رواية قرار حازم الفصل السادس عشر 16
بهمس اجش ونظرات شاردة مع ابتسامة شاحبة ....نطق حازم امام أحمد تلك الكلمة بغصة مريرة ....يشعر بها كالعلقم المحجوز في حنجرته وقلبه ...رماها بلسانه لكن طعمها المر ساكن بفؤاده.
أجابه أحمد باستغراب : ماذا تقصد بني !!....لا افهمك!!
تنهد حازم بخيبة ...ثم حدق نحو احمد مبتسما بمرارة.... وعاد يردد بحرقة : رنا لقد ...اعادت الي الخاتم ....لقد...
وهنا قاطعه أحمد بشفقة ...بعد ان ادرك مايقصده....فهتف بتفهم : فهمت بني لاداعي لان تشرح المزيد
ثم اضاف مبتسما بثقة : كنت متأكدا ان هذه الخطوبة لن تدوم طويلا ....ابنتي عنيدة كوالدتها
عاد حازم يردد برزانة وملامح جامدة : لقد طلبت منك يدها هنا اول مرة ....و...
وصمت هو هذه المرة ....لايستطيع ان يتفوه بعبارة الانفصال وفسخ الخطوبة ...الا ان احمد تفهمه ....وشرد في حازم الشارد بعيون حادة ...يعرف شعوره....تعرض له منذ سنوات طويلة جدا...يدرك معنى ان يهزم الرجل امام عناد حبيبته الخائفة ...وبقي للحظات طويلة يحدق نحوه بحنان ابوي ...ليهمس اخيرا بعاطفة صادقة: يؤسفني ذلك حقا بني....كم تمنيتك لابنتي ....انت رجل نبيل وشهم ...صدقني اني ساعتبرك كابني رغم انفصالكما و سأبقى ممتنا لك دائما .
وأضاف بفضول مع نبرة مرح مبطنة تشوب ملامحه ابتسامة طفيفة متسلية بالكاد ترى: ولكن كيف حصل ذلك بني!!...لماذا انفصلتما!!...كيف تغلبت عليك صغيرة والدها العنيدة!!
التفت حازم نحوه بجمود وملامح غامضة ....ثم هتف بجدية: عمي ....عفوا اسمح لي ان اناديك عمي ...لقد ....
وشرح له كل ماحصل ...ليهمس احمد بعد مدة بحياد: حسنا ...كلاكما مخطىء بني....لن ادافع عن ابنتي فهي تصرفت بتهور وعصبية ولكن انت ايضا بني لم تهادنها بل اثبت لها اكبر مخاوفها منك.
صمت حازم ...شاردا بملامح مبهمة...ليهتف اخيرا برزانة: اريد منك خدمة عمي !!
اجابه احمد ببشاشة: طبعا بني ...اطلب ماتشاء.
احتدت ملامح حازم بصرامة ...ثم بقي لبعض الوقت يحدث احمد ...هذا الاخير الذي ابتسم له بتفهم وعيناه تلمع بالاعجاب نحو هذا الشاب ....وبعد فترة طويلة من الكلام الذي كان جله على لسان حازم....هتف احمد بدعم: حسنا بني...لك ذلك .
************
لاحقا.....طرقات على بابها جعلتها ترتعش باجفال... منتفضة من غضبها وحزنها وخيبتها ...والكثير الكثير من المشاعر المتضاربة التي تهافتت على قلبها ...عين دامعة بأسى واخرى ساخطة بخيبة....منذ ان تركته في الحديقة واقفا هناك بهيبته وغادرت مسرعة راكضة نحو غرفتها...رامية الحقيبة بعنف....ثم ارتمت على فراشها تبكي ... تبكي وتنوح بحنق : متسلط ...متسلط....لن تعرقلني كذلك المتسلط...لن اخضع لك مثلها .
وبقيت طويلا تنتحب بمرارة...الا ان شعورا اخر تسلل اليها في خضم غضبها وخيبتها....الان فقط تنبهت انها رمت الخاتم....بعد ان ولت العاصفة ...الان تنبهت انها خلعت الخاتم فعلا وقذفته ارضا....خواء بارد تسلل اليها ....فعادت تنتحب مجددا ولكن هذه المرة نحيب عاشقة ...نحيب جنين اجهض قبل ولادته....لقد احبته واعترفت ذلك لنفسها مرات عديدة....احبته لهذا تنتحب منذ ان ولجت الى غرفتها .
