت "براءة" أختها موجودة مع مامتها وبابا لما كانت صغير و الحادثة دي أثرت عليها .. ولحسن حظ ملاذ أنها كانت عند جارتهم في الوقت دة ، ملاذ رغم أنها كانت صغير في الوقت دة بس هي حاولت تساعد أختها بس دة قدر ربنا .. و من ساعتها و أختها براءة بتكرهها جداً و لما ملاذ هانم بتروحلها البيت عشان تطمن عليها دايماً أختها بتطردها وبتهينها و مع ذلك رغم أن ملاذ عندها كرامة بس اللي عرفته أنها مستعدة تدوس على أي حاجة و أي حد عشان خاطر أختها وعُمرها مـ جرحتها بالكلام أو حتى قالتلها ليه بتعاملها كدا .. براءة دي قاعدة مع ست طيبة وغلبانه أسمها فتحية .. فتحية بتحب ملاذ و براءة بس صعبان عليها ملاذ عشان المعامله اللي بتعامل بيها براءة و أنها مشيلاها مسؤلية شللها دة رغم أن بالفعل ملاذ عرضت حالة أختها على أشهر ألأطباء جوة مصر وبرا وكلهم بيقولوا أنها يكاد يكون مستحيل ترجع تمشي على رجليها عشان الحادثة كلنت من وهي صغيرة وفات عليها وقت كتير .. و ملاذ قاعدة في شقة كبيرة لوحدها في المعادي .. و من سنة طلع خبر في الجرايد أنها مخطوبة لعماد دراعها اليمين في الشغل بس لما عرفت و أطأست ( دورت كويس ) لقيت أنها قالت كدة عشان عماد دة كان في night club مع واحدة في وضع مُخل و عشان "ملاذ" تغطي على الموضوع و سمعة الشركة متتأثرش بكلام الصحافيين طلعت و بكل جرأة قالت أن هي خطيبته و أن مستحيل طبعاً حد يبقى خاطب "ملاذ خليل الشافعي" و يبص برا !! وفعلاً بداً الموضوع يتنسي تدريجياً .. ومن فترة قريبة أتسرقت تصاميم show بتاعها وبتاع راجل أعمال كبير و لحد دلوقتي مش عارفين لسة مين اللي سرق التصاميم دي .. و دي كانت المعلومات اللي قدرت أجمعها يا ظافر باشا ..!!!
• عودة إلى الوقت الحالي •
أفاق على صوت هاتفه يرن ، أمسك به بوهنٍ ليجيب قائلاو بنبرة متعَبة :
- في حاجة يا أمي ؟!
صرخت السيدة "رقية" على الهاتف و هي تجءر بعنفٍ يدل على خوفها على أبناءها :
- أنتَ فين يا ولدي .. وفين باسل أخوك يابني .. حرام عليكوا ليه بتعملوا أكده فيا أنت مش موچود و اخوك باسل خد البنيّة اللي أسمها رهف ومشيوا و أخوك الصغير مرمي في المشتشفى " المستشفى" محدش عارف عنه حاچة و أنت مانعني اروح حتى أطمن عليه .. أنتوا عايزين تموتوني يابني !!!
وضع "ظافر" يده على رأسه و الصداع يكاد يهلكه .. و لكنه ردّ بنبرة حاول أن يجعلها هادئة رغم النيران و البراكين المنفجرة داخله :
- يا أمي أهدي .. أنا في مصر دلوك "دلوقتي" في حاجة مهمه هخلصها و هاچيلك .. ومتجلجيش "متقلقيش" على مازن أنا متابع أحواله و هو بجى "بقى" بخير و هيطلع من المستشفى قريب .. أنا لازم أقفل يا أمي هخلص وهكلمك ..
قال ليُنهي المكالمة ليطرح بهاتفه أرضاٌ بإنفعال .. و لأول مرة تتذبذب مشاعره بتلك الطريقة .. فإن حدث لها شئ سيجعل ذلك الـ "سالم" يكره اليوم الذي ولِد به ، لا يستطيع محو مشهد ضرب الحقير لها ، شعر بخنجرٍ ينغرز بقلبه مقطعاً إياه أشلاء .. أمسك برأسه بأطراف أصابعه يرمق الغرفة التي هي بداخلها بثباتٍ ظاهري ، و ما يخشاه حقاً أن يحبُها فهو بالآونة الأخيرة أحب وجودها جواره ..
نفى برأسه بسرعة و هو الذي عاهد نفسه ألا يميل .. وجد الطبيب يخرج من غرفة العناية المركزة ليثب "ظافر" مستطرداً بقلق حاول ألا يظهره :
- خـيـر يا دكتور ؟!!!
أبتسم له الطبيب ببشاشة وهو يقول :
- الأنسة كويسة يا ظافر بيه ..هي واضح أنها أتعرضت لصدمة دة اللي خلى يجيلها ضيق في التنفس خاصةً انها عندها مرض الربو أصلاً .. بس للأسف هي حالياً وضعها النفسي مش كويس ، ياريت حضرتك تحاول تخفف عنها شوية دة غير ان هي مش واكلة من الصبح ومناعتها ضعيفة ..
قطب "ظافر" حاجبيه لمرضها الذي لم يلاحظه عليها ، أومأ للطبيب مستطرداً بهدوء :
- هي فاقت ؟ أقدر أدخلها ؟
أومأ الطبيب قائلاً بإبتسامة مهذبة :
- أكيد طبعاً أتفضل ..
ليكمل بإبتسامة مهتزة بقلقٍ :
- بس يا ظافر بيه الأنسة في أثار ضرب على وشها .. أنا كنت هبلغ البوليس بس قولت أقول لحضرتك الأول و آآآ
اخرج "ظافر" لُفافة تبغ بنية اللون من جيبته ، أشعلها بقداحته الذهبية و عيناه تراقب الطبيب الذي إزدرد ريقة موجهاً نحوه سهامٍ من النظرات كفيلة بأن تجعله مرتعبٍ ، أقترب منه بخطوات بطئة مدروسة ، أبتسم "ظافر" أبتسامة خفيفة جعلت ذلك الطبيب ينظر بالأسفل ، ليمد "ظافر" كفيه ليمسح على تلابيب قميص الطبيب المسكين ، نفث عبق سيجارته بوجه الأخير ليسعل بحدة ، و بعينان محذِرتنان ونبرة واثقة قال :
- ومين اللي قالك يا شاطر أن ملاذ عليها أثار ضرب .. أنا بقول تخليك في شغلك أحسن عشان تعرف تعيش ..!!!
أمسك "ظافر" بالسيجلرة ليدفنها في كف ذلك الطبيب الذي شهق بحدة ليهتف "ظافر" بسُخرية :
- معلش يا دوك نسيت أن السجاير غلط في المستشفى ..
دفعه "ظافر" من أمامه تاركاً إياه يفرك يده بحدة ، فتح باب الغرفة بطئٍ حذر ليجدها مستيقظة تجلس نصف جلسة على الفراش بينما خصلاتها منسدلة على كلتا أكتافها ، تألم قلبه عندما لاحظ وجنتها الحمراء أثر صفعة ذلك الحقير لها ، يقترب من الفراش ليجلس على طرفه متمعناً النظر بوجهها الطفولي والأنثوي بالوقت نفسه ، عيناها السمراء الشاردة تنظر إلى الفراغ بتعابيرٍ غامضة لم يستطيع تفسيرها ، مدّ كفه لوجنتها الملتهبه ليتلمسها.. وجدها ساخنة كالنار المشتعلة لتبعد "ملاذ" وجهها عن مرمى كفه الدافئ ليعود "ظافر" ويتلمس وجهها قائلاً بأنفعال :
- أثبتي !!!
اقترب منها "ظافر" أكثر مطالعاً وجنتيها بتركيزٌ شديد ، نظرت "ملاذ" إلى عيناه الرمادية التي أختطلت مع لون أخضر طفيف جعلت منهما مزيجاً رائعاً ، تمعنت النظر بوجهه مستغلة فرصة قربه منها بذلك الشكل .. فهي لن يحق لها كثيراً أن تراه بقربٍ هكذا .. لازالت عيناه جذابة كما هي منذ صغره .. دافئة .. رائعة .. قوية ، تغلغلت رائحة عطره الرجولي الجذاب إلى أنفها لتدغدغ روحها لتغمض عيناها ، وحين تلك النقطة أرتفع "ظافر" بمقلتيه قليلا و يطالع حدقتيها المسبلتان .. وجهها البرئ الذي لم يُلطخ بـ مستحضرات التجميل ليصبع ناعم وجذاب ، أنفها الشامخ وثغرها المكتنز الشاحب قليلاً ، عند تلك النقطة أبتعد عنها فوراً كمن لدغته عقرب .. فهو إن لم يبتعد الأن ربما سيفعل أشياء ليست صحيحة بالوقت الحالي
فتحت "ملاذ" عيناها ببطئ لتعود و تنظر أمامها ، برقت عيناها بوميض حقدٍ خالِصاً لتقول بنبرة متوعدة :
- مش هخليه يفلت بعملته !!! هدفعه التمن غالي أوي و أنا و أنت و الزمن طويل يا سالم !!!
