رواية دمية بين يديه كاملة بقلم سارة علي
الفصل الأول
بخطوات سريعة دلفت إلى قصر عائلتها وإتجهت نحو غرفة مكتب والدها حيث توجد والدتها مع المحامي ..
كانت والدتها تنتظر قدومها على أحر من الجمر وما إن وجدتها تلج الى داخل المكتب هبت بها بنبرة باكية منفعلة :
" شفتي اللي حصل يا هيا ، كل حاجة ضاعت مننا .."
ابتلعت هيا ريقها وقالت بنبرة متشنجة غير مستوعبة بعد لما تسمعه وإستقبال والدتها المفاجئ لها :
" اهدي يا ماما وخليني أفهم من أنكل حسين كل حاجة .."
أدرك حسين تخبطها وضياعها فنهض من مكانه واتجه نحوها قائلاً بلهجة دافئة وهو يشير الى الكرسي الجانبي للمكتب :
" تعالي اقعدي هنا يا هيا ، وخلينا نتكلم بالراحة .."
وكأن هيا كانت تنتظر منه قول هذا فألقت جسدها بوهن على الكرسي بينما اقترب حسين من والدتها السيدة مادلين وقال محاولا شد أزرها :
" اقعدي انتي كمان يا مدام مادلين وخلينا نتفاهم .."
ردت مادلين بضياع :
" أقعد فين وأتفاهم إيه ..؟!"
ثم أشارت إلى إينتها هيا قائلة :
" أبوكِ مات وساب وراه ديون متتصوريهاش يا هيا ، لازم نبيع كل حاجة نملكها عشان نقدر نوفي الديون دي .."
تشنجت ملامح هيا كليا وهي تستمع لحديث والدتها الذي فسر كل شيء .. كانت تدرك أن هناك مصيبة ما تنتظرهن بعدما أعلن والدها إفلاسه وتوفي تاركا إياها وحيدة مع والدتها وأختها الصغرى ..
والدها الذي لم يتحمل خسارته لعدة صفقات وراء بعض خاصة بعدما قرر في نهاية المطاف أن يبيع كل ما يملكه بإستثناء هذا القصر الكبير لإيفاء جميع ديونه فسقط فاقدا حياته بسكتة دماغية أدت إلى وفاته في الحال ..
كانت تظن أن المشاكل إنتهت الى حد هنا وأنها سوف تستطيع أن توفر لقمة العيش والمصاريف التي تحتاجها عائلتها بوجود قصر كبير تستطيع بيعه في أي وقت وشراء منزل صغير لهن بينما تتصرف بباقي الأموال وتنفقها على مصاريفهن وخاصة مصاريف دراستها هي وأختها ..
" هيا ، قولي حاجة .."
صرخت بها والدتها بنبرة باكيه ليقاطعها حسين بجدية :
" إهدي يا مادلين ، مش كده .. خلي هيا تستوعب الكلام اللي قلتيه فالأول .."
تحدثت هيا أخيرا متسائلة بصوت مبحوح :
" الديون قد إيه ..؟!"
نظرت مادلين الى حسين الذي أجابها برفق :
" كتير يا هيا .. كتير والقصر مش هيغطيها .."
" أنا يستحيل أبيع القصر .. أنا أموت ولا إني أبيعه وأشوف حد تاني بياخده مني ..."
قالتها مادلين بنبرة قوية لتنظر إليها هيا وترد بجدية :
" القصر كان هيتباع بكل الأحوال ، قبل حكاية الديون دي ، وإلا منين هنجيب مصاريفنا أنا وسيلين .."
صرخت مادلين بعدم تصديق :
" طب وأنا ، مفكرتيش فيا وفوضعي ..؟!"
تدخل حسين في الحوار موجها حديثه الى مادلين :
" ملوش لازمة الكلام ده دلوقتي ، كده كده القصر هيتباع بإرادتكم أو غصبا عنكم ..."
هطلت دموع مادلين من مقلتيها بينما اقتربت منها هيا محاولة إسنادها كي لا تقع أرضا ...
دفعتها مادلين بعيدا عنها وهي تهتف بهم :
" سيبوني ، مش عايزة حد يسندني ..."
ثم تحركت خارج المكتب تاركة هيا مع حسين لوحديهما ...
التفتت هيا نحو حسين تنظر إليه بتردد قبل أن تسأله بحيرة :
" هنعمل ايه دلوقتي يا أنكل ..؟!"
أجابها حسين بصدق :
" مفيش حل غير إننا نبيع القصر ونسدد الديون .."
سألته هيا بثبات مصطنع :
" طب وإحنا ..؟! هنصرف منين ..؟! "
أجابها حسين بقلة حيلة :
" مش عارف ، حقيقي مش عارف بس ممكن تشتغلي وتصرفي على نفسك واختك .."
