رواية وصية والد الفصل السابع عشر 17 بقلم علي اليوسفي
(( الفصل السابع عشر ))
.....................
وقلبي كعجوزٍ متهالكة......يتيمةٌ، أرملةٌ ، ثكلى......رغم أنني مازلتُ في ريعان شبابي، هكذا أخبرتني مرآتي وناقضته مشاعري، فأيهما أصدق؟؟؟
........................................
فاجعة عظيمة حلّت على ساكني هذا القصر الكبير ، سندهم وعضدهم في هذا العالم قد رحل بلا رجعة.
امتلأت الصالة الكبيرة بحشود المعزين من النساء ، أما الرجال فقد تمّ نصب سرادق كبير عند مدخل منزل عمار ، وكان في مقدمة استقبالهم أدهم ومجد، وكذلك صديق عمار المحامي قاسم .
، جلست عليا بلباسها الأسود وغطاء الرأس الأبيض تستقبل عزاء السيدات بوجهٍ شارد وروح غائبة، تركتها تحوم حول حبيبها الذي فارقها ، عزاءها الوحيد وجود ابنتيه أمامها ، ليذكراها بضرورة التماسك لأجلهما ، مسحت دمعتها عندما اقتربت منها ريما لتعزيها ، قدمت الأخيرة كذلك تعازيها إلى نور التي كانت جالسة بجانب والدتها وتلبس ثيابا مشابهة.
جلست ريما على كرسيٍّ قريب، لكنها كانت تبحث بعينيها عن أماليا تريد الاطمئنان عليها كما اوصاها أدهم، لم تجدها بين الحاضرين فشعرت ببعض القلق عليها ، لمحت إحدى الفتيات وقد بدت أنها من العاملين في المنزل تقدم القهوة المُرّة للمعزيات، كان قد سبق وأن رأتها في خطبة نور ، انتظرت حتى اقتربت الفتاة منها فسألتها ريما بهمس : أين أماليا؟
همست سارة بينما تمسح دموعها بنشيج: الآنسة أماليا تحبس نفسها في غرفتها.
ضغطت ريما على شفتيها بحزن لتهمس لسارة بخفوت ، وعيناها تجول على السيدات بحذر: أين غرفتها؟ أريد أن اعزيها ؟
استقامت سارة لتشير إليها بأن تتبعها، نظرة أخيرة القتها ريما على عليا وابنتها لتقف وتتبع سارة بحذر، قادتها الأخيرة إلى الطابق الأعلى حيث غرفة أماليا وقبيل وصولهما خرجت هدى من عندها تحمل هاتفها تضعه على أذنها ، تباطأت ريما قليلا حتى أوصلتها سارة ثم غادرت قبل أن تطرق ريما الباب، حقا لا تعرف كيف ستكون ردّة فعل أماليا لو رأتها الآن ، كان أخشى ما تخشاه ظنّ الأخيرة السيء بأدهم.
كانت أماليا تقف في شرفة غرفتها ، عبراتها تجري متلاحقة ووجنتيها نديّتان ، ربطت شعرها الأشقر بإهمال وتلبس كنزة سوداء مع سروال مماثل ، استندت على باب الشرفة برأسها وعيناها تسرحان في الأفق البعيد ، لم تتحرك عندما سمعت طرقات خفيفة على الباب ، إذ أنها ظنّت بعودة صديقتها بعد إنهاء المكالمة مع زوجها.
ضغطت ريما على شفتيها بتأثر من حالتها ، تلقائياً عادت بها ذاكرتها إلى يوم وفاة والدتها ، تشعر بنيران أماليا الداخلية فليكن الله في عونها.
اقتربت منها حتى وقفت على بعد مسافة مناسبة ، ثم همست تناديها: عظم الله أجركم حضرة الطبيبة.
