رواية نسم بقلب عاشق بقلم ولاء محمود
نسم بقلب عاشق
الفصل الأول
يقبع ذلك الطفل يبكي بشدة بجانب والدته المُمددة على احد اسرّة بالمشفى العام..
صبي ذو "السابعة" من عمره مشتت الهيئة بالاً وجسداَ....
يرى والدته بتلك الحالة لا يملك من أمره شيئاً سوي ان يدعوا الله ليل نهار أن يَمنّ عليها بالشفاء فقد أرهقته الدنيا بما يكفي لم تترك له مجالاً الخيار..؛ والده توفي بحادث أثناء مجيئه من عمله ذات مساء بليلة ممطرة...وهروب مرتكب الحادث حتى انه لم يعوّضه بشيئاً مادياً يستطيع به علاج والدته فمن أين له المال ياترى؟!..
يشدد من قبضته على يد والدته يرجوها ألّا تتركه وتذهب هي الأخرى…
فجأة يُفتح باب الغرفة ويدلف منه رجل يرتدي معطف ابيض بيده سماعة طبية فعلم أنه الطبيب..
أسرع يُهرول ناحيته يترجّاه أن يُلقي نظرة على والدته يرى مابها او يُطمئن قلبه عليها.. ليردف الصبي قائلاً:
من فضلك يادكتور شوف امي هي تعبانة "اوي" وانا مش عايزها تمشي زي بابا.. اديها دوا بس وهي تخف، وانا اوعدك هشتغل كتير عشان اقدر اجيب فلوس واديها لحضرتك زي بابا كان بيشتغل كتير ويجبلنا فلوس…
انخفض الطبيب حتى أصبح بمستوى الفتي وربت على كتفيه قائلاً:
اطمن يا حبيبي ماما هتخف وهتبقى زي الفل بس انت بطّل عياط مش انت ولد جدع برضو وبطل كبير..
لـ يومئ الطفل برأسه عدة مرات دلالة على موافقته على تلك العبارة مُردفاً :ايوة..، ثم كفكف عبراته بكفه الصغيرة وأردف قائلاً :خلاص هبطّل عياط اهو بس شوف ماما..
انتصب الطبيب عائداً لوضعه الطبيعي مُتجهاً إلى فراش والدته يفحصها وقد قرأ تقرير حالتها من قبل فنظر بأسف..
لم يستطع التحدث بعدها..
بينما تلك الفتاة ترى كل ماحدث وعند ملاحظتها لتلك النظرة الصادرة من الطبيب "والدها" هرولت مسرعة لذلك الصبي؛
ما إن اقتربت منه حتى وكزته بخفّه برسغه فانتبه لها،ثم بعدها تسللت يديها الصغيرة إلى رأس ذلك الصبي وأخذت تفرك أصابعها بحركات مسرعة خصلات شعره ثم أردفت له بإبتسامه قائلة: اطمن بابا قالك كدة.. ربنا هيشفيها ان شاء الله..
*****
بمنزل "مصطفى نيازي" الطبيب..
أردفت نسم بعبث وحزن اعتلي ملامحها.. قائلة:
بابا هو والدة الطفل ده اللي كشفت عليها حالتها صعبة اوي مش كدة؟
تمتم والدها بحزن عند تذكره مشهد الفتي وبكاءه و تعلّقه بوالدته، حينما سأل احد من التمريض عن أهل الصبي أجابوه
بأن"أحداَ من الجيران جاءوا به ووالدته إلى تلك المشفى بعد ازدياد حالة والدته سوءاً وبعد اصابتها بالإغماء فعلم ان لا أهل له وأدرك حينها أنه سيفعل ما بوسعه لانقاذها..
_ بصي يا" نسم" امه حالتها كانسر متأخرّة انا مش عارف ايه خلاّها تتأخر في العلاج رغم أنها لو كانت اكتشفت من بدري او اهتمت كان يمكن مبقاش وضعها بقى كدة بس اعتقد بسبب ظروفهم المادية فهي أهملت في نفسها..
ثم أطلق تنهيدة أسى على حال الطفل قائلاَ: مامته في المرحلة الأخيرة وللأسف نسبة الشفاء في المرحلة دي تكاد تكون منعدمة.،بس انا هحاول اعمل كل اللي ربنا يقدرني عليه..
لتُمسك نسم بيد والدها ترجوه بإخلاص قائلة: بابا لو سمحت عشان خاطري حاول بكل اللي تقدر عليه الولد صعب عليا
جداَ..
اومأ والدها بموافقة ثم استطرد قائلا وقد تبدلت ملامحه من الحزن إلى الرضى بعض الشئ حينما تذكر فعل ابنته :
_ بس انتي عجبتيني يانسم انك اول ملاحظتي حزني واني مش عارف اتكلم اقوله ايه جريتي على الولد وهوّنتِ عليه رغم انك صغيرة ، فـ صغيرته بعمر" الثانية عشر"..عاماً
احتواها بحضنه ممسداً علي رأسها بحنان وحب واستطرد قائلاً: بتفكريني بوالدتك الله يرحمها كانت تفهمني من نظرة عيني من قبل مااتكلم حتى.. الله يرحمها زرعت فيكي انتي واخوكِ مبادئ وقيم انا لواحدي كنت استحالة اقدر ازرعها فيكم.. ربنا يخلّيكم ليا يابنتي.
_ويخلّيك لينا يابابا..
_صح فين اخوكي مش شايفه يعني؟
ضحكت "نسم" مردفة بسعادة : قال لي انه عنده ماتش مهم في النادي يابابا الدوري باين ادعيله بقى، وادعيلنا معاه كمان انه لما يرجع يسامحنا اننا محضرناش وشجعناه..
لتتعالي ضحكاتهما اب وابنته في جو اسري دافئ ينقصهم اهم شىء تكامل الأسرة بوجود والدتهم والتي فاضت روحها إلى بارئها.. منذ عامٍ مضى…
*********
استقام "عمّار" بشموخ فرحاَ بفوزه بميدالية أفضل لاعب كرة قدم كما أن فرقته قد نالت كأس الدوري النهائي…
ليلتف حوله أصدقائه حملوه بسعادة جميعهم رافعين إياه بأيديهم أرجحوهُ بقوة إلى السماء حرصين على سلامة صديقهم… اما هو بوسط سعادته المفرطة عندما ارتفع ذلك الارتفاع شعر أنه لامس السماء، فاجتاحته رغبة قوية برؤية والدته دوماً كانت تصحبه بمبارياته، كما أنها حرصت على ألاّ تفوت مبارياته الهامّة، علم وقتها انه فقد داعمه وصديقة روحه…
متمسكاً برباطة جأشه تجتاحه رغبة عارمة بالبكاء الآن.. أردف قائلاً: الله يرحمك يا أمي وحشتيني أوي..
******
أمّا عند عودته إلى منزله…
أدار مقبض الباب بعد فتحه..، وجد الظلام يخيّم على المكان..
يملأه بالسكون والكآبه…
فبدر إلى ذهنه أن والده إما بالمشفى في هذا الوقت المتأخر برفقة أخته..، أو أن كليهما عادوا إلى المنزل منذ بضع الوقت وذهبا بسباتٍ عميق…
" مبروك يا مارو.. الكأس واحسن لاعب أخويا حبيبي"
هتفت بها "نسم" بعد أن تفاجئ عمّار بإضاءة مصابيح المنزل فجأة.. وتلك البالونات المنتشرة بكل أرجاء المنزل
ومفرقعات القصاصات الورقية التي صوّبتها أخته إلى وجهه
اختلط صوت ضحكاتهم سوياَ..، فقطع "مصطفى"
تلك اللحظة قائلاً : اعذرنا ياعمّار ياحبيبي ملحقناش نعدي عليك بس انا كلمت صاحبك وبمجرد مابلغني خبر فوزكم،
حبيت انا ونسم نعملّك احتفال بسيط…
ليحاوط عمّار صاحب" الخمسة عشر ربيعاَ" ذراعيه محتضنا والده وأخته بسعادة عارمة ممتناً إهتمام والده وأخته بيومٍ هام كتلك بحياته وعدم نسيانه قائلا: ربنا يخلّيكم ليا…
************
أجرى مكالمة هامة إلى تلك الممرضة بالمشفى العام مُطمئناً على حالة والدة الطفل….