أغمضت هيا عينيها بوهن قبل أن تفتحهما مرة أخرى وقد تشكلت الدموع داخلهما لتقول أخيرا وهي تعتصر عينيها بقوة كي لا تبكي :
"تقريبا مفيش حل عندنا غير كده .."
............................................................................
رنين هاتفه العالي أيقظه من نومه الذي إمتد لساعات طويلة ..
فتح عينيه بضجر وتأفف بضيق وهو يعتدل في جلسته ويجيب على هاتفه ليأتيه صوت صديقه المرح :
" انت فين يابني ..؟! برن عليك من الصبح .."
رد بصوت ناعس ضجر :
" صبح إيه بس ..؟! ده إنتَ يادوب لسه متصل بيا .."
" مش مهم ، تعالي دلوقتي حالا .."
قالها صديقه أياد بنبرة متحمسة ليسأله بضيق :
" أجي فين وليه..؟!"
زفر أياد نفسه وقال :
" يابني تعال الأول وهتفهم .."
قال بعناد :
" لا أفهم الأول .."
" سهرة حلوه فيها بنات فلة ..بنات حلوين أوي يا سليم .."
دب الحماس داخل سليم الذي سأله بسرعة :
" بنات وحلوين ، السهرة فين ، قولي بسرعة ..؟!"
ضحك أياد بقوة ثم أجابه موضحا له عنوان المكان لينهض سليم من مكانه ويأخذ حماما سريعا قبل أن يرتدي ملابس الخروج ويتجه خارج الغرفة ليجد أخته في وجهه ..
سألها سليم مندهشا من وجودها أمامه :
" ماهي ..!! بتعملي ايه هنا ..؟!"
ضحكت بخفوت ثم إفتعلت الحزن وهي تجيبه :
" دي بردوا طريقة تقابل فيها أختك يا أستاذ سليم ..؟!"
ابتسم وقال :
" مش قصدي ، بس إستغربت وجودك قدام أوضتي .."
ردت ماهي بمرح :
" جيت عشان أصحي أخويا الكسلان ، بقى فيه حد بينام الساعة عشرة بالليل .."
مط سليم شفتيه وقال بلا مبالاة :
" مش إحنا فإجازة ولا إيه ..؟!"
تحولت نبرة ماهي المرحة إلى أخرى جاده :
" بابا مدايق منك اوي يا سليم ، بيقول إنك لسه مستمر فالسهر والشرب .."
قال سليم بجدية :
" وهفضل كده طالما مرتاح .."
حاولت ماهي أن تتحدث وترد عليه لكنه أوقفها بإشارة منه وقال بحسم :
" مش هنعيد كلام فنفس الموضوع يا ماهي ..."
تطلعت ماهي إليه بعدم إقتناع ليكمل سليم بقوة :
" انا مرتاح كده ومش هتغير عشان هو عايز كده .. تمام ..؟!"
اومأت ماهي برأسها على مضض ثم أكملت بنبرة جاهدت كي تخرج عادية :
" طب يلا بينا ننزل نتعشى مع ماما وبابا ومعتز .."
قال سليم معتذرا عن حضور العشاء :
" مش هينفع أتعشى معاكم للأسف ، انا وعدت أياد إني هتعشى معاه .."
" بس بابا هيدايق يا سليم .."
قالتها ماهي بنبرة مترجية ليزفر سليم أنفاسه بقوة قبل أن يرد عليها :
" أعمله إيه يعني ..؟! هو على طول مدايق مني ، مش هتفرق المرة دي .."
ثم تحرك أمامها متجها الى الطابق السفلي ليجد الجميع مجتمع على طاولة العشاء ...
اقترب منهم وألقى التحية عليهم قبل أن يحيي معتز زوج ماهي بحرارة ..
اقتربت ماهي منهم ووقفت بجانبه وقالت محاولة تلافي المشكلة قبل حدوثها :
" سليم هيتعشى بره مع صحابه .."
" بجد ..؟!"
سألته والدته السيدة زينب ليومأ برأسه وهو يقول :
" ايوه بجد ، اتفقت معاه على كده .."
" متتأخريش بره .."
قالها والده كمال بنبرة محذرة ليرد سليم ببرود :
" أنا هبات بره البيت أصلا .."
نظرت زينب إلى إبنتها ماهي بقلق مما سيحدث بينما قال كمال بصوت قوي أمر :
" بيات بره البيت هيبقى من النهارده ممنوع يا سليم ، الجامعة قربت ودي سنة تخرج ، يعني كفاية سهر ولعب عيال ..."
قال سليم بصوت خرج حاد :
" دي حاجة تخصني وحضرتك ملكش حق تتدخل فيها .."
ضرب كمال على الطاولة بكفي يديه قبل أن يصرخ به :
" أنا ليا حق أدخل فأي حاجة تخصك يا سليم ، إنت فاهم ...؟!"
" كفاية يا كمال ، أرجوك .."
قالتها زينب بترجي بينما تقدمت ماهي من والدها محاولة تهدئته لتهتف به وهي تربت على كتفه :
" كفاية يا بابا أرجوك ، عشان خاطر ماما عالأقل .."
ثم ألتفتت نحو سليم وقالت له :
" روح انت دلوقتي يا سليم ومتتأخرش ..."
تحرك سليم من أمامهم ورحل تاركا البقية يطالعون أثره بضيق وتشنج ...
" الولد ده مش هيجيبها لبر .."
قالها كمال بعصبية شديدة وهو ينهض من مكانه لترد زينب بتوسل :
" معلش يا كمال ، هو لسه صغير .."
رد كمال بنفس العصبية والصوت العالي :
" صغير ..!! ده عنده ستة وعشرين سنه .. المفروض كان متخرج من أربع سنين وبيشتغل معايا فالشركة .."
أخفضت زينب بصرها بألم بينما إقتربت منها ماهي تسألها بقلق :
" ماما إنتِ كويسة ..؟!"
" أنا هقوم أرتاح ..."
نهضت زينب من مكانها وإتجهت نحو الطابق العلوي لتقول ماهي بتردد :
" ماما شكلها تعبان اووي ..."
رد الأب بقنوط :
" اللي بتمر بيه مش سهل يا ماهي .. مش سهل ابدا .."
تمتم معتز بأسف :
" ربنا يكون فعونها ..."
قال كمال مشيرا إلى معتز وماهي :
" انتوا مش أغراب يا أولاد ، انا مليش نفس أتعشى ، هروح لأوضتي وأتكلم مع زينب شويه وأهديها .."
" طبعا يا عمي ، خد راحتك .."
قالها معتز بجدية ليتجه كمال الى الطابق العلوي بينما جلست ماهي بجانب زوجها وقالت بضيق :
" أنا مش عارفة الوضع ده هيستمر لحد إمتى ..؟! علاقة بابا وسليم فالنازل .. بحاول أعرف هما بقوا كده ليه ومش قادرة .."
تطلع إليها معتز بشفقة فهي تتحمل ما هو فوق طاقتها .. هو نفسه يستغرب سوء علاقة سليم بوالده وتمرده الدائم عليه ..
نهض معتز من مكانه وإقترب من ماهي محيط رقبتها بذراعيه هاتفا بمواساة صادقة :
" متدايقيش نفسك يا حبيتي ، كل حاجة هتبقى كويسة .."
نظرت إليه ماهي بحب وإبتسامة خفيفة تشكلت على شفتيها ...
أما في الطابق العلوي فقد صعد كمال إلى زوجته ليجدها جالسه في غرفتها على الكنبة تقلب في أحد ألبومات صور العائلة ..
اقترب منها وقال بلهجة هادئة :
" إنتِ كويسة يا زينب ..؟!"
تطلعت إليه بعتاب وقالت :
" مدايقش سليم يا كمال .. استحمله عشان خاطري .."
جلس كمال بجانبها وقال بجدية :
" منا مستحمله لحد دلوقتي يا زينب .. بس هو يتعدل معايا كمان .."
قالت زينب بنبرة واهنة وصوت خافت :
" معلش هو لسه صغير وطايش .. "
ثم أردفت بشرود :
" مع إنه مكانش كده أبدا .."
تطلع إليها كمال بحيره وسألها :
" تقصدي ايه ..؟!"
ردت زينب عليه :
" هو إتغير جدا من ساعة لما دخل الجامعة ، بقى واحد تاني .. يمكن حكاية مرضي أثرت فيه .. أو يمكن إنت فشلت فإحتوائه.."
" إبنك طول عمري بتاع شرب وستات يا زينب .."
قالها كمال بحدة لتومأ برأسها وهي تكمل :
" بس كان بيحبك ويحترمك .. مكانش متمرد عليك .."
زفر كمال أنفاسه وقال بغلظة :
" يعني هطلع أنا سبب تصرفاته دي فالأخر ..."
هزت رأسها نفيا وقالت بسرعة :
" لا والله مش قصدي كده .."
ثم أردفت بتوجس :
" انا بس خايفة عليه من الزمن .."
أكملت بصوت متحشرج :
" خايفة إني أسيبه لوحده .."