ولكن هناك غيظ آخر ...يكيدها ....كيف لم يلحق بها ويبلسها الخاتم مجددا عنوة؟!!....كيف تركها تتركه؟!...اين تسلطه الذي يفرض عليها تملكه ؟!!....كيف اختفى ببساطة هكذا؟!!...وهنا احتدت نظراتها بغضب العاشقة ...فهمست من بين اسنانها بشفتيها المجعدة بقهر : فليغادر ...لا اريد ان اراه مجددا ...لايهمني امره .
ثم هدأت ....وعدلت نفسها ..تسحب جسدها المنهك من هذا اليوم المشحون...مستندة على ظهر سريرها.... كطفلة معاقبة غاضبة حزينة...تكالبت عليها المشاعر ...فزمت شفتيها ورموشها المبللة بدموعها تحرق عينيها فتزيد من بكائها ....وبقيت تنتحب في صمت ...جسدها يرتعش بشهقات متتالية ....طويلا....طويلا....حتى انهكت فاستكانت شاردة بملامح شاخبة باهتة....لتنتفض على قرع الباب في هذه اللحظة.
دلف أحمد بهدوء ....فوقع نظره عليها يلمح حالتها قبل ان ترتدي ابنته العنيدة قناع الصلابة ولكن هيهات ان تخدعه هذه الصغيرة ....فابتسم بحنان...واقترب اليها بخطوات ثابتة ...ثم جلس بجوارها على السرير ممسكا بكفيها الباردة...وهمس بحنكة يتطلع اليها بعمق: ابنتي...اعلم انني اجبرتك سابقا على الخطوبة ظنا مني انني اختار لك الشخص المناسب...ولكن الان سأجبرك على أمر آخر يجب ان تقومي به حتى لاتندمي انك ضيعتي الرجل المناسب في فورة غضب.
ثم اضاف بتفهم ونبرة جدية : حازم في الاسفل يود مقابلتك لاخر مرة...أنا اعلم انك سترفضين رؤيته لهذا ولانك ابنتي الوحيدة سأجبرك هذه المرة على مقابلته حتى تتخذي القرار المناسب لك ....هيا ابنتي رافقيني للاسفل .
صدمت ثم ابتهجت ثم عادت وتذكرت ملامحه الصارمة وهو يوافق زوج سمر على تسلطه...فاحتدت ملامحها....والتمعت عيناها بشراسة ....وبهدوء ابتعدت عن فراشها ...تشابك يدها بيد والدها ...ورافقته نحو الاسفل ...وهي تدعي ان ضربات قلبها الهادرة بسبب غضبها وليس بسبب شعور اخر ...فقط الغضب لاغير.
بعد قليل ...كانت تصل الى الصالة رفقة والدها ...تتحاشى النظر الى ذلك الحازم الذي وقف احتراما لهما ...وهو الاخر يعتلي وجهه ملامح جامدة غامضة ....فهتف احمد اولا بود: تفضلا الى المكتبة بني وتحدثا هناك.
اجابه حازم بامتنان : اشكرك عمي ...لن اطيل البقاء ....فقط بضعة دقائق .
ثم اضاف برسمية نحو رنا: تفضلي لو سمحت.
انه مختلف ...بل لقد تغير...ظنت انها ستحترق بوهيج عينيه المستتر وهما رفقة احدهم ككل مرة ....لكنها وجدت نظرات باردة وملامح جامدة....ارادت ان تكيده بغطرستها اللامبالية وتمنعها الانثوي ...ففاجأها بنظراته وملامحه الصخرية ...وهنا تفجرت براكين عنادها ...ودون ان تجيبه ...تقدمت بضعة خطوات واثقة ...فلحقها وتوجها معا نحو المكتبة قريبان ولكن بعيدان جدا...يسير بجانبها ومسافة تمطت تفصل بين كتفيهما ...الى ان اختفيا عن انظار والديها...لكن سقط عرف العشق بتشابك يديهما فبقي الكفان منفصلان على غير العادة...فجعدت كفها بحنق مقطبة حاجبيها بغيظ وحنين .
فتح حازم الباب...ثم همس بجدية مشيرا لها بكياسة الى الامام: تفضلي .
ازدرت رنا ريقها بتوتر...غير انها احتفظت بملامحها المقطبة....ودلفت رفقته نحو الداخل...بينما ترك حازم الباب مفتوحا اكثر بكثير هذه المرة رغم ان المكتبة بعيدة عن الاعين .
