رواية وصية والد الفصل الحادي عشر 11 بقلم علي اليوسفي
الفصل الحادي عشر ))
..........................دلفت أماليا إلى المشفى اليوم متجهمةَ الوجه ،جبينها مقطب بشكل يثير الريبة، رمت ثقلها على كرسي مكتبها وهي تنفخ وتزفر بملل، حملت ملفاً ما نقلته من يمين المكتب إلى يساره ثم أعادته إلى مكانه مجددا، خللت بيدها خصلات شعرها الأشقر وهي تشعر بيدٍ خفيّة تقبض على عنقها، كتفت يديها ثم أسندت رأسها عليهما، وهي تراجع في ذهنها حديث نور بالأمس، والذي كان سبب كل هذا الضيق الذي يعتريها.
Flash Back.
جلست نور برفقة شقيقتها تتسامر معها حول سهرة التعارف الناجحة بسلفتها المستقبلية، بعد أن اعتذرت منها وصالحتها.
تحدثت نور بإسهاب: لو رأيتها أماليا، كم هي جميلة، رقيقة وسلسة في التعامل، لاتشعرك بالغربة أو الحرج معها أبداً.
تبسمت أماليا مجاملةً وهي تحرك رأسها بتفهم، تحاول احتواء النيران التي أضرمت في صدرها من الحديث حول زوجة أدهم، ولا تعلم السبب الحقيقي خلفها.
فيما أضافت أختها بحماس: هي وأدهم مثال للزوجين المتفاهمين والمحبين، أتعلمين؟؟ لقد أخبرني مجد أنهما طوال اثني عشر عاما من زواجهما لم يتشاجرا ولا حتى مرة واحدة، تخيلي؟؟
ادّعت الانشغال بخيطٍ متمرد من طرف وسادتها لتخفي فكها الذي تشنج من كثرة الضغط عليه حتى كاد يُسمع صوت صرير أسنانها.
سكتت نور عن ثرثرتها لبضع ثوانٍ لتشرد بعيداً وهي تتنهد بسعادة، ثم صاحت كمن تذكر أمرا: احزري ما كانت هدية أدهم لها بمناسبة عودتها إلى البلاد؟؟
رفعت رأسها إليها فجأةً وقد زوت مابين حاجبيها، وصوت ناقم يصرخ داخلها: هدية؟؟ طبعا سعيد بعودة حبيبة القلب إلى هنا؟
تابعت الأخرى بلهفة وهي تضم يديها إلى صدرها بحنان: لقد اشترى لها محلّاً ومشغلاً أيضاً، آه أماليا لو رأيتهما!! كانا كعصفوري الحب الحقيقي ،في عينيه وميضٌ غريب كلما نظر إليها.
امتعضت ملامح أماليا وارتسم الأسى داخل مقلتيها، لكن نور لم تنتبه إليها، بل انتفضت من مكانها فجأة لتقبلها على وجنتها بغتةً وهي تردد: أنا ذاهبةٌ لأحادث مجد قبل أن ينام، تصبحين على خير.
سارت نحو الباب بخطوات متعجلة ثم وقفت لتستدير مجددا نحو شقيقتها مضيفةً: لقد تذكرت، سيأتي أدهم ومجد ليحددا موعد حفلة الخطبة مع والدي غداً مساء..
خرجت نور أخيرا تاركة شقيقتها تطالع آثرها بصدمة، ياآلهي كيف نسيت أمر الحفل؟؟
كيف ستقابل أدهم وزوجته أيضاً؟؟؟ مهما حاولت الاختباء لكنها لن تستطيع تجنبها لوقتٍ طويل، خاصة وأنها شقيقة العروس فمن المؤكد أن ريما ستودّ التعرف إليها.
...........................................................................
جفلت أماليا مع طرقاتٍ متتالية على باب مكتبها فأفاقتها، دخلت إحدى الممرضات تخبرها بوصول خديجة مع زوجها لتحديد موعد عملية التقليح الاصطناعي.
