رواية الاربعيني الاعزب الفصل الرابع 4 بقلم اية محمد رفعت
شروق شمس هذا اليوم كان مختلفاً كثيراً، وكأن بوجود تلك الفتاة ذو الثلاثة والثلاثون عاماً جعل القصر الكئيب مفعم ببريقٍ من الأملٍ، فتسللت أشعة الشمس لداخل الغرفة بحريةٍ وكأنها تعلن عن بداية يوماً هام، وخاصة مع بداية استيقاظ تلك الفتاة التي يصغرها شكلها رغماً عن سنها المعترف به، عبثت “لوجين” بعينيها وهي تحارب نومها العميق الذي يسحبها بأحضانه، فأتكأت بمعصمها على الفراش الناعم حتى استقامت بجلستها، فحكت عينيها بعبثٍ وهي تتلفت بالمكانٍ باستغرابٍ، فحاولت بقدر الامكان تذكر ما حدث بالأمس، مر على مخيلاتها هروبها من الحفل بصحبة ذاك الرجل الوسيم، وبقائهما بمنزل شقيقته من أجل احتفالهما بعيد ميلاده الأربعون، تتذكر كيف غفلت على الأريكة ومن ثم وجدت ذاتها هنا، فربما وضعها بأحدى الغرف، نهضت عن الفراش ثم اتجهت لباب الغرفة ففتحته وخرجت لتتصنم محلها في ذهولٍ تام، حينما وجدت نفسها بقصرٍ ضخم للغاية، يملأه الأثاث الوثير والانتيكات الباهظة،وأغلب ما يشمل لونها الكحلي الداكن، مشطت بيدها خصلات شعرها وهي تردد بحيرةٍ:
_أين أنا؟ أين ذهب الجميع!
_صباح الخير سيدتي..
انتبهت “لوجين” لصوت الخادمة القادم من جوارها، فانتفضت بفزعٍ، ومن ثم هدأت من روعها لتجيبها بلهفةٍ:
_أخبريني أين انا بالتحديد؟
لمست من تعابير وجهها القلق، فقالت:
_إهدئي قليلاً سيدتي… أنتي هنا بقصر السيد “عاصي سويلم”.
ارتسمت ابتسامة حالمة على وجهها:
_حقاً!
هزت رأسها، ثم قالت باهتمامٍ:
_سأعد لكِ الفطور..
قالت بلهفةٍ:
_أسرعي فبطني تتضور جوعاً منذ الأمس..
ضحكت وهي تهم بهبوط الدرج الضخم، فلحقت بها”لوجين” للأسفل وهي تتطلع لكل ركناً بزوايةٍ القصر، فجذب انتباهها الصور الموضوعة بكل مكانٍ بباحته، تحمل صورته وصورة لفتاةٍ غريبة بملامح هادئة، جدائل شعرها الاسود منسدل على ظهرها، عينيها كحبات الزيتون اللامع، وعلى ما بدى لها بأنها زوجته، خاصة بوقفتها لحواره بحريةٍ كبيرة، أفاقت “لوجين” من شرودها على صوت الخادمة وهي تخبرها:
_تفضلي سيدتي، الطعام جاهز.
سألتها ويديها تشير على الصورة:
_من تلك المرأة؟
راقبت الخادمة الطريق من حولها قبل أن تجيب على السؤال المطروح بحزنٍ ظاهر:
_هذة السيدة “هند”، زوجة السيد”عاصي” السابقة..
ضيق “لوجين” عينيها بذهولٍ، فلم تشبع اجابتها المختصرة فضولها، لذا عادت لتتساءل من جديدٍ:
_ماذا تعني بالسابقة؟ هل انفصلا؟
هزت رأسها بالنفي، ثم قالت بتوضيحٍ:
_توفت قبل الزفاف ببضعة أسابيع، كانت تعاني من مرضٍ خبيث عفانا الله..
حزنت لما استمعت إليه، فرفعت رأسها تجاه الصورة مرة أخرى، لتردف بلهجةٍ مختنقة:
_وجع الفراق لا يعلمه سوى من عاش بصحبته… أتساءل كيف تجاوز الأمر بتلك البساطة!