وضع "ظافر" كلتا يداه بجيبه ليقول بصوت متحشرج أثر تأثره بقربه منها بتلك الطريقة :
- أنا اللي مش هسيبه وهخليه يتمنى الموت وميطولوش !!!!
- دة حقي أنا و أنا اللي هاخده بإيدي !!!
قالت "ملاذ" بشراسة ليقاطع ذلك التواصل البصري "فتحية" التي دلفت بعينان أمتُلئت بالدموع ، ركضت نحو "ملاذ" لتتلقاها في أحضانها و هي تقول ببكاءٍ :
- تعالي في حضني يا ضنايا .. مين يا حبيبتي اللي عمل فيكي كده !!!
شددت "ملاذ" على عناقها الدافئ لتستريح برأسها على صدرها الدافئ ، مسدت "فتحية" على خصلاتها كالطفلة الصغيرة و هي تقول بقلبٍ أموي مفطور :
- أنا كنت قلقانه من أنك تقعدي لوحدك يا حبة عيني الناس مبترحمش و أنتِ مينفعش تقعدي كدا من غير راجل !!! و بعدين فين خطيبك الزفت اللي أسمه عماد ؟!!
أبتعدت "ملاذ" عن أحضان تلك السيدة الحنون لتضم كفيها محاوطة إياهم و هي تقول بوهنٍ :
- أنا كويسة يا ماما فتحية متخافيش هو معمليش حاجة .. وعماد ميعرفش حاجة عن اللي حصلت .
قالت جملتها الأخيرة و هي تنظر إلى "ظافر" الذي وثب بشموخٍ ، علمت وقتها أنه جمع معلومات كثيرة عنها فلم تتفاحئ أبداً فهي كانت متوقعة ذلك .. "ظافر" ليس باليسير اللعب معه ..
أبتسمت السيدة "فتحية" لتعود شاهقة بعنف ضاربة يدها على صدرها :
- أيه اللي في وشك دة يابنتي اللي أتهجم عليكي هو اللي ضربك كدا ؟!!!!
أسبلت "ملاذ" عيناها بحزنٍ لتعود وتخفيه وراء قناع القوة و هي تقول بمزاحٍ زائف وداخلها حُطام :
- لو كنت فايقاله كنت ردتله القلم عشرة بس حظه أني أغمى عليا عشان مكنتش قادرة أتنفس ..
ربتت "فتحية" على خصلاتها بشفقة لتلتفت و هي تنظر إلى "ظافر" قائلة بوجهٍ بشوش :
- معلش يابني لامؤخذة أنشغلت في ملاذ .. مش أنت اللي كنت معاها لما براءة أختها كانت في المستشفى ؟!!
أومأ "ظافر" دون أن يتحدث لتبادر هي بحنو :
- أنت اللي أنقذتها مش كدا ، ربنا يحميك لشبابك يا بني ومتشوفش حاجة وحشة أوي .. ما شاء الله عليك طول بعرض بجمال وعيون ملونة و آآآ
-خلاص يا ماما فتحية !!!
قالت "ملاذ" بغيظ ليقهقه "ظافر" و هو يرد بلباقة :
- دة من ذوقك يا حاجة ..
• • • •
- يعني هو قالك أنه هييچي ياما طيب ميتى ؟ "أمتى" ؟!!
قالت "ملك" بقلق لتردف والدتها بقلقٍ أكبر :
- معرفش يا بتي والله أنا خايفة على أخواتك قوي .. طب أتصلي أكده بالمستشفى اللي هنا عايزة أسمع صوت مازن يابتي وحشني قوي ...
أشفقت "ملك" على والدتها لتومأ بالإيجاب ، جلبت هاتفها لتتحدث مع مشفى "الهلالي" .. أوصلت الممرضة الهاتف إلى أخيها الذي أستطرد بنبرة فاترة - خير يا ملك في حاجة ؟!!
صرخت "ملك" بفرحة و هي تقول :
- مازن الحمدلله أنك رديت .. أنت بخير يا اخوي ؟!!
أقتربت منها السيدة "رقية" سريعاً لتلتقط الهاتف من بين يداها و هي تُردف بسعادة شديدة :
- مـازن .. وحشتني يا جلب أمـك !!
تنهد "مازن" بحرارة ليتمتم :
- أنا كويس يا أمي متقلقيش و هخرج من المستشفى بكره أو بعدُه بالكتير ..
أنتفضت والدته بحنان أموي وهي تقول :
- بچد يا ضنايا ؟!! أنا هبجى "هبقى" أقول لباسل أخوك يروح يچيبك يا حبيبي ..
أغمض "مازن عيناه و هو يقول بإصرارٍ قوي :
- أنا مش هاجي لوحدي يا أمي .. عاملكوا مفاجأة هتعجبكوا !!! ، أنا هقفل دلوقتي ..
أغلق الخط ولم ينتظر ردّها ليلقي بالهاتف أمامه بغضب شديد ليمسك بذهنه يضغط عليه .. برزت الشعيرات الدموية داخل مقلتيه جازاً على أسنانه كما لو أنه فقد عقله ..
نهض بعنف ليهادمه ذلك الدوار المفاجئ ، أستند على الكومود ممسكاً بمقدمة رأسه ، عاد لإتزانه ليهرول نحو الباب دالفاً إلى خارجها ، سار بخطوات سريعة إلى مكتب مدير مشفى "الهلالي" ليدفع الباب بعنف و عينان يتطايران منهما الشر ، نهض المدير بخوف و هو يقول :
- في حاجة يا مازن باشا أيه اللي خرجك من أوضتك أنت لسة تعبان و آآ ..
أمسك "مازن" بتلالبيبه صارخاً في وجهه بصرامة :
- هــي فـيـن !!!
- مـ .. مـين يا باشا !!!
قال المدير بتلعثم و هو يطالعه بغرابة ، أفرغ "مازن" شحنة غضبه بذلك المسكين ليكور كفه ملكماً إياه ، طُرح المدير أرضاً ليزحف إلى الوراء متمتماً برجاءٍ حار :
- يا باشا قولي بس مين دي اللي بتسأل عليها و أنا هقولك ..
- فـريدة !!!!!
قال "مازن" و هو ينحنى بجزعه قابضاً على عنقه ، لم يكن طبيعياً بالمرّة عندما نُطق أسمها من بين شفتيه ، عيناه محمرتان وأذنبه تنفس عن النيران الكامنة به ، شاش طبي محاوط رأسه ليزيد من الألم الفتاك الذي يشعر به ، أرتجف جسد المدير ليلهث بوجهٍ محتقن :
- فـ فـريدة .. مين يا .. يا باشا سيبني أبوس إيدك !!! ..
نفضه "مازن" من يده ينظر له بتقزز ، وضع الأخير كفه على نحره يحكه بعنف و هو يسعل بحدة ، لم يكن "مازن" يعي ما يحدث .. عيناه غائمتان بشرٍ مخيف :
- مش هسيبها .. فريدة بتاعتي أنا بس !!!!!
• • • •
- كُلي يا حبيبتي الدكتور بيقول انك مش بتهتمي بصحتك كويس ....!!
أدخلت "فتحيه" المعلقة الممتلئة بالحساء داخل فمها رغماً عنها ، ابتعلت "ملاذ" المعلقة بصعوبة قائلة بمزاح :
- حرام عليكي يا ماما أفرضي كنت شرقت و موت دلوقتي ؟!!!
ضربت "فتحية" كتفها قائلة بتوبيخ حاد :
- بس يا ملاذ بعد الشر عليكي من الموت يحبيبتي ..!!!
وقف مستنداً على جدار الباب عاقداً ذراعيه معاً يراقبها بتفرس ، همست شفتيه بخفوت شديد و قد تبدلت ملامحه سريعاً :
- بعد الشـر عليكي !!!
أمسكت "ملاذ" بكف "فتحية" التي تعيد الكرة لتجعلها تأكل رغماً عنها ، همهمت "ملاذ" بإبتسامة بسيطة و عينان قويتان لاتُهزم :
- روحي أنتِ يا ماما فتحية عشان تاخدي بالك من براءة مينفعش نسيبيها لوحدها كدا !!!
فرغت "فتحية" ثغرها للحظة .. بعد ما فعلته "براءة" بشقيقتها و بعد أن جعلتها تخسر عملاً مهم كهذا ما زالت " ملاذ" تفكر بها وبراحتها ، نكست عينان "فتحية" بحزن .. أشفقت بشدة على "ملاذ" ، فرت دمعة هاربة من بين عينان تلك السيدة البسيطة لتحاوط وجه "ملاذ" ترتب خصلاتها المموجة بإثارة و هي تقول بنبرة شارفت على البكاء :
- ربنا يحميكي يابنتي و يخليكي ليا و ميحرمنيش منك أبداً ، متقلقيش يا ضنايا براءة مع واحدة صحبتي من الجيران و بتاخد بالها منها كويس ، وبعدين مين اللي قالك اني هسيبك بس و انتِ في الحالة دي !!
- لاء يا ماما فتحية .. انا عارفة براءة أختي مش بترتاح مع أي حد وهي بتحبك وبترتاح معاكي أنتِ بس ..
