أخر الاخبار

رواية وصية والد الفصل الثامن عشر 18 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الثامن عشر 18 بقلم علي اليوسفي

( الفصل الثامن عشر )

....................................
............................ .........................
أحمقٌ من يعتقد أن مواجهة الماضي أمر سهل، إن أردتَ الحق هو أصعب ماقد تفعله في حياتك، الأمر أشبه بثور جامح لا يراك سوى لعبة يجب ضربها ، والطريقة الوحيدة لتفاديه هي الزحف من أمامه ثم الهرب.
.................. .........................
عادت إلى منزلها فورا فمحلها مغلق على جميع الأحوال ، تحمد الله في سرها لعدم رؤيتها إيمان في الحيّ وإلا لكانت هلكت من الحرج.
دلفت إلى غرفتها لتجد أدهم يجلس على الأريكة محتضنا رأسه بين يديه، رفعه عندما دخلت ريما لتسأله الأخيرة: ما بك أدهم ؟؟
ابتسم بخفة قائلاً بصوت مُرهق: لا شيء ، لم استطع الذهاب إلى المصنع فبقيت انتظرك.
لمَ لا تشعر بالارتياح نحوه؟؟ وميض عينيه يبعث على الشك ، لكنها ابتسمت بلطافة وأماءت له برأسها ، تفرّس في وجهها ليلاحظ آثار بكائها فانتفض واقفاً يسألها مباشرة: هل حدث أمر ما بينك وبين أيمن ؟؟
ارتعد جسدها بمَ قد تجيبه؟؟ لا يمكنها إخباره بحديث ذاك الاخرق فيكفيه ماهو فيه ، تحركت لتجلس على سريرها متحاشية النظر إليه ، مجيبة بصوت مُتعب يخفي توترها: لا عزيزي لا تشغل بالك، فقد تأثرتُ من لقاء الصغيرة.
رغم أنه لم يقتنع بما قالت ، لكن لم يكن في يده سوى تصديقها، فالكذب ليس من شيمها أبدا. أشار بتفهم ثم خرج دون حديث، تنفست ريما بعمق وضغطت على جانبي أنفها تضغط على عينيها بقوة، لن تذهب مرة أخرى إلى منزله مهما كلفها الأمر، فحقد أيمن قد طغا على تعقله، تخشى من ردة فعل أخرى قد تكون. أسوء من اليوم ، لن تراه مجددا قررت وأغلقت الصفحة .
.........................................................................
وقف أدهم مع مجد وقاسم في مدخل الصِيوان المقام في مدخل قصر عمار ، لاستقبال الرجال الذين قدموا لتقديم واجب العزاء في الأخير ، شعر بالضيق الشديد من تواجده في هذه الأجواء الحزينة المُربكة، والتي أعادت إليه ذكرى وفاة والده ، زفر من أنفه باختناق وانسحب مبتعداً قليلا ، سار بشرود داخلا إلى حديقة القصر الغنّاء ، كانت واسعة وكبيرة وتسرّ ُ الناظر ،خاصة وأن الشمس قد مالت للمغيب فوهبتها منظرا أخاذاً ، إلا أن أدهم لم يؤخذ بجمالها ن
لم يتعمق طويلا في الحديقة عندما سمع جلبة خفيفة مصدرها القصر، ليلاحظ وجود باب متطرف ، في بدايته ممر يمتد من هذا الباب عبر الحديقة إلى باب صغير في السور الخارجي، يبدو أن النساء تستخدمه للدخول الى القصر ليحول هذا دون مرورهنّ أمام الرجال ، كاد أن يتراجع عائدا إلى مكانه، قبل أن يلمح آماليا تخرج من القصر.
خفق قلبه بعنف وهفَتْ روحه شوقا إليها حينما رآها ، ببشرتها الشاحبة والتي تناقض ملابسها السوداء ، كتفت يداها أمام صدرها لتقف أمام حوض من الأزهار البنفسجية ، تاركة عبراتها تبلل وجنتيها بانسياب دون تكليف نفسها عناء مسحها، تشعر بكسرٍ عظيم في روحها ، رحل والدها ولم تجد من يضمد جرحها ويجبر كسرها بجانبها، مهما كان الإنسان بالغا سيشعر بالكسر برحيل أبيه ، شعور اليُتم مريع لدرجة مرعبة !!!
لم يكن ينتوي الذهاب إليها وقطع خلوتها يقسم بهذا ، إنهما قدماه من تمردتا على أوامر عقله وقادتاه إلى حبيبة الروح ، وقف خلفها يطالعها بحزن دون أن ينبس بحرف ، شعرت بأحدهم خلفها فتنفست بعمق ، اقتحمت رائحة عطره أنفها لتبتسم بسخرية متحدثةً بشرود: إحساس الفقدان مؤلم ، كفارسٍ وقع عن جواده و كُسِر ظهره، ولم يجد من يداويه.
شعر بألمها ووجعها ، فقد عاش حالة مماثلة منذ زمن، لكن خسارته هو كانت أعظم بكثير مما تتخيله هي.
تحدث بعد قليل بنبرة خافتة: البقاء لله آماليا ، رحمه الله وألهمكم الصبر من بعده.
التفتت صوبه بوجه خالٍ من المشاعر ، ازدرد ريقه متوقعاً صراخها في وجهه ، وربما أضعف الإيمان أن ترحل دون تعقيب، لكنها خيبت ظنه عندما سألته بضعف: لن تأتي زوجتك اليوم ،صحيح؟؟
قطب جبينه بشك لسؤالها فأشار لها نافيا بحذر ، التمعت عيناها بالدموع لتهمس بتأثر: هل يمكنني الاقتراب منك؟ قليلا فقط ؟؟
اتسعت عيناه من طلبها العجيب، لكنه لم يُمهل نفسه التفكير ليفتح ذراعيه لها، اقتربت منه بهدوء حتى باتت أمامه ، ثم استندت برأسها على صدره ولم تزل يداها أمام صدرها ، أغمضت عينيها برفق لتحرر أدمعها وفي داخلها حربٌ ضروس، ماذا تفعلين بالضبط آماليا ؟؟؟ هل جننتِ؟ إنه رجل متزوج ؟؟
صدح صوت ليخرس صوت عقلها قائلا بتبرير أريد استعادة شعور الأمان ، فقط !!!
اسبل يداه بجانب جسده متجمدا مكانه، شلّته الصدمة عن أي ردة فعل حتى معانقتها، فرصة كهذه لن تتجدد أبدا ، لكنه أيضا لا يريد استغلال الموقف وحزنها فتظنّ به السوء ، تسارع خفقان ساكن صدره بسرعة جنونية ، ليتها تشعر بخفقاته المتسارعة، التي تنادي باسمها وحدها ، أسدل اجفانه متلذذاً بهذه اللحظة التاريخية .
لم يلاحظ أيا منهما هدى التي خرجت لتبحث عن رفيقتها ، لتجدها بين أحضان شقيق خطيب اختها المتزوج ، شهقت هدى بصوت مكتوم وهي تطالع هذا المنظر الصادم، لاحظت أن أدهم لم يحتضنها فظنّت أن آماليا فاجأته ، تمتمت من بين صدمتها: الحمقاء؟؟ إنه رجل متزوج أيتها الغبية !!
لم ترغب باحراجها فانسحبت عائدة إلى مكانها ، لكنها لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة كاملة منها.
انتبهت لنفسها بعد حين لتعود و تستقيم من مكانها ، ضاغطة على فكيها بحرج من ضعفها أمامه ، لم ترفع عيناها إليه و تحركت عائدة إلى القصر دون أن تنبس بحرف، تحاول إقناع خافقها المجنون أنها فقط موجوعة ، متألمة وكانت بحاجة إلى عناق صغير كهذا ، تدخل عقلها في الحوار سائلا بسخرية ، حقاً !!!
بقي واقفا للحظة لا يفهم تقلبها السريع، لكن السعادة التي تولدت داخله طغت على كل شيء، لأول مرة لا تنفره ولا تنظر إليه بازدراء ، بل وتطلب عناقه ؟؟!!
خلّل شعره بيده ولا ينكر ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيه، موقفها هذا بعث في داخله الأمل من جديد، عاد أخيرا إلى مكانه بوجهٍ مشرق وروح حيّة، وقلب ينبض بأمل اللقاء.
................................. .........................
استفاقت كعادتها هذا الصباح ، لم يكن بها جلدٌ للذهاب إلى المحل ، ولا حتى للذهاب الى منزل عائلة نور، مازالت لم تتعافى من حديثه أمس .
كان أدهم قد غادر إلى عمله حاله كحال مجد، على يعودا قبل الظهيرة ليتجها إلى قصر عمار فاليوم آخر أيام العزاء ، جلست في الحديقة الخارجية وحيدة، تفكر في حديث أيمن يوم أمس ، كلماته الجارحة أشعرتها بإهانة غير مسبوقة، ربما تلتمس له العذر بأن يكرهها ، لكن لا عذر له أبدا في جرحها بهذه الطريقة الفظة ، إنها إنسان في النهاية ، بشرٌ من لحم ودم وأحاسيس ، إلا أنها مغلوبة على أمرها دائما.
فات موعد ذهابها إلى منزل أيمن منذ ساعة وربما أكثر ، وقعت بين نارين ، إما كرامتها أو الوفاء بوعدها، رغم اشتياقها للصغيرة لكن عنفوانها لن يقبل بالسماح لأيمن بإهانتها كلما سنحت له الفرصة .
رنين متواصل من هاتفها ارغمها على الانتباه إليه ، ظنّت أن المتصل اما أدهم أو إيمان ، لكنها تفاجأت برقم غير مسجل لديها ، مرت ثوان حتى تذكرته، إنه رقم هاتف أيمن لكنها لم تحفظه في الهاتف ، ترددت بداية في قبول الاتصال لكنها عزمت تجاهله ، انقطع الرنين لتزفر براحة، مالبث وان عاد من جديد متواصلا بإلحاح، غريزة الأمومة داخلها تنبأت بمكروه حصل للطفلة الصغيرة ، جذبت الهاتف عن الطاولة، لتجيب بهدوء يناقض الإعصار داخلها: نعم؟؟
لم تسمع سوى صوت تنفسه في البداية، صاحت بنفس الكلمة مجددا ودون رد، كادت تغلق الهاتف قبل أن يصدح صوته أخيرا: ألن تحضري اليوم؟؟
متعجرف !!! تردد صدى هذه الكلمة بين جنبات ذهنها، ردّت بكبرياء ساخر.: لماذا؟؟ ألم يزلْ لديك حديث جارح لم تخبرني به؟؟
ساد الصمت من جديد فابتسمت بسخرية، بالطبع لن يجد مايجيبها به ، حركت رأسها للجانبين بخيبة ، ليأتيها صوته ويخبرها ما أسقط قلبها بين قدميها حرفيا: لقد انتكست ابنتي مجددا، ارتفعت حرارتها بالأمس عقب رحيلك ، ظلت تهذي وتنادي باسمك حتى الفجر..
بقيت للحظات ساكتة دون إجابة ، ظنّت الأمر لعبة منه، لكن صوته لم يكن ممازحاً البتة ، بل شعرت بحزنه على الصغيرة ، تلاحقت أنفاسها بقلق لتهتف قائلة فيما هي تتجه إلى المنزل مباشرة لتبدل ثيابها. : أنا في طريقي.
................................
لم تكن ستأتي ، هكذا أقسمت في الأمس، لكنها لم تبرّ بقسمها إلى النهاية .
وقفت أمام منزله بتردد ، وقبل أن تقرع الجرس فُتِح الباب بغتةً، عادت للخلف خطوة واحدة بخوف طبيعي، تحول إلى دهشة عندما عاينت السيدة التي تقف أمامها ، لم تكن إيناس بأقلّ دهشة منها فهذا الوجه ليس غريبا عليها ، رأته من قبل لكنها لم تتذكر أين.
انتبهت لوقوف تلك السيدة الغريبة أمام باب أخيها فسألتها بتهذيب: تفضلي؟؟
تمالكت ريما نفسها وقد خمّنت هويتها لشبهها الكبير بأيمن، أجابتها ببسمة لطيفة: مرحبا، هل أستطيع رؤية السيد أيمن ؟؟
ضيقت إيناس عينيها وقبل أن تسيء الظن اردفت ريما: أنا صديقة له.
ابتسمت الأخرى بمجاملة لتتنحى إلى الجانب فسمحت للاخرى بالمرور ، دلفت ريما لتجد أيمن خارجا من غرفة ابنته الصغيرة ، ارتبك هو الآخر للحظة فلم يخطط للقاء شقيقته وريما ، لكن انقذته إيناس عندما أغلقت الباب خلفها ، وقفت للحظة تفكر منذ متى وأيمن لديه صديقات ؟؟
ربما الأمر طبيعي فشقيقها بالغ راشد ليس طفلا، لكنها في الوقت ذاته لاتستطيع إنكار هذا الوجه المألوف لها ، نفضت رأسها للجانبين ، لتسرع بالدخول إلى المصعد مغادرةً إلى منزلها.
...............
وقف يطالعها بنظرات قرأت فيها أمرا غريبا، إنها نظرات معاتبة !!
، ارتبكت في وقفتها أمامه فأمسكت حزام حقيبتها تشدّ عليه بكلتا يديها، ونكست رأسها للأسفل محافظة على ملامح جامدة لا يُعرف ما خلفها ، وضع كلتا يديه في جيبي سرواله متحدثا بنبرة هادئة: لم تتأخري.
رفعت نظرها له لجزء من الثانية لتجيب بخفوت: لقد قلقتُ على ريما، لذا حضرت بسرعة.
أمال رأسه للجانب قائلا بنبرة ذات مغزى : لو أنك تهتمين لأمرها لحضرتِ في موعدك كما وعدتها أمس ، صحيح ؟؟
رفعت رأسها نحوه لتضيق عينيها بغرابة ، هل يعاتبها الآن أم يلومها؟؟
اردفت بجبينٍ عالٍ وذقن مرفوع بكبرياء: حديثك أمس كان قاسياً بما فيه الكفاية عليّ، لأقرر عدم الحضور.
ازدرد ريقه بمشاعر مختلطة، كان الحرج أكثرها وجودا، لينطق بلوم: كان بإمكانك عدم التحدث معي، لكن ماذنب ريما؟؟ لقد تعلقت بك لدرجة غير معقولة !!
أخيرا !! نطق اسمها أخيرا حتى إن لم يكن لها، المهم أنه تلفظ باسمها ، تنفست بارتياح طفيف لتشير له بتفهم بلا حديث ، تشعر بالذنب تجاه الصغيرة فهي لم تفِ بوعدها لها ، زفر بضيق ليخبرها بنبرة متعبة: إنها بانتظارك.
دلف إلى المطبخ لتتحرك هي إلى غرفة ريما ، دخلت بحذر لتجد الصغيرة تتهيأ للنوم ، لكنها انتفضت بسعادة عندما رأت ريما ، لتسرع الأخرى نحوها فتحتضنها، تلمست جبينها لتجد حرارتها طبيعية، هل كان يكذب بشأن مرضها؟؟
لكنها لاحظت وجهها المتعب لتقتنع بحديثه ، لماذا قد يكذب ريما ؟؟ لا توهمي نفسك بأنك ذات أهمية لديه، ليختلق هكذا كذبة ليراك .
إياكِ....
.......................................................... د
انفضّتْ جموع المعزين أخيرا ولم يتبقَ سوى القليل من الرجال داخل السرادق، فالطقس هذا المساء ينذر بأمطار قادمة.
وقفت نور في الحديقة ترافقها آماليا لتوديع السيدة هالة صديقة عليا، عندما لمحها أدهم ، همس في أذن شقيقه بأن يذهب للاطمئنان على خطيبته، إلا أنه في الحقيقة اتخذ هذا عذراً ليراها ، بعد احتضانها له أمس.
أغلقت آماليا الباب خلف هالة لتفاجئ بحضور كلا من مجد وأدهم ، أربكتها نظرات الأخير المصوبة عليها، أجفلت عيناها بعيدا عن مقلتيه المُوترة ، لكنها لم تستطع الرحيل وإلا اعتبر الأمر قلة لباقة منها، لأجل مجد ونور على الأقل ، فأجلت حلقها واقفة خلف نور كأنها تحتمي بها.
وصل كلاهما ليعزياها لتردّ بكلمات مقتضبة ، دفع مجد خطيبته برفق ليبتعدا قليلا متحدثا بخفوت: نور، هل أستطيع محادثتك قليلا؟؟
ازداد ارتباكها عندما وافقت أختها وتحركت مع مجد لتتركها وحيدةً معه، كأنهم متفقون ، لكن الأمر أسعد أدهم ، فهاهو الآن يقف وحيدا معها ليقرأ توترها ، فأردف بصوت رخيم: كيف حالك ؟؟
حركت رأسها إيجابا دون حديث ، وهي تنظر في كافة الاتجاهات عداه، لم يتمكن من كتم ابتسامته المتسلية وكم راقه خجلها ، نظر إلى يديها ليجدها تعبث بأصبعيها السبابة والوسطى ، تنهد بحنين تماما كما الأيام الخوالي ، تشعر بحبات العرق الغزيرة التي غزت فروة رأسها ، كأن حرارة الطقس تبدلت فجأة لتشعر كأنها في منتصف آب ، كم تمنت لو تجد صوتها الذي خانها وهرب لتهرب هي الأخرى ، فتح فمه يريد الحديث قبل أن يقاطعه صوت قاسم من بعيد ينادي باسم الفتاتين، التفت الأربعة نحوه حيث كان يتقدم نحوهم بثقل ، وقف بالقرب من نور ومجد ، حاملاً في يده مغلفاً أزرق ، ليقول بصوت أجش: أريد أن أتحدث معكما في أمر هام.
تبادلت نور وآماليا نظرات مستغربة، رغم سعادة الأخيرة لخلاصها من وقفتها مع أدهم ، إلا أن نبرة قاسم لم توحي لها بالخير مطلقا .
تحرّج أدهم ليطلب الأذن بالرحيل ليرافقه مجد، فتحدث قاسم إلى كلتاهما: هناك أمر مهم يجب أن تعرفاه.
التفت نحو آماليا ليضيف: عزيزتي ، أخبري والدتك بأنها يجب أن تسمع حديثي أيضا.
أشارت له موافقة دون تأخير ، لتتحرك من أمامه فورا ، تبعها قاسم ونور ليجلسا في مكتب عمار، بعد ثوان انضمت لهما آماليا واخبرت قاسم بأن عليا تقف عند الباب الآخر تستمع إلى حديثه ، تحدث قاسم بتنهيدة ثقيلة: اسمعاني أيتها الفتاتين ، يجب أن تسمعا وصية والدكما.
تبادلت نور مع شقيقتها نظرات مستنكرة ، ثم تحدثت إلى قاسم بنبرة مستهجنة: عمي قاسم ، أترى هذا الوقت المناسب لهكذا حديث؟؟؟
كان قد حضّر جوابا لسؤالها لذا فقد أجاب فورا: إنها وصية أبيكِ نور، وهو من طلب هذا.
شعور بعدم الراحة سيطر على ثلاثتهن ، خاصة آماليا التي شعرت، وهي تنظر بضياع إلى الملف الذي فتحه قاسم، بأن مافي هذه الأوراق مصيبة، بل إنها كارثة بكل المقاييس.
رمقهما قاسم بنظرة حذرة قبل أن يتحدث بهدوء: سأتجاوز الصيغة القانونية المكتوبة في البداية لادخل في صلب الموضوع.
أجلى حلقه مخرجاً نظارته الطبية يضعها على أنفه ، ليخبرهما بما عطّل عقولهن عن التفكير للحظة، وجلب المصيبة الكارثية على رأس ساكني القصر الهادئ.
......................................
خرجت ريما من غرفة ابنة أيمن بعدما نامت الصغيرة، تأكدت من حرارتها وتناولها طعامها ودوائها ، أغلقت الباب بحذر لتستند برأسها عليه، زافرة باختناق كلما تذكرت كيف وعدت ريما الصغيرة بالحضور غدا أيضأ .
استقامت في وقفتها بتعب ، استدارت لتضع حقيبتها على كتفها قبل أن تشهق بارتعاب ، كان أيمن يقف خلفها بوجهٍ جامد يخفي خلفه قلقه عليها ، عندما وجدها واقفة هكذا أمام غرفة ابنته ، أغمضت عينيها لتزفر براحة ، وضعت يدها على صدرها لتهدئ خافقها المجنون ، ازدردت ريقها وهي تسمع سؤاله: هل انتي بخير ؟؟
أشارت له بالإيجاب دون أن تنبس بحرف، لتتمتم بعد حين ناظرة إليه بتردد: لقد طلبت ريما أن آتيها في الغد أيضا .
أشار لها موافقا بلا حديث، مما زاد من حنقها، مازال يحاذر عدم نطق اسمها ، تحركت تريد الخروج قبل أن يوقفها سؤاله بنبرة مترددة: هل ستأتين؟؟؟
ضغطت على شفتيها بغيظ قبل أن تلتفّ صوبه، كتفت يديها أمام صدرها لتقول بنبرة محتقنة لا تخلو من السخرية : ألا تعرف اسمي ايمن؟؟ أم أنه صعبٌ عليك نطقه؟؟
ناظرها بملامح حملت الكثير من الأسى ، ليقول بصوت ثابت ناظرا لعمق عيناها العسلية: فعلا، أنت لا تعلمين مدى صعوبة نطق اسمك من جديد.
نبرته آلمتها، إنه يتألم وإن لم يخبرها أو يظهر ذلك ، اسبلت ذراعيها بجانبها لتردف بنبرة هادئة: أنا لم اخترْ أن نتقابل من جديد أيمن ، حقا، لكن يبدو أن للأقدار رأيٌّ آخر.
لم تهتزّ ملامحه ليجيبها بصوت اجوف لا حياة فيه: ولا أنا ، لم أسعَ خلفك ولا حتى من قبيل الصدفة، لم ارغب بأي شيءٍ قد يجمعني بك حتى إن كان من خلف زجاج ، لكنها ابنتي.
كانت إشارة واضحة منه بأنه لم يبحث عنها أبدا ، إذا فهو لم يعرف بعد من زوجها ، ولا تعلم أتشعر بالارتياح أم القلق من حديثه ، أخبرته بتعب بدى واضحا على محياها: هناك أمور لا تعرفها أنت أيمن ، حصلت أشياء كثيرة لا يمكنني البوح بها.
أجابها فورا كمن ينتظر كلماتها: وأنا لم أطلب منك أي تفسير، لأنني لم أعد اهتمّ بشيء عدا مصلحة ابنتي، وابنتي الآن بحاجة إليك ، لذا فأنا مضطر للتعامل معك.
ربما كان يجب أن ترحل منذ البداية، فكلماته آلمتها بشكل مريع ، سيطرت على انفعالاتها لتجيب بإباء : وأنا هنا من أجل الصغيرة، فقط.
كان كلاهما يعتقد أنه يهين الآخر ، بينما في الحقيقة كلا منهما يهين ويؤلم نفسه ، لم تعد ريما تحتمل نظراته القاسية لترحل أخيرا بخيبتها ووجعها ، تاركة أيمن خلفها يطالع خيالها الخائن بمزيج من المشاعر ، والتي لا يستطيع لها تفسيرا.
.......................................................................
أنهى قاسم سرد الوصية على مسامع عليا المتوارية خلف الباب ، وابنتيها الحاضرتين معه في الغرفة ، بدى لهنّ ما يقوله ضرب من الجنون أو الخيال، أيهما أقرب !!!
انتفضت نور من مكانها صارخة بغضب: ما الذي يعنيه حديثك هذا؟؟
أجابها قاسم برزانة تلائم سنواته الخمسين: كما سمعتِ نور، لن تحصلي على حق إدارة الشركة وباقي الأملاك حتى تتزوج آماليا ، في مدةٍ أقصاها عامٌ واحد.
امالت رأسها للجانب لتردف بحذر: وإلا ؟؟؟
طالع وجهها الثائر و أنفاسها الملتهبة، ثم حرك رأسه ناحية آماليا الواجمة بلا حديث، ليتابع بنبرة خشنة مُلزمة: وإلا سيتمّ بيع الشركة وباقي الأملاك في مزاد علني.
رفعت آماليا رأسها نحوه كطلقة رصاص، لتسمعه يضيف: بما فيها هذا القصر. !!!!

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close