توجهت رنا مباشرة نحو طاولة المكتب ووقفت هناك تحدق اليه بحدة....فاقترب منها حازم بخطوات وقورة ....يرتدي ملامح صارمة برسمية ...الى ان وصل نحوها لايفصلهما الا متر واحد...يعتليها بقامته الفارعة....مشرفا عليها بهيبته المهلكة ....ثم همس مباشرة بجدية وهو يحدق الى عينيها بعمق : سأسألك سؤالين ولكن ستجبينني على واحد فقط .
واضاف بغموض : ارجو ان تختاري السؤال المناسب رنا ....الاول هو لماذا فسخت الخطوبة ؟....اما الثاني فهو
وصمت محدقا اليها بنظرات عميقة عمق البحر الهائج ...ثم اكمل بنبرة صارمة: هل تحبينني ؟
ارتبكت رنا بشدة حتى انها تراجعت للخلف بخطوة مستندة على الطاولة ...رامشة بتوتر ...ترى في عينيه ...بل تحاول ان تقرأ عينيه لكنها مغلقة وهي مفتوحة ...اي رجل هذا ؟!!...يقيدها وهو مبتعد.....فعادت تزدرد ريقها الجاف بارتباك...ولكن لمعة ظفر مرت على عينيه لثواني بسبب توترها جعلتها تحدق نحوه بغضب ...وبعد صراع نظرات دام للحظات طويلة...هو بتحد واقفا كالصخر ...وهي تجابهه بعناد....اجلت حنجرتها وهتفت بحدة: فسخت الخطوبة لانك متسلط مثله....بل مثلهم جميعا....لانك تريد ان تعرقل عملي كما فعل زوج سمر ودافعت عنه....لانك تخنق انفاسي بتملكك....لانك تخيفني بتملكك الذي يحسب خطواتي بتجبر....لانك متجبر تمنعني من ان اختار ما اريده بانانية....لانك اناني تريدني ان اعيش لك وحدك....لانك خطبتني رغما عني....لانك منعتني عن قيادة سيارتي....لانك تهجم على كل رجل يقترب مني بغرض بريء حتى ....لانك بتسلط اخترت فستان الزفاف ....ولانك ولانك ......
ثم اضافت بحنق وهي تنظر اليه بعيون حمراء غاضبة حانقة ولكن ايضا خائبة : هل تريد المزيد ام اكتفيت بهذه الاسباب سيد حازم؟!!....لهذا اجل انا انهي هذه الخطوبة التي اجبرت عليها من البداية ولكن انا سانهيها بإرادتي في النهاية.
بغموض ...بجمود...بشفافية كالزجاج البارد ....حدق نحوها طويلا حتى ارتبكت بشدة...ثم همس بتصميم : وداعا آنسة رنا.
وأولاها ظهره ...يتوجه بخطوات رزينة خارج المكتبة....تاركا رنا واقفة هنا متصلبة بصدمة ...جاحظة بانشداه من مغادرته ....لم ترى انصرافه الاول عندما رمت له الخاتم منذ ساعات....ليكافئها القدر بان تراه ينصرف امامها ...فزمت شفتيها بقهر ....ابتعاده موجع...رؤيته يغادر مودعا يؤلم....وبقيت تحدق امامها بصدمة حتى تشوشت الرؤية بسبب دموعها المتحجرة في مقلتيها ....ودون ان تشعر وجدتها تتسلل على وجنتيها بحرارة ....فتهافتت الشهقات تلحق بدموعها واخذت تبكي بوجع وحدها وهو غير موجود فقد اختفى ...اختفى ليس معها ليمسح دموعها ويطمئنها ...بل اختفى سريعا كما اقتحم حياتها سريعا ....لكنه منحها ابغض امنياتها ....منحها انسحابا بخيارها لامجبرة ....منحها حريتها باختيارها ....فلماذا تشعر بفوزها مرا وهي انتصرت في النهاية ؟!!....لماذا هذه الدموع اللاسعة و النبضات الهائجة الرافضة وهي انتصرت وهو رحل كما اختارت هي لا هو هذه المرة؟!!!.....لماذا تشعر بحريتها تخنقها؟!
لانها تجيب على سؤاله الثاني بعد رحيله: احبك ...اجل احبك.
وهرعت نحو الاريكة حيث دحض مخاوفها منذ ايام وبقيت تنتحب بألم ....وحيدة من دون قبضته الحانية تربت على وجنتيها رامية دموعها بعيدا....تنتحب بمفردها.