تظن أنك تقاوم ذلك الحزن الذي يدفعك على حافة الانهيار .. لكنك في الواقع تنطفئ مع كل بقعة من الحزن تُكئب حياتك لتصبح كالذين قُبضت أرواحهم .. ولكن أجسادهم لازالت تمشٍ على الأرضية ، تتحدث بهدوء .. عيناه توحي قوة ليست باليسيرة ، و لكن داخلها ؟ خالقها وحده من يعلم كم تألمت روحها ، تمنت لو أن تصرخ باحضن إحدهم ، لو أن تُفرغ ما به من حزنٍ مكبوت .. و لكن "ملاذ" ليست الفتاة التي تبكي على أطلال روحها .. هي ليست ضعيفة لتبكي أمام أحدهم ، و لكن ذلك الوقت سيمضي .. سيمضي كما لو كان كـ عبور شاحنه فوق روحك لكنه سيمضي !!!!
- متقلقيش عليا والله .. ظافر معايا .. آآآ قصدي ظافر باشا موجود مش هبقى لوحدي !!!
تعمدت قول أسمه مزيلة ذلك التكلّف المزعج ، و ما أجمل أسمه من بين شفتيها .. و ما أجمل لَفظ أسمه بلسانها ، أكد "ظافر" على حديثها موجههاً كلماته إلى "فتحية" و هو يقول بنبرة واثقة :
- أيوا يا مدام أنا هبقى معاها متقلقيش وروحي لأختها عشان متسيبهاش لوحدها ، دة غير ان الدكتور قال أنها هتمشي ..
- بس آآآ ..
تمتمت "فتحية" بتردد لتقاطعها "ملاذ" بحدة زائفة :
- مافيش بس يا ماما يلا روحي عند براءة هي محتجالك أكتر مني !!!
- حاضر يا قلب ماما فتحية .. لو عوزتي أي حاجة يا حبيبتي قوليلي ..
أومأت "ملاذ" بإبتسامة طفيفة لم تصل لعيناها ..
أقتربت السيدة "فتحية" لتجذب "ملاذ" إلى أحضانها ، تشبثت بها "ملاذ" بقوة تتمنى أن لو تبتعد عن ذلك العناق الدافىٍ الذي رحب بها ، دفنت وجهها بصدرها تمنع حالها بقوة عن الأنهيار تواً ، أوقات كثيرة لا نريد الأنعزال عن العالم .. بل نريد الإنعزال عن أنفسُنا .. عن كل من حولنا .. عن آلامنا وتمزق روحنا .. عزلتنا عن العالم لن تُجدي نفعاً ، نزعت "ملاذ" نفسها من بين أحضانها لتخرج "فتحية من الغرفة لتخبر "ظافر" بضرورة التحدث معه لتتبدل ملامحها إلى الغموض ، ذهبا إلى كافتريا المشفى ليجلسا مقابل بعضهما البعض ، نظرت له "فتحية" و هي تتمتم بتوترٍ :
- أنا عارفة يابني أنك مش فاضي بس انا مش هاخد من وقتك كتير ، أنا مش طالبة منك غير أنك تاخد بالك من الغالية بنت الغاليين دي ، ملاذ ملهاش حد في في الدنيا يا بني أبوها و أمها ماتوا في حادثة من وهي صغيرة و أتربت على إيد واحدة جيرانهم ربنا يباركلها و انا قريبتها .. للأسف يا بني حتى الأخت اللي طلعت بيها "ملاذ" من الدنيا واللي هي براءة اللي بتكرهها جداً ، براءة بتحقد على أختها الكبيرة دايماً وشايفة أن هي سبب اللي هي فيه ، أمبارح سمعت براءة بتتكلم في الموبايل وكانت بتقول أن البنت الجاسوسة اللي محطوطة في شركة "ملاذ" واللي سرقت تصاميم عرض ملاذ و اللي عماد حابسها عنده في المخزن قالت كل حاجة و أعترفت عليها ، لما سمعتها حسيت أن أد أيه ملاذ وحيدة في الدنيا ملهاش ضهر تتسند عليه .. بس أنا عارفة ملاذ كويس مستحيل تبين زعلها قدام حد حتى لو أغلى شخص في حياتها ، أنا كبيرة يا بني وعندي خبرة في الدنيا ونظرات عينك فاضحاك .. وبسهولة أقدر أعرف أنك حبيتها ، خد بالك منها يابني وحياة أغلى حاجة عندك .. ملاذ ملهاش حد يا ظافر باشا خُد بالك منها
• • • •
سار "ظافر" بخطوات سريعة صارمة تكاد تطوى الأرض من أسفله ، إصرارٍ كبير يقفز من عيناه معاهداً أن التراجع ليس من شيمه ، فتح الباب سريعاً ليجدبها لازالت تجلس كما هي تحدق في اللاشئ بعينان شاردتان ، وبدون مقدمات أقترب من الفراش ليقف أمامها واضعاً كِلتا كفيه بجيبه ليسطرد بنبرة جهورية :
- تتجوزيني ؟ !!!!
الفصل السادس:
دلفت "فريدة" إلى الغرفة القابع بها "مازن" و على يدها صينية بها تحمل طبق من الحساء الساخن ، وجدته مستنداً على فخذيه برمفقيه محاوطاً رأسه بعينان مغلقتان ، تنحنحت "فريدة" لتلفت أنتباهه و هي تتمتم :
- الأكل ..
-مش عايز ..!!!
قال بأقتضاب و هو لازال على وضعه ، تقدمت منه واضعة الصينية على الكومود بجانب الفراش قائلة ببرودٍ و رسمية :
- الأكل عندك أهو .. هسيبهولك لحد مـ تجوع و آآآ
شهقت "فريدة عندما دفع "مازن" الصينية لتسقط على الأرضية ليتناثر الحساء مزمجراً بقوة واثباً بأندفاع :
- بقولك مـش عـايـز أنتِ مبتفهميش !!!
تراجعت "فريدة" للخلف من غضبه الجحيمي ، جف حلقها و هي تراقب وجهه شديد الإحمرار وعيناه اللتان تحولتان لجمرتين من الجحيم ، صرخت "فريدة" و هي تقول بلا وعي وحدةٍ :
- أنت مش طبيعي .. أنت مريض مستحيل تكون طبيعي !!!!!
تخشبت عيناه عليها ليقترب منها موجههاً لها نظرات مرعبة ، أبتعدت "فريدة" عدة خطوات للخلف حتى وجدت أنها حوصرت بين يداه فـ خلفها ذلك الحائط المنيع و من أمامها صدره العريض ، إزدردت ريقها تراقب وجهه الجامد وعيناه الباردتان ، لم تجد بمقلتيه ذرة من الشفقة .. لم تجد سوى جحودٍ و قسوة جعلتها ترتعد من الداخل مما هي مقبلة عليه ..!!
أفاقت على صوته المخيف و هو يقول بنبرة مشتعلة :
- كنتِ بتقولي أيه يا حلوة ؟!!!
أستعادت رباطة جأشها لتنتصب أمامها قائلة بشجاعةٍ :
- بقول أنك مستحيل تكون طبيعي ..لأن دي مش أفعال ناس سويّة !!!
تلاعبت أصابعه على وجنتيها و هو يقول بوقاحةٍ بالغة :
- خافي على نفسك يا فريدة .. أنا مبرحمش !!!!
أبعدت وجهها بتقزز و هي تنظر له بإشمئزاز قائلة :
- أنا مبخافش ..!!!
رمى بها بنظرة متوعد ليلتوى ثغره بإبتسامة خبيثة و هو يقول متلاعباً بأعصابها التالفة :
- أخبار أخوكي الصغير أيه .. "يزيد" !!!!
جحظت عيناها تلك المرة بصدمة و كأنه أسقط دلواً بارداً فوق رأسها ، تعالت نبضات قلبها فهو علِم نقطة ضعفها الوحيدة لترتجف شفتيها أمام عيناه التي تراقبها كالصقر ، نظفت حلقها بعد أن شعرت بجفافه التام لتقول بنبرة مهتزة :
- أنت تعرف يزيد منين ..!!! ، أسمع ، ورحمة أبويا و أمي لو لمست شعرة من أخويا هندمك باقي حياتك !!!!
تعالت ضحكاته الصاخبة الرجولية مقهقهاً بتسلية ليبتعد عنها .. سرعان ما ظهر وجهه الحقيقي لتتوّحش حدقتيه مكشراً عن أنيابه ، أمسك بخصلاتها البندقية بقوة يكاد أن ينزع جذورها بين يداه ، شهقت "فريدة" بقوة لتضع يدها على كفه الغليظ تحاول أن تبعده و هي تصرخ به بعنف :
- أبعد عني يا حيوان .. ألـحـقـونـي !!!
صرخت بكل ما أوتيت من قوة ليكتم "مازن" صراخها بكفه الأخر ، أشتدت قبضته على خصلاتها محدقاً بحدقتيها الثابتتان ، أراد أن يرى ولو ذرة من الخوف في عيناها ولكن تطايرت آماله و هو لازال يرى عيناها تحطم ذلك العهد الذي أخذ به على نفسه على أن يذُلها ويجعلها كالحشرة يتركون بصمات أحذيتهم عليها، أتخذ وعداً بأن يمزق تلك الفتاة أشلاء مبعثرة حتى لا تعود و تتحدى أسيادها ، أعاد رأسها للوراء و الألم الذي يعصف بخصلاتها التي تكاد تتمزق من جذورها لا يُحتمل ، ظهر عنقها الطويل أمامه لينظر لها برغبةٍ سرعان دفن أنفه بعنقها و رائحة زهور اللافندر المنبعثة منها تجعله كالثمل الضال .. أغمضت "فريدة" عيناها بألمٍ جسدي و نفسي ، تشعر بروحها تتمزق عندما تعصف أنفاسه الغاضبة بشرة نحرها الرقيق ، ظنت أنه سيفعل ما أراد فعله بتلك الفتاة التي نجت من بين براثنه ، ولكنها عادت لفتح عيناها بقوةٍ تكاد تخرج من محلها عندما أستطرد بأنفاسٍ لاهثة :
- هتجوزك يا فريدة ، غصب عنك أو برضاكي هتجوزك ..
شهقت بقوة لتلكم صدره بقوة ليبتعد "مازن" ينظر لها بحدقتان زائغتان لاهثتان، بللت شفتيها الجافة مبتعدة عدة خطوات للخلف و نبرته التي تشع أصراراً عميقاً أخافتها ، هي تعلم إن وضعها برأسه لن يتركها إلا وهي بقايا انسانه محطمة، عند تلك النقطة نفت برأسها بقوة هيستيرية و هي تُردد :
-مستحيل .. مستحيل أتجوزك فـاهـم !!!!
-بـرا ..
قال ببرودٍ مشيراً نحو الباب وكأنه لا يأخذ برأيها بل جوازها منه هو واقع محتوم ستتقبله رغماً عنها
• • •
تجولت "رهف" في منزلها بحرصٍ تتفرسه ، رأت غرفة مغلقة لتتجه نحوها ، طرقت على الباب بخفة لتسمع صوته المحبب إلى قلبها مردفاً :
- أدخلي يا رهف ..
كم تعشق أسمها عندما يخرج من ثغره ، أدارت مقبض الباب لتدلف ، وجدت الغرفة يُطغى عليها اللون الرمادي و ذلك الفراش الوثير الذي يتوسطها ، تنحنحت بإحراج عندما وجدته مستلقي على الفراش و جزعه العلوي عاري واضع ذراعه الملئ بالعضلات على عيناه ، أعتدل "باسل" ليجلس على الفراش ناظراً لها بحدقتيه السمرواتين الناعستان :
- عايزة حاجة يا رهف ؟
نظرت "رهف" أرضاً بوجهٍ متورداً وهو تقول بقنوط :
- ألبس حاجة يا باسل ..
رفع "باسل" كِلتا حاجبيه قائلاً بمزاحٍ :
- بس أنا مش بعرف أنام غير وانا قالع التيشرت وبعدين انا نايم ف أوضتي ..!!
رفعت "رهف" عيناها له لتلتفت نحو الباب قائلة بحزنٍ :
- أسفة أزعجتك ..
نهض "باسل" سريعاً من على الفراش ليلتقط ذراعها مانعاً إياها من الذهاب و هو يقول :
- أستني يا بنتي أنتِ بتقفشي ليه كدا أنا كنت بهزر والله .. خلاص يا ستي هلبس اهو عشان خاطر خدودك الحمرا دي !!!
نظرت "رهف" أرضاً لتبتسم بخجلٍ ، ألتقط "باسل" كنزته ليرتديها سريعاً ثم نظر إلى "رهف" قائلاً بتساؤل :
- قوليلي بقا كنت عايزة حاجة ؟ الأكل برا عندك على السفرة طلعيه وكلي .. وفي التلاجة اللي أنتِ عايزاه و آآآ....
- أنت زعلان مني صح ..؟
بترت "رهف" عبارته قائلة وهي تنظر بالأسفل بحزنٍ أعتلى صفحات وجهها ، قطب "باسل" حاجبيه بدهشة لتعتلي أبتسامة حانية وجهه ليمسك بذقنها رافعاً إياها بلطف قائلاً بحنو :
- أولاً أياكي تنزلي عينك قدام أي حد حتى لو أنا ، ثانياً بقا أنا مقدرش أزعل منك أساساً وانتِ معملتيش حاجة تزعل ..
شخصت أنظارها على عيناه السوداوية البرّاقة ، لم تستطيع وصف مشاعرها نحوه ، كل ما تعلمه أنه حنون كأبيها التي تفتقده بشدة الأن ، أبتسمت بحزن عندما تذكرت أبيها وذلك الرجل المحتل مكانهِ ، أغرورقت عيناها بالدموع عندما تذكرت ما كان يفعله بها ذلك الرجل ومحاولته للتحرُش بها وأنتهاك حُرمة جسدها
قطب "باسل" حاحبيه و هو يرى الدمعة التي فرت من عيناها بل و نبرتها التي تقول أنها على مشارف البكاء :
- باسل أنا شوفت حاجات كتيرة وحشة في حياتي ، فجأة لقيت بابا بيضيع من بين أيديا .. كان مريض وبيحتاج أدوية كتير و أحنا وقتها ظروفنا مكانتش أد كدا بس أنا كنت بحاول أوفرله اللي أقدر عليه كنت بشتغل صبح وبليل و كنت بدرس كمان ، و ماما مكانش بيهمها حاجة وكانت بتكره بابا أوي وكان نفسها يموت النهاردة قبل بكرة عشان تعيش حياتها ، و فعلاً بابا توفى بعد شهر ووصى ماما عليا ، و أول مـ العدة بتاعة ماما خلصت أتجوزت على طول يا باسل كأنها مصدقت ، و ماما حبته جداً لدرجة أنها كتبت كل حاجة بابا سابهالنا ليه و حتى الشقة كتبتها بأسمه .. و كنت دايماً بشوف الراجل دة بيبصلي بنظرات مكنتش مرتحالها لحد مـ فيوم ماما كانت برا و أنا كنت نازلة رايحة الشغل .. و بكل وقاحة دخل أوضتي وكان عايز آآآ ..
أظلمت مقلتيّ "باسل" لترتجف خلايا جسده غضباً شديداً ، نبض فكه كالطبول ليغمض عيناه بتوعد ليقول يحثّها على الكلام :
- كملي ..
إزدردت ريقها لتكمل بقية الحديث بنبرة متألمة :
- و لما روحت أقول لماما مصدقتنيش .. أفتكرت أني بقول كدا بس عشان أخليهم يطلقوا عشان هي عارفة أني مش برتاحله ، بدأ أنه يتمادى لما بقى واثق أن ماما مش هتصدقني و أنا للأسف مكنتش بفتح بوقي ولا بقول لحد حاجة ، لدرجة أنه في يوم خلاص كان هينفذ اللي في دماغة وقتها أنا هربت من البيت وقابلت أخوك و للأسف هو كمان كان هيكمل عليا ، أنا مريت بظروف صعبة يا باسل أنا حقيقي تعبانة أوي و حاسة أن روحي بتتسحب مني بالبطئ !!
أنفجرت في بكاءٍ مرير ليجذبها "باسل"إلى صدره يدفن وجهها بجانب قلبه تحديداً ، حاوط خصرها النحيل بقوة و باليد الأخرى ربّت على خصلاتها الحريرية لتحاوط هي الأخرى خصره و بكائها يزداد ، تذكرت عناق والدها الذي مان يشبه عناق "باسل" بالضبط ، فزوجها يمتلك دفئ والدها وحنوه المفرط ، شددت على خصره لتتبلل كنزته أثر دموعها ، مسح على ظهرها مغمضاً عيناه بألمٍ ، صوت بكاءها يتردد بأذنه ممزقاً قلبه تمزيقاً .. جسدها المرتجف بين يداه جعله يود لو أن يقتل كل من تسبب بنزول دمعاتها ، توعد أمام نفسه و أمام خالقه على أن لا يترك من أذاها وجعل تتذوق المرار كؤوساً ، ألتهبت عيناه بقوة لتصتك أسنانه ببعضهما حتى كاد أن يحطمهما ، أنحنى بعيناه لها عندما وجد جسدها يتراخى بأحضانه ، نبرتها الواهنة و عيناها الناعسة التي تشبه الغزلان ترتفع نحو عيناه قائلة بإرهاقٍ :
- أنا تعبانه و عايزة أنام ..
أنحنى بجزعه ليضع ذراع على ظهرها والأخر أسفل ركبتيها ليحملها بخفةٍ ، تشبثت "رهف" بعنقه بعفوية لتستند برأسها على صدره ، وضعها "باسل" على الفراش بلطفٍ شديد ليجدها قد نامت ، أنحنى نحوها وعيناه تتأمل كل إنشٍ بوجهها ، أمتدت أنامله لتُزيل العبرات العالقة بعيناها و على وجنتيها الناعمة ، مال أكثر مقبلاً جبهتها ليُطيل بالقبلة مغمضاً عيناه ليُشبع نفسه بتلك القبلة البريئة ، أبتعد ينظر لها بشفقةٍ .. ف هي لا زالت لم تُكمل العشرون ولكن عيناها الحزينة تخبرك بأن الهموم أثقلت ظهرُها ..
كاد أن يذهب حتى ينام خارج الغرفة ليجدها مشبثة بكفه الغليظ وهي لازالت مغمضة العينان لا تعي ما تتفوه به :
- بابا متمشيش أرجوك .. متسبنيش لوحدي يا بابا خليك جنبي !!!!
رقت عيناه السمراء ليبتسم بحنوٍ نحوها ، و سرعان ما أستلقى بجانبها واضعاً ذراعه المفتول أسفل رأسها والأخر حاوط خصرها النحيل ، أستند برأسه على خاصتها دافناً وجهه بخصلاتها لتكن نائمة داخل أحضانه الدافئة .. وبين ذراعيه الحنونة ..
• • • •
أمسك ذلك الرجل بالهاتف المحمول واضعاً إياه على أذنه و هو يقول بنشوةٍ تجلت في نبرته :
- أنا عملت اللي قولتيلي عليه يا ملاذ هانم .. بس أهم حاجة تحليلي بؤي يا ست البنات !!!
على الطرف الإخر ، زمت "ملاذ" شفتيها ليتقلص وجهها بإشمئزاز قائلة :
- أي الأسلوب المقرف اللي بتتكلم بيه دة مش انا قولتلك هديلك الفلوس مش عايزة رغي كتير بقا ..
لم تنتظر إجابته لتُنهي المكالمة بنفاذ صبر ، وضعت الهاتف على الأريكة وقد أصابها ضيقٌ كبير ، صدرها مختنق وكأن الهواء لا يصل إلى رئتيها ، أنزوى مابين حاحبيها و هي تقول موبخة نفسُها :
- مالك يا ملاذ مش اللي عايزاه حصل و فضحتي عيلة الهلالي فضيحة مش هتتنسي بسهولة ؟!! أومال أنا مالي مخنوقة ليه وحاسة اني مش كويسة ..
نفت برأسها بقوة مبعدة تلك الأفكار عن ذهنها لتعود قائلة بأنفٍ شامخ :
- لاء يا ملاذ فوقي .. اللي مضايقة عشانه دة أبوه رفض يساعد أختك ودمر أسرة كاملة ، و لسة لحد دلوقتي أختي بتكرهني بسببه .. الرجالة كلهم ملهمش أمان ..!!!
صدح رنين الهاتف مجدداً لتنظر له بقنوط ، ألتقطته
لتضعه على أذنها مستطردة بنبرة فاترة :
- في أيه يا عماد ..
على الجانب الأخر .. زفر "عماد" بحزنٍ مغمضاً عيناه ، أخذ نفساً عميقاً متأهباً لتلك القُنبلة التي ستنفجر بوجهُها ، نظف حلقه لتتسلل العبارات من بين ثغره قائلاً :
- ملاذ آآآ .. أنا عرفت مين اللي سرق التصاميم بتاع ال show اللي كان لـ "سالم العياط" ..
أنتصبت "ملاذ" منتفضة معها حواسُها بالكامل قائلة بإنتباه :
- مين يا عماد !!!!
- لما عرفت البنت اللي خدتهم طلعت من قسم الحسابات .. لما جبتها وحبستها عندنا في المخزن وخليتها تعترف .. عرفت أن براءة أختك هي اللي بعتاها وهي اللي قالتلها تسرق التصاميم عشان تبوظلك شغلك !!!!!
توقف قلبها عن النبض .. أو هذا ما تخيلته ، سارت برودة غريبة في جسدها ، برقت عيناها بدموعٍ تسربت إلى حدقتيها لتشرد في اللاشئ .. ليسقط الهاتف من كفها ليستكين على الأرضية أسفلها تاركاً "عماد" ينادي عليها ، بدت وكأنها بعالمٍ منزوي عن ذلك العالم الشرير ، شعرت بشئٍ يكمن على صدرها مانعاً إياها في التنفس ، و لأول مرة تشعر أنها لا ترغب في التنفس .. بل لا ترغب في الحياة أبداً ، أستندت على الحائط بجانبها بصدرٍ يعلو ويهبط ، رفعت رأسها إلى الأمام تنظر إلى سقف الغرفة واضعة كفها على صدرها لا تستطيع التنفس ، جلست على الأرضية تشهق بقوة تشعر بأنها بين الحياة والموت !!!
تصببت عرقاً من جميع أنحاء جسدها رُغم ملابسها الفضفاضة ، وبصعوبةٍ شديدة أسترقت السمع للباب الذي يُضرب بعُنفٍ شديد ، تحاملت على نفسها لتنهض رُغم جسدها الذي بدأ بالتراخي ، توجهت نحو الباب بصعوبة مستندة عليه لتفتحه و ليتها لم تفعل .. فقد رأت أكثر وجهه تبغضه لتقول بصعوبةٍ ونبرة خافتة :
- سـالـم !!!!
دفعها "سالم" بذراعه القوي لتترنح "ملاذ" للخلف و هي تراه يدلف مغلقاً الباب خلفه و قد أرتسمت على وجهه معالم الخُبث و هو يقول بصوته المخيف :
- أيوا سالم يا ملاذ .. سالم اللي هيطلع عليكي القديم والجديد !!!!
ثم هبط بأنظاره متفرساً جسدها الرشيق و الملابس التي تظهر حدقتيه أمتلئت بالرغبة المُقززة ..!
• • • •
طرح بالمزهرية الموضوعة على الكومود أرضاً لتُبرز عروقه ، أشتدت عيناه أحمراراً ملتهباً ، لم يستطيع إخبار أخيه بما قاله مدير الجريدة ، هو موقن إن أخبره ربما يؤذي "رهف" لما تسببت لهم بفضيحة لن تُمحى بسهولة ، و لكن و للأسف لا مفر من إخباره .. سينتظر إلى الغد و من ثم يُخبره بما فعلته وجهاً إلى وجه ، مسح على وجهه بعصبية مفرطة لينظر لهاتفه الذي يرن ، أمسك به و بنبرة لاهثة قال :
- في حاجة يا صلاح ؟!
أجاب المدعو صلاح و عيناه تراقب ما أمر به "ظافر" كالصقر :
- أنا واقف قدام بيت "ملاذ" هانم زي ما حضرتك أمرتني ، و في واحد طلع البُرج و سأل البواب عن شقتها .. ولما سألت البواب مين دة قالي أنه سالم العياط يا ظافر باشا ..
لا .. ذلك كثير على أن يتحمله .. ماذا يُريد منها ذلك الذي صفعه بمكتبها ، تدفق الأدرينالين بأوردته عندما مرّ على ذهنه ما يُمكن أن يفعله لينتقم منها ، أنطلق كالذئب الجريح ملتقطاً مفاتيح سيارته و هاتفه ليعبُر الدرج سريعاً غير مُنتظر ذلك المصعد ، أستقل سيارته و لأول مرة من مجيئه لخبر أنتقال أبيه إلى المشفى يسوق بذلك التهور ، كاد أن يفتعل حوادث كفيلة أن تؤدي بحياته ولكن رغبته في الذهاب إليها والأطمئنان عليها من ذلك الـ "سالم" كانت أقوى بكثير ، وصل و أخيراً عبر ذلك الموقع الذي أرسله له "صلاح" حارسه و المكلّف بمراقبة "ملاذ" و جمع أدق المعلومات عنها ، ترجل من السيارة غير عابئاً بـ بابُها الذي تُرك مفتوحاً للعنان ، وجد "صلاح" بإنتظاره مخبره بالطابق التي تسكن به ليصعدا الأثنان لها
وقفا خلف الباب ليسترق "ظافر" السمع .. وجد "سالم" يصرخ بصوته الجهوري ونبرته الحاقدة :
- مش هسيبك يا ملاذ .. مش سالم العياط اللي يضحك عليه فــوقـي أنا مش عيل برياله سامعه !!!!
لم يجد "ظافر" رد من "ملاذ" .. أنقبض قلبه بألم من أحتمالية أن يكن فعل لها شئ يتمنى ان لا يحدث ، تراجع للخلف خطواتٍ قليله ليركض تلك المسافة مرتطماً بالباب بقوة ليسقط الباب محطماً ، غلت الدماء بدمه عندما وجد "ملاذ" مستلقية على الأرضية بسكونٍ تام مغمضة عيناها بينما "سالم" يشرف عليها صافعاً إياها بكل ما أوتي من قوة ، ركض "ظافر" نحوه ليبعده عنها ، سدد له لكمات ليتكوم "سالم" على الأرضية صارخاً بألمٍ بصوته الجهوري ليركله "ظافر" في معدته و "تحت الحزام" جاعلاً "سالم" يتلوى على الأرضية يجأر بقوة و هو يقول مقبلاً حذاء "ظافر" بدنائةٍ وبخس :
- أرحمني يا ظافر باشا أرجوك سيبني !!!
أنحنى له بجزعه ليقبض على فكه بقوة كادت أن تُسحق أسنانه ، تشنج وجه "ظافر" بوضوح وعيناه الملتهبة تُصدر شرارات جحيمية نحو "سالم" قائلاً بزمجرةٍ كالأسد :
- اللي يتجرأ ويتطاول على أسياده وعلى حاجة تخص ظافر الهلالي لسة متخلقش يا روح أمك .. و أنا هخليك تبوس رجلها هي وتتوسلها عشان تسامحك يا *****
أنتصب بقوة ليضغط على وجه "سالم" كالحشرة الحقيرة بحذائه البراق ليجعل من كرامته ورجولته خرقة ينظف بها الأرضيات ، ألتفت إلى "صلاح" ذو الجسد الضخم قائلاً بنبرة جحيمية :
- أربطه يا صلاح و وديه المخزن وخلي الرجالة يعملوا أحلى شغل معاه !!!
أوماً "صلاح" دون أن ينطق ، تركه "ظافر" ليتوجه نحو تلك المسجية أرضاً .. آلمه قلبه لرؤية خصلاتها المشعثة و وجهها الأحمر المكدوم وكنزتها التي تمزق جزء منها ، جلب "ظافر" إحدى الشراشف الموضوعة على الطاولة ليحاوط جسدها به ثم وضع ذراعٍ عند ظهرها والأخر أسفل ركبتيها ليحملها ، تراخى جسدها بين ذراعيه ليقترب بوجهه من وجهها ليجد أنفاسها بطيئة وكأنها تُصارع الموت ..
تجمعت الجيران أثر صوت الصراخ ليشهقوا جميعهم مشفقين على حال تلك الفتاة ، يتمنوا أن تكثُر أمثال "ظافر" بذلك المجتمع ، أنزوت إحدى الجارات لتمسك بهاتفها واضعة إياه على أذنها و هي تقول بفزعٍ :
- ألحقي يا ست فتحية في مصيبة!!!!
نزل بها الدرج بسرعة شديدة ليستقل السيارة واضعاً إياها في المقعد بجانبها ، ألتفت سريعاً ليحتل مقعده هو الأخر ، أدار السيارة ذاهباً إلى مشفى "الهلالي" و هو يقبض على كفها الصغير متمتماً بصدرٍ مهتاج :
- مافيش حاجة هتحصلك .. متخافيش !!!
وصل سريعاً إلى المشفى فرع القاهرة ليترجل من السيارة حاملاً "ملاذ" ليصرخ بالأطباء و الممرضين الذين ألتفتوا له بفزعٍ :
- هاتوا تروللي بسرعة يا شوية بـهـايـم !!!!
و بالفعل أحضروا فراش نقل المرضى و عندما حاول طبيب ما أن يمسك هو "بملاذ" عنه صرخ به "ظافر" بنبرة أخرسته أمراً إياه بأن يبتعد إلى الخلف .. وضعها "ظافر" ليتجهوا نحو غرفة العناية المركزة ، أنتظر "ظافر" بالخارج جالساً على المقعد و قدميه تهتز بتوترٍ ، عيناه تجول هنا وهناك ذلك الذي لا يؤثر به شئ .. لا يعلم لمَ تعلق بها في الفترة الأخيرة و لذلك أمر بأن يجلب جميع المعلومات عنها ، و علِم وقتها أن تلك الفتاة الناضجة هي نفسُها تلك الطفلة العنيدة الذي أنقذها من براثن أبيه في ذلك الوقت رُغم صِغر سنه بذلك الوقت .. و عند تلك النقطة إزداد تعلقه بها فهو كان يشك من البداية أنها تلك نفسها .. فعيناها السمراء الواسعة تلك من الصعب نسيانها فمقلتيها التي تجنع بين الحدة والبراءة حُفرت في ذاكرته و أؤرخت بين ثنايا قلبه وروحه ، لن يجعبها تبتعد بعدما وجدها أخيراً ..!!
تذكر عندما سرد له "صلاح" الكثير عنها ..
• عودة إلى الوقت السابق •
- ملاذ خليل الشافعي .. عندها 24 سنة وأختها عندها 22 .. و زي مـ حضرتك عارف يا ظافر باشا أن ملاذ الشافعي عندها شركة كبيرة بأسمها وليها كذا فرع في دول عربية مختلفة ، شخصيتها قوية جداً وصعب حد يتحداها دة غير أنها بتدرب بوكس و ملاكمة .. بتحب الرسم بس مش بتعرف ترسم وبتحب الموسيقى الهادية الكلاسيكية و بتعشق القهوة ، أكتر حد بتحبه في حياتها أختها وللأسف أختها دي نصها السُفلي مشلول وقاعدة على كرسي من وهي صغيرة بسبب الحادثة لما كانت "براءة" أختها موجودة مع مامتها وبابا لما كانت صغير و الحادثة دي أثرت عليها .. ولحسن حظ ملاذ أنها كانت عند جارتهم في الوقت دة ، ملاذ رغم أنها كانت صغير في الوقت دة بس هي حاولت تساعد أختها بس دة قدر ربنا .. و من ساعتها و أختها براءة بتكرهها جداً و لما ملاذ هانم بتروحلها البيت عشان تطمن عليها دايماً أختها بتطردها وبتهينها و مع ذلك رغم أن ملاذ عندها كرامة بس اللي عرفته أنها مستعدة تدوس على أي حاجة و أي حد عشان خاطر أختها وعُمرها مـ جرحتها بالكلام أو حتى قالتلها ليه بتعاملها كدا .. براءة دي قاعدة مع ست طيبة وغلبانه أسمها فتحية .. فتحية بتحب ملاذ و براءة بس صعبان عليها ملاذ عشان المعامله اللي بتعامل بيها براءة و أنها مشيلاها مسؤلية شللها دة رغم أن بالفعل ملاذ عرضت حالة أختها على أشهر ألأطباء جوة مصر وبرا وكلهم بيقولوا أنها يكاد يكون مستحيل ترجع تمشي على رجليها عشان الحادثة كلنت من وهي صغيرة وفات عليها وقت كتير .. و ملاذ قاعدة في شقة كبيرة لوحدها في المعادي .. و من سنة طلع خبر في الجرايد أنها مخطوبة لعماد دراعها اليمين في الشغل بس لما عرفت و أطأست ( دورت كويس ) لقيت أنها قالت كدة عشان عماد دة كان في night club مع واحدة في وضع مُخل و عشان "ملاذ" تغطي على الموضوع و سمعة الشركة متتأثرش بكلام الصحافيين طلعت و بكل جرأة قالت أن هي خطيبته و أن مستحيل طبعاً حد يبقى خاطب "ملاذ خليل الشافعي" و يبص برا !! وفعلاً بداً الموضوع يتنسي تدريجياً .. ومن فترة قريبة أتسرقت تصاميم show بتاعها وبتاع راجل أعمال كبير و لحد دلوقتي مش عارفين لسة مين اللي سرق التصاميم دي .. و دي كانت المعلومات اللي قدرت أجمعها يا ظافر باشا ..!!!
• عودة إلى الوقت الحالي •
أفاق على صوت هاتفه يرن ، أمسك به بوهنٍ ليجيب قائلاو بنبرة متعَبة :
- في حاجة يا أمي ؟!
صرخت السيدة "رقية" على الهاتف و هي تجءر بعنفٍ يدل على خوفها على أبناءها :
- أنتَ فين يا ولدي .. وفين باسل أخوك يابني .. حرام عليكوا ليه بتعملوا أكده فيا أنت مش موچود و اخوك باسل خد البنيّة اللي أسمها رهف ومشيوا و أخوك الصغير مرمي في المشتشفى " المستشفى" محدش عارف عنه حاچة و أنت مانعني اروح حتى أطمن عليه .. أنتوا عايزين تموتوني يابني !!!
وضع "ظافر" يده على رأسه و الصداع يكاد يهلكه .. و لكنه ردّ بنبرة حاول أن يجعلها هادئة رغم النيران و البراكين المنفجرة داخله :
- يا أمي أهدي .. أنا في مصر دلوك "دلوقتي" في حاجة مهمه هخلصها و هاچيلك .. ومتجلجيش "متقلقيش" على مازن أنا متابع أحواله و هو بجى "بقى" بخير و هيطلع من المستشفى قريب .. أنا لازم أقفل يا أمي هخلص وهكلمك ..
قال ليُنهي المكالمة ليطرح بهاتفه أرضاٌ بإنفعال .. و لأول مرة تتذبذب مشاعره بتلك الطريقة .. فإن حدث لها شئ سيجعل ذلك الـ "سالم" يكره اليوم الذي ولِد به ، لا يستطيع محو مشهد ضرب الحقير لها ، شعر بخنجرٍ ينغرز بقلبه مقطعاً إياه أشلاء .. أمسك برأسه بأطراف أصابعه يرمق الغرفة التي هي بداخلها بثباتٍ ظاهري ، و ما يخشاه حقاً أن يحبُها فهو بالآونة الأخيرة أحب وجودها جواره ..
نفى برأسه بسرعة و هو الذي عاهد نفسه ألا يميل .. وجد الطبيب يخرج من غرفة العناية المركزة ليثب "ظافر" مستطرداً بقلق حاول ألا يظهره :
- خـيـر يا دكتور ؟!!!
أبتسم له الطبيب ببشاشة وهو يقول :
- الأنسة كويسة يا ظافر بيه ..هي واضح أنها أتعرضت لصدمة دة اللي خلى يجيلها ضيق في التنفس خاصةً انها عندها مرض الربو أصلاً .. بس للأسف هي حالياً وضعها النفسي مش كويس ، ياريت حضرتك تحاول تخفف عنها شوية دة غير ان هي مش واكلة من الصبح ومناعتها ضعيفة ..