اجفلت أماليا لتلتفت صوبها كمن لُدِغ، بملامح مدهوشة وعينين متسعتين، قابلتها ريما بسمةٍ باهتة لم تصل عينيها لتضيف: فليرحمه الله ويلهمكم الصبر على فقدانه.
، ظلت ترمقها باستغراب حتى تداركت نفسها أخيرا ، لتهمس بنبرة خافتة متأثرة: شكرا لك مدام ريما .
أجبرت نفسها على قول جملتها الأخيرة لئلا يُعتبر الأمر وقاحة منها، ولو أنها في هذه اللحظة تشعر بكراهية الدنيا ضد ريما ، انتبهت بعد حين إلى بقاء الأخرى واقفة ، فأردفت بإحراج مشيرة إلى الكرسي بجانبها: تفضلي اجلسي.
فُتِح الباب في هذه اللحظة لتدلف هدى متمتمةً بشيء من الانفعال والتذمر: لا يستطيع إمساك الولدين بضع ساعات فقط ، ماذا أقول عن نفسي وأنا معهم على مدار الساعة ؟
قطعت ثرثرتها الفارغة عندما لاحظت لتوها وجود ريما ، شعرت بالحرج فعمدت إلى تبسيط الأمور فتحدثت موجهة كلماتها إلى ريما : ألست زوجة السيد أدهم شقيق خطيب نور؟؟
استدارت أماليا للخلف تذرف دموعها بوجع أُضيف إلى وجع فراق أبيها ، لتجيب الأخرى بقليل من الارتباك ، موزعة نظرها بين هدى والاخرى: نعم أنا هي ، أدعى ريما.
حركت هدى رأسها بتفهم ، وأدركت ريما بأن وجودها سيزيد من ألم أماليا ، فاستأذنت لتغادر مع احساسها بشعور الغيرة من قبل الأخيرة ، أتظنّ أنها تعيش حياة مثالية مع أدهم ؟؟
حقاً !! شرّ البلية ما يضحك !!
............... .................
استقلت ريما السيارة بجانب أدهم ، وهي تشعر بالنار التي تتآكله لبعده عن حبيبته في هذا الظرف العصيب، كان الأحرى به تواجده بجانبها ليخفيها داخل أضلعه علّه يسحب ألمها منها ، لكن ماباليد حيلة وكل شيء مقدّر ومكتوب.
أجلت حلقها لتهمس مناديةً باسمه، همهم بثقل فتراجعت للحظة عن قول ما تريد، لكنها عادت وشجعت نفسها لتقول بتردد ظاهر: اسمع أدهم ، لقد أتى أيمن إلى محلي اليوم.
قطب أدهم جبينه ليلقي إليها نظرة سريعة قبل أن يعود لينظر أمامه ، حرك رأسه بإيجاب ليحثها على المتابعة فأضافت: ابنته مريضة ، وترغب برؤيتي.
زوى ما بين حاجبيه بتفكير متسائلا باستنكار: ماذا تقصدين بهذا؟؟ وكيف وجدك أصلا ؟؟
رفعت كتفيها مجيبة بإرهاق: لا أعلم لم يتحدث بالكثير، وإيمان جارته في الحيّ فوجدني بمساعدتها .
بدأت سرعة السيارة تنخفض رويدا حتى اوقفها أدهم إلى جانب الطريق، أطفأ محركها ليلتفت صوب ريما متحدثا: ومالذي يريده منك الآن ؟؟
بقيت تنظر إليه لثانية دون إجابة ، حتى نطقت أخيرا بارتباك: يريد مني زيارة منزله لأرى ابنته المريضة.
حدجها أدهم بتفرس متسائلا: وبمَ أجبته ؟؟
اجفلت عيناها للأسفل لتجيب بخفوت كمن ارتكب حماقة: أخبرته أنني سآخذ رأيك.
سكتت لثانية تترقب جوابه ثم أضافت : لقد سألت إيمان وأكدت لي أن ريما الصغيرة مريضة حقا واخبرت والدها بأنها تريد رؤيتي.