*******لاحقا ....جالس في حديقة منزله...يتطلع الى خاتمها بشرود ....عيناه حادة بغموض.....يكاد الناظر اليه يظنه سيختنق من كبت انفاسه كأنه تمثال صخري بسكونه المهيب ....منذ ان عاد من منزلها تاركا ايها خلفه في تلك المكتبة التي شهدت خوفها ورعبه ...غرامه و تأثرها....هدنتهما و اتفاقهما....ليكون الفراق آخر مشهد يجمعه بها هناك....وفجأة مرت غير بعيد عنه ليلى ابنة خالته تتوجه نحو المنزل تحمل وردة حمراء اقتطفتها من الحديقة ....تستنشقها بملامح حمراء كبتلاتها وولجت الى الداخل....فشرد ببصره نحوها يدقق النظر اليها بتصميم ....لينهض اخيرا متوجها نحو والدته بجسد متشنج وخطوات عازمة .
بعد دقائق ....هتفت مريم بانزعاج : بني حازم....هل انت واثق من قرارك هذا بني؟!!
اجابها حازم بتصميم وهو يسرح بنظره بعيدا : واثق جدا امي .
ثم نهض بهدوء ...وخلفه والدته تنظر اليه بأسى والكثير من القلق.
لتمضي الليلة بصمت ....فسعاد واحمد تجنبا ان يحدثا رنا بل تركاها تنفرد بنفسها ....اما هي فامضت ليلتها تنوح بحزن تارة وبغضب تارة اخرى ليغلب نواح الشوق فتبكي بمرارة ...اين رسائله النصية واتصالاته الليلة....انه الفراق فعلا....الان فقط تأكدت انه غادر حياتها فجأة كما دخلها فجأة....حتى في خروجه يربكها....اما الاخر ....فمستلق على فراشه ...يزفر انفاسه برتابة ...هادىء بشكل مريب....وشارد بغموض!!!
******************
في اليوم التالي(اليوم الرابع من الاسبوع الثاني)
بنفس صمت الليلة الماضية....امضت رنا رفقة والديها طعام الافطار في سكون ...لا احد منهم يتطلع الى الاخر ...وبعد فترة هتفت رنا ببرود ...وهي تغادر مقعدها : طاب نهاركما ...سأغادر الى عملي.
اخيرا التفتا نحوها وهمس معا بحنان: موفقة ابنتي.
ثم غادرت بهدوء....فهتفت سعاد بقلق: احمد لم اظن ان حازم سيستسلم ويتخلى عنها ؟!!
اجابها احمد بملامح جدية : للاسف عزيزتي...احيانا يجب ان نستسلم ....ارجو لكليهما السعادة ....فحازم رغم انفصاله عن ابنتنا رجل شهم ويشرف اي عائلة ان تصاهره.
ثم غادر مقعده هو الاخر متوجها نحو مكتبه....بينما بهتت ملامح سعاد وهمست بخيبة: كم تمنيته لك ابنتي ....انه يشبه والدك .
**********
لم تظهر....كما هو لم يظهر ايضا....تجلس في مكتبها بمفردها ...تطلع بشحوب نحو مكتب سمر الشاغر ....لتهمس بحنق: ذلك الزوج المتسلط المتجبر....هاهو يمنعها عن العمل مجددا والاخر يسانده ويوافق على تسلطه.
ليعود تفكيرها الى خروجها من البوابة...رجاء خائن وامنية غادرة تسللت اليها بأن تجده ينتظرها خارجا يفرض عليها مرافقته ...لكن جابهها الشارع الفارغ....وبأمل مستتر ....تطلعت حولها تبحث عن سيارته...عله يخدعها كما فعل سابق وسيقفز امامها بجاذبيته وهيبته ....لكن لاشيء....فقط الفراغ والهواء البارد ....فزاد غيظها غيظا وقهرها قهرا ...متوجهة نحو سيارتها لتصفع بابها بعنف ثم تتوجه بسرعة نحو الجريدة....تزيد في السرعة عله يقطع طريقها ويوبخها ....لكن لاشيء ....لم يظهر.....فوصلت اخيرا الى عملها....وترجلت بسرعة ....لربما ستجده هناك ينتظرها بنظراته المتملكة ....ولكن ايضا لاشيء لم يظهر.
لتهمس بحرقة : انتهينا ...لم يظهر ولن يظهر رنا.
وبعناد واصرار وكأن غياب صديقتها يشحذ همتها للمقاومة ....حدقت رنا نحو مكتب سمر كحليف حرب وهتفت بشراسة: ولا اريده ان يظهر ذلك المتسلط ....سأهتم بعملي ولن اكترث لغيابه .
وعادت الى ملفاتها واوراقها....موجهة كفها الى حقيبتها .....تجذب منها قلمها ....ليطالعها ذلك القلم الذهبي ....فتنكس راية العناد بحنين ....وبقيت تنظر الى القلم باشتياق عنيد هو الاخر....لا حكم لنا على القلوب مهما عاندنا....وقلبها يشتاق لصاحب القلم ....فالتمعت عيناه ببوادر دموع ...تتذكر تفاصيل تلك الليلة ليلة رأس السنة حينما اهداها اياه....وكيف اعترفت لنفسها لاول مرة ليلتها بانه تحبه....هذا القلم الاخرس يثرثر لها باعترافها بحب صاحبه الان بتحد....فأمسكته بحنق تنوي رميه ....لكن ولوج احدى الموظفات اوقفها ....فأعادته الى حقيبتها وتناولت اخر ....ثم انغمست في النقاش مع الموظفة كطوق نجاة من هذا الحنين الغادر.
وانقضى الدوام....من دون علب الغذاء المعتادة....من دون اتصالات ....لتخرج الى الشارع ويواجهها الفارغ باغاظة ....فاستقلت سيارتها وغادرت نحو منزلها باحباط و الكثير الكثير من الشوق و الغضب والعناد العنيد .
ثم تنقضي ليلتها كسابقتها دون اي اثر منه وكأنه لم يدخل حياتها وكانه مجرد حلم عاشته واستفاقت لتجد انها بمفردها وذلك الحازم مجرد فارس احلام وهمي لاعلاقة له بالواقع....لكن قلبها يسخر منها بدقاته الهادرة انه هنا ...هنا كلما تذكرته نبضته بعنف منتفضا بشوق له....فتسكته رامية الوسادة على وجهها تبللها بدموعها الساخطة.
*********
اليوم الموالي(اليوم الخامس من الاسبوع الثاني)
اجل لاتظهري سمر لاتظهري ....لاتظهري ...فيزداد سخطي عليه وأداوي شوقي له....لاتظهري ...لانه لايظهر لليوم الثاني على التوالي....لاتظهري.
لليوم الثاني...وكسابقه....لم تظهر سمر وتغيبت عن عملها....جاعلة رنا تتشبث بغيابها كحجة تساعدها في القاء اللوم على زوجها وعلى حازم على حد سواء....كلاهما سعى بتعمد لحرمان صديقتها من عملها برجولة متسلطة ظالمة...احدهما اصدر الحكم الجائر و الثاني دعمه...ولربما الثاني اسوء منه لانه ناورها لاسابيع ليصدمها بتحيزه لزوج سمر المتسلط....لهذا كلما مر ساعات العمل وسمر غائبة ...شعرت براحة انانية ...لم تخطىء في قرارها بفسخ الخطوبة ...فهو من خذلها ....وهاهي سمر لاتظهر لليوم الثاني بمساندة ظالمة منه.
ومر اليوم كسابقه....كما بدأ مثله....فراغ...خواء...برود....صمت...تنفرد ليلا بغرفتها ...هاتفها صامت للليلة الثانية على التوالي....لكن قلبها صاخب يطالب برنين الرسائل النصية التي لاتصدح منذ ليلتين....فتطبق جفنيها بحنق ....ولهيب الشوق يحرقها ....لكن العناد يطفئ نيرانه فصديقتها لم تظهر لليوم الثاني.
***************
اليوم السادس
ما ان جلست رنا على مكتبها.....حتى انتفضت فجأة بعد دقائق على ولوج سمر مبتسمة بسعادة وهي تهرع نحوها ....تجذبها من المقعد وتعانقها بامتنان شديد وهي تهتف بصخب: عزيزتي ....لاادري كيف اشكر خطيبك ....لقد عدت الى عملي بفضله ....انا مدينة له ولك عزيزتي.
بقيت رنا جامدة في احضان صديقتها ....ثم همست بعدم استيعاب فيما تبتعد عن سمر: سمر!!....كيف حضرت الى العمل؟!!....وما دخل حازم بعودتك ؟!!
ابتسمت سمر بحماس ...ثم هتفت ببهجة:دعينا نجلس عزيزتي وسأخبرك
////////فلاش باك (قبل يومين عند الجريدة)
هتف حازم نحو زوج سمر بحنكة : اهدء اخي ....يحق لك اصطحاب زوجتك ولكن ليس بهذا الاسلوب العنيف....انت تبدو رجلا شهما وحميد الخلق....يحق لك ان تغضب ولكننا نحن الرجال يجب ان نتصرف بحكمة ....اهدء الان ولاتخف زوجتك ....لايجب ان تحل مشاكلكما في الشارع امام المