رواية وصية والد الفصل السادس عشر 16 بقلم علي اليوسفي
( الفصل السادس عشر )
................
لم يضيع ايمن الوقت أبدا منذ أن أخبرته مربية ابنته بأنّ المرأة التي قابلتها ابنته ريما، هي مديرة ايمان في عملها ، وهاهو الآن جالسٌ في صالة منزل الأخيرة بعد عودة زوجها من عمله.
تفرس في وجه كليهما بعد عرضه لطلبه، الغريب بعض الشيء، حيث أخبرهما بما جرى مع ابنته مستثنياً بعض التفاصيل ، طالباً من إيمان مساعدته في الوصول إلى ريما ، تبادلت إيمان مع زوجها نظرات مترددة ، لاحظها أيمن فتحدث قائلا: سيدة إيمان ، أنا لا أطلب منك الكثير، فقط أن تعرفيني على مديرتك واتركِ الباقي لي.
قطبت إيمان جبينها بتفكير، قلبت الأمر في رأسها فوجدته ثقيلا وقد لا تقبل ريما اساسا ، فتحدثت بارتباك طفيف: نعم سيد أيمن ، ولكن....انا لا أريد أن أجلب لريما أية متاعب......
قاطعها بإصرار مختلط برجاء: لن يكون هناك أية متاعب سيدة إيمان أعدك.
زفرت باستياء من عناده ، فأردفت بحزم: سيد أيمن انت لم تفهمني، أنا اعتذر ولكن، هل تراه أمرا لائقا قدوم سيدة متزوجة كريما إلى منزل رجل أعزب؟؟
نعم إنها على حق لكن لا خيارمتاح أمامه سواها ، اسشعر الرفض في نبرتها فنظر إلى هيثم زوج إيمان طالبا المساعدة، فوضع الأخير يده على ذراع زوجته لينال انتباهها ، ثم قال بحسم لطيف: إيمان عزيزتي ، لا أعتقد أن ريما سترفض المساعدة في أمر إنساني كموضوع ابنة السيد أيمن ، لذا برأيي اتركِ الأمر لها فلتقرر هي.
نظرت إلى زوجها بشيء من التردد، فأشار لها مطمئناً، ضغطت على شفتيها بتفكير دام ثوانٍ، قبل أن تتطلع إلى الآخر .قائلة: حسنا سيد أيمن ، سأنتظرك غدا صباحا أمام منزلي.
انفرجت ملامحه عن رضا فأشار لها بامتنان ، رغم بعض االقلق المختلط بالامتعاض كلما فكر بأنه سيراها في الغد.
دخل منزله لتستقبله صورة كبيرة تجمعه مع زوجته الراحلة وابنتهما، تنهد بحسرة ثم فطن لأمر ما، لا ينبغي لريما رؤية صورة زوجته مهما كان الثمن، سار بخطوات ثابتة إلى الصورة فانتزعها من الحائط، ثم اتجه بها إلى غرفته، آخر مكان قد يسمح لريما بدخوله في المنزل.
.... ............................
دثرت عليا زوجها في سريره جالساً نصف جلسة، سحبت الغطاء السميك لتغطيه ثم جلست على طرف السرير، تطالع وجهه الشاحب، لا يبدو على مايرام هذه الأيام، رغم هذا حاول الابتسام متحدثا بوهن ولهاثٍ خفيف: ما الأمر عليا؟؟ هل اصبحتِ عجوزا ؟؟
ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيها ، أمالت رأسها للجانب متسائلة: هل ما زلت تذكر المرة الأولى التي التقينا بها؟
قطب جبينه بتفكير مردفا: ماالذي ذكرك بلقائنا الآن عزيزتي؟؟
تجهم وجهها لتنكزه في كتفه بخفة متصنعةً الغضب: لأن ذكرى لقائنا للمرة الأولى في الغد أيها العجوز الخَرِف.
