رواية حافية علي جسر عشقي الفصل الرابع 4 بقلم سارة محمد
حافية على جسر عشقي
الفصل الرابع
أجتمعوا جميعاً على طاولة الطعام العريضة ، جلس "ظافر" على رأسه السُفرة بطبيعة الحال ، تجاوره والدته الذي بدى الشحوب على وجهها و رُغم ذلك رفضت تناول الغداء في غرفتها لتصرّ على أن تجلس معهما ، و من جهة اليمين جلس "باسل" الذي قد أتى للتو بحوزة "رهف" ..
بدأوا الجميع بتناول الطعام بصمت تام ، كانت "ملاذ" تحدق بصحنها بشرود ، لا تصدق أنها تجلس في قصر ذلك الرجل بل و تأكل على طاولة طعامه ، شردت لبعيد تماماً عندما كانت تبلغ من العمر خمس سنوات ..
طفلة صغيرة تصرخ بصوتٍ عالٍ على تلك السيدة الكبيرة بالعمر ، رُغم عُمرها الذي لم يتعدى الخمس سنوات و قُصر قامتها إلا أن صوتها كان يصدح بالبيت الصغير بأكمله ، حاولت تلك السيدة أن تهدأها بكلماتها الحنونة و هي تجلس كالقرفصاء لتصبح في مستواها :
- أهدي يا ملاذ يا حبيبتي صدقيني براءة أختك هتبقى بخير أهدي ..
نفت "ملاذ" بوجهها الطفولي الذي أمتلأ بالدموع و هي تقول بطفولية بريئة :
- لا مُس (مش) هتبقى كويسة هي لاسم (لازم) تعمل عملية بفلوس كتير .. أنتِ بتضحكي عليا أنتِ كذابة !!!
ثم تركتها وذهبت بعيداً خارج البيت بأكمله ، عيناها غارقة بالدموع الطفولية ، ركضت من على الدرج غير عابئة لصراخ تلك السيدة عليها ، عيناها مُلتمعة ببريق أصرار رغم صُغر عمرها ، ولكن معالجة شقيقتها كانت أكبر من أي شئ أخر ..
قادتها قدميها الصغيرة لقصر ذلك الرجل فاحش الثراء ، لم يكُن يبعد كثيراً عن بيتها المتواضع ، وقفت أمام البوابة و رُغم الفزع الذي أعتراها عندما وجدت رجلين قويان البنية و منكبيهما العريضان و طولهما الفارع ، أعتلت ملامحهما غرابة شديدة لوجود تلك الطفلة أمام قصر متحجر القلب ذلك ، قرفص أحدهما على قدميها أمامها قائلاً بحنو :
- عايزة حاجة يا حبيبتي ؟ فين مامتك وباباكي توهتي منهم ولا ايه ؟..
هزت رأسها برفض قائلة بنبرة قوية لا تليق إلا بها :
- عايسة (عايزة) أقابل عمو اللي جوا ، اللي معاه فلوس كتير ..
رفع ذلك الشخص حاجبيه بدهشة مسطرداً :
- و أنتِ عايزة عمو في أيه ؟ تعالي أوديكي لمامتك وباباكي ..
ثم سحبها من يديها لتنفض يده بقوة ، أنفجرت في بكاء شديد ليصرخ بها الأخر بعنف شديد :
- أمشي يابت من هنا مش ناقصين قرف ع الصبح !!
نظرت له بحقد و لم تكف عن البكاء المزعج والقوي ، فمن يراها لا يصدق بأن ذلك الصوت المرتفع نابع من تلك القزمة !
ظلت تبكي الكثير من الوقت حتى أعلن أستسلامه أحد الحراس قائلاً :
- خلاص هنخليكي تقابليه ..
أبتهج وجهها سريعاً لتلمع عيناها من فرط سعادتها ، قفزت تصفق بطفولية ، صرخ الأخير محتجاً بإستهجان عما قاله رفيقه :
- أنت بتقول أيه يا مراد لو شافها سيدنا الكبير هيتعصب علينا أحنا ..
صرخ به المدعو "مراد" هو الأخر متأففاً بضيق :
- أنت مش شايفها مهرية من العياط ازاي دي ممكن تموت كدة !!!
فتح الحارس بوابة القصر بضيق مشيراً لها بالدخول .. دلفت "ملاذ" بنصرٍ و بخطوات سريعة ، نظرت حولها للحديقة التي أمتلئت بالزهور مبهجة اللون لتصدم بجمالهما ، لم تعبأ كثيراً لتركض نحو باب القصر ، أخذت تطرق الباب بكفيها الصغيرتان لتفتح لها الخادمة ، صُدمت من تلك الصغيرة لتقول بغرابة :
- أنتِ مين يا عسولة ؟ و آآ
و في غضون ثانيتان كانت "ملاذ" تعبر تاركة إياها تهذي ، فقد ملت كثيراً أهذا كله لكي تقابل ذلك الرجل فقط ، وقفت "ملاذ" في منتصف القصر تقول الخادمة بنبرة يغمرها الغرور :
- فين أوضة اللي بتستغلي (بتشتغلي) عنده ؟
جحظت حدقتي الخادمة و لكنها لم تمنع تلك الأبتسامة التي زحفت على ثغرها لتشير لها على غرفة مكتب "سرحان الهلالي" لتذهب "ملاذ" لتلك الغرفة لا تصدق أنها و أخيراً ستتحدث مع الذي سينقذ شقيقتها ، وقفت أمام الباب لتقف على حافة قدميها حتى تصل لمقبض الباب ، جاهدت كثيراً و لكن فتحته بالأخير ، دلفت للغرفة بخطوات خائفة لتجده أخيراً ، "سرحان الهلالي" ذو الملامح القاسية و العينان المخيفتان بلونهما الأسمر ، خصلاته تتخللها الشيب قليلاً يجلس خلف مكتبه بغرورٍ يعمل بأوراقه ، لفت أنتباهه تلك الصغيرة التي دلفت لمكتبه لينتفض محدق بها بذهول ، أخذ يتسائل من أين جاءت ولماذا ، وقف أمامها واضعاً كفيه بجيوب بنطاله و معدته تدلى قليلاً أثر الشحوم المختزنة بها ، لم يتخلى عن جموده ليردف :
- أنتِ مين و بتعملي أيه في مكتبي ؟
لم تنبث "ملاذ" ببنت شفة ، مدت كفها الصغير في جيب بنطالها الصغير لتخرج بعض الجنيهات القليلة ، بسطت كفيها الصغيرتان معانا أمامه ، لم تجرؤ على رفع رأسها لتقول بعينان ممتلئة بالعبرات ليخرج صوتها متحشرجٍ أثر البكاء العالق بصدرها :
- دول بس اللي معايا .. ممكن يا عمو تساعد أختي عسان (عشان) تقدر تمسي (تمشي) على رجليها لو سمحت .. أنا عايفة (عارفة) أنك معاك فلوس كتير أوي .. لو سمحت يا عمو ساعدنا ..
قست ملامحه يطالعها بتهكمٍ ليصرخ بالخادمة بقوة :
- يا مديحة .. تعالي طلعي الأشكال دي من القصر ..
لم تفهم "ملاذ" ما قاله و لكن عندما وجدت الخادمة تأتي لتأخذها صرخت بقوة به و ببكاء يفطر القلب :
- لاء يا عمو لو سمحت ساعد أختي .
نظر لها ببرود جليدي ، و كأن الرحمة نزعت من قلبه نزعاً فأصبح كالحجر ، بل ربما قد نظلم الحجر إن شبهنا ذلك الشخص به ..
بكت "ملاذ" بكل ما أوتيت من قوة عندما سحبها ذلك الرجل بقوة ليدفع بها أمام مكتبه بقوة غير مراعياً صِغر سنها ، شفقت عليها الخادمة لتهم بإيقافها و لكن منعها "سرحان" بإشارة منه ، نظر لها بعيناه القاسيتان ليقول بنبرة خالية من الرحمة :
- لو شوفتك هنا تاني هحبسك في أوضة ضلمة فاهمه ؟!!!
ثم دلف لمكتبه صافعاً الباب خلفه ، أجهشت "ملاذ" بالبكاء لتترسخ عيناه القاسية بعقلها ، لم تيأس "ملاذ" أبداً بل نهضت رُغم جسدها الصغير الذي تألم من قوة دفعته ، طرقت على الباب مجدداً و لكن تلك المرة بقوة أكثر و هي تصرخ به بغضب :
- أفتح الباب .. أفتح أنت لازم تساعدنا !!!
رق قلب الخادمة لها لتجذبها و هي تقول برأفة :
- أبعدي يا حبيبتي عشان ميحبسكيش في الأوضة ، أنا مش عارفة أزاي باباكي و مامتك سابوكي تيجي القصر دة ..!!!!
نفضت "ملاذ" يدها عنها بقوة و هي مازالت تطرق على الباب بحدة رافضة الذهاب قبل أن تعود أختها في السير كما كانت ...
فتح "سرحان" الباب بعينان ملتهبتان ، حدقتيه حمرواتان بطريقة مرعبة تطلق شراراً ، شهقت "ملاذ" بخوف طفولي عندما وجدته هكذا لتنكمش على نفسها برهبة ، جرّها "سرحان" من ذراعها بعنف لغرفة كانت بالقبو ، باردة كالجليد ، حاولت الخادمة منعه و لكن لم تستطع لتركض لزوجته السيدة "رقية" لتحاول منعه مما سيفعله بتلك الطفلة ، ألقى "سرحان" بـ "ملاذ" داخل تلك الغرفة شديدة الظلام ، نظرت "ملاذ" حولها برعبٍ شديد محتضنه نفسها ، فـ فوق ظلام الغرفة الموّحش و لكن أيضاً برودتها لا يتحملها شخصٍ بالغ ما بالك بطفلة صغيره لا تفقه شئ !!!
اغلق "سرحان" الباب عليها ليوصده بالمفتاح ، قابل زوجته في وجهه بملامح فزعة مما قصت لها الخادمة ، أمسكت السيدة "رقية" ب تلابيب زوجها قائلة بفزع شديد :
- وديت البت فين يا سرحان .. متجولش أنك دخلتها الأوضة إياها !!!!
نظر لها بحدقتان خاليتان قائلاً :
- دخلتها يا رقية .. أبعدي من وشي الساعة دي ..!!!
جحظت عينان الأخيرة بقوة لتصرخ في وجهه ضاربة على صدرها بقوة :
- يـخـرابـي .. دي البت زمانها مفلوجة من العياط يا حبة عيني ، هات يا سرحان المفاتيح ..
تركها ماراً بجوارها غير عابئاً لها أبداً ..
بينما في الداخل كانت المسكينة تبكي بقوة. بشهقات لم تتوقف ، ينتفض جسدها بين الحين و الأخر من قوة بكاءها ، أخذت تناجي والدتها و والدها قائلة ببكاءٍ شديد :
- تعالي يا ماما خوديني ، تعالي خوديني أنا خايفة أوي ، أنا عايسة (عايزة) أخرج من هنا ، تعالي يا ماما أبعدي السرير (الشرير) دة عني ، أنا مس عايسة أقعد هنا أنا بخاف من الضيمة (الضلمة) .. الجو برد أوي هنا تعالي يا ماما خوديني بقا تعالي يا مـامـا !!!!
أنفجرت في بكاء قوي لتجلس بزاوية ما في الغرفة تضم ركبتيها إلى صدرها لتنسدل خصلاتها الغجرية على كتفيها ، سمعت صوتٍ من وراء الباب ، كان صوت فتى .. و لكن صوته حنون للغاية ، نبرته تغلغلت في جوارحها بقوة ، كان يمهس من وراء الباب بنبرة مطمأنه :
- متخافيش .. هطلعك من هنا !!!!
أجهشت بالبكاء بقوة ، أزرقت شفتيها من شدة البرودة و بردت أطرافها ، زاغت عؤناها لتصتدم رأسها على الأرضية بسكون تام ، و في تلك اللحظة بالضبط دلف "ظافر" إلى الغرفة الباردة ، ليشاهد ذلك الجسد الصغير يسقط امامه على الأرضية الباردة ، أنقبض قلبه ليركض نحوها ، طالعها بنظرات قلقة تشمل وجهها بأدق تفاصيله ، بشرتها الشاحبة بقوة و ثغرها المزموم الذي تحول لـ اللون البنفسجي ، دموعها العالقة بأهدابها المغلقه و البعض منثور على وجنتيها كاللؤلؤ ..
لم ينتظر ليحمل جسدها الصغير بين ذراعيه ، كان "ظافر" آنذاك بعمر الخامسة عشر ، رُغم سنه إلا أنه يملك جسد صخم ورثه من أبيه ، لذلك فقد كانت "ملاذ" كالريشة بأحضانه ، أستندت "ملاذ" برأسها على صدره بإرهاق ، نظر لها "ظافر" بشفقة ليصعد لغرفته تاركاً أبيه يصرخ به ، صعد الدرج بخطوات واسعة ليصل لغرفته ، فتح الباب بقدميها ليلج ، وضعها على فراشه الناعم برفقٍ شديد ، عيناه الزيتونيه تجول على وجهها بقلق أعتراه ، و كأنها مسئولة منه هو فقط ..
أعنتت بها أمه أيضاً لـ تأتي تلك السيدة التي تعِش معها "ملاذ" و "براءة" لتأخذ "ملاذ" ، و لكن لم تكن نفسها "ملاذ" .. بل كانت طفلة بقلبِ قاسٍ ، قلب و عقل ترسخ بهما حدقتين .. تلك العينان السمراء القاسية و المتحجرة ، و عيناه الزيتونية الممتلئة بالدفء النابع منها ..
”ليتنا نستطيع أن نعالج خدوش أرواحنا.”
• • • •
بدون مقدمات رفعت رأسها لتنظر إلى "ظافر" .. بعيناه الزيتونية الحنونة ، و لكنه يحجب ذلك الحنو بجمود قاسٍ ، لتتمثل أمامها حدقتي مزيج بين قسوة "سرحان الهلالي" و حنو "ظافر سرحان الهلالي" ..!!
نهضت "ملاذ" فجأة من على طاولة الطعام شاعرة بأختناق كبير .. و كأن شئ يجثى على صدرها يمنعها من التنفس حتى ، نظروا جميعاً لها لنهوضها المفاجئ و من بينهم "ظافر" الذي طالعها بإستغراب .. هم بأن يسألها عما بها لتقاطعه "ملاذ" قائلة بنبرة لاهث تجاهد لتلتقط أنفاسها :
- أنا .. أنا لازم أمشي ..
قطب "ظافر" حاجبيه كما فعلت والدته لتسألها بقلق :
- فيكي حاجة يابتي ؟ أنتِ بخير ؟
أومأت "ملاذ" بصمت و هي تستشعر نبرتها الحنونة ، لم تنتظر بل ذهبت بخطوات واسعة نحو باب القصر لتخرج سريعاً ..
ذهب "ظافر" ورائها ليرى ما حدث لها ، وجدها تقف وسط الحديقة تضع يدها على قلبها و باليد الأخرى تستنشق الرذاذ النابع من بخاخ الربو ، هدأت ضربات قلبها المتسارعة لتعود لطبيعتها ، تقدم "ظافر" نحوها .. وقف أمامها ليراها مغمضة العينان تحاول تنظيم تنفسها غير ملاحظة وقوفه أمامها ، لأول مرة يرى ملامحها بالقرب ذاك ، تجولت حدقتيه على وجهها بدايةً من حدقتيها المغلقتان و أهدابها الكثيفة التي علقت بها حبات "الماسكرا" الجافة ، نزولاً بأنفها الصغير .. عبرت عيناه على شفتيها و عند تلك اللحظة لم يتسطيع إزاحة نظره عن شفتيها المُطلية باللون الأحمر القاني ، شعور يدفعه لأن يهجم على شفتيها مقبلا إياها ، و لأنه "ظافر" الذي لا يقف أمامه شئ ، وباللحظة الأخيرة توقف عما كاد أن يفعل ، بل أبتعد عنها تماماً و كأنها مرض سيُعديه ، نبض فكه لشدة غضبه ، التنين عيناه كما لو كانت سيضخ من داخلها الدماء ، منذ متى و هو يشعر بذلك الشعور تجاه أنثى ؟ منذ متى و عيناه تحيد على فتاة ؟ لقد عاهد نفسه بأن لا يُميل للحب مهما صار ، و لكن لما عندما يرى "ملاذ" يشعر و كأنها مسؤليته ، يشعر كمل لو أنه رآها من قبل ، عندما يراها يشعر و كأنه عاد طفلٍ من جديد ، و لكنه لن يسمح بنضج ذلك الشعور داخله ، سيقتلعه من جذوره في الحال ..!!!
فتحت "ملاذ" عيناها تطالع "ظافر" بإستغراب ، تفحصت هيئته الغاضبة لتتمتم بتساؤل :
- في أيه ؟ .. إنت كويس ؟ باين عليك آآ ..
بتر عبارتها و قد عاد الجمود إلى عيناه الزيتونية الباردة :
- مافيش حاجة .. يلا عشان أروحك ..
- طب وعربيتي ؟
- هخلي السواق يبعتهالك على عنوان شقتك ..
سبقته بخطوات ذاهبة نحو سيارته ، أستقلت المقعد الذي يجاور مقعد السائق ، كما أستقل "ظافر" وراء المقود ، كانت صفحات وجهه لا تفسر ، الغابات الزيتونية بحدقتيه كانت وكأنها تشتعل مصدرة لهباً يحرق الأخضر واليابس ، ذراعيه المشمرتان بقميصه الأسود الأنيق كانا مشدودان على المقود بطريقة مفزعة ، برزت أوردته البنفسجيه بـ رسغيه و كأنه يعاني حرباً نفسياً بداخله ، كل تفاصيله تلك لاحظتها "ملاذ" ، عندها لاحت أبتسامة خبيثة على ثغرها ، فـ خطتها تسير كما المطلوب ، عادت ترسم البراءة على وجهها ببراعة ، عيناها السوداوية تلتمع ببريق ربما مخيف ، بريق الأنتصار الذي لطالما لم ينزاح من حدقتيها ، تحركت السيارة مصدرة صرير عالٍ ، كانت السيارة تسير على سرعة مئة و عشرون ، تجمدت "ملاذ" بكرسيها .. و لأول مرة تشعر بالخوف الذي جعل جسدها بأكمله ينتفض ، هجمت الذكريات السيئة على ذهنها ، تخيلت أن بتلك السرعة أفتعلا والداها حادث أودى بقدم شقيقتها ، رُغم إنها لم تكن بالسيارة في ذلك الحادث و لكنها استطاعت ان تشعر بذلك في تلك السيارة ، بدأت تلك الحقيقة تتجسد أمامها شيئاً فـ شئ ، و بالفعل لاحظت شاحنة ضخمة يصدر منها أبواق الأنوار العالية التي كادت أن تُعمي بصرها ، جحظت عيناها بقوة و قلبها يدق بعنف شديد غطت وجهها بكفها و كأنها تريد أن تختفي من ذلك العالم ، و باللحظة الأخيرة أنحرف "ظافر" بالسيارة ليتنحى بها جانباً ، أهتز صدره علواً و هبوطاً من الذي كاد أن يحدث بهما ، تلك هي الحياة ، فقط ثوانٍ معدودة شعر بهما أن الحياة توقفت ..!!!
التفت لينظر إلى "ملاذ" التي لازالت تخفي وجهها داخل كفيها كالأطفال ، الصمت يسود السيارة سوى أنفاس "ظافر" اللاهثة ، لا يعلم كيف سيتصرف ليمد كفيه يزيح كفيها عن وجهها قائلاً بنبرة لاهثة :
- متخافيش .. مافيش حاجة حصلت ، أنتِ كويسة ؟
أخذت "ملاذ" بعض الدقائق تستوعب بهما ما حدث ، و لكن نبرته الدافئة جعلتها تسند رأسها على كفيها الموضوعتان على فخذيها ، رأسها تميل للأمام لتنساب خصلاتها مسترسلة حول كتفيها ، بنبرة قوية تمتمت :
- روّحني !!!!
حاول تهدأتها ببعض الكلمات :
- أهدي مافيش ..
بترت عبارتها بصراخها بوجهه بقوة شديدة حتى ألتهب وجهها :
- روَّحني دلوقتي حالاً !!!!!
أغمض عيناه محاولاً التحكم بأعصابه ، فـ و لأول مرة يصرخ أحد بوجهه بتلك الطريقة و لكنه مراعياً فزعها وخوفها ..
أنطلق بالسيارة ولكن بسرعة أهدأ و طوال الطريق لم يسمع سوى صوت أنفاسها العالية ..
قاطع ذلك الصمت الذي ساد بينهما و الجو المشحون بذبذبات هاتف "ملاذ" الذي صدح صوته بالسيارة ، تفاجأت "ملاذ" بأسم "براءة" يلتمع بالشاشة ، فمنذ الكثير من الوقت لم تهاتفها شقيقتها ، سريعاً ما ضعطت على زر الإجابة لتضع الهاتف على أذنها بنبرة حنونة للغاية :
- براءة ..!!
جحظت عيناها عندما وجدت السيدة "فتحية" التي تعتني بشقيقتها تصرخ بأن عليها المجئ بالمشفى الأن فحال شقيقتها سئ ..
انقبض قلبها و توقفت الأحرف على طرف شفتيها ، لم تكن تملك القدرة حتى للرد عليها ، ألتفتت إلى "ظافر الذي كان يوزع نظرات استفهامية بينها وبين الطريق ، أخبرته بنبرة متوجسة :
- متروحش البيت أطلع ع مستشفى **** بـسـرعـة !!!!!
• • • •
ترجلت "ملاذ" راكضة حتى كادت أن تتعثر بخطواتها و هي ذاهبة نحو المشفى ، لحق "ظافر" بها و لأول مرة يراها بذلك الفزع ، ركض وراءها ليلحق بها ليمسك برسغها قائلاً بنبرة هادئة :
- ممكن تهدي عشان نتصرف ..
تلوت بين ذراعيه صارخة به في غضبٍ ليتركها ، تركها "ظافر" بالفعل بدمٍ بارد ، ذهبت "ملاذ" إلى موظفة الاستقبال تصرخ بها :
- فين براءة .. براءة خليل الشافعي ..
أرتبكت الأخيرة من صراخها بوجهها لتبحث بين أسماء القابعين بالمشفى لتجد بالفعل الأسم ، تمتمت موظفة الأستقبال قائلة بنبرة خائفة :
- في أوضة 301 الدور الرابع
لم تنتظر لتركض نحو المصعد ، ضغطت على الزر منتظرة قدومه ، فركت أصابعها بتوتر شديد ليقف "ظافر" بجانبها بشموخٍ كالمعتاد ، حاول تهدأتها بنبرة دافئة لطيفة :
- بإذن الله أختك هتبقى كويسة ..
نظرت له من فوق كتفيها ليأتي المصعد ، أستقلا كلاً منهما المصعد لتضغط على الطابق الرابع ، الوقت يمر كمرور سنوات وليس مجرد لحظات طفيفة ، صدرها يعلو ويهبط من فرط خوفها على شقيقتها ، فـ هي لن تتحمل أن تصاب بأذى ، سستحول دون أذيتها ولو كلفها ذلك حياتها ..
بينما "ظافر" لم ينبث ببنت شفة ، فقط يراقب تعابير وجهها القلقة ، حتى ذلك القلق الذي غلف صفحات وجهها لم ينقص من جمالها أو جاذبيتها مقدار ذرة ، بل باتت و كأنها لوحة فنية متوجسة رُسمت بقلم رسامٍ محترف ..
وصل المقعد و أخيراً لتركض "ملاذ" خارجه منه وقفت أمام الغرفة المطلوبة لتفتح بابها على حين غُرة ، رقت تعابير وجهها عندما رأت غاليتها تجلس على الفراش نصف جلسة أمامها تجلس "فتحية" ممسكة بصحنٍ من الحساء الساخن ، كانت تطعمها برفق .. أنزوت شفتيهاا بأبتسامة حانية ، دلفت الغرفة بخطواتٍ مترددة و هي تُمضي نحو فراشها ، نظرت لها "براءة" بغضب صارخة بها :
- أنتِ جيتي هنا ليه ؟!!!!
أسبلت "ملاذ" بعيناها قائلة بنبرة هامسة لصوتها المبحوح من كثرة الصراخ :
- جيت أتطمن عليكي ..
- أطلعي برا !!!
رمت بكلمتها التي كانت كاللكمة لقلب "ملاذ" الدامي ، لم تعيرها "ملاذ" أهتمام أو هذا ما اظهرته ، رسمت الجمود على وجهها ببراعة لتشير إلى "فتحية" بالأبتعاد ، انصاعت لها "فتحية" لتضع الصحن الذي بيدها على الطاولة الصغيرة القابعة بحجر "براءة" جلست "ملاذ" على طرف الفراش لتأخذ هي الصحن ممسكة به ، همت بإطعامها لترمي "براءة" الصحن بقوة على الأرضية ، تناثر بعض من الحساء الساخن على كفي "ملاذ" ، و لسخونته الشديدة أغمضت "ملاذ" عيناها تفرك يدها التي شبه أحترقت و لم تتغير تعابير وجهها قط ، أشتعلت حدقتي ذلك الذي يقف يراقبهما ، كان يحاول التماسك محاولاً ألا يتدخل بشؤنهما ولكن عند فعلة شقيقتها تلك لم يستطيع التحكم بأعصابه ليذهب نحوهما ، أمسك بكف "ملاذ" غير منتبهاً لذلك الحرق ، تمتم بنبرة حادة كالنصل :
- قومي يا ملاذ نمشي ..
نظرت له "براءة" بنظرة مشدوهة ، أرتسمت علامات الأعجاب داخل عيناها من ذلك طويل القامة و صدره العريض و غابات الزيتون بعيناه ، أخفت نظرات الإعجاب سريعاً لتنتهز الفرصة لتنهرها شقيقتها أمامه لتشعر بالخجل أمامه غير عابئة بمشاعرها :
- خودها و امشي يلا ، مش عايزة أشوف وشك يا ملاذ في بيتي مش ناقصة قـرف يا هانم !!!!!
لم تتغير تعبيرات وجهها الهادئة ، و لكن داخلها براكين مشتعله على أهُبة الأستعداد لتحرق الأخضر واليابس ، أشتدت كفيه على كفيها مغمضاً عيناه و هو شعر بروحه تحترق ، لم يستطع السير هكذا دون أن يردها لها ، صاح بها بنبرة نارية كالجحيم :
- لما تعرفي تتكلمي مع أختك الكبيرة يبقي أتكلمي ، أه وبالمناسبة أنتِ فعلاً متستهليش يبقى عندك أخت حنينة زيها ..
جذب "ملاذ" من يدها ليسيرا في ممر المشفى ، كانت مستسلمة تماماً بين يداه ، وقفا أمام المصعد ينتظرا مجيئه ، وبدون وعيٍ منه ضغط على كفها بقوة ، أنفلتت شهقة متألمة من ثغر "ملاذ" ، تفاجأ "ظافر" بها تبعد يداها عنه تفرك كفها بألم ظهر على قسمات وجهها ، نزل بناظريه لكفها ليجد الأحمرار يسود مع ندبة تصل من مقدمة أصابعها حتى رسغها ، قطب حاجبيه بقوة ليجذب كفها متمتماً بصدمة :
- إيدك مالها ؟!!!
سحبت كفها مجدداً من كفه الغليظ و هي تقول محاولة ألا تظهر الألم القابع داخل عيناها :
- سيبني .. ملكش دعوة..
تقلصت ملامحه بغضبٍ أهوج و عينان سودويتان ليجذب ذراعها نحوه لتصتدم بصدره عيناها تقابل عيناه الزيتونية الحادة ، لفحت أنفاسه الساخنه وجهها عندما نهرها بحدة :
- بلاش عناد يا ملاذ ، و أخر مرة تتكلمي معايا بالأسلوب دة !!!
لم ينتظر ردّها ليمسك بكفها بلُطف داخل كفيه الغليظتان ، اشفق على حالها عندما رأى تلك الندبة ، ظن أنها من ذلك الحرق علاوةً على أحمرار كفها الرقيق ، و أكمل هو عندما ضغط عليه بقوة غير مقصودة لتطبع أصابعه على كفها ، تحدث بلطف تلك المرة و هو يأخذ كفها داخل كفه الخشن :
- تعالي هجيب دكتور يشوفك ..
لا تعلم لِمَ لم تعاندها تلك المرة ، و لكن نبرته الحانية التي تغلغلت بين ثنايا روحها جعلت فمها مطبوق منصاعة له .. فقط تلك المرة ..!!!
• • • •
بالفعل أطمئن الطبيب على أحوالها ووضع لها ضمادة حتى تمنع الحرق من الملوثات ، لم تُخفى نظرات الإعجاب التي كان ينظر بها الطبيب إلى "ملاذ" عن "ظافر" .. ، لا يعلم لما شعر بأنه يريد الفتك بذلك الطبيب الوسيم ، تغاضى عن فعلته الأن ليقف أمام "ملاذ" واضعاً كلتا يداه بجيب بنطاله و هو يسألها بنبرة فاترة :
- بقيتي كويسة ؟!
أومأت له "ملاذ" و لم ترد .. بينما لم يستطيع "ظافر" محاربة فضوله أكثر و هو يسأل عن تلك الندبة :
- هي الندبة اللي كانت في إيدك دي من الحرق؟!!..
رفعت بصرها له بنظرات غامضة ، نفت برأسها و عيناها لازالت معلّقة على حدقتيه الساحرتان ، همّ بأن يسألها عن سبب وجودها ولكنها قالت بنبرة غامضة :
- عايزة أمشي من هنا ..
ثم خرجت من الغرفة تُسبقه نحو المصعد ، أغمض "ظافر" عيناه يحاول تهدئة نفسه .. يشعر كما لو أنه يصارع حرباً نفسية داخله ، خرج أيضاً من الغرفة و هو يراها تقف أمام المصعد محدقة بالفراغ مكتفة ذراعيها أمام صدرها ، وصل المصعد ليستقلا إياه ، عاد "ظافر" واضعاً كفيه بجيب بنطاله بهيبة لا تليق إلا به ، ألتفتت له "ملاذ" محدقة به ، ظلت تنظر له لبعض اللحظات لتلاحظ ثغره الذي أنزوى بسُخرية :
- خلاص عرفت أني وسيم ..!!!
جحظت عيناها متمتمة بصدمة :
- نعم ؟!!!
التفت لها يمنع ضحكته بصعوبة :
- أصلك مبحلقة فيا من أول م دخلنا الأسانسير !!!
ضيقت عيناها بغيظ ليصل المصعد منقذ إياها من ذلك الموقف المقحمه به ، سبقته بخطوات سريعة ليبتسم "ظافر" مكشراً عن أسنانه اللؤلؤية ..
ذهبت نحو سيارته لتستقل المقعد الذي يجاوره تزم شفتيها بغضب حتى أشتعل وجهها أحمراراً من شدة الغيظ ، أستقل "ظافر" السيارة ينظر لحالها ، أنفلتت منه ضحكة رجولية صاخبة صدحت بأرجاء السيارة ، ليست فقط السيارة ، بل نشرت صداها في جوارح تلك المسكينة الجالسة جواره ، لأول مرة تراه يضحك من قلبه هكذا ، طرق قلبها كالطبول و هي تنظر له بذهول مُحبب ، تابعت تحرك تفاحة أدم خاصته التي تعلو وتهبط لضحكاته ، رنت بأذنها تلك الضحكة تقسم باللذي لا إله إلا هو أنها ستظل محفورة في قلبها مهما حيت !!!
أبعدت خصلة سقطت على وجهها لتضعها خلف أذنها ، لوهله تبعثرت روحها في الأرجاء ، شردت أمامها فكيف ضحكته تكن بذلك الجمال و الرجولية البحتة ، إزدردت ريقها تحاول أبعاد تلك الأفكار عن ذهنها ، ألتفتت له مجدداً لتجد أبتسامة عابثة تتراقص على شفتيه المرسومة بدقة ، تمتمت بهمسٍ سمعه "ظافر" :
- ضحكتك .. عاملة زي الأطفال !!!
رفع أحد حاجبيه بخبث قائلاً بعدم فهم زائف :
- قولتي أيه ؟!
أرتبكت سريعاً لتخىج منها العبرات متلعثمة :
- مقولتش حاجة .. ممكن تمشي بقى عشان عايزة أروح ..
أومأ دون أن يتكلم ، و لكن أبتسامته العابثة لاتزال تزين ثغره !!!
• • • •
أوصلها للعنوان الذي أخبرته به ليقف بسيارتها أسفل ناطحة السحاب التي لا يقطن بها سوى أصحاب الطبقة المخملية .. ألتفتت له "ملاذ" تنظر له قائلة بلطفٍ زائف :
- ميرسي على اللي عملته معايا النهاردة و ع الغدا اللي أتغديتوا عندكم ..
أومأ بأبتسامة بسيطة ليقول هو الأخر بجدية :
- الـ uniform هستلمه أمتى ؟!!
- هبدأ اصمم فيه النهاردة ..
أومأ هو بجدية ، كادت أن تترجل "ملاذ" لتلتفت له و بدون مقدمات أقتربت بشفتاها لوجنته المزينة بلحية زادته وسامةً لتطبع قبلة رقيقة على وجنته ، تصلب جسد"ظافر" غير مصدقاً ما فعلته ، همست بأذنه بنبرة صوتها المميزة :
- بـاي !!!!
ثم تبخرت من أمامه ، و كأنها كانت مجرد سراب ، لم يلاحظ أبتسامتها الخبيثة التي أرتسمت على وجهها عندما أدارت ظهرها له ذاهبة إلى شقتها و خطتها تسير بنجاحٍ باهر ، لم يعي "ظافر" ما حدث و نعومة شفتيها لازال يتذكرها ، أغمض عيناه فـ لو كانت بقت لدقيقة أخرى لكان أقدم على فعل حقاً يروق له ..
أخرج هاتفه من جيب بنطاله يضغط على أزراره بأنفاس تهتاجٍ ، وضع الهاتف على أذنه يقول بنبرة قوية :
- ملاذ خليل الشافعي ، تعرفلي عنها كل حاجة من أول من أتولدت لحد اللحظة دي ..!!!!
• • • •
وصل "ظافر" قنا بقريته إلى قصر الهلالي ، أول من قابل كان شقيقه الذي أخبره بنبرة جادة :
- ظافر عايزك دقيقتين ..
تحدث "ظافر" بإرهاق :
- باسل مش قادرة أتكلم جعان نوم ، أجل أي حاجة لبكرة ..
اوقفه "باسل" ممسكاً بساعده بنبرة لا تحمل النقاش :
- ظافر .. مش هاخد من وقتك دقيقتين ..
قطب "ظافر" حاجبيه لجدية "باسل" الشديدة بالحديث رُغم روحه المرحلة ليعلم أنه حقاً حديث هام ، أومأ له ليذهبا نحو مكتب "ظافر" ، دلفا للمكت ليجلس "ظافر" أمام شقيقه قائلاً :
- خير يا باسل في ايه ؟
تنهد "باسل" قائلاً بنبرة لا تزال جدية :
- عايز أتجوز !!!!
الفصل الرابع
أجتمعوا جميعاً على طاولة الطعام العريضة ، جلس "ظافر" على رأسه السُفرة بطبيعة الحال ، تجاوره والدته الذي بدى الشحوب على وجهها و رُغم ذلك رفضت تناول الغداء في غرفتها لتصرّ على أن تجلس معهما ، و من جهة اليمين جلس "باسل" الذي قد أتى للتو بحوزة "رهف" ..
بدأوا الجميع بتناول الطعام بصمت تام ، كانت "ملاذ" تحدق بصحنها بشرود ، لا تصدق أنها تجلس في قصر ذلك الرجل بل و تأكل على طاولة طعامه ، شردت لبعيد تماماً عندما كانت تبلغ من العمر خمس سنوات ..
طفلة صغيرة تصرخ بصوتٍ عالٍ على تلك السيدة الكبيرة بالعمر ، رُغم عُمرها الذي لم يتعدى الخمس سنوات و قُصر قامتها إلا أن صوتها كان يصدح بالبيت الصغير بأكمله ، حاولت تلك السيدة أن تهدأها بكلماتها الحنونة و هي تجلس كالقرفصاء لتصبح في مستواها :
- أهدي يا ملاذ يا حبيبتي صدقيني براءة أختك هتبقى بخير أهدي ..
نفت "ملاذ" بوجهها الطفولي الذي أمتلأ بالدموع و هي تقول بطفولية بريئة :
- لا مُس (مش) هتبقى كويسة هي لاسم (لازم) تعمل عملية بفلوس كتير .. أنتِ بتضحكي عليا أنتِ كذابة !!!
ثم تركتها وذهبت بعيداً خارج البيت بأكمله ، عيناها غارقة بالدموع الطفولية ، ركضت من على الدرج غير عابئة لصراخ تلك السيدة عليها ، عيناها مُلتمعة ببريق أصرار رغم صُغر عمرها ، ولكن معالجة شقيقتها كانت أكبر من أي شئ أخر ..
قادتها قدميها الصغيرة لقصر ذلك الرجل فاحش الثراء ، لم يكُن يبعد كثيراً عن بيتها المتواضع ، وقفت أمام البوابة و رُغم الفزع الذي أعتراها عندما وجدت رجلين قويان البنية و منكبيهما العريضان و طولهما الفارع ، أعتلت ملامحهما غرابة شديدة لوجود تلك الطفلة أمام قصر متحجر القلب ذلك ، قرفص أحدهما على قدميها أمامها قائلاً بحنو :
- عايزة حاجة يا حبيبتي ؟ فين مامتك وباباكي توهتي منهم ولا ايه ؟..
هزت رأسها برفض قائلة بنبرة قوية لا تليق إلا بها :
- عايسة (عايزة) أقابل عمو اللي جوا ، اللي معاه فلوس كتير ..
رفع ذلك الشخص حاجبيه بدهشة مسطرداً :
- و أنتِ عايزة عمو في أيه ؟ تعالي أوديكي لمامتك وباباكي ..
ثم سحبها من يديها لتنفض يده بقوة ، أنفجرت في بكاء شديد ليصرخ بها الأخر بعنف شديد :
- أمشي يابت من هنا مش ناقصين قرف ع الصبح !!
نظرت له بحقد و لم تكف عن البكاء المزعج والقوي ، فمن يراها لا يصدق بأن ذلك الصوت المرتفع نابع من تلك القزمة !
ظلت تبكي الكثير من الوقت حتى أعلن أستسلامه أحد الحراس قائلاً :
- خلاص هنخليكي تقابليه ..
أبتهج وجهها سريعاً لتلمع عيناها من فرط سعادتها ، قفزت تصفق بطفولية ، صرخ الأخير محتجاً بإستهجان عما قاله رفيقه :
- أنت بتقول أيه يا مراد لو شافها سيدنا الكبير هيتعصب علينا أحنا ..
صرخ به المدعو "مراد" هو الأخر متأففاً بضيق :
- أنت مش شايفها مهرية من العياط ازاي دي ممكن تموت كدة !!!
فتح الحارس بوابة القصر بضيق مشيراً لها بالدخول .. دلفت "ملاذ" بنصرٍ و بخطوات سريعة ، نظرت حولها للحديقة التي أمتلئت بالزهور مبهجة اللون لتصدم بجمالهما ، لم تعبأ كثيراً لتركض نحو باب القصر ، أخذت تطرق الباب بكفيها الصغيرتان لتفتح لها الخادمة ، صُدمت من تلك الصغيرة لتقول بغرابة :
- أنتِ مين يا عسولة ؟ و آآ
و في غضون ثانيتان كانت "ملاذ" تعبر تاركة إياها تهذي ، فقد ملت كثيراً أهذا كله لكي تقابل ذلك الرجل فقط ، وقفت "ملاذ" في منتصف القصر تقول الخادمة بنبرة يغمرها الغرور :
- فين أوضة اللي بتستغلي (بتشتغلي) عنده ؟
جحظت حدقتي الخادمة و لكنها لم تمنع تلك الأبتسامة التي زحفت على ثغرها لتشير لها على غرفة مكتب "سرحان الهلالي" لتذهب "ملاذ" لتلك الغرفة لا تصدق أنها و أخيراً ستتحدث مع الذي سينقذ شقيقتها ، وقفت أمام الباب لتقف على حافة قدميها حتى تصل لمقبض الباب ، جاهدت كثيراً و لكن فتحته بالأخير ، دلفت للغرفة بخطوات خائفة لتجده أخيراً ، "سرحان الهلالي" ذو الملامح القاسية و العينان المخيفتان بلونهما الأسمر ، خصلاته تتخللها الشيب قليلاً يجلس خلف مكتبه بغرورٍ يعمل بأوراقه ، لفت أنتباهه تلك الصغيرة التي دلفت لمكتبه لينتفض محدق بها بذهول ، أخذ يتسائل من أين جاءت ولماذا ، وقف أمامها واضعاً كفيه بجيوب بنطاله و معدته تدلى قليلاً أثر الشحوم المختزنة بها ، لم يتخلى عن جموده ليردف :
- أنتِ مين و بتعملي أيه في مكتبي ؟
لم تنبث "ملاذ" ببنت شفة ، مدت كفها الصغير في جيب بنطالها الصغير لتخرج بعض الجنيهات القليلة ، بسطت كفيها الصغيرتان معانا أمامه ، لم تجرؤ على رفع رأسها لتقول بعينان ممتلئة بالعبرات ليخرج صوتها متحشرجٍ أثر البكاء العالق بصدرها :
- دول بس اللي معايا .. ممكن يا عمو تساعد أختي عسان (عشان) تقدر تمسي (تمشي) على رجليها لو سمحت .. أنا عايفة (عارفة) أنك معاك فلوس كتير أوي .. لو سمحت يا عمو ساعدنا ..
قست ملامحه يطالعها بتهكمٍ ليصرخ بالخادمة بقوة :
- يا مديحة .. تعالي طلعي الأشكال دي من القصر ..
لم تفهم "ملاذ" ما قاله و لكن عندما وجدت الخادمة تأتي لتأخذها صرخت بقوة به و ببكاء يفطر القلب :
- لاء يا عمو لو سمحت ساعد أختي .
نظر لها ببرود جليدي ، و كأن الرحمة نزعت من قلبه نزعاً فأصبح كالحجر ، بل ربما قد نظلم الحجر إن شبهنا ذلك الشخص به ..
بكت "ملاذ" بكل ما أوتيت من قوة عندما سحبها ذلك الرجل بقوة ليدفع بها أمام مكتبه بقوة غير مراعياً صِغر سنها ، شفقت عليها الخادمة لتهم بإيقافها و لكن منعها "سرحان" بإشارة منه ، نظر لها بعيناه القاسيتان ليقول بنبرة خالية من الرحمة :
- لو شوفتك هنا تاني هحبسك في أوضة ضلمة فاهمه ؟!!!
ثم دلف لمكتبه صافعاً الباب خلفه ، أجهشت "ملاذ" بالبكاء لتترسخ عيناه القاسية بعقلها ، لم تيأس "ملاذ" أبداً بل نهضت رُغم جسدها الصغير الذي تألم من قوة دفعته ، طرقت على الباب مجدداً و لكن تلك المرة بقوة أكثر و هي تصرخ به بغضب :
- أفتح الباب .. أفتح أنت لازم تساعدنا !!!
رق قلب الخادمة لها لتجذبها و هي تقول برأفة :
- أبعدي يا حبيبتي عشان ميحبسكيش في الأوضة ، أنا مش عارفة أزاي باباكي و مامتك سابوكي تيجي القصر دة ..!!!!
نفضت "ملاذ" يدها عنها بقوة و هي مازالت تطرق على الباب بحدة رافضة الذهاب قبل أن تعود أختها في السير كما كانت ...
فتح "سرحان" الباب بعينان ملتهبتان ، حدقتيه حمرواتان بطريقة مرعبة تطلق شراراً ، شهقت "ملاذ" بخوف طفولي عندما وجدته هكذا لتنكمش على نفسها برهبة ، جرّها "سرحان" من ذراعها بعنف لغرفة كانت بالقبو ، باردة كالجليد ، حاولت الخادمة منعه و لكن لم تستطع لتركض لزوجته السيدة "رقية" لتحاول منعه مما سيفعله بتلك الطفلة ، ألقى "سرحان" بـ "ملاذ" داخل تلك الغرفة شديدة الظلام ، نظرت "ملاذ" حولها برعبٍ شديد محتضنه نفسها ، فـ فوق ظلام الغرفة الموّحش و لكن أيضاً برودتها لا يتحملها شخصٍ بالغ ما بالك بطفلة صغيره لا تفقه شئ !!!
اغلق "سرحان" الباب عليها ليوصده بالمفتاح ، قابل زوجته في وجهه بملامح فزعة مما قصت لها الخادمة ، أمسكت السيدة "رقية" ب تلابيب زوجها قائلة بفزع شديد :
- وديت البت فين يا سرحان .. متجولش أنك دخلتها الأوضة إياها !!!!
نظر لها بحدقتان خاليتان قائلاً :
- دخلتها يا رقية .. أبعدي من وشي الساعة دي ..!!!
جحظت عينان الأخيرة بقوة لتصرخ في وجهه ضاربة على صدرها بقوة :
- يـخـرابـي .. دي البت زمانها مفلوجة من العياط يا حبة عيني ، هات يا سرحان المفاتيح ..
تركها ماراً بجوارها غير عابئاً لها أبداً ..
بينما في الداخل كانت المسكينة تبكي بقوة. بشهقات لم تتوقف ، ينتفض جسدها بين الحين و الأخر من قوة بكاءها ، أخذت تناجي والدتها و والدها قائلة ببكاءٍ شديد :
- تعالي يا ماما خوديني ، تعالي خوديني أنا خايفة أوي ، أنا عايسة (عايزة) أخرج من هنا ، تعالي يا ماما أبعدي السرير (الشرير) دة عني ، أنا مس عايسة أقعد هنا أنا بخاف من الضيمة (الضلمة) .. الجو برد أوي هنا تعالي يا ماما خوديني بقا تعالي يا مـامـا !!!!
أنفجرت في بكاء قوي لتجلس بزاوية ما في الغرفة تضم ركبتيها إلى صدرها لتنسدل خصلاتها الغجرية على كتفيها ، سمعت صوتٍ من وراء الباب ، كان صوت فتى .. و لكن صوته حنون للغاية ، نبرته تغلغلت في جوارحها بقوة ، كان يمهس من وراء الباب بنبرة مطمأنه :
- متخافيش .. هطلعك من هنا !!!!
أجهشت بالبكاء بقوة ، أزرقت شفتيها من شدة البرودة و بردت أطرافها ، زاغت عؤناها لتصتدم رأسها على الأرضية بسكون تام ، و في تلك اللحظة بالضبط دلف "ظافر" إلى الغرفة الباردة ، ليشاهد ذلك الجسد الصغير يسقط امامه على الأرضية الباردة ، أنقبض قلبه ليركض نحوها ، طالعها بنظرات قلقة تشمل وجهها بأدق تفاصيله ، بشرتها الشاحبة بقوة و ثغرها المزموم الذي تحول لـ اللون البنفسجي ، دموعها العالقة بأهدابها المغلقه و البعض منثور على وجنتيها كاللؤلؤ ..
لم ينتظر ليحمل جسدها الصغير بين ذراعيه ، كان "ظافر" آنذاك بعمر الخامسة عشر ، رُغم سنه إلا أنه يملك جسد صخم ورثه من أبيه ، لذلك فقد كانت "ملاذ" كالريشة بأحضانه ، أستندت "ملاذ" برأسها على صدره بإرهاق ، نظر لها "ظافر" بشفقة ليصعد لغرفته تاركاً أبيه يصرخ به ، صعد الدرج بخطوات واسعة ليصل لغرفته ، فتح الباب بقدميها ليلج ، وضعها على فراشه الناعم برفقٍ شديد ، عيناه الزيتونيه تجول على وجهها بقلق أعتراه ، و كأنها مسئولة منه هو فقط ..
أعنتت بها أمه أيضاً لـ تأتي تلك السيدة التي تعِش معها "ملاذ" و "براءة" لتأخذ "ملاذ" ، و لكن لم تكن نفسها "ملاذ" .. بل كانت طفلة بقلبِ قاسٍ ، قلب و عقل ترسخ بهما حدقتين .. تلك العينان السمراء القاسية و المتحجرة ، و عيناه الزيتونية الممتلئة بالدفء النابع منها ..
”ليتنا نستطيع أن نعالج خدوش أرواحنا.”
• • • •
بدون مقدمات رفعت رأسها لتنظر إلى "ظافر" .. بعيناه الزيتونية الحنونة ، و لكنه يحجب ذلك الحنو بجمود قاسٍ ، لتتمثل أمامها حدقتي مزيج بين قسوة "سرحان الهلالي" و حنو "ظافر سرحان الهلالي" ..!!
نهضت "ملاذ" فجأة من على طاولة الطعام شاعرة بأختناق كبير .. و كأن شئ يجثى على صدرها يمنعها من التنفس حتى ، نظروا جميعاً لها لنهوضها المفاجئ و من بينهم "ظافر" الذي طالعها بإستغراب .. هم بأن يسألها عما بها لتقاطعه "ملاذ" قائلة بنبرة لاهث تجاهد لتلتقط أنفاسها :
- أنا .. أنا لازم أمشي ..
قطب "ظافر" حاجبيه كما فعلت والدته لتسألها بقلق :
- فيكي حاجة يابتي ؟ أنتِ بخير ؟
أومأت "ملاذ" بصمت و هي تستشعر نبرتها الحنونة ، لم تنتظر بل ذهبت بخطوات واسعة نحو باب القصر لتخرج سريعاً ..
ذهب "ظافر" ورائها ليرى ما حدث لها ، وجدها تقف وسط الحديقة تضع يدها على قلبها و باليد الأخرى تستنشق الرذاذ النابع من بخاخ الربو ، هدأت ضربات قلبها المتسارعة لتعود لطبيعتها ، تقدم "ظافر" نحوها .. وقف أمامها ليراها مغمضة العينان تحاول تنظيم تنفسها غير ملاحظة وقوفه أمامها ، لأول مرة يرى ملامحها بالقرب ذاك ، تجولت حدقتيه على وجهها بدايةً من حدقتيها المغلقتان و أهدابها الكثيفة التي علقت بها حبات "الماسكرا" الجافة ، نزولاً بأنفها الصغير .. عبرت عيناه على شفتيها و عند تلك اللحظة لم يتسطيع إزاحة نظره عن شفتيها المُطلية باللون الأحمر القاني ، شعور يدفعه لأن يهجم على شفتيها مقبلا إياها ، و لأنه "ظافر" الذي لا يقف أمامه شئ ، وباللحظة الأخيرة توقف عما كاد أن يفعل ، بل أبتعد عنها تماماً و كأنها مرض سيُعديه ، نبض فكه لشدة غضبه ، التنين عيناه كما لو كانت سيضخ من داخلها الدماء ، منذ متى و هو يشعر بذلك الشعور تجاه أنثى ؟ منذ متى و عيناه تحيد على فتاة ؟ لقد عاهد نفسه بأن لا يُميل للحب مهما صار ، و لكن لما عندما يرى "ملاذ" يشعر و كأنها مسؤليته ، يشعر كمل لو أنه رآها من قبل ، عندما يراها يشعر و كأنه عاد طفلٍ من جديد ، و لكنه لن يسمح بنضج ذلك الشعور داخله ، سيقتلعه من جذوره في الحال ..!!!
فتحت "ملاذ" عيناها تطالع "ظافر" بإستغراب ، تفحصت هيئته الغاضبة لتتمتم بتساؤل :
- في أيه ؟ .. إنت كويس ؟ باين عليك آآ ..
بتر عبارتها و قد عاد الجمود إلى عيناه الزيتونية الباردة :
- مافيش حاجة .. يلا عشان أروحك ..
- طب وعربيتي ؟
- هخلي السواق يبعتهالك على عنوان شقتك ..
سبقته بخطوات ذاهبة نحو سيارته ، أستقلت المقعد الذي يجاور مقعد السائق ، كما أستقل "ظافر" وراء المقود ، كانت صفحات وجهه لا تفسر ، الغابات الزيتونية بحدقتيه كانت وكأنها تشتعل مصدرة لهباً يحرق الأخضر واليابس ، ذراعيه المشمرتان بقميصه الأسود الأنيق كانا مشدودان على المقود بطريقة مفزعة ، برزت أوردته البنفسجيه بـ رسغيه و كأنه يعاني حرباً نفسياً بداخله ، كل تفاصيله تلك لاحظتها "ملاذ" ، عندها لاحت أبتسامة خبيثة على ثغرها ، فـ خطتها تسير كما المطلوب ، عادت ترسم البراءة على وجهها ببراعة ، عيناها السوداوية تلتمع ببريق ربما مخيف ، بريق الأنتصار الذي لطالما لم ينزاح من حدقتيها ، تحركت السيارة مصدرة صرير عالٍ ، كانت السيارة تسير على سرعة مئة و عشرون ، تجمدت "ملاذ" بكرسيها .. و لأول مرة تشعر بالخوف الذي جعل جسدها بأكمله ينتفض ، هجمت الذكريات السيئة على ذهنها ، تخيلت أن بتلك السرعة أفتعلا والداها حادث أودى بقدم شقيقتها ، رُغم إنها لم تكن بالسيارة في ذلك الحادث و لكنها استطاعت ان تشعر بذلك في تلك السيارة ، بدأت تلك الحقيقة تتجسد أمامها شيئاً فـ شئ ، و بالفعل لاحظت شاحنة ضخمة يصدر منها أبواق الأنوار العالية التي كادت أن تُعمي بصرها ، جحظت عيناها بقوة و قلبها يدق بعنف شديد غطت وجهها بكفها و كأنها تريد أن تختفي من ذلك العالم ، و باللحظة الأخيرة أنحرف "ظافر" بالسيارة ليتنحى بها جانباً ، أهتز صدره علواً و هبوطاً من الذي كاد أن يحدث بهما ، تلك هي الحياة ، فقط ثوانٍ معدودة شعر بهما أن الحياة توقفت ..!!!
التفت لينظر إلى "ملاذ" التي لازالت تخفي وجهها داخل كفيها كالأطفال ، الصمت يسود السيارة سوى أنفاس "ظافر" اللاهثة ، لا يعلم كيف سيتصرف ليمد كفيه يزيح كفيها عن وجهها قائلاً بنبرة لاهثة :
- متخافيش .. مافيش حاجة حصلت ، أنتِ كويسة ؟
أخذت "ملاذ" بعض الدقائق تستوعب بهما ما حدث ، و لكن نبرته الدافئة جعلتها تسند رأسها على كفيها الموضوعتان على فخذيها ، رأسها تميل للأمام لتنساب خصلاتها مسترسلة حول كتفيها ، بنبرة قوية تمتمت :
- روّحني !!!!
حاول تهدأتها ببعض الكلمات :
- أهدي مافيش ..
بترت عبارتها بصراخها بوجهه بقوة شديدة حتى ألتهب وجهها :
- روَّحني دلوقتي حالاً !!!!!
أغمض عيناه محاولاً التحكم بأعصابه ، فـ و لأول مرة يصرخ أحد بوجهه بتلك الطريقة و لكنه مراعياً فزعها وخوفها ..
أنطلق بالسيارة ولكن بسرعة أهدأ و طوال الطريق لم يسمع سوى صوت أنفاسها العالية ..
قاطع ذلك الصمت الذي ساد بينهما و الجو المشحون بذبذبات هاتف "ملاذ" الذي صدح صوته بالسيارة ، تفاجأت "ملاذ" بأسم "براءة" يلتمع بالشاشة ، فمنذ الكثير من الوقت لم تهاتفها شقيقتها ، سريعاً ما ضعطت على زر الإجابة لتضع الهاتف على أذنها بنبرة حنونة للغاية :
- براءة ..!!
جحظت عيناها عندما وجدت السيدة "فتحية" التي تعتني بشقيقتها تصرخ بأن عليها المجئ بالمشفى الأن فحال شقيقتها سئ ..
انقبض قلبها و توقفت الأحرف على طرف شفتيها ، لم تكن تملك القدرة حتى للرد عليها ، ألتفتت إلى "ظافر الذي كان يوزع نظرات استفهامية بينها وبين الطريق ، أخبرته بنبرة متوجسة :
- متروحش البيت أطلع ع مستشفى **** بـسـرعـة !!!!!
• • • •
ترجلت "ملاذ" راكضة حتى كادت أن تتعثر بخطواتها و هي ذاهبة نحو المشفى ، لحق "ظافر" بها و لأول مرة يراها بذلك الفزع ، ركض وراءها ليلحق بها ليمسك برسغها قائلاً بنبرة هادئة :
- ممكن تهدي عشان نتصرف ..
تلوت بين ذراعيه صارخة به في غضبٍ ليتركها ، تركها "ظافر" بالفعل بدمٍ بارد ، ذهبت "ملاذ" إلى موظفة الاستقبال تصرخ بها :
- فين براءة .. براءة خليل الشافعي ..
أرتبكت الأخيرة من صراخها بوجهها لتبحث بين أسماء القابعين بالمشفى لتجد بالفعل الأسم ، تمتمت موظفة الأستقبال قائلة بنبرة خائفة :
- في أوضة 301 الدور الرابع
لم تنتظر لتركض نحو المصعد ، ضغطت على الزر منتظرة قدومه ، فركت أصابعها بتوتر شديد ليقف "ظافر" بجانبها بشموخٍ كالمعتاد ، حاول تهدأتها بنبرة دافئة لطيفة :
- بإذن الله أختك هتبقى كويسة ..
نظرت له من فوق كتفيها ليأتي المصعد ، أستقلا كلاً منهما المصعد لتضغط على الطابق الرابع ، الوقت يمر كمرور سنوات وليس مجرد لحظات طفيفة ، صدرها يعلو ويهبط من فرط خوفها على شقيقتها ، فـ هي لن تتحمل أن تصاب بأذى ، سستحول دون أذيتها ولو كلفها ذلك حياتها ..
بينما "ظافر" لم ينبث ببنت شفة ، فقط يراقب تعابير وجهها القلقة ، حتى ذلك القلق الذي غلف صفحات وجهها لم ينقص من جمالها أو جاذبيتها مقدار ذرة ، بل باتت و كأنها لوحة فنية متوجسة رُسمت بقلم رسامٍ محترف ..
وصل المقعد و أخيراً لتركض "ملاذ" خارجه منه وقفت أمام الغرفة المطلوبة لتفتح بابها على حين غُرة ، رقت تعابير وجهها عندما رأت غاليتها تجلس على الفراش نصف جلسة أمامها تجلس "فتحية" ممسكة بصحنٍ من الحساء الساخن ، كانت تطعمها برفق .. أنزوت شفتيهاا بأبتسامة حانية ، دلفت الغرفة بخطواتٍ مترددة و هي تُمضي نحو فراشها ، نظرت لها "براءة" بغضب صارخة بها :
- أنتِ جيتي هنا ليه ؟!!!!
أسبلت "ملاذ" بعيناها قائلة بنبرة هامسة لصوتها المبحوح من كثرة الصراخ :
- جيت أتطمن عليكي ..
- أطلعي برا !!!
رمت بكلمتها التي كانت كاللكمة لقلب "ملاذ" الدامي ، لم تعيرها "ملاذ" أهتمام أو هذا ما اظهرته ، رسمت الجمود على وجهها ببراعة لتشير إلى "فتحية" بالأبتعاد ، انصاعت لها "فتحية" لتضع الصحن الذي بيدها على الطاولة الصغيرة القابعة بحجر "براءة" جلست "ملاذ" على طرف الفراش لتأخذ هي الصحن ممسكة به ، همت بإطعامها لترمي "براءة" الصحن بقوة على الأرضية ، تناثر بعض من الحساء الساخن على كفي "ملاذ" ، و لسخونته الشديدة أغمضت "ملاذ" عيناها تفرك يدها التي شبه أحترقت و لم تتغير تعابير وجهها قط ، أشتعلت حدقتي ذلك الذي يقف يراقبهما ، كان يحاول التماسك محاولاً ألا يتدخل بشؤنهما ولكن عند فعلة شقيقتها تلك لم يستطيع التحكم بأعصابه ليذهب نحوهما ، أمسك بكف "ملاذ" غير منتبهاً لذلك الحرق ، تمتم بنبرة حادة كالنصل :
- قومي يا ملاذ نمشي ..
نظرت له "براءة" بنظرة مشدوهة ، أرتسمت علامات الأعجاب داخل عيناها من ذلك طويل القامة و صدره العريض و غابات الزيتون بعيناه ، أخفت نظرات الإعجاب سريعاً لتنتهز الفرصة لتنهرها شقيقتها أمامه لتشعر بالخجل أمامه غير عابئة بمشاعرها :
- خودها و امشي يلا ، مش عايزة أشوف وشك يا ملاذ في بيتي مش ناقصة قـرف يا هانم !!!!!
لم تتغير تعبيرات وجهها الهادئة ، و لكن داخلها براكين مشتعله على أهُبة الأستعداد لتحرق الأخضر واليابس ، أشتدت كفيه على كفيها مغمضاً عيناه و هو شعر بروحه تحترق ، لم يستطع السير هكذا دون أن يردها لها ، صاح بها بنبرة نارية كالجحيم :
- لما تعرفي تتكلمي مع أختك الكبيرة يبقي أتكلمي ، أه وبالمناسبة أنتِ فعلاً متستهليش يبقى عندك أخت حنينة زيها ..
جذب "ملاذ" من يدها ليسيرا في ممر المشفى ، كانت مستسلمة تماماً بين يداه ، وقفا أمام المصعد ينتظرا مجيئه ، وبدون وعيٍ منه ضغط على كفها بقوة ، أنفلتت شهقة متألمة من ثغر "ملاذ" ، تفاجأ "ظافر" بها تبعد يداها عنه تفرك كفها بألم ظهر على قسمات وجهها ، نزل بناظريه لكفها ليجد الأحمرار يسود مع ندبة تصل من مقدمة أصابعها حتى رسغها ، قطب حاجبيه بقوة ليجذب كفها متمتماً بصدمة :
- إيدك مالها ؟!!!
سحبت كفها مجدداً من كفه الغليظ و هي تقول محاولة ألا تظهر الألم القابع داخل عيناها :
- سيبني .. ملكش دعوة..
تقلصت ملامحه بغضبٍ أهوج و عينان سودويتان ليجذب ذراعها نحوه لتصتدم بصدره عيناها تقابل عيناه الزيتونية الحادة ، لفحت أنفاسه الساخنه وجهها عندما نهرها بحدة :
- بلاش عناد يا ملاذ ، و أخر مرة تتكلمي معايا بالأسلوب دة !!!
لم ينتظر ردّها ليمسك بكفها بلُطف داخل كفيه الغليظتان ، اشفق على حالها عندما رأى تلك الندبة ، ظن أنها من ذلك الحرق علاوةً على أحمرار كفها الرقيق ، و أكمل هو عندما ضغط عليه بقوة غير مقصودة لتطبع أصابعه على كفها ، تحدث بلطف تلك المرة و هو يأخذ كفها داخل كفه الخشن :
- تعالي هجيب دكتور يشوفك ..
لا تعلم لِمَ لم تعاندها تلك المرة ، و لكن نبرته الحانية التي تغلغلت بين ثنايا روحها جعلت فمها مطبوق منصاعة له .. فقط تلك المرة ..!!!
• • • •
بالفعل أطمئن الطبيب على أحوالها ووضع لها ضمادة حتى تمنع الحرق من الملوثات ، لم تُخفى نظرات الإعجاب التي كان ينظر بها الطبيب إلى "ملاذ" عن "ظافر" .. ، لا يعلم لما شعر بأنه يريد الفتك بذلك الطبيب الوسيم ، تغاضى عن فعلته الأن ليقف أمام "ملاذ" واضعاً كلتا يداه بجيب بنطاله و هو يسألها بنبرة فاترة :
- بقيتي كويسة ؟!
أومأت له "ملاذ" و لم ترد .. بينما لم يستطيع "ظافر" محاربة فضوله أكثر و هو يسأل عن تلك الندبة :
- هي الندبة اللي كانت في إيدك دي من الحرق؟!!..
رفعت بصرها له بنظرات غامضة ، نفت برأسها و عيناها لازالت معلّقة على حدقتيه الساحرتان ، همّ بأن يسألها عن سبب وجودها ولكنها قالت بنبرة غامضة :
- عايزة أمشي من هنا ..
ثم خرجت من الغرفة تُسبقه نحو المصعد ، أغمض "ظافر" عيناه يحاول تهدئة نفسه .. يشعر كما لو أنه يصارع حرباً نفسية داخله ، خرج أيضاً من الغرفة و هو يراها تقف أمام المصعد محدقة بالفراغ مكتفة ذراعيها أمام صدرها ، وصل المصعد ليستقلا إياه ، عاد "ظافر" واضعاً كفيه بجيب بنطاله بهيبة لا تليق إلا به ، ألتفتت له "ملاذ" محدقة به ، ظلت تنظر له لبعض اللحظات لتلاحظ ثغره الذي أنزوى بسُخرية :
- خلاص عرفت أني وسيم ..!!!
جحظت عيناها متمتمة بصدمة :
- نعم ؟!!!
التفت لها يمنع ضحكته بصعوبة :
- أصلك مبحلقة فيا من أول م دخلنا الأسانسير !!!
ضيقت عيناها بغيظ ليصل المصعد منقذ إياها من ذلك الموقف المقحمه به ، سبقته بخطوات سريعة ليبتسم "ظافر" مكشراً عن أسنانه اللؤلؤية ..
ذهبت نحو سيارته لتستقل المقعد الذي يجاوره تزم شفتيها بغضب حتى أشتعل وجهها أحمراراً من شدة الغيظ ، أستقل "ظافر" السيارة ينظر لحالها ، أنفلتت منه ضحكة رجولية صاخبة صدحت بأرجاء السيارة ، ليست فقط السيارة ، بل نشرت صداها في جوارح تلك المسكينة الجالسة جواره ، لأول مرة تراه يضحك من قلبه هكذا ، طرق قلبها كالطبول و هي تنظر له بذهول مُحبب ، تابعت تحرك تفاحة أدم خاصته التي تعلو وتهبط لضحكاته ، رنت بأذنها تلك الضحكة تقسم باللذي لا إله إلا هو أنها ستظل محفورة في قلبها مهما حيت !!!
أبعدت خصلة سقطت على وجهها لتضعها خلف أذنها ، لوهله تبعثرت روحها في الأرجاء ، شردت أمامها فكيف ضحكته تكن بذلك الجمال و الرجولية البحتة ، إزدردت ريقها تحاول أبعاد تلك الأفكار عن ذهنها ، ألتفتت له مجدداً لتجد أبتسامة عابثة تتراقص على شفتيه المرسومة بدقة ، تمتمت بهمسٍ سمعه "ظافر" :
- ضحكتك .. عاملة زي الأطفال !!!
رفع أحد حاجبيه بخبث قائلاً بعدم فهم زائف :
- قولتي أيه ؟!
أرتبكت سريعاً لتخىج منها العبرات متلعثمة :
- مقولتش حاجة .. ممكن تمشي بقى عشان عايزة أروح ..
أومأ دون أن يتكلم ، و لكن أبتسامته العابثة لاتزال تزين ثغره !!!
• • • •
أوصلها للعنوان الذي أخبرته به ليقف بسيارتها أسفل ناطحة السحاب التي لا يقطن بها سوى أصحاب الطبقة المخملية .. ألتفتت له "ملاذ" تنظر له قائلة بلطفٍ زائف :
- ميرسي على اللي عملته معايا النهاردة و ع الغدا اللي أتغديتوا عندكم ..
أومأ بأبتسامة بسيطة ليقول هو الأخر بجدية :
- الـ uniform هستلمه أمتى ؟!!
- هبدأ اصمم فيه النهاردة ..
أومأ هو بجدية ، كادت أن تترجل "ملاذ" لتلتفت له و بدون مقدمات أقتربت بشفتاها لوجنته المزينة بلحية زادته وسامةً لتطبع قبلة رقيقة على وجنته ، تصلب جسد"ظافر" غير مصدقاً ما فعلته ، همست بأذنه بنبرة صوتها المميزة :
- بـاي !!!!
ثم تبخرت من أمامه ، و كأنها كانت مجرد سراب ، لم يلاحظ أبتسامتها الخبيثة التي أرتسمت على وجهها عندما أدارت ظهرها له ذاهبة إلى شقتها و خطتها تسير بنجاحٍ باهر ، لم يعي "ظافر" ما حدث و نعومة شفتيها لازال يتذكرها ، أغمض عيناه فـ لو كانت بقت لدقيقة أخرى لكان أقدم على فعل حقاً يروق له ..
أخرج هاتفه من جيب بنطاله يضغط على أزراره بأنفاس تهتاجٍ ، وضع الهاتف على أذنه يقول بنبرة قوية :
- ملاذ خليل الشافعي ، تعرفلي عنها كل حاجة من أول من أتولدت لحد اللحظة دي ..!!!!
• • • •
وصل "ظافر" قنا بقريته إلى قصر الهلالي ، أول من قابل كان شقيقه الذي أخبره بنبرة جادة :
- ظافر عايزك دقيقتين ..
تحدث "ظافر" بإرهاق :
- باسل مش قادرة أتكلم جعان نوم ، أجل أي حاجة لبكرة ..
اوقفه "باسل" ممسكاً بساعده بنبرة لا تحمل النقاش :
- ظافر .. مش هاخد من وقتك دقيقتين ..
قطب "ظافر" حاجبيه لجدية "باسل" الشديدة بالحديث رُغم روحه المرحلة ليعلم أنه حقاً حديث هام ، أومأ له ليذهبا نحو مكتب "ظافر" ، دلفا للمكت ليجلس "ظافر" أمام شقيقه قائلاً :
- خير يا باسل في ايه ؟
تنهد "باسل" قائلاً بنبرة لا تزال جدية :
- عايز أتجوز !!!!