أشارت لها برأسها، تنفست بعمق ثم زفرت وهي تغمض عينيها، فتحتهما تزامناً مع دخول خديجة وزوجها، تصنعت الابتسام وهي تحدثهم عن العملية ،سرعان ماغرقت في الحديث معهم علّها تخرجه من عقلها لفترة، لعل أعصابها ترتاح.
................................................................
حضر قاسم صديق عمار ومحاميه إلى المنزل بناءً على طلب الأخير، مازالا في غرفة المكتب منذ اكثر من ساعة حيث كان عمار يسرد لصديقه طلبه، والذي بدى غريباً من وجهة نظر قاسم الذي صاح به: ما هذا الكلام الذي تقوله عمار؟؟ أجننت؟؟
بقي عمار على هدوئه وهو يجيبه: ما المشكلة في طلبي قاسم؟؟
رفرف الآخر بأهدابه قائلاً باستنكار: ألا ترى مشكلةً في حديثك؟؟ حقاً عمار؟؟ إنك بوصيتك هذه ستخلق شرخاً كبيراً بين أفراد عائلتك!!
تنهد عمار ثم تحدث بروية: اسمعني قاسم، أعلم أن وصيتي قد تبدو ضرباً من ضروب الجنون......
قاطعه قاسم بسخطٍ ساخر : بل إنها الجنون بعينه صدقني.
لم يأبه الآخر برأيه بل تابع حديثه ببرود مستفز: بسبب هذه الوصية ستضطر أماليا أن تتحرر من قوقعتها الوهمية التي غلفت نفسها بها.
بدت الحيرة على وجه المحامي وهو يحرك رأسه للجانبين مضيفاً: لكن ... ونور؟؟ ألم تفكر بها؟؟ أماليا ضامنةٌ مستقبلها فمع عيادتها والعقارات التي ورثتها عن أمها لن تحتاج لأحد ،لكن نور.....
قاطعه عمار بنبرة واثقة حازمة لكنها هادئة: نور لن تحتاج لأحد، لأن أماليا لن تسمح بتنفيذ الوصية،ستجبر على القبول بالشروط لأجل شقيقتها صدقني.
زفر قاسم بضيق، ورغم عدم اقتناعه بحديث عمار لكنه يعلم أيضا مدى عناده وتحجر عقله إن انتوى على فعل أمر ما، لربما صديقه يرى في بناته شيئا لا يراه هو....... ربما!!!
.....................................................................
في المساء جاء أدهم برفقة مجد لزيارة السيد عمار والاتفاق معه على ترتيبات الحفل، أخبرهما عمار بأنه حجز القاعة مسبقا وطبع كروت الدعوة والتاريخ أيضا، والذي يصادف بعد ثلاثة أيام من الآن.
تعمد أدهم أن يطيل في جلوسه علّه يراها ويروي شوق قلبه المتعب حتى تأخر الوقت ، لكن مالم يكن يعلمه بأن أماليا كانت تنتظر بسيارتها خارج منزل عائلتها، فعندما عادت من عملها رأت سيارة مجد فخمّنت أنه وشقيقه مازالا في المنزل ، لذى آثرت السلامة وعدم الاحتكاك به أبدا، ، ماإن رأته يغادر برفقة مجد حتى تنفست الصعداء كمن تخلص من حملٍ يجثو فوق صدره.
دخلت المنزل لتجد عائلتها مازالوا جالسين في الصالة بعد خروج ضيفيهما، تصنعت الابتسام وهي تلقي التحية عليهم، كادت تهرب كالعادة لكن حديث عليا أوقفها: أتعلمين أماليا؟؟
التفتت صوبها وقلبها يهدر بسرعة يريد معرفة موعد الحفل المرتقب، فيما أضافت عليا : لو أنك حضرتي أبكر بدقائق للحقتي بأدهم وشقيقه.
ابتسامة باردة قابلتها بها ،والصوت الناقم ذاته يصرخ داخلها: من الجيد أنني لم أفعل.
تحدث عمار يخبرها: لقد حددنا موعد حفل الخطبة عزيزتي، سنقيمه بعد ثلاثة أيام ،فقد تم حجز الصالة وتجهيز كل شيء.
هزت رأسها إيجابا وقد تقطب جبينها مفكرةً، لن تحضر الحفل، لا يهم كيف المهم أنها لن تقابل زوجة أدهم او هو نفسه مهما حصل، قررت ورفعت الجلسة.
....................................................................... .
وقف أدهم مع شقيقه في مكتب أيمن الذي سبق وأن تولوا مسألة تجهيزه، وكان ايمن يقف ليشاهد التعديلات والديكورات التي تمت إضافتها إلى المكتب ، لم يكن قد انتهى بعد فما زال هناك بعض اللمسات الأخيرة.
هتف أيمن بإعجاب بعد أن عاين المكان: ماشاء الله، إنكم بارعون للغاية، سلمت أيديكم.
تبسم أدهم باقتضاب فيما أجابه مجد بفخر: طبعا سيد أيمن، لن تجد مكتباً يعمل بجودة مكتبنا ولا مهندساً ببراعة أدهم أؤكد لك.
أشار له إلى الديكورات الخشبية الموضوعة في زوايا المكتب مضيفاً بحماس: اترى هذه الديكورات؟؟ انا بنفسي اشرفت على توضيبها هناك.
ربت أيمن على كتفه مردفاً: سلمت يداك مجد، إنها جميلة فعلاً.
أضاف وهو يقابل أدهم: إذاً سيد أدهم متى سيتم تسليمي المكتب؟؟
أجابه أدهم بسلاسة: في نهاية هذا الأسبوع سيد ايمن، وبعدها تستطيع الابتداء بعملك.
تنهد أيمن بقلة حيلة وهو يشيح بوجهه مشيراً برأسه باقتضاب، لاحظه أدهم فسأله بجدية: هل هناك أمرٌ لم يعجبك سيد أيمن؟؟
أعاد نظره إليه مبتسماً باقتضاب نافياً: لا لا أبداً بل على العكس، إنه رائع للغاية.
تبادل أدهم مع مجد نظرات مستغربة ثم نطق مجد: مالأمر إذاً سيد أيمن؟؟ تكلم لربما ساعدناك؟؟.
نطق آخر كلماته وهو ينظر إلى أخيه الذي أشار له بالإيجاب، زفر ايمن بخفة مجيباً : الحقيقة لا شيء مهم، المسألة أنني قد وقعت في مأزق بسبب تخلي شريكي عني ، فقد أنفقتُ معظم أموالي على شراء المكتب وتجهيزه، ومابقي معي الآن لن يكفي لأن أبدأ بأول أعمالي.
سكت لثانية و هو يعقد حاجبيه بتفكر ثم تحدث بتردد في طرح فكرته: سيد أدهم انا لا أخفيك حاجتي إلى شريكٍ يساعدني في المكتب، وبما أن مجد يدرس إدارة الأعمال مثلي فما رأيك بأن يدخل هو أو أنت شريكاً معي ؟؟؟
تبادل مجد وشقيقه نظرات متفاجئة، ران الصمت بينهما للحظات وقبل أن يتحدث مجد نطق أدهم بلا تعابير واضحه في نبرته: دعنا نفكر بعرضك سيد أيمن، وسنجيبك في الغد.
خرج عقبها مفكراً يتبعه مجد، أيصحُّ أن يدخله إلى حياته بهذه الطريقة؟؟ ماذا إن اكتشف حقيقة قرابته مع ريما أو ربما الأسوء، ماذا إن رآها يوماً مع مجد؟؟
أغمض عينيه بقوة من مجرد التخيل حينها سينقلب الوضع برمته، ربما من الأفضل رفض الأمر نهائياً.
قاطع مجد تفكيره حين تحدث بنبرة لينة: أنا موافق أدهم.
نظر إليه باستغراب قبل أن يفتح باب السيارة فأضاف الآخر: نعم ،أريد أن أشارك أيمن بحصتي من ميراث والدنا.
حاول أدهم الحديث بعقلانية علّه يثنيه: اسمع مجد ، انا لا أمانع بأن تؤسس لنفسك عملاً ضمن اختصاص دراستك والاستقلال بذاتك وكيانك، لكن لماذا ايمن تحديداً؟؟ ولمَ تشارك أحدهم من الأساس؟؟ فأنت بإمكانك أن تؤسس مكتبك أو شركتك دون مساعدة من أحد؟؟
ابتسم مجد بتفهم لحديثه لكنه أجاب: أعلم أنك تريد مصلحتي أخي، لكنني لا أريد دخول عالم الأعمال بلا خبرة فهكذا سأجازف بنفسي وسمعتي قبل أن ابدأ حتى.
اقترب اكثر منه وهو يضع يده على كتفه مردفاً: أنا بحاجة شخصٍ ذو تجربه لأستفيد من خبراته، ولن أجد أفضل من أيمن صدقني.
دار مجد حول السيارة ليركب مكانه،تاركاً شقيقه يحسب توابع قراره، خلّل خصلاته بيده حائراً، فمن ناحية لا يريد إحباط شقيقه فيعتبر أنه يقف ضده، ومن ناحية أخرى يخشى أن يعرف أيمن عن ريما من مجد فينفجر الماضي بما فيه.
زفر بقلة حيلة وهو يعلم أن لاحلّ في يده حالياً، لم يخبر ريما عن أيمن قبلاً، لكنه على مايبدو هو مضطرٌ الآن لإخبارها لتتلافى الالتقاء به، ربما من الجيد أن زوجة ايمن متوفية ،وإلا لأصرّ مجد أن يعرفها بريما، ابتسم بسخطٍ على أفكاره المجنونة، ثم صعد بجانب شقيقه.
.........................................................................
مرّ اليومان سريعاً وأتت الليلة الموعودة، وقفت أماليا تنفخ بامتعاض واضحٍ على قسماتها بجانب والدتها ووالدها اللذان وقفا على باب القاعة المخصصة للاحتفال لاستقبال الضيوف.
كم حاولت على مدار اليومين الماضيين التهرب من الحضور متذرعةً بكافة الأعذار لكنها لم تفلح، حتى عندما تحججت لوالدها بأن لديها مناوبة ليلية في المشفى قام عمار بمهاتفة صديقه صاحب المشفى ليأخذ لها إجازة فقط كي تحضر، مع رفضٍ قاطع لأي تبريرات فهي شقيقة العروس ولا يصحّ أن تتغيب عن حفلة الخطبة.
دخلت السيدة هبة صديقة عليا إلى الصالة الكبيرة برفقة وحيدها نبيل، الذي ماإن رأى أماليا حتى شقت ثغره ابتسامة عريضة، التمعت عيناه وهو يقف أمامها ليصافحها مردداً بنبرة ذات مغزى : مبارك آنسة أماليا، على أمل أن نفرح بك قريباً.
ابتسامة باردة قابلته بها وهي تبادله مصافحته : شكرا لك سيد نبيل.
مرّت ثوان وماتزال يدها محاصرة بين كفيه فرفعت حاجبها له بتحذير، رغم أنه قد قرأ الاعتراض داخل مقلتيها لكنه تغاضى عنه قاصداً، فسحبت يدها بقوة وهي تكزّ على أسنانها قائلة: تفضل بالدخول سيد نبيل.
لمحت صديقتها الوحيدة هدى داخلةً برفقة زوجها فتركته واقفاً واتجهت صوبها، همس نبيل لنفسه بغيظ: أعترف انك جميلة، بل فاتنة، لكن هذا لا يعطيك الحق أبدا باستحقاري.
قبلتها هدى من وجنتها وهي تهمس لها بحماسٍ صادق: مبارك مبارك عزيزتي، على أمل أن نفرح بك أيضا.
ابتسمت لها باقتضاب واهدت الابتسامة ذاتها لمازن الذي أعاد على مسامعها كلمات التهنئة ذاتها، وكأن العالم قد خلا سوى من هذه الكلمات.
..........................................................................
ارتدى أدهم بذلته الرسمية الرجالية والتي كانت باللون الأسود، استغنى عن رابطة عنقه ليترك اول زرين من قميصه الأسود مفتوحان.
جلس على الأريكة المتواجدة في غرفة النوم، بانتظار ريما التي كانت ترتدي ثيابها في غرفة الملابس، شرد في نقطة في الفراغ، هل يصحّ أن يخبرها عن أيمن؟؟ يخشى فقط أن يجعلها تقلق دون حاجة إلى ذلك، لكنه أيضاً لا يضمن مالذي سيحصل مستقبلاً.
خرجت ريما في هذه الأثناء وهي تضع قرطها في أذنها فلاحظت شرود أدهم، اعتقدت بدايةً أنه قلقٌ فقط من مقابلتها لأماليا في الحفل وكيف ستكون ردة فعل الأخيرة، اقتربت منه حتى وقفت أمامه فجفل بخفة، ورفع أنظاره إليها ليبتسم لها مجاملاً ،كتفت يديها وزوت مابين حاجبيها ثم تحدثت بحدة مصطنعة: هل لي أن أعلم من التي سلبت لك عقلك سيد أدهم؟؟؟
قهقه على تعابيرها المتصنعة قائلا بنوعٍ من التهكم المازح وهو يقف بمواجهتها: لا يليق بك دور الزوجة الغيور أبدا بالمناسبة.
ارتخت تعابيرها وهي ترفع رأسها بكبرياء واضح لتجيبه بنبرته ذاتها: لستَ بشخصية جذابة لأغار عليك بالمناسبة.
حملق فيها بذهول من إجابتها ،لكنها لم تمهله أكثر فتحركت من فورها ليتبعها هو محاولاً النيل منها، تعالت ضحكاتهما في الرواق وعاد الزمن بهما إلى تلك الفترة، عندما كانا مجرد مراهقين بريئين، يخيل للناظر إليهما أنهما أسعد زوجين في هذا العالم، لكن علاقتهما أبداً لم تتخطى حدود الأخوة والصداقة.
...... ......................
وصلا للأسفل وضحكاتهما تسبقهما، وقف مجد الذي كان بانتظارهم مبتسماً ثم صاح بمشاغبة: طبعاً، حضرة السيد أدهم ضامنٌ وجود ملاكه بقربه، أما أنا فجالسٌ أحترق بشوق لأذهب إلى حبيبتي التي تنتظرني.
يبدو أنه مصرٌّ على إحراجهما كلّما رآهما سوياً، ناظره أدهم بقلة حيلة فيما نكست ريما رأسها للأسفل بحرج، ما لبثت أن رفعته بعينين متسعتين وهي تصيح: لقد نسيتُ هدية نور في الاعلى، سأصعد لإحضارها لن اتأخر.
ابتسم أدهم عليها وهي تركض كطفلة، واجه مجد الذي تحدث: لقد دعوتُ السيد أيمن إلى حفلتي.
حلّ التجهم على ملامح أدهم، رمش بعينيه وهو يسأله بقلق: وماذا أخبرك؟؟ هل سيحضر؟؟؟
تنفس مجد بعمق وهو يشير برأسه نافياً: لا ،لقد أخبرني أنه مدعوٌّ على العشاء لدى أحد أصدقائه وقد وعده مسبقاً بالحضور..
تنفس الآخر وزفر براحة، من الجيد أنّ أيمن رفض من تلقاء نفسه، خيرٌ من أن يرى ريما بهذه الطريقة.
رفع رأسه إليها وهي تنزل الدرجات بتأنٍ صائحة بحماس وهي تشير بيدها إلى علبةٍ مخمليّة زرقاء: لقد احضرتها، هيا فلنذهب.
...................................
كانت أماليا واقفة على طاولة في أطراف الصالة وقد بان التوتر الكبير عليها، لم تهدأ حركة قدمها العصبية وهي تقضم أظافرها مرة وتتطلع إلى ساعتها تارة ثانيه، ثم تخلل شعرها الأشقر ذو التسريحة العادية أحياناً أخرى، أخذ القلق منها مأخذاً كبيراً وعقلها مازال يفكر في طريقة للتخلص من لقاء ريما، ولكن كيف السبيل؟؟
لاحت منها نظرة إلى هدى التي كانت تتجاذب أطراف الحديث مع نور الجالسة في مكانها المخصص، خطرت على ذهنها فكرة خطيرة قد تنقذها لحظياً من اللقاء بريما أو حتى أدهم.
أشارت لصديقتها عدة مرات قبل أن تنتبه إليها، تقدمت هدى صوبها راسمةً على ثغرها ابتسامة عذبة.
٠جذبتها أماليا من يدها لتسحبها خلفها وهي تسير إلى أحد أركان القاعة، تبعتها هدى بخطوات راكضة ،رافعةً طرف فستانها لئلا تتعثر بذيله وهي تتمتم بمزاح:بهدوء عزيزتي أماليا بالله عليكِ بهدوء .
توقفت أماليا مع هدى في زاوية بعيدة وبحثت بعينيها عن والداها، كانت هدى ترتب فستانها الذي تجعد من الهرولة خلف رفيقتها، لاحظت تقاسيمها المشدودة فرددت بخوفٍ مصطنع وهي تنكمش على نفسها بطريقة مسرحية: شكلك مخيف أماليا، أتريدين أن تستفردي بي؟؟ منذ،متى اصبحتي منحرفة هكذا؟؟؟
رفرفت عيناها لثوان حتى أدركت طرفة صديقته ، فضربتها على يدها بخفة وهي تهمس لها بسخرية: دعي خفة دمك لوقت آخر أيتها الظريفة.
ثم تابعت بجدية: المهم الآن أنا بحاجة إلى مساعدتك.
وقبل أن تنطق هدى أردفت وهي ترفع إصبعها السبابة بتحذير: ولا تسأليني عن السبب، اتفقنا؟؟؟
التمست هدى القلق واللهفة في نبرة رفيقتها، فأولتها كامل اهتمامها متحدثةً: أقلقتني أماليا، مالأمر؟؟؟
عادت اماليا لتجول بناظريها حتى رأت والداها مندمجان في الحديث مع السيد قاسم الرجل الستيني، ثم توجهت بالحديث إلى هدى قائلة بهمس خافت: اسمعي....
..................................................................
تقدمت آماليا بابتسامة مُختلقة بالكاد تبدو ظاهرةً ، نحو مكان وقوف والديها ،فقابلها قاسم الأرمل صائحاً بتهليل : ياأهلاً بالطبيبة الجميلة نجمة هذا الحفل ياأهلاً، كيف حالك عزيزتي أماليا؟؟؟
وقفت بجانبه وهي تحييه : أهلاً بشيخ الشباب، كيف حالك عم قاسم؟؟
امتعضت قسماته بتصنع ثم تحدث باستنكار: شيخ الشباب وعمّ قاسم؟؟ صفتان غير متوافقتان عزيزتي، اختاري أحدهما.
ثم أخفض صوته ليضيف و هو ينظر حوله : وأنا أفضل الأولى، فكما ترين الفتيات كثيرات هنا، لعلّي اصطاد إحداهن.
ضحك عمار ليوبخه: أيها العجوز،!! انظر حولك فجميعهن من عمر بناتك.
قهقه قاسم ليردّ عليه بدوره: الحب لا عمر له سيد عمار المحترم.
تعالت ضحكاتهما الممازحة فيما أماليا تتلفت حولها بقلق ،حتى رأت هدى تتقدم نحوهم وهي ترسم الجدية على محياها، فأشاحت بوجهها متصنعةً عدم الانتباه.
وصلت هدى إليهم ثم حدّثت أماليا بقلق ظاهر: أماليا أين هاتفك ؟؟؟
انتبه الجميع إليها فيما ادّعت أماليا عدم الاهتمام وهي تجيبها: أعتقد أنه في حقيبتي لدى الاستقبال ،لماذا؟؟
هتفت الأخرى بسرعة كأنها تريد التخلص من حملٍ ثقيل: موظفو المشفى يحاولون الوصول إليكِ ،ليخبروكِ بأن إحدى مريضاتك على وشك الولادة الآن.