استنكر الصفة التي أطلقتها عليه فتحدث باستغراب: أنا عجوز خَرِف.؟؟
أشارت له بجبين مقطب، وابتسامة تحارب للظهور، فأضاف بمشاغبة ونظراتٌ ماكرة تتقافز من عينيه: هل تريدين أن أثبت لكِ من العجوز فينا؟؟
قهقهت على كلماته المتلاعبة تحرك رأسها للجانبين بيأس من حركات زوجها الصبيانية، أراح رأسه للخلف بتنهيدة بطيئة متحدثا: نعم، لا أزال أذكر ذلك اليوم، وكيف لي أن انساه؟.
أدار رأسه صوبها مبتسماً بخفة معقباً: يومها خسرت حبيبة، واكتسبت حبيبة اجمل.
ابتسمت بمجاملة وهي تدرك أن يقصد كلماته بالحرف، كذلك تعلم أن عمار لم ينسى سيدرا والدة أماليا يوماً، والحق يقال حتى هي لم تستطع نسيانها كذلك ، شرد عمار للحظات فعلمت أنه عاد بذاكرته ثلاثون عاما للخلف، تلقائياً عاضدته ذكرياتها .
Flash Back.
كان الطقس سيئا بما فيه الكفاية هذا اليوم ، فالأمطار لم تتوقف للحظة منذ مساء أمس ، إضافة إلى الرياح العاتية ، كان عمار ، الشاب ذو الخمس وعشرون عاما ، يقود سيارته عائداً من منزله نحو المستشفى، بعد أن أوصل والدة زوجته لترتاح قليلا، كانت قسماته المُجهدة يغطيها الحزن ، فحبيبته وزوجته متعبة بسبب علة في القلب ، خاصة بعد ولادتها لابنتهما والتي اختارت لها والدتها اسم أماليا.
أُدخلت سيدرا قسم العناية المشددة منذ الأمس ، وهي متعبة للغاية منذ ذلك الحين ، أما الصغيرة أماليا فقد تم وضعها في الحاضنة الصناعية.
لاحظ على جانب الطريق الأضواء الجانبية لسيارةٍ ما تومض وتنطفئ ، راوده الشك في أمرها ، فخفف سرعته حتى يتمكن من رؤية السيارة الأخرى ، اتسعت عيناه بصدمة عندما تأكد من شكوكه، فقد كانت تلك السيارة يقف نصفها على الرصيف ، بعد ارتطامها بعمود الإنارة في الشارع، هرع لمساعدة السائق رغم الامطار الغزيرة ، ليتفاجأ بوجود رجلٍ يستند برأسه إلى مقود السيارة ، مدّ عمار يده ليعيد الرجل إلى الخلف، شهق بارتياع عندما رأى قطعة زجاج كبيرة مغروسة في عنق الرجل ، وجهه متضرجٌ بالدماء والجراح، تفحص نبضه لكنه كان معدوماً.
انتبه لتوّه إلى أنينٍ خافت يصدر من الخلف، اخفض رأسه لينظر إلى مصدره، هناك وجد عليا ممددةً على الكرسي الخلفي للسيارة، اتجه إليها فوراً ليفتح بابها ، شهق مجددا حالما طالعه بطنها المنتفخ، إذا فالمرأة حامل؟ ، همس يسألها بخفوت وارتباك: ياسيدة؟ هل تسمعينني ؟؟
فتحت عينيها بضعف ، وقد غطت العبرات وجنتيها، همست بوهن: ساعدني أرجوك.
لم يفكر عمار مرتين ، وهو ينحني ليحملها ليكتشف أن عليا قد دخلت في المخاض، بحركات سريعة مدروسة ، نقلها إلى سيارته رغم سيول الأمطار التي لم تتوقف ، ثم قادها إلى المشفى ، وفي طريقه هاتف الإسعاف أيضا ليتم نقل الرجل.
وصل عمار للمشفى بسرعة قياسية ، لم تصرخ عليا ولم تتألم، فقط اكتفت بالأنين المرتفع تارة والمنخفض حيناً أخرى ، أوقف سيارته بشكل مفاجئ ، وترجل غير آبهاً بإطفاء محركها، حمل عليا بين يديه ودلف إلى المستشفى، صارخاً بطلب المساعدة ، هبّ الجميع لمساعدته ونقل عليا إلى قسم الولادة فوراً.
جلس عمار في الممر بأنفاسٍ لاهثة ، شعر بالقلق على تلك السيدة الغريبة وجنينها ، انتبه الآن إلى ثيابه المبتلة فزفر بضيق ، عليه إبدال ثيابه قبل أن يمرض لكنه أولا يريد الاطمئنان على السيدة ، مرّ بعض الوقت قبل أن يسمع صوت سيارة الإسعاف تصل إلى المشفى حاملين الرجل المتوفي.
وضعت عليا جنينها، لكنه للأسف كان متوفياً أيضاً، علم عمار فيما بعد أن الرجل الذي وجده في السيارة هو زوج عليا، وقد كانا في طريقهما إلى المستشفى لتلد عندما انزلقت إطارات السيارة وخرجت عن سيطرة قائدها ، ثم اصطدمت بعمود الإنارة ليموت زوج عليا على الفور.
خرج عمار إلى الغرفة التي أودعت فيها ابنته أماليا وقد زاد همه وحزنه، أخبرته الممرضة أن أماليا لم تقبل الحليب الصناعي ، كذلك ليس بإمكانهم ارضاعها من والدتها المريضة، وهو الآن بحاجة إلى امرأة ما لترضعها ، وإلا فإن الصغيرة قد تموت، أسقط جسده على الكرسي ذو اللون الأزرق مفكراً بأمر ابنته، عندما أطلّ عليه ظلٌ طويل ، رفع رأسه ليرى عليا تقف امامه، وبجانبها إحدى الممرضات تسندها، تحدثت بتعبٍ عظيم وابتسامة باهتة: أتيتُ لأشكرك أيها السيد، لقد أنقذتَ حياتي.
اختنقت في آخر كلمة نطقتها، لتنهمر دموعها من جديد، ابتلعت غصة خانقة لتشير إلى الممرضة بأن تساعدها للعودة إلى غرفتها، استدارت لتخطو عائدة تحت أنظار عمار المستغربة ، لقد تكبدت السيدة عناء المشي مسافة ليست بالقصيرة فقط لتخبره بكلماتها المقتضبة وتشكره ؟؟
إنها امرأة صلبة قوية حقاً، برغم خسارتها الفادحة، زوجها وابنها الذي لم يرَ النور أبدا ، إلا أنها لم تزل واقفة.
تجمدت قدما عليا مع صوت بكاء طفلة صغيرة، استدارت لتسير برفقة الممرضة التي لم تعارضها لتقف عند الزجاج الكاشف ، رأت هناك ممرضة أخرى تحاول إطعام طفلة ما ، فتضع زجاجه الحليب الصناعي في فمها فترفضها ليعلو بكاؤها من جديد ، تسائلت عليا عن الطفلة فاخبرتها الممرضة بأن والدتها مريضة لا تستطيع إرضاعها ، وكما رأت فالصغيرة لا تتقبل الحليب ، آلمها قلبها عليها، فسارت لتدخل إلى الغرفة ، أخبرت الممرضة أن تعطيها أماليا ففعلت، جلست على الكرسي لتشعر بصدرها يكاد ينفجر ، من فرط حنانها تدفق الحليب منها بجنون ، ودون تفكير وبعاطفة صادقة، قررت إرضاع الصغيرة، التي تقبلت حليبها كأنها ترضع من والدتها الحقيقية.
دققت عليا النظر في تلك الملاك الصغيرة، عينيها التي بان لونهما الأزرق منذ ساعة خلقها، وشعرها القصيرالاشقر وبشرتها الناعمة، حبها احتلّ قلبها دون سابق إنذار ، ابتسمت من بين دموعها، كأن الله عوضها عن ابنها الذي تمّ دفنه دون حتى أن تراه.
عرف عمار بما فعلت عليا مع ابنته ، فأخبر زوجته التي طلبت رؤية عليا بعدما علمت بقصتها من عمار، وبعد اللقاء الذي اقتصر على المرأتين، طلبت عليا من سيدرا أن تعتني بأماليا وترضعها حتى تشفى والدتها ، وقد وافقت ما دامت عليا ستبقى في المشفى.
لكن الله لم يكتب الشفاء لسيدرا، بل اختار أن يسترجع أمانته منتصف تلك الليلة، لتبقى أماليا مع عليا ذات الحنان الصادق في المشفى ، فيما كان عمار يجهز لجنازة حبيبته ، وقلبه يعتصر ألما وحزناً.
مرّت أيامٌ بعد الدفن وعمار ما زال على حزنه، كانت السيدة جليلة والدة سيدرا ، يومها ما تزال على قيد الحياة، قد تولت مهمة إيصال أماليا أكثر من مرة يومياً إلى عليا لترضعها، عرفت منها أن لا أقارب لها ، وأن أهل زوجها الراحل حرموها من ميراثه ، بل وطلبوا منها تفريغ المنزل والخروج لأنها ، وعلى حسب ادّعاءاتهم ، نذير شؤم، كأنها هي من قتلت زوجها وابنها !!!
تفكرت جليلة في أمر فيه منفعة للجميع، خاصة أنها قد تعرفت إلى عليا جيدا، واستشعرت حنانها الصافي ناحية أماليا ، فسألت السيدة الجليلة عن عدّة عليا لتخبرها الأخيرة أن لا عدّة شرعية لزوجها عليها، كونه مات قبل أن تضع حملها وبهذا تكون قد أنهت عدتها المفروضة عليها .
لم تتأخر جليلة في طلب يدها لتزوجها لعمار، الذي رفض بادئ الأمر ، ثم مالبث أن وافق لأجل مصلحة ابنته، ورغم كون زواجهما كان لأسباب خارجة عن إرادة كلٍّ منهما ، لكن ذلك لم يمنع شرارة الحب من الاشتعال بينهما ، كأن كل واحد منهما دواء وشفاء للآخر.
......................................
عادت عليا من ذكرياتها لترى زوجها قد غطّ في النوم، حقا لم تنتبه متى توسد فراشه لينام، رمقت وجهه الشاحب بمزيج من الحب والخوف ، عمار يا سندي وعضدي في الدنيا ، أرجوك قاوم قليلا بعد، لتفرح بزواج ابنتيك كما تحب وترغب.
اتخذت مكانها بجانبه لتنام هي الأخرى ، طبعت قبلة حب على جبينه ، قبل أن تغمض عيناها على وجهه تتأمله كأنها تودعه، ولم تعرف أن تلك القبلة وذلك الوداع، سيكون الوداع الأخير !!!
........
قبيل الفجر بساعة.
استفاق عمار ولا يشعر بألم كعادته، إحساس بسكينةٍ عجيبة سيطر عليه، شهق نفساً عميقا من نسمات الفجر الصافية ، فلم يشعر بالألم في جزئه الأيسر و المعتاد بالنسبة إليه ، دبيبٌ خافت أخبره أن ساعته قد أزفت. ...
شمل غرفته بنظرة وداع حتى وقعت عيناه على الصورة الكبيرة المقابلة للسرير، كانت صورة تجمعه بعائلته الصغيرة ، مازال يذكر كيف التقطت هذه الصورة منذ سنوات ، كان عمار جالسا على كرسيه المفضل في الحديقة، وعليا تجلس بجانبه تعرض عليه ملفاتٍ متعلقة بالعمل، عندما سمع كلاهما ضحكات أماليا ونور ، كانتا تتسابقان إلى الحديقة لتريا والداهما الكاميرا الجديدة التي اشترتها أماليا ، ثم قررتا تجربتها لتنادي أماليا على أمينة وتخبرها بأن تلتقط لهم صورةً تذكارية.
دمعة حارقة هربت من عينه ليغمضها بوجع، التفت إلى عليا النائمة بجانبه، دمعة ثانية لحقت برفيقتها متأملاً وجهها، متنهداً بحسرة، بوجع ، بجزع.
أماليا ، نور، عليا، يشهد الله لو أن الأمر بيدي ، لما غادرتُ وتركتكن وحدكن في صراع الحياة ومعتركها ، لكنني على يقين بأنكن ستبقينَ سنداً لبعضكن دائما ، نور أماليا ، ابنتاي الحبيبتان ، راحلٌ أنا وقلبي سيبقى هنا، وروحي ستظلّ تحوم حولكما .
راحلٌ أنا ، ونفسي راضيةٌ مرضيةٌ عنكما.
ازدرد ريقه عندما شعر بنبضات قلبه التي تسارعت و نفسه الذي بدأ يضيق، رفع رأسه بمشقة ، ليقبّل عليا من جبينها برفق لا يريد إيقاظها. ، تأملها بوداع ليغمض عينه ، وعبرةٌ أخيرة نفرت منها لتستقرّ على وسادته، بعدها بلحظات أسلمَ روحه إلى بارئها .
قضى عمار هكذا، بهدوء ودون جلبة ، لتبقى روحه القَلِقة تحوم في منزله، حول بناته وزوجته..
..........................................................................
إنه الصباح ، لكنه ، وبوجود إيمان التي تجلب المصائب من حيث لا تدري، صباح مختلف.
فتحت ريما المحل باكرا بحماس، فالليلة سيتم افتتاحه أخيراً، هاتفت إيمان لتخبرها الأخيرة باقتضاب أنها في الطريق إليها .
تحركت برشاقة وخفة، وحماس يتزايد كل لحظة، ساعدت الفتاة الأخرى التي تعمل معها في التنظيف ووضع اللمسات الأخيرة ، قبل أن يحضر فريق من متخصصين في الحفلات ، لتقديم المحل بأبهى حُلة ، كانت إيمان عند هذه اللحظة قد وصلت برفقة أيمن ، حلّت حزام الأمان لتترجل من السيارة، فيما بقي أيمن داخلها، رفع رأسه إلى اللافتة العريضة أعلى واجهة المحل الزجاجية ، تأمل الإسم المخطوط عليها بأحرف ذهبية وخطّ متقن، ابتسم ساخراً وهو يقرأ اسم( الريما) .
انتبه لتوقف إيمان ناظرة إليه باستغراب لتأخره خلفها، حلّ حزامه هو الاخر، ثم نزل لاحقاً بها.
وقفت ريما ترتب احد الاثواب المعلقة بالقرب من مدخل المحل الزجاجي العريض، انتبهت الى اصوات الأجراس ، فالتفتت للباب الذي فُتِح للتو لتدخل إيمان منه، شملتها بنظرة سريعة ، لتعود إلى ترتيب الثوب محدثة الأخرى بمشاغبة لطيفة. وابتسامتها التي لاتفارقها: لماذا تأخرتِ سيدة إيمان ؟؟ هل كان عليّ ان أُرسلَ وفداً عسكرياً لاحضارك؟؟ .
لم تجبها إيمان ، فالتفتت إليها محافظة على ملامحها السعيدة، سرعان ما عقدت حاجبيها عندما ميزت تردد إيمان وتوترها، ولم تزل واقفةً بقرب الباب، ويدها التي تشدّ على حزام حقيبتها الجلدية، وقبل أن تسألها لاحظت لتوها خيال شخصٍ يقف خلف إيمان ، وعندما دققت النظر شحب وجهها ، جفّ ريقها وتسارع تنفسها متجاوزاً الحدّ الطبيعي بمراحل بعيدة.
تحركت إيمان لتلتفت إلى أيمن الذي وقف خلفها ، ازدردت ريقها لتعود بانظارها إلى ريما التي ثبتت مقلتيها بفزع على وجهه، تكاد تقسم أنها ميزت نظراته الناقمه حتى من خلف نظاراته الداكنه ، حقاً آخر شخص قد تريد رؤيته الآن ، و آخر مكان قد تصدق أن تراه فيه .
تحدثت إيمان بخفوت لتجذب عيناها القَلِقة إليها، وقد نجحت : ريما هذا السيد أيمن ، جاري في الحيّ، يريد محادثتكِ في أمرٍ هام، اسمعيه لو سمحتي.
بسمة متهكمة ارتسمت على شفتي أيمن عندما عرفتهما ببعض، لا تدري أنهما يعرفان بعضيهما قبلها بسنين.
................................................
استفاقت عليا بعد موعدها المعتاد بساعة، لم يكن من عادتها الاستيقاظ متأخرة ، كان وجه عمار أول ما طالعها عندما فتحت عيناها، ابتسمت بحبّ ثم تحركت من مكانها بخفة دون أن توقظه، وضعت قدميها على الأرض لتعقد حاجبيها فجأة ، رمشت عيناها مرات عدّة قبل أن تعيد نظرها إلى زوجها ، قفز قلبها بين ضلوعها فزعاَ عندما لاحظت، لتوها، شحوب وجهه بشكل مخيف.
ازدردت ريقها وتسارعت أنفاسها ، ارتجفت شفتاها لترفع يدها المرتعشة بتردد لتضعها على وجنة عمار، شهقت برعب أسقط قلبها بين يديها لبرودة وجهه، رأت دمعة الوداع الأخير التي خلفها عمار خلفه، تفجرت شلالاتها لتصرخ باسمه، صراخٌ قطّع نياط فؤادها المفطور.
.......... ...........
لن ترتاح إيمان بالتأكيد حتى تُلقي بريما في وادٍ سحيق، أو ربما يجب أن تفعل ريما ذلك ، فتلقيها في حفرةٍ لا قاع لها ، اتقاءً لمفاجآتها والتي، على ما يبدو ، أنها لن تنتهي قريباً !!
لا تعرف كيف حملتها قدماها، وسارتا بها لتدخل إلى المطعم القريب من المحل،برفقة أيمن والذي لم يكن بحال أفضل، بناء على اقتراح إيمان ، ليتمكنا من الحديث بأريحية.
عقدت كفيها ببعض تشدّ عليهما كأنها تستمد منهما الدعم، حضر النادل ليأخذ طلباتهما فأجلت حلقها لتطلب فقط كأساً من الماء، لتبلل ريقها الجاف ، في حين طلب أيمن قدحاً كبيرا من القهوة السريعة.
لم ينظر أيمن إليها للآن ، أو هكذا ظنت، لم ترَ، وهي منكسةٌ رأسها ، عيناه التي كانت تتفحصانها كل لحظة من خلف عدساته ، والتي لم يخلعها بعد، لم تجرؤ على حثه على الحديث ، رغم دعائها الخفيّ داخلها بأن ينتهي هذا اللقاء سريعا.
كان أيمن ينظر إلى الجانب ، ويخطف كل لحظة نظرة عابرة إلى ريما ، يخفق فؤاده بين ضلوعه فيعود لينهره بغضب ويشيح بنظره بعيدا ، انتظر حتى عاد النادل بما طلبا، لاحظ أنها تناولت كوب الماء قبل حتى أن يضعه النادل لتشربه حتى منتصفه، تحاشت النظر إليه مباشرة، لتعود إلى وضعها الأول.
داعب بأصابعه طرف قدحه يفكر في الكلمات المناسبة لسرد طلبه، شعر بتململها فتنهد بخفة وخلع نظارته قبل أن يتحدث بجفاء وجبين مقطب كالمجبر على الحديث : اسمعي، لقد حدثت مشكلة ما مع ابنتي ، وتريد رؤيتك.
خفق فؤادها بخوف على ريما الصغيرة ، لكنها لم تفهم مغزى حديثه فما شأنها هي؟ ، هل هي أُحجية ما؟؟؟
رفعت رأسها إليه لثانية، لتسأله بتردد: ما الذي حدث ؟؟ وما علاقتي أنا ؟؟
تأفف مجيبا بأنفة: مشكلة ما لا تخصك بشيء ، عليك ِ الحضور إلى منزلي و تراك ابنتي .
ازدردت ريقها بفزع من نبرته الجافة ،و زاد فزعها من إجابة سؤال ما يدور في ذهنها ،تشجعت لتسأل فخرج صوتها خافتاً مهزوزاً: وماذا بالنسبة إلى زوجتك ؟؟
كوّر قبضته بغيظ مجيبا بحنق: أخبرتك أن لا شأن لكِ يا سيدة !!
.
رفعت حاجبيها باستغراب من طريقته ، نظرت إليه لأول مرة بجبين مقطب قائلة بنبرة تهكمية : اسمي ريما بالمناسبة، ومالذي يجبرني على الموافقة؟؟
ابتسم الثاني ساخرا ليجيبها بقسوة ناظرا في عمق عينيها ،متجاهلا تعليقها: لولا إصرار ابنتي على رؤيتك لما أتيتُ ، لذا فانتي مجبرة على الموافقة آنسة ريما.
سكت لثانية قبل أن يردف بتهكم: عفوا ، أقصد مدام ريما.
جزّت على أسنانها بعنف من طريقته الاستفزازية ، حدّق كلا منهما في عينيّ الآخر بتحدٍ دام لثوان، ثم تحدثت هي الأخرى بتكبر: ولماذا في منزلك ؟؟ ألا يمكنني مقابلتها في مكان آخر ؟؟
ابتسامة صفراء ارتسمت على محياه متحدثا بتهكم: هل تخافين ؟؟
لم تتبدل تعابيرها المحتقنة ليردف بغرور وعجرفة: ابنتي مريضة ولا يمكنها الخروج.
ظلّت تنظر داخل عيناه لترى نارا تشتعل داخلهما ، والحق يقال ماتراه فيهما مخيف ، مخيف لدرجة مرعبة، ازدردت ريقها بوجل حتى قررت ريما أن تخفض نظراتها عن مدى عينيه الخضراء ، عبثت بأصابعها لتقول ببعض التردد: أنا موافقة ، لكن أولا يجب أن أحادث زوجي.
امتعضت قسماته متسائلا باستنكار: لماذا؟ هل من الوارد أن يرفض؟
أجلت صوتها دون النظر إليه لتردف: لا أعتقد هذا، لكن يجب أن أخبر أد.......
تأفف ليقاطعها بنبرة جافة متكبرة قبل أن تنطق الاسم : حسناً حسناً ، اخبري زوجك هذا أياً كان اسمه .
عبث بجيب سترته الجلدية ليخرج بطاقة مستطيلة سوداء ، ألقاها على الطاولة أمامه كمن يرمي حسنة ما لمتسول مضيفا بذات النبرة المغرورة: وهذا رقمي ، اتصلي بي فور حصولك على موافقته.
وقف فورا ليخرج من جيبه بضع وريقات مالية ألقاها بجانب كوبه ليتحرك خارجا كأنه يهرب من مكان واحد يجمعهما ، حسناً فعل، فقد نجى بجلده من غضبة ريما التي تسارعت أنفاسها بغيظ من تكبره، كم ودّت لو أنه بقي لوقت أطول لتتخلى عن لباقتها وتفرغ كوب القهوة الساخن والذي لم يمسّه فوق رأسه ، حقا كان يستحق ذلك !!
زفرت بضيق لتدفن وجهها بين راحتيها، قبل أن يستبدّ بها التفكير الإجرامي ، انتبهت لرنين هاتفها فسارعت لتخرجه من حقيبتها ، شحب وجهها وهي تقرأ اسم مجد ينير الشاشة ، باتت تخاف حتى من قراءة اسمه على هاتفها !! حقا وصل بها خوفها من مجد إلى هذه الحال؟؟
أجابت الإتصال بنبرة حاولت جعلها عادية: نعم مجد ؟؟
أتاها سؤاله الغريب والذي يبعث على الشك: أين أنت ريما ؟؟
رفرفت بعينيها وتلقائيا رفعت رأسها تبحث عنه خوفا من تواجده في الجوار ، لتجيب بارتباك طفيف: أنا في المحل ، ما الأمر؟؟؟