قطب "ظافر" حاجبيه لمرضها الذي لم يلاحظه عليها ، أومأ للطبيب مستطرداً بهدوء :
- هي فاقت ؟ أقدر أدخلها ؟
أومأ الطبيب قائلاً بإبتسامة مهذبة :
- أكيد طبعاً أتفضل ..
ليكمل بإبتسامة مهتزة بقلقٍ :
- بس يا ظافر بيه الأنسة في أثار ضرب على وشها .. أنا كنت هبلغ البوليس بس قولت أقول لحضرتك الأول و آآآ
اخرج "ظافر" لُفافة تبغ بنية اللون من جيبته ، أشعلها بقداحته الذهبية و عيناه تراقب الطبيب الذي إزدرد ريقة موجهاً نحوه سهامٍ من النظرات كفيلة بأن تجعله مرتعبٍ ، أقترب منه بخطوات بطئة مدروسة ، أبتسم "ظافر" أبتسامة خفيفة جعلت ذلك الطبيب ينظر بالأسفل ، ليمد "ظافر" كفيه ليمسح على تلابيب قميص الطبيب المسكين ، نفث عبق سيجارته بوجه الأخير ليسعل بحدة ، و بعينان محذِرتنان ونبرة واثقة قال :
- ومين اللي قالك يا شاطر أن ملاذ عليها أثار ضرب .. أنا بقول تخليك في شغلك أحسن عشان تعرف تعيش ..!!!
أمسك "ظافر" بالسيجلرة ليدفنها في كف ذلك الطبيب الذي شهق بحدة ليهتف "ظافر" بسُخرية :
- معلش يا دوك نسيت أن السجاير غلط في المستشفى ..
دفعه "ظافر" من أمامه تاركاً إياه يفرك يده بحدة ، فتح باب الغرفة بطئٍ حذر ليجدها مستيقظة تجلس نصف جلسة على الفراش بينما خصلاتها منسدلة على كلتا أكتافها ، تألم قلبه عندما لاحظ وجنتها الحمراء أثر صفعة ذلك الحقير لها ، يقترب من الفراش ليجلس على طرفه متمعناً النظر بوجهها الطفولي والأنثوي بالوقت نفسه ، عيناها السمراء الشاردة تنظر إلى الفراغ بتعابيرٍ غامضة لم يستطيع تفسيرها ، مدّ كفه لوجنتها الملتهبه ليتلمسها.. وجدها ساخنة كالنار المشتعلة لتبعد "ملاذ" وجهها عن مرمى كفه الدافئ ليعود "ظافر" ويتلمس وجهها قائلاً بأنفعال :
- أثبتي !!!
اقترب منها "ظافر" أكثر مطالعاً وجنتيها بتركيزٌ شديد ، نظرت "ملاذ" إلى عيناه الرمادية التي أختطلت مع لون أخضر طفيف جعلت منهما مزيجاً رائعاً ، تمعنت النظر بوجهه مستغلة فرصة قربه منها بذلك الشكل .. فهي لن يحق لها كثيراً أن تراه بقربٍ هكذا .. لازالت عيناه جذابة كما هي منذ صغره .. دافئة .. رائعة .. قوية ، تغلغلت رائحة عطره الرجولي الجذاب إلى أنفها لتدغدغ روحها لتغمض عيناها ، وحين تلك النقطة أرتفع "ظافر" بمقلتيه قليلا و يطالع حدقتيها المسبلتان .. وجهها البرئ الذي لم يُلطخ بـ مستحضرات التجميل ليصبع ناعم وجذاب ، أنفها الشامخ وثغرها المكتنز الشاحب قليلاً ، عند تلك النقطة أبتعد عنها فوراً كمن لدغته عقرب .. فهو إن لم يبتعد الأن ربما سيفعل أشياء ليست صحيحة بالوقت الحالي
فتحت "ملاذ" عيناها ببطئ لتعود و تنظر أمامها ، برقت عيناها بوميض حقدٍ خالِصاً لتقول بنبرة متوعدة :
- مش هخليه يفلت بعملته !!! هدفعه التمن غالي أوي و أنا و أنت و الزمن طويل يا سالم !!!
وضع "ظافر" كلتا يداه بجيبه ليقول بصوت متحشرج أثر تأثره بقربه منها بتلك الطريقة :
- أنا اللي مش هسيبه وهخليه يتمنى الموت وميطولوش !!!!
- دة حقي أنا و أنا اللي هاخده بإيدي !!!
قالت "ملاذ" بشراسة ليقاطع ذلك التواصل البصري "فتحية" التي دلفت بعينان أمتُلئت بالدموع ، ركضت نحو "ملاذ" لتتلقاها في أحضانها و هي تقول ببكاءٍ :
- تعالي في حضني يا ضنايا .. مين يا حبيبتي اللي عمل فيكي كده !!!
شددت "ملاذ" على عناقها الدافئ لتستريح برأسها على صدرها الدافئ ، مسدت "فتحية" على خصلاتها كالطفلة الصغيرة و هي تقول بقلبٍ أموي مفطور :
- أنا كنت قلقانه من أنك تقعدي لوحدك يا حبة عيني الناس مبترحمش و أنتِ مينفعش تقعدي كدا من غير راجل !!! و بعدين فين خطيبك الزفت اللي أسمه عماد ؟!!
أبتعدت "ملاذ" عن أحضان تلك السيدة الحنون لتضم كفيها محاوطة إياهم و هي تقول بوهنٍ :
- أنا كويسة يا ماما فتحية متخافيش هو معمليش حاجة .. وعماد ميعرفش حاجة عن اللي حصلت .
قالت جملتها الأخيرة و هي تنظر إلى "ظافر" الذي وثب بشموخٍ ، علمت وقتها أنه جمع معلومات كثيرة عنها فلم تتفاحئ أبداً فهي كانت متوقعة ذلك .. "ظافر" ليس باليسير اللعب معه ..
أبتسمت السيدة "فتحية" لتعود شاهقة بعنف ضاربة يدها على صدرها :
- أيه اللي في وشك دة يابنتي اللي أتهجم عليكي هو اللي ضربك كدا ؟!!!!
أسبلت "ملاذ" عيناها بحزنٍ لتعود وتخفيه وراء قناع القوة و هي تقول بمزاحٍ زائف وداخلها حُطام :
- لو كنت فايقاله كنت ردتله القلم عشرة بس حظه أني أغمى عليا عشان مكنتش قادرة أتنفس ..
ربتت "فتحية" على خصلاتها بشفقة لتلتفت و هي تنظر إلى "ظافر" قائلة بوجهٍ بشوش :
- معلش يابني لامؤخذة أنشغلت في ملاذ .. مش أنت اللي كنت معاها لما براءة أختها كانت في المستشفى ؟!!
أومأ "ظافر" دون أن يتحدث لتبادر هي بحنو :
- أنت اللي أنقذتها مش كدا ، ربنا يحميك لشبابك يا بني ومتشوفش حاجة وحشة أوي .. ما شاء الله عليك طول بعرض بجمال وعيون ملونة و آآآ
-خلاص يا ماما فتحية !!!
قالت "ملاذ" بغيظ ليقهقه "ظافر" و هو يرد بلباقة :
- دة من ذوقك يا حاجة ..
• • • •
- يعني هو قالك أنه هييچي ياما طيب ميتى ؟ "أمتى" ؟!!
قالت "ملك" بقلق لتردف والدتها بقلقٍ أكبر :
- معرفش يا بتي والله أنا خايفة على أخواتك قوي .. طب أتصلي أكده بالمستشفى اللي هنا عايزة أسمع صوت مازن يابتي وحشني قوي ...
أشفقت "ملك" على والدتها لتومأ بالإيجاب ، جلبت هاتفها لتتحدث مع مشفى "الهلالي" .. أوصلت الممرضة الهاتف إلى أخيها الذي أستطرد بنبرة فاترة - خير يا ملك في حاجة ؟!!
صرخت "ملك" بفرحة و هي تقول :
- مازن الحمدلله أنك رديت .. أنت بخير يا اخوي ؟!!
أقتربت منها السيدة "رقية" سريعاً لتلتقط الهاتف من بين يداها و هي تُردف بسعادة شديدة :
- مـازن .. وحشتني يا جلب أمـك !!
تنهد "مازن" بحرارة ليتمتم :
- أنا كويس يا أمي متقلقيش و هخرج من المستشفى بكره أو بعدُه بالكتير ..
أنتفضت والدته بحنان أموي وهي تقول :
- بچد يا ضنايا ؟!! أنا هبجى "هبقى" أقول لباسل أخوك يروح يچيبك يا حبيبي ..
أغمض "مازن عيناه و هو يقول بإصرارٍ قوي :
- أنا مش هاجي لوحدي يا أمي .. عاملكوا مفاجأة هتعجبكوا !!! ، أنا هقفل دلوقتي ..
أغلق الخط ولم ينتظر ردّها ليلقي بالهاتف أمامه بغضب شديد ليمسك بذهنه يضغط عليه .. برزت الشعيرات الدموية داخل مقلتيه جازاً على أسنانه كما لو أنه فقد عقله ..