علم أدهم من توترها الواضح رغبتها في رؤية الطفلة ، لكنها على ما يبدو تخشى من ردّة فعله هو، لم يكن ليفرض رأيه عليها لكن في الوقت ذاته يخشى من القادم وتداعيات الأمر لو وافق، فتحدث بتفهم: اسمعي ريما ، أنا لا أريد أن افرض رأيي عليكِ، لكن ماذا بالنسبة إلى مجد ؟؟ ماذا لو عرف بذهابك مالذي سيحدث؟؟
أجابت فورا كأنها تنتظر سؤاله: سأذهب مرة واحدة فقط لأجل الطفلة ولن يشعر مجد بأي شيء، أرجوك أدهم وافق .
زفر بخفة ليفكر للحظة ، ريما مظلومة في هذا الزواج أكثر منه كونها حُرمت من الأطفال ، فحالها كحال أية امرأة تحب أن تصير أماً ، لذا ليس من حقه أن يحرمها من ممارسة هذا الحق حتى لو كان لمرة واحدة ، ابتسم بخفة محدثا إياها : حسنا ريما ، الأمر عائد إليك ، افعلي ماشئتِ وأنا سأدعمك.
انفرجت اساريرها عن سعادة واضحة وتنفست براحة ، وضعت يدها على كتفه لتهمس برقة: شكرا لك أدهم ، حقا.
بادلها ابتسامة باهتة ليدير سيارته من جديد عائدين إلى المنزل، نظرت ريما إلى ساعتها لقد تأخر الوقت لمحادثته ، لا يهم ستحادثه في الغد ، شددت الضغط على حقيبتها كأن فيها كنزا ثمينا تخشى ضياعه، ربما مافي داخلها أكثر من كنز بالنسبة لها، بطاقته وعليها رقمه الخاص ، خفق قلبها بقوة ولا تعلم سر تلك السعادة، ألأنها سترى ريما الصغيرة ام والدها ؟؟؟؟
.................................................
وقفت ريما بسيارتها أمام المبنى حيث منزل إيمان ، لكنها لم تعرف بعد أين منزل أيمن ، فهي لم تسأل إيمان حرجاً ،ترجلت من السيارة وأخرجت البطاقة لتسجل رقم أيمن في هاتفها ، ترددت بداية في طلب الرقم وارتجف ابهامها فوق الشاشة ، حتى عزمت أمرها وضغطت على كلمة اتصال أخيرا وانتظرت ثوان تسمع الرنين .
كان أيمن في منزله يحضر بعض العقود التي يجب أن يوقعها اليوم ، امسك قلمه وانشغل في كتابة بند إضافي في أحدها ، سمع رنين هاتفه فأجاب الاتصال ووضعه على أذنه دون النظر إلى الرقم ، ليأتيه صوت ريما الرقيق من الجانب الآخر: صباح الخير.
رفع رأسه بغتة وأصابه الذهول للحظة، رفع الهاتف أمام عينيه ليرى رقما بلا اسم، زاغت عيناه بتشتت لم يكن يعتقد بحضورها بهذه السرعة، مالبث أن استعاد زمام نفسه عندما سمع صوتها تعيد الكرّة ، أجلى صوته ثم أجاب بجمود فظّ: نعم؟؟ من معي؟؟
اشعرها بالحرج والاستغراب في آن كيف قد ينسى صوتها خلال ساعات؟؟
تنحنحت لتنطق بارتباك طفيف: أنا ريما.
حرك رأسه بإيجاب كأنها تراه، وأضافت: أنا هنا في الحيّ، لكنني لا أعرف أين يقع منزلك بالضبط؟؟
وقف من فوره لينظر من نافذة الصالة فوقعت عيناه عليها، كانت تقف على الرصيف وتضع الهاتف على أذنها ، تنظر حولها كمن يبحث عن شيء ، جالت بنظراتها على المبنى المقابل لها حتى وقعت عيناها عليه ، شعر كلاهما بالارتباك ما إن التقت نظراتهما ، لم يطلْ أيمن التحديق بها فتحدث بجمود: الطابق الرابع ، استقلي المصعد.