ردت عليها الخادمة بشفقةٍ تجاه سيدها:
_لم يتجاوز السيد “عاصي” الأمر إلى الآن، فمنذ وفاتها تحول هذا القصر لسجن كئيب، حتى هو لم يفكر بالزواج من أخرى..
استندت بذراعيها على مقدمة المقعد المقابل لها، لتهيم بحديث الخادمة التي زرع الإعجاب بقلبها تجاهه، أعجبت بتفانيه بحبه حتى بعد وفاة من أحبت، وبشهامته واصراره على مساعدتها رغم استغلالها له وكذبتها المتعلقة بأمر حبيبها، وُلد بداخلها رغبة بسماع كل شيء يخص هذا الأربعيني الوسيم، لامست بيدها خصلات شعرها المتدلية على وجهها بدلالٍ، فسكنت لدقيقتين تراقب ملامحه المتغيرة، فعلى ما يبدو بأن تلك الصورة منذ أعواماً والذي أثار تعجبها جاذبيته التي ازدادت كلما كبر عاماً، فهمست بصوتٍ غير مسموع:
_عجباً لك… أتزداد جمالاً كلما تقدم بك العمر أم يعود بك الزمن عاماً أخر للخلف!
قطع حساباتها المعقدة وحالة صدمتها المؤثرة صوت البيانو القادم من إحدى الغرف بالطابق الأسفل، تتبعت “لوجين” الصوت كالدمية المسحورة التي تحركها الساحرة الشريرة، حتى وصلت لأحدى الغرف المغلقة، حررت بابها بربكةٍ غامضى تطرق أبواب قلبها لأول مرة، وخاصة حينما وجدته يجلس على البيانو، يحرك أصابعه على أزراره بحرافيةٍ ومهارة، حتى وعينيه مغلقة، وقفت مقابله تراقبه وتستمع لعزفه الساحر بصمتٍ، ظنت ببدء الأمر بأنه لم يراها لذا استرقت النظر إليه باستمتاعٍ لعزفه المميز، فكسر صوته الرخيم قواع. الصمت المخيمة بالغرفة:
_إن انتهيتي من المراقبة، بوسعك الإقتراب والجلوس أفضل من ان تؤلمكِ قدميك..
انفرجت شفتيها بصدمةٍ، فبللتها لتمنحها ترطيب بعد ان جفت مثل حلقها، ثم قالت بارتباكٍ:
_أتضور جوعاً فكنت أبحث عن طعاماً يشبع جوعي، فجذبني صوت البيانو إلى هنا..
أغلق باب البيانو الصغير، ثم نهض ليقترب منها، قائلاً بهدوءٍ:
_اتبعيني..
إنصاعت اليه، فاصطحبها لمطبخ القصر الرئيسي، ثم أشار بعينيه لأحدى الخادمات، فأتت مسرعة حاملة صينية دائرية الشكل، تحوي أنواعاً متعددة من الطعامٍ الشهي، فوضعتها على الطاولة المستطيلة الموضوعة بالمطبخ، فجلست تتناول طعامها وعينيها تراقبه، جذب أحد المقاعد المقابلة لها ثم جلس يتطلع لها بنظراتٍ ثابتة، قضمت أحدى الشطائر ثم بدأت بالحديث الذي لم تكف عنه منذ أن راته:
_هل تعيش هنا بمفردك؟
رفع حاجبيه ساخراً:
_الا يفترض بي ذلك!
ردت عليه بمرحٍ:
_بالتأكيد..
وتطلعت للخادمة المنشغلة بإعداد للقهوة ثم أشارت بيدها له بأن يقترب ليستمع لما تود قوله، ابتسم “عاصي” على طريقتها الطفولية، ثم قرب وجهه منها، فهمست بخوفٍ اتبع صوتها:
_سمعت بأن الأشباح يسكنون مثل تلك القصور القديمة…
رفع حاجبيه متصنعاً الدهشة:
_حقاً!