نهض بعنف ليهادمه ذلك الدوار المفاجئ ، أستند على الكومود ممسكاً بمقدمة رأسه ، عاد لإتزانه ليهرول نحو الباب دالفاً إلى خارجها ، سار بخطوات سريعة إلى مكتب مدير مشفى "الهلالي" ليدفع الباب بعنف و عينان يتطايران منهما الشر ، نهض المدير بخوف و هو يقول :
- في حاجة يا مازن باشا أيه اللي خرجك من أوضتك أنت لسة تعبان و آآ ..
أمسك "مازن" بتلالبيبه صارخاً في وجهه بصرامة :
- هــي فـيـن !!!
- مـ .. مـين يا باشا !!!
قال المدير بتلعثم و هو يطالعه بغرابة ، أفرغ "مازن" شحنة غضبه بذلك المسكين ليكور كفه ملكماً إياه ، طُرح المدير أرضاً ليزحف إلى الوراء متمتماً برجاءٍ حار :
- يا باشا قولي بس مين دي اللي بتسأل عليها و أنا هقولك ..
- فـريدة !!!!!
قال "مازن" و هو ينحنى بجزعه قابضاً على عنقه ، لم يكن طبيعياً بالمرّة عندما نُطق أسمها من بين شفتيه ، عيناه محمرتان وأذنبه تنفس عن النيران الكامنة به ، شاش طبي محاوط رأسه ليزيد من الألم الفتاك الذي يشعر به ، أرتجف جسد المدير ليلهث بوجهٍ محتقن :
- فـ فـريدة .. مين يا .. يا باشا سيبني أبوس إيدك !!! ..
نفضه "مازن" من يده ينظر له بتقزز ، وضع الأخير كفه على نحره يحكه بعنف و هو يسعل بحدة ، لم يكن "مازن" يعي ما يحدث .. عيناه غائمتان بشرٍ مخيف :
- مش هسيبها .. فريدة بتاعتي أنا بس !!!!!
• • • •
- كُلي يا حبيبتي الدكتور بيقول انك مش بتهتمي بصحتك كويس ....!!
أدخلت "فتحيه" المعلقة الممتلئة بالحساء داخل فمها رغماً عنها ، ابتعلت "ملاذ" المعلقة بصعوبة قائلة بمزاح :
- حرام عليكي يا ماما أفرضي كنت شرقت و موت دلوقتي ؟!!!
ضربت "فتحية" كتفها قائلة بتوبيخ حاد :
- بس يا ملاذ بعد الشر عليكي من الموت يحبيبتي ..!!!
وقف مستنداً على جدار الباب عاقداً ذراعيه معاً يراقبها بتفرس ، همست شفتيه بخفوت شديد و قد تبدلت ملامحه سريعاً :
- بعد الشـر عليكي !!!
أمسكت "ملاذ" بكف "فتحية" التي تعيد الكرة لتجعلها تأكل رغماً عنها ، همهمت "ملاذ" بإبتسامة بسيطة و عينان قويتان لاتُهزم :
- روحي أنتِ يا ماما فتحية عشان تاخدي بالك من براءة مينفعش نسيبيها لوحدها كدا !!!
فرغت "فتحية" ثغرها للحظة .. بعد ما فعلته "براءة" بشقيقتها و بعد أن جعلتها تخسر عملاً مهم كهذا ما زالت " ملاذ" تفكر بها وبراحتها ، نكست عينان "فتحية" بحزن .. أشفقت بشدة على "ملاذ" ، فرت دمعة هاربة من بين عينان تلك السيدة البسيطة لتحاوط وجه "ملاذ" ترتب خصلاتها المموجة بإثارة و هي تقول بنبرة شارفت على البكاء :
- ربنا يحميكي يابنتي و يخليكي ليا و ميحرمنيش منك أبداً ، متقلقيش يا ضنايا براءة مع واحدة صحبتي من الجيران و بتاخد بالها منها كويس ، وبعدين مين اللي قالك اني هسيبك بس و انتِ في الحالة دي !!
- لاء يا ماما فتحية .. انا عارفة براءة أختي مش بترتاح مع أي حد وهي بتحبك وبترتاح معاكي أنتِ بس ..
تظن أنك تقاوم ذلك الحزن الذي يدفعك على حافة الانهيار .. لكنك في الواقع تنطفئ مع كل بقعة من الحزن تُكئب حياتك لتصبح كالذين قُبضت أرواحهم .. ولكن أجسادهم لازالت تمشٍ على الأرضية ، تتحدث بهدوء .. عيناه توحي قوة ليست باليسيرة ، و لكن داخلها ؟ خالقها وحده من يعلم كم تألمت روحها ، تمنت لو أن تصرخ باحضن إحدهم ، لو أن تُفرغ ما به من حزنٍ مكبوت .. و لكن "ملاذ" ليست الفتاة التي تبكي على أطلال روحها .. هي ليست ضعيفة لتبكي أمام أحدهم ، و لكن ذلك الوقت سيمضي .. سيمضي كما لو كان كـ عبور شاحنه فوق روحك لكنه سيمضي !!!!
- متقلقيش عليا والله .. ظافر معايا .. آآآ قصدي ظافر باشا موجود مش هبقى لوحدي !!!
تعمدت قول أسمه مزيلة ذلك التكلّف المزعج ، و ما أجمل أسمه من بين شفتيها .. و ما أجمل لَفظ أسمه بلسانها ، أكد "ظافر" على حديثها موجههاً كلماته إلى "فتحية" و هو يقول بنبرة واثقة :
- أيوا يا مدام أنا هبقى معاها متقلقيش وروحي لأختها عشان متسيبهاش لوحدها ، دة غير ان الدكتور قال أنها هتمشي ..
- بس آآآ ..
تمتمت "فتحية" بتردد لتقاطعها "ملاذ" بحدة زائفة :
- مافيش بس يا ماما يلا روحي عند براءة هي محتجالك أكتر مني !!!
- حاضر يا قلب ماما فتحية .. لو عوزتي أي حاجة يا حبيبتي قوليلي ..
أومأت "ملاذ" بإبتسامة طفيفة لم تصل لعيناها ..
أقتربت السيدة "فتحية" لتجذب "ملاذ" إلى أحضانها ، تشبثت بها "ملاذ" بقوة تتمنى أن لو تبتعد عن ذلك العناق الدافىٍ الذي رحب بها ، دفنت وجهها بصدرها تمنع حالها بقوة عن الأنهيار تواً ، أوقات كثيرة لا نريد الأنعزال عن العالم .. بل نريد الإنعزال عن أنفسُنا .. عن كل من حولنا .. عن آلامنا وتمزق روحنا .. عزلتنا عن العالم لن تُجدي نفعاً ، نزعت "ملاذ" نفسها من بين أحضانها لتخرج "فتحية من الغرفة لتخبر "ظافر" بضرورة التحدث معه لتتبدل ملامحها إلى الغموض ، ذهبا إلى كافتريا المشفى ليجلسا مقابل بعضهما البعض ، نظرت له "فتحية" و هي تتمتم بتوترٍ :
- أنا عارفة يابني أنك مش فاضي بس انا مش هاخد من وقتك كتير ، أنا مش طالبة منك غير أنك تاخد بالك من الغالية بنت الغاليين دي ، ملاذ ملهاش حد في في الدنيا يا بني أبوها و أمها ماتوا في حادثة من وهي صغيرة و أتربت على إيد واحدة جيرانهم ربنا يباركلها و انا قريبتها .. للأسف يا بني حتى الأخت اللي طلعت بيها "ملاذ" من الدنيا واللي هي براءة اللي بتكرهها جداً ، براءة بتحقد على أختها الكبيرة دايماً وشايفة أن هي سبب اللي هي فيه ، أمبارح سمعت براءة بتتكلم في الموبايل وكانت بتقول أن البنت الجاسوسة اللي محطوطة في شركة "ملاذ" واللي سرقت تصاميم عرض ملاذ و اللي عماد حابسها عنده في المخزن قالت كل حاجة و أعترفت عليها ، لما سمعتها حسيت أن أد أيه ملاذ وحيدة في الدنيا ملهاش ضهر تتسند عليه .. بس أنا عارفة ملاذ كويس مستحيل تبين زعلها قدام حد حتى لو أغلى شخص في حياتها ، أنا كبيرة يا بني وعندي خبرة في الدنيا ونظرات عينك فاضحاك .. وبسهولة أقدر أعرف أنك حبيتها ، خد بالك منها يابني وحياة أغلى حاجة عندك .. ملاذ ملهاش حد يا ظافر باشا خُد بالك منها
• • • •
سار "ظافر" بخطوات سريعة صارمة تكاد تطوى الأرض من أسفله ، إصرارٍ كبير يقفز من عيناه معاهداً أن التراجع ليس من شيمه ، فتح الباب سريعاً ليجدبها لازالت تجلس كما هي تحدق في اللاشئ بعينان شاردتان ، وبدون مقدمات أقترب من الفراش ليقف أمامها واضعاً كِلتا كفيه بجيبه ليسطرد بنبرة جهورية :
- تتجوزيني ؟ !!!!