تهللت أسارير" ريهام" الممرضة حينما لاحظت على هاتفها إتصاله… انه دكتور"مصطفي نيازي"
اكتسحت علامات الدهشة ملامحها حين أردفت تردد بهمهمات : هو لحق يتصل انا مش مصدقة نفسي..
أجابت على الهاتف مسرعة: ايوة يا دكتور ازي حضرتك…
لـ يخبرها بما أراده على الفور: الحالة عاملة ايه دلوقتي يا ريهام؟
_زي ماهي يادكتور مش بتتحسن بتسوء اكتر…
أردف مصطفى بحزن فتوقعاته بشأن حالتها تحدث بالفعل.. :
ابنها عامل ايه لسة معاها ولا حد خده…
أجابت ريهام مسرعة : لا يادكتور معاها وزي ماهو عمّال يعيط…
نطق بتلك الكلمة بثقل على قلبه :تمام..، ثم أغلق الاتصال..
لتُردف ريهام بحنق عليه :
هو ماله ده مفيش عنده حاجة اسمها "سلام"... ثم أردفت باستهزاء:.. حِكَم…
اغلقت هاتفها لـ تحيد بصرها بالفراغ ارتسمت ابتسامة بإحدى جانبي ثغرها قائلة: اهو اول اتصال ومش هيبقى الأخير… دي فرصتك يا ريهام متضيعهاش من ايدك ابدا…
شردت حين تذكرت ماحدث منذ عدة ساعات….
قبل مغادرته المشفي أخبر عامل الاستقبال انه سيتصل بالهاتف يطمئن على الحالة التي أتت معها طفل..
وهي سمعت مادار من حوار بينهم.. هتفت دون تفكير بلا تردد: انا اللي هتابع الحالة يادكتور شفت بليل لغاية ٦ الصبح هكتب لحضرتك رقمي فأي وقت اتصل وانا هرد على حضرتك على طول..
*********
حرصت نسم على الذهاب يومياً مع والدها إلى المستشفى…
تحمل صندوق مخصص للطعام به العديد من الاطعمة المتنوعة يحتوي على… (خبز الجبن والمربى..
وعصير اللبن بالشيكولاتة..)
دلفت إلى غرفة والدته مردفة له.. :
عامل ايه النهاردة..؟، جبتلك معايا فطار…
أخذ الطفل صندوق الطعام قام بفتحه واخذ العصير قائلاَ لها :أنا مبحبش عصير الشيكولاتة ده.
تصفع يدها على جبينها قائلة بمشاكسة: اوبس مكنتش اعرف انا جبتهولك عشان بحبه، خلاص هاته انا هشربه…
بعد مرور القليل من الأيام…
جاءه ذلك الاتصال يخبره أحدهم به بوفاة الحالة التي تابعها دوماَ باهتمام…..
هرول مسرعاََ إلى المستشفى تبعته نسم بعد إلحاح منها..
دلف إلى الغرفة وجد الصبي يصرخ قائلاً:لأ متاخدوش ماما هي كمان سيبوها….
بعدها خفت صوته شيئاََ فشيئاً إلى أن سكن تماماً مغشياً عليه…
*********
تبني حالته دكتور مصطفى بعد علمه بأن لا أقارب له؛ أيضاَ طفل بعمره هزيل هكذا… صدمته بفقد والديه.. بحاجة لمن يعتني به ويشد أزره في تلك المرحلة من حياته…
أخذه إلى منزله اعتني به كثيرا….
أصبح الصبي مشرقاَ عن ذي قبل.. بدأ بالتعود على نسم واخيها عمّار واحب دكتور مصطفى جمّاَ…
*******
أتى ذلك الوقت والذي من المفترض به التخلي عن الطفل…
حين لاحظ أخيها "عمّار" عدم مفارقة اخته للطفل، أخذ يفكر ماذا إن أصبح الطفل بعمره… وكانت اخته تكبره
"بخمس أعوام" فقط.. ماذا سيكون الوضع بعد ذلك
رفض بشدة بقاء الصبي معهم بالمنزل معللاََ ذلك بأنه ماذا إن أصبح شاب ..!! ماذا عن وجوده بنفس المنزل مع نسم؟
أردف لوالده: مينفعش طبعاََ يابابا يفضل معانا على طول والاحسن ان من دلوقتي يروح اي دور أيتام بدل ما يرتبط بينا اكتر من كدة وساعتها هيكون أصعب علينا وعليه اننا نوديه أي مكان.
*********
اصطحب أولاده برفقة الصبي بنزهه بعدها اخبرهم بقراره الأخير….
_ "يامن"..
فرمقه الصبي نظرة بريئة…
أردف مصطفى قائلاَ: احنا شوفنالك مكان جميل في اولاد كتير من سنك وهيلعبوا معاك زي نسم كدة بالظبط وهنيجي نزورك كل يوم….
ما إن أنهى عبارته، اجهش الطفل بالبكاء متمسكاَ بيد نسم مُردفاً: لأ انا عاوز نسم معايا مش هي صديقتي هي مش هتسيبني…
لتردف بعدها نسم بحزن دفين : هجيلك كل يوم يا.. يامن متخافش ده وعد صدقني…
قاموا بتركه بإحدى دور الأيتام بعد أن أوصى عليه دكتور مصطفى بمعاملته جيداََ….
هتفت نسم ببكاء تُخبئ وجهها بين راحتي يديها…
"انا اهو سمعت كلامكم ومعملتش حاجة..بس.هو هيوحشني اوي"
مسّد والدها على شعرها مشدداً من احتضانه إياها قائلاَ بقليل من التماسك حيث أن اكثر مايؤثر به دموع ابنته.. : معلش حبيبتي احنا هنزوره كل يوم….
******
بعد مرور "خمسة عشر" عاماَ….
دلف إلى المشفى بخطى ثقيلة…
ذلك المكان شهد معاناته مع والدته… ومعها من تقيّد قلبه بعشقها…
يقف بعيداً متواري بعض الشىء عن الأنظار…
قد عاد لِتوّه من الخارج….بعد استكمال دراسته…
عاد باحثاَ عنها هي فقط…
طلّت هي بذلك البالطو الأبيض بيدها سمّاعة طبية وتلك النظّارة التي ترتديها لتصبح هيئتها مُكتملة هيئة طبيبة حقاَ..
أمّا عن تلك الابتسامة التي ترسمها دوماَ على ملامحها…
أَبَعد مرور ذلك الوقت لم تتخلى عنها حقاَ…؟
اشتاقها أراد أن يُهرول إليها محتضناً إياها..، يُخبرها بشئٍ واحد فقط وهو "انه لن يتخلّي عنها مهما تطلب الأمر من تضحية"
أَيُعقل أن يتخلّي عنها بعد إيجاده لها وتحمّله مشقة وعناء البحث عنها طيلة الخمسة عشر عاماً الماضية….
بعد تأكده من وجودها هنا.. هتفت الممرضة: اه الدكتورة نسم بنت الدكتور نيازي الله يرحمه…
ليردد اسمها بذهنه : أكيد هي مفيش غيرها هي واحدة بس..
" نسم مصطفى نيازي"
ليقطع شرودة ذلك الصوت هاتفاً له : يلا بقى يا يامن هتفضل واقف مكانك كدة وانا مستنيك كل ده في العربية..
أمّا هي عندما سمعت شخصاَ ينطق بذلك الاسم تجمدت مكانها لم تستطع الحراك إلى أن التفتت إلى مصدر الصوت لتجد.. شابين مغادرين المشفى لمحتهم من ظهورهم..
لـ تبتسم بسخرية على حالها مرددة بأسف: هو انا كل ما اسمع اسمه افتكره هو!!!