أومأت برأسها عدة مرات، ثم استكملت حديثها:
_أجل، اسمع لا تنام بمفردك بهذا القصر الكئيب، أنصحك بالزواج حتى لا تعشقك أحدى جنياته وحينها لن تتمكن من النجأة..
اخفى ضحكاته، وبدى جادياً:
_ومن تلك العروس التي ستوافق على الزواج من رجل القصر المسكون!
وضعت طرف الملعقة في فمها وهي تفكر قليلاً، فارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تجيبه:
_فلننظم حملة من الدعايا، نطالب بها بعروس مناسبة لك..
ضحك بصوتٍ مسموع ولأول مرة، فتابعه الخدم بصدمةٍ، اظلمت ابتساماته مع ظلام ذاك القصر المظلم وها قد اضاءتها تلك الفتاة مجدداً، نقل نظراته لساعة يديه، ثم جذب الجاكيت الموضوغ خلف مقعده، ليشير لها ساخراً:
_لدي اجتماع طارق… أستأذنك بالانصراف…
واستكمل طريقه للخارج، وقبل أن ينهى خطاه تجاه الرواق استدار تجاهها يذكرها بما قد غفلت عنه:
_لا تنسي تبقى لكِ يومين فقط… استغليهم جيداً بالبحث عن سكن أخر..
وضعت الملعقة عن يدها، ثم قالت بتأففٍ:
_أعلم ذلك..
وغادر “عاصي” والابتسامة التي صنعتها على وجهه مازال يتحلى بها، حتى انه لم يستغل وقت القيادة للعمل بالحاسوب مثلما يفعل كل يوم، بل صفن بها طوال الوقت، لا يعلم كيف انهى اجتماعه الذي استغرق ثلاث ساعات كاملة ، وبالكد حصل على فترة استراحة بمكتبه، ليجد هاتفه يضيء بعدد مكالمات تصل لعشرون مكالمة جميعها من “عمر”، فحرر زر الاتصال وهو يجيب على مضضٍ:
_ كل تلك المكالمات منذ الصباح!
أتاه صوته الذي بدى اليه منصدماً بعض الشيء:
_نعلم انك تمر بأزمة عاطفية منذ وفاة” هند” وكنا ندعو الله أن تمر على خير، وتقطع وعدك بالعزوبية وتتزوج ولكن ما فعلته هو صدمة بكل المقاييس يا رجل!…
واستكمل ساخراً:
_أخبرت شقيقتك أكثر من مرة أنك خبيث ولكنها لم تصدقني، فحتماً حينما ترى ما أراه ستصدق كل حرفاً أخبرتها به..
مرر يديه على جبينه يحارب صداع رأسه الذي يهاجمه فور سماع صوته، ثم قال:
_ما بك “عمر”؟ أخبرني ما تقصده دون ألغاز!
قال بمشاكسةٍ:
_أرسلت لك الخبر على المحادثة الخاصة بنا… اذهب وأرى بنفسك..
فتح”عاصي” لينك الموقع الذي قام عمر بارساله اليه، فقرأ بعدم اهتمام المكتوب، فجحظت عينيه في صدمةٍ حقيقية، فاعتدل بمقعده سريعاً ليعيد القراءة مرة أخرى ببطءٍ
«رجل الأعمال الشهير “عاصي سويلم”، يبحث عن فتاة أحلامه، فمن ترى نفسها تليق بالأربعيني الأعزب الوسيم تملي تلك الاستمارة وسيتم اختيار عدد لمعينة مقابلة سريعة في قصره الخاص»
فتح الاستمارة الموضوعة أسفل الإعلان فصعق حينما وجدها عبارة عن أسئلة متعلقة بالوزن والطول، ولون البشرة وطول الشعر واخرى متعلقة بالعلاقات السابقة والمؤهلات التعليمة، أغلق الهاتف وهو يردف بتعصبٍ شديد:
_” لــــــوجين”… مـــــــــاذا فعلتي يا فتاة!
يتبع…