أجادت أماليا ادعاء القلق وهي تتحدث : حقاً؟؟ يا آلهي إذاً يجب أن أذهب بسرعة.
تحركت من مكانها ثم قبضت عليا على رسغها لتعيدها هاتفة باستنكار وهي تشير لها على ملابسها: ستذهبين هكذا؟؟
تطلعت إلى فستانها الأسود الذي يصل لما بعد الركبة بقليل، فأجابتها بشيءٍ من الحرج قبل أن تنكشف خدعها : لا يهمّ الآن امي، سأبدل في المشفى ،إلى اللقاء.
خرجت بخطوات متلاحقة سريعة حتى خرجت من القاعة ،استقرت خلف المقود وهي تتنفس الصعداء لقد نجحت أخيراً وتفادت اللقاء بريما، لاحظت قبل أن تدير السيارة اصطفاف سيارة سوداء حديثة تبعتها أخرى عرفتها على أنها لمجد، فخمّنت أن الأخرى لأدهم،وقد صدق حدسها عندما ترجل أدهم من السيارة، ليلتفّ حولها ثم فتح الباب ،مدّ يده لريما التي ابتسمت له مجاملةً ،ظنتها أماليا لفرط غيرتها أنها ابتسامة حب.
ضغطت على المقود دون شعور منها حتى ابيضّت مفاصلها، ظلت تتابعهم حتى دخلا برفقة مجد إلى القاعة.
انتبهت إلى يدها المسكينة التي تشدّ على المقود فآلمتها، مسّدتها بلطف وهي تدلكها بخفة، وفي عيناها اهتاج بحرها بغضب وغيرة معاً ،أدارت السيارة أخيرا ثم اتجهت الى منزلها الخالي من وجود أحدهم، فالخدم وأمينة قد جاءوا لحضور الحفل.
.......... ............................................ ...................
تعرفت ريما إلى عائلة نور وبعض المتواجدين ممن يعرفها من المجلات ،لكنها لم ترَ أماليا بعد ولم تستطع السؤال عنها لئلا تثير الشكوك حولها.
رأت أدهم يقف في ركنٍ منزوٍ وهو يجول بعينيه بين الحضور علّه يراها لكن على مايبدو أن لا أمل في ذلك اليوم! أيضاً !!
اعتذرت بتهذيب ورصانة من السيدة التي كانت تحادثها ،ثم اتجهت إليه، سألته حالما وقفت بجانبه: إذاً أدهم، أين أماليا؟؟ ألم تظهر بعد؟؟
زفر بضيق وهو ينحني صوب أذنها هامساً: لا أعلم، لكنني لا أراها هنا أبداً.
نفخ مجدداً وهو يردد: هل يعقل إنها لم تحضر حفلة أختها أساساً؟؟
تبسمت ريما وهي تشيح بوجهها إلى الجانب الآخر، طالعها أدهم بريبة فسألها بشكّ ممتزج بالامتعاض : لمَ تبتسمين ريما؟؟ هل قلت شيئاً مضحكاً؟؟
حاولت كتم ضحكتها التي على مايبدو أنها لن تقاوم طويلاً لتقول: لإنك لن تجدها أبدا.
ناظرها بعدم فهم فأردفت: مستحيل ألا تحضر خطبة شقيقتها الوحيدة، لكنني أعتقد أنها هربت لأنها لن تتحمل رؤيتي بجانبك أيها الأحمق.
ضحكت بخفوت في آخر حديثها وهي تغطي فمها بيدها، تفحصت ملامح أدهم المصدومة، لحظاتٍ مرّت قبل أن يستوعب حديث ريما، حسناً ربما....
رفرفت عيناه قبل أن يبتسم باتساع هو الآخر وهو يخلل شعره بيديه......
الآن متأكد فعلاً ، أن ريما محقة...