أغلق الهاتف والستارة سويا عقب كلمته تلك، حثت ريما خطاها إلى المبنى جبرا، كأن قدماها لا تطيعانها ، وكما أخبرها استقلّت المصعد كأنها رجل آلي ، وقفت أمام باب منزله تطالع اللافتة البيضاء المستطيلة وقد كُتِبَ اسمه عليها بخطٍّ اليد وكان عربياً منمقاً ، مررت أصابعها على حروف الاسم بحذر إنه خطُّ يده هي متأكدة من ذلك ، أجفلت بارتعاب عندما فُتِح الباب فجأة ، ازدردت ريقها وهي تطالع محيّا أيمن الواجم أمامها ، اخفى أمارات القلق منه ثم خاطبها ببرود غليظ كمديرٍ يوبخ موظفاً : لقد تأخرتِ.
لم تكد تجيبه حتى دلف للداخل تاركاً الباب مفتوحا ، ضغطت على شفتها تحاول تجاوز فظاظته اللامتناهية ، لم تره وهو يقف خلف الباب لينظر من خلال الثقب في أعلاه منتظراً ظهورها أمام بابه، ولم تشعر بضربات قلبه العنيفة عندما رآها تطالع اسمه المكتوب على اللافتة فعلم أنها قد تعرفت إلى خط يده ليسارع بفتح الباب ، تبعت خطواته حتى وصل إلى غرفة ما ، توقفت خلفه محافظة على مسافة آمنة بينهما ، استدار إليها مشيرا بيده ومتحدثا بأنفة: هذه غرفة ابنتي ، وهذه الصالة ومن خلفها المطبخ والحمام.
أضاف بحاجب مرفوع مشيرا إلى غرفة ما متطرفة: وهذه غرفة نومي و لا أحب دخول الغرباء إليها.
قطبت جبينها باستغراب لتتسائل متجاوزةً عن معنى كلمته الأخيرة: ما شأني بهذا كله؟؟ لقد آتيت لأرى الصغيرة فقط ومن ثم أغادر ؟؟
فعلا لماذا أخبرها بهذا كله؟؟ هل أعتقد أنها ستبقى هنا طويلا؟؟
حقا لا يدري، لكنه أراد أن يوصل لها فكرة وحيدة ، عدم دخولها إلى غرفة نومه، ابتسم ساخرا من نفسه ولماذا قد تفعل ؟؟
تجاهل سؤالها ليفتح غرفة ابنته، كانت الصغيرة قد استفاقت لكنها ما تزال في سريرها ، التفتت بضعف نحو والدها وابتسمت بخفة، بادلها والدها بأخرى مشابهة ليتحرك فظهرت ريما من خلفه، تبدلت تعابير الصغيرة في لحظة لتنتفض من مكانها صارخة بفرح: ريما !!!
تناست ريما توترها من أيمن لتسرع بخطواتها نحو الصغيرة ، احتضنتها لتجلس بجانبها وتسألها عن حالها ، لم ترَ أيمن وهو يعبث في جهاز ابنته التابلت ، ليفتح برنامج تسجيل الأصوات ويتقصد تركه قريبا ليسمع ما يدور بين الريمتين.
تحدث أخيرا بجمود لتنتبه إليه كلتاهما: سأتغيب لساعة واحدة فلديَّ عمل هام ، تصرفا على راحتكما.
شيعته ريما بنظرة حزينة ، ألهذا الحدّ بلغ نفوره منها ؟ لدرجة عدم تلفظه باسمها ولو لمرة ؟؟؟ حتى اسم ابنته لم ينطقه أمامها ؟
تنهدت بحزن قبل أن تنتبه لنداء الصغيرة لها، طالعتها بحزن لترسم ابتسامة باهتة على ثغرها، كم رغبت في معرفة مكان والدة ريما الصغيرة، لقد عرفت من إيمان أن أيمن انتقل إلى حيهم بصحبة ابنته فقط ، فأين والدتها ؟؟ هل هما منفصلان ؟
.....................................
فور مغادرته منزله حادث شقيقته إيناس ليخبرها بعدم ضرورة حضورها اليوم لوجود من يعتني بابنته، لكنه لم يخبرها بوجود ريما تحديدا حتى أن لم تكن تعرفها سابقا، أغلقت إيناس الهاتف وفي داخلها شعور بعدم الراحة، شقيقها أصبح مزاجياً وكثير التقلب هذه الأيام ، زفرت بضيق لو أنه يقبل فكرة الزواج من جديد....
جلس في مكتبه برفقة العميل الذي كان يقرأ العقد ليتم توقيعه، عندما دلف مجد فانتفض أيمن واقفا متسائلا باستغراب: مجد ؟؟ مالذي تفعله هنا؟؟
زفر الآخر بضيق قائلا بنبرة ضعيفة: جئت أساعدك علّك تحتاج إلى شيء ما.
ربت على كتفه متحدثا بتفهم: ليس لدينا أعمال كثيرة مجد ، سأتولى أنا أمرها انت يجب أن تبقى بجوار خطيبتك.
هزّ رأسه متفهما وكاد يخرج ، قبل أن يستدير مجددا ليخبر أيمن: بالمناسبة ، أتذكر عندما دعوتك الى حفل افتتاح محل الملابس الخاص بزوجة أخي أدهم؟؟؟
أشار له أيمن متذكرا تلك الدعوى؛ ليضيف مجد: لقد تمّ إلغاؤه للأسف.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه ليردف : لا بأس مجد، فأنا لم أكن سأحضر بجميع الأحوال بسبب مرض ابنتي.
حرك مجد رأسه بتفهم ليخرج عقبها، تاركا أيمن لحيرته ، ترى مالذي يحدث الآن بين ريما وابنته؟؟
......................................
الآن تأكدت ريما أن داخل كل أنثى غريزة الأمومة ، فبالرغم أنها لم تنجب أطفالا من قبل لكن تعاملها مع ريما عكس نقيض ذلك، مع عاطفتها القوية ومشاعرها اكتشفت أن الحنان مخلوق في الأنثى وليس مُختلقا.
مازالت ريما تلاعبها وتمازحها مذ غادر أيمن ، والحق يقال تمنت لو أنه يطيل غيابه حتى لايقطع هذه اللحظات المميزة بينهما ، لكن هناك مايقضّ مضجعها ، ترددت كثيرا قبل أن تسأل الصغيرة ، حتى قررت فعلها اخيرا، فتحدثت بهدوء : أخبريني ريما، أين والدتك ؟؟
تبدلت تعابير الصغيرة إلى الحزن، رمت لعبة ( الباربي) من يدها وزمّت فمها كمن يوشك على البكاء ، ثم همست بخفوت ولغتها الغير سليمة: مامي رحلت.
ظنّت ريما أنها مسافرة فتسائلت بحذر وهي تخشى أن تنتكس الصغيرة مجددا: إلى أين رحلت؟؟
تنهدت الطفلة لتضيف مشيرة إلى الأعلى: لقد صعدت إلى السماء. د
حديثها أصاب ريما بالذهول للحظة، قبل أن تتدارك الأمر عندما رأت عبرات الصغيرة تهدد بالهطول من عينيها الخضراوين، حاولت الابتسام قليلا لتخبرها بعطف كبير وهي تحاوطها بيديها : عزيزتي، تعلمين أنها في الجنة الآن وتراكِ أيضا.
رفعت خضراوتيها تسألها بنبرة طفولية محببة: هل تراني حقا؟ أستطيع محادثتها ؟؟
اتسعت ابتسامة ريما وأشارت لها برأسها لتضيف بتفهم ولطف : اسمعي، عندما تنامين ضعي يدك مكان قلبك وأغمضي عيناكِ ثم قولي : اشتقتُ إليك يا أمي ، حينها ستأتي إليك وتحدثيها.
صفقت ريما الصغيرة بيديها بحماس أسعد ريما، رغم بعض الحزن داخلها ليُتمها ، كم ترى نفسها فيها عندما فقدت والدتها هي الأخرى ، تحدثت الصغيرة بتهذيب مشيرة بيدها إلى طاولة قريبة: هل بإمكانك اعطائي جهازي( التاب) لو سمحتِ؟؟ سأريكِ صور أصدقائي.
أشارت لها موافقة وتحركت لتجلب لها جهازها من الطاولة ، لكنها تفاجأت عندما وجدت الجهاز مفتوحا على برنامج التسجيل، أصابها شلل لحظيٌّ عمّ أطرافها ، ألهذه الدرجة بلغ شكه؟؟ هذا الإنسان غير طبيعيٍّ بالمرة ، مجنون بمعنى أصح ، هل انعدمت ثقته بها إلى هذه الدرجة ؟؟ ألا يعرف ريما وأخلاقها ؟؟ يخاف على صغيرته منها هي؟؟
تجمعت العبرات في عينيها رغماً عنها، تصرفه آلمها لدرجة لا توصف، انتبهت على صوت إغلاق الباب الخارجي ك فتنفست بعمق لتكبح دموعها ثم التفتت نحو ريما الصغيرة قائلة بشبح ابتسامة اجبرتها على الظهور: لقد عاد والدك.
فُتِح باب الغرفة فجأة بلا مقدمات ، كانت ريما ماتزال تقف عند الطاولة بعيدا عن مرآه، لكنه ورغما عنه بحث عنها فور دخوله حتى وجدها، أجلى صوته ليحدثها بجمود: هل انتهيتما ؟؟
لم تجبه ، اتجهت إلى حقيبتها المرمية بجانب ريما الصغيرة ، قبلتها على جبينها فتعلقت الأخيرة بيدها قائلة برجاء طفولي: تعالي غدا ريما ، سأنتظرك لنلعب سويا مثل اليوم.
اهتزت ملامح ريما فلم تحسب حسابا لطلب كهذا، اعتقدت أن الطفلة ستكتفي بحضورها اليوم ، لكن ظنها قد خاب ، مجدداً ، أضافت الصغيرة بلغتها الإنكليزية الام بإلحاح مُربك وملامح طفولية بريئة، وماتزال تتشبث بذراعها: رجاء ريما وافقي، أرجوك أرجوك ؟؟
لم تتمكن من الرفض تحت هذا الإلحاح فأشارت لها ريما موافقة بتردد وبسمة صغيرة، مما أسعد الطفلة كثيرا لتقبلها على وجنتها وهي تتمتم: أحبك ريما.
مشاعرها الصادقة أججت مشاعر أيمن ، يخشى على ابنته من التعلق بهذه السيدة ، وهذا آخر مايريده حقا ، خرج ينتظر في الصالة حتى فرغتا من الوداع، توسدت الطفلة فراشها فدثرتها ريما قبل أن تلقي عليها نظرة أخيرة ، خرجت تقدم رجلاً وتؤخر الثانية، لا تريد رؤية تعابيره الحاقدة أبدا ، وجدته في الصالة يوليها ظهره كم ودّت لو أنها تغادر دون سماع حديثه،اتجهت صوب الباب لكنها لم تكد تخطو حتى التفت نحوها قائلا كأنه يلقي أمره عليها: ستأتين غدا بنفس توقيت اليوم.