مسك كمال كف يدها وقال بنبرة مؤازرة :
" متقوليش كده يا زينب ، باذن الله مش هتسيبيه ..."
طفرت الدموع من عينيها وقالت بصوت متحشرج :
" أنا حاسة إنوا نهايتي قربت يا كمال .. قربت أووي ..."
" لا يا زينب متقوليش كده ، عمرك طويل إن شاء الله .."
إبتسمت زينب بوهن قبل أن تشعر بدوار شديد يسيطر عليها ... ضغطت على يد زوجها بقوة والذي سألها بقلق :
" مالك يا زينب ..؟! إنتي كويسة ..؟!"
" كمال ، أنا تعبانه أوي .."
قالتها زينب بنبرة خفتت تدريجيا قبل أن تنهار فاقدة للوعي بين يديه ليحملها كمال على الفور ويهبط بها الى الطابق السفلي صارخا بماهي وزوجها :
" ماهي .. معتز .. إلحقوا زينب .."
ركض الإثنان نحويهما قبل أن يصرخ بهما كمال :
" روحوا شغلوا العربية ، لازم ناخذها المستشفى حالا ..."
وبالفعل ركض معتز نحو سيارته وشغلها بينما ركبت ماهي بجانبه ووالدها يحتضن زينب في الخلف ..
..............................................................................
جلست هيا على سريرها تفكر بما يحدث معها وتحاول أيجاد حل سريع له ..
كانت تفكر بوضع والدتها الحرج فهي لن تتحمل شيء كهذا .. والدتها التي ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب وإعتادت على حياة الرغد والرفاهية لن تعتاد بسهولة على شيء كهذا ...
شعرت بأن الأمور تزداد تعقيدا فكل شيء يسير ضدها بشكل مؤلم ...
صوت طرقات على باب غرفتها أيقظتها من أفكارها فسمحت للطارق بالدخول لتلج سيلين الى الداخل بخطوات مترددة ..
شعرت هيا بترددها فقالت :
" قربي يا سيلين .. مالك مترددة تدخلي ..؟!"
اقتربت سيلين منها ووقفت أمامها هاتفة بحزن :
" هو الكلام اللي سمعته صحيح يا هيا ، هنبيع القصر ونقعد فالشارع .."
نهضت هيا من مكانها واقتربت منها ، قالت بينما تحتضنها بحنو :
" مين اللي قالك كده ..؟! اكيد مش هنقعد فالشارع يا سيلين .. احنه هنقعد فمكان راقي وجميل .."
سألتها سيلين بعدم إقتناع :
" أمال ماما قالت غير كده ليه ..؟!"
" هي ماما قالت إيه ..؟!"
سألتها هيا بقلق لترد سيلين بجدية :
" قالتلي انوا كل حاجة ضاعت ، وإننا خسرنا كل حاجة وبقينا عالحديدة .."
ابتلعت هيا ريقها وقالت :
" انتِ عارفة ماما بتأزم المواضيع .. متقلقيش يا حبيبتي .. كل حاجة هتبقى تمام .."
" بجد يا هيا ...؟!"
سألتها سيلين بلهفة لتومأ هيا برأسها بتردد ..
ابتسمت سيلين براحة وقالت :
" طب انا هروح اذاكر فإوضتي ..."
أوقفتها هيا متسائلة :
" هي ماما فإوضتها يا سيلين ..؟!"
اومأت سيلين برأسها وهي تقول :
" ايوه ، بس كان باين عليها إنها تعبانه اووي .."
سألتها هيا بقلق :
" ليه ..؟! مالها ..؟!"
أجابتها سيلين بعفوية :
" كانت معيطة جامد وقالتلي إني أسامحها عشان هي أضعف من إنها تتحمل كل ده .."
شعرت هيا بالقلق يدب في أعماقها بسبب ما سمعته .. لا تعرف لماذا جرت مسرعة نحو غرفة والدتها تحدث بها سيلين .. وصلت إلى الغرفة أخيرا تحاول أن تفتح الباب لكن دون فائدة .. أخذت تطرق على الباب بقبضتي يديها وتنادي على والدتها بأعلى صوتها دون أن تجد أي رد ...
" فيه ايه يا هيا ..؟! "
سألتها سيلين بنبرة باكية لتقفز هيا درجات السلم متجهة الى الطابق السفلي وتصرخ على البواب كي يأتي ويفتح لها الباب ..
ركض البواب مسرعا نحو غرفة مادلين وإستطاع أن يفتح الباب بعد عدة محاولات لتلج هيا مسرعة الى الداخل تتبعها سيلين فيجدان والدتهما ممددة على أرضية الغرفة وبجانبها كومة من علب الأدوية الفارغة ..
يتبع ..