جزّت على أسنانها بغيظ من طريقته فالتفتت إليه بجسدها وكتفت ذراعيها أمام صدرها لتقول بحزم: أولا لي اسم لتناديني به وأنت تعرفه جيدا.
ابتسم بسخرية وقبل أن ينطق اردفت دون تبدل ملامحها: ثانيا أنا لا اعمل لديك لتحادثني بهذه الطريقة المُتعالية .
لا يعلم لما داخله يقيم حفلا لتعابيرها الغاضبة، لكنه حافظ على ابتسامة صفراء مردفاً بتهكم: اها ، هل انتهيتِ؟
تعلم أنه يريد إغضابها ، لكن من الواضح أنه لا يعرفها جيدا ، فهي صبورة، صبورة للغاية ، تعابيرها الغاضبة بقيت كما هي ثم أضافت بنبرة ذات مغزى: كيف تطلب مني القدوم غداً إن كنت لا تثق بوجودي مع ابنتك لوحدنا ؟؟
لوهلة لم يسعفه عقله في تفسير كلماتها، حتى سألته مباشرة بامتعاض واضح: تضع لنا جهاز تسجيل أيمن ؟؟ حقاً؟؟ إنها حيلة قديمة بالمناسبة؟
فطن الآن لاكتشافها أمر الجهاز، رغم هذا تحدث ببساطة ، مُشدداً على كل حرف قاصدا أن يوجعها: أمر طبيعي أن احمي ابنتي ، خاصة عندما تكون هناك افعى ملونة تحتضنها.
رمشت عيناها بصدمة فعلية من حديثه فتحدثت بغيظ يجاهد ليطفو على السطح: أنت من طلب قدومي.
ليردف بلا مبالاة: لولا الحاح ابنتي لما فعلت..
نبرته جافة جعلتها تشعر كأنها فقيرة تطلب إحسانه؛ أو مذنبة تطلب غفرانه ، حاولت لملمة مابقي من كرامتها فرفعت ذقنها بإباء لتقول بجمود: قد لا أتمكن من القدوم غدا.
سارع يسألها بسخرية قبل أن تتحرك: لماذا ؟؟ ألا يستطيع زوجك الاستغناء عنك لساعة واحدة غدا ؟؟ أم أن أطفالك يغارون؟؟
بقيت تنظر له لثوان بجمود حتى ابتسمت بمرار على كلماته لتجيب بغصةٍ واضحة: اطمئن ، فلا أطفال لديَّ.
أولته ظهرها وتحركت ناحية الباب ، لكنها توقفت عندما سمعت صوت ضحكاته الساخرة خلفها، قطبت جبينها بعدم فهم إلا أنها لم تلتفت ناحيته بعد ، هدأت قهقهته المستهزئة لتسمعه يتحدث : لماذا ياترى؟؟ ألم ترغبي بإنجاب الأطفال ؟؟أو ربما خشي زوجك المصون أن تخونيه مثلا وتخطفي أطفاله ؟؟..
تظاهر بالتفكير لثانية قبل أن يضيف بنبرة شامتة هازئة لم تخطأها أذناها: اها لقد عرفت، لربما خاف من أن تنجبي له أطفالا تمشي في أوردتهم دماؤك القذرة الفاسدة ، صحيح ؟؟؟
لا يعلم كم آلمها حديثه ، سقطت كسياطٍ محموم لينهش من روحها المُعذبة المُلتاعة ، أي نوعٍ من البشر هو؟ ألا يعلم أن كلماته تلك ستقتل أي امرأة مهما كانت قوية؟؟ لا يحق له قول مثل هذا الحديث مهما كان ذنب المرأة التي أمامه ، لا يحق له أبداً.
سقطت دمعة من عينيها الغزلانية دون أن يهتزّ جسدها فيما هو يراقب حركاتها ، تنفست بعمق لتثبط انفعالاتها ، لم تجبه فالتجاهل واللا مبالاة أبلغ جواب لأمثاله، تحركت بخطىً ثابتة لتتركه خلفها يميز غيظا ، يشعر بنيران حقده تنهش داخله ، لو أنها صرخت أو بكت أمامه لأراحت روحه الغاضبة ، لكن قوتها المزعومة تحرقه حياً ، وتقتله ببطء.
أسقط جسده على الأريكة خلفه ، دافنا رأسه بين راحتيه، للحظة شعر ببعض الندم، سرعان ماقتله قبل أن يستبدّ به ويهلكه ، لقد تقصد قول تلك الكلمات علّه يوجعها كما أوجعت روحه سابقا، مازال يذكر كيف تركته ، كان ولدا ً غِرّاً ، انتهت المدارس بعد تقديم الامتحانات النهائية لكنها وعدته باللقاء في العام التالي، وأنها ستتحين كل فرصة سانحة لتراه، قدّم لها تلك الكرة الزجاجية كاتفاق بينهما ، سيستردّها منها بداية العام القادم ، وستظلّ هذه الكرة تنتقل بينهما حتى تعيدها إليه عندما يجمعهما سقف واحد. مرّت أشهر الصيف بلا خبر عنها، حتى بدأ العام المدرسي دون ظهورها ، سأل إحدى صديقاتها عنها ليكتشف أنها تزوجت ابن عمتها الغني وسافرت إلى المملكة المتحدة لتتابع دراستها هناك.
يومها انقلب حال أيمن ، اعتقد أنها تزوجت قريبها لثرائه وغناه، أما هو فابن رجل بسيط يعتاش على راتب حكومي ضئيل يكفي حاجاتهم الأساسية بشقّ الأنفس ، انكبَّ على دراسته يلتهم الكتب عله ينساها، حتى نجح بتقدير امتياز ، وبعد نجاحه في الثانوية بمجموع عالٍ سنحت له الفرصة السفر إلى أمريكا بموجب منحة مقدمة من إحدى الجامعات هناك، لم يتردد أبدا في قبولها رغم اعتراض والديه وشقيقته، سافر هناك ليلتقي بنتالي والدة ابنته في مقهى صغير كان يعمل فيه ، رأى فيها ريما فأوهمها بحبه حتى تعلقت به، منحته كل حبها واهتمامها ودعمها في دراسته، حتى اهدته جوهرته الثمينة الغالية ، لكن بالمقابل كل مااستطاع أن يمنحه لها هو مجرد مشاعر مزيفة، ولحظات كاذبة يبثها فيها شوقه وحنينه، إلا أنه حقيقة، كان يتخيلها ريما في كل أوضاعها ، كانت ريما بالنسبة إليه مرض عضال لا شفاء منه.
.....................................
شعر بضجيج قاتل داخل رأسه ، لينتبه لتوه إلى فوات موعد دواء ابنته، انتفض من مكانه ليذهب إلى المطبخ أولا ليعدّ لها طعام الغداء ثم دلف إليها ، اقترب منها ليجدها نائمة فهتف يناديها برفق دون إجابة منها، قطب جبينه بشك عندما لاحظ تورد وجنتيها ، ثم اقترب ليضع يده على رأسها ويكتشف حرارتها العالية.
..........................................
قبيل توجهه إلى سرادق العزاء، أخرج المحامي قاسم أوراق وصية عمار، تنهد بحزن على فراق رفيق العمر ، وطالع الوصية بشتات يجب أن يفتحها في الغد، كما أوصاه رفيقه عمار أن تُفتح في آخر أيام عزائه ، ترى هل ستتقبل بناته وزوجته الأمر ؟؟
لم يكن قاسم مطمئنٌ أبدا ، لكن لا يسعه فعل شيء ، وصية الميت واجبة التنفيذ ، فليكن الله في عون بناته على القادم ، حقا !!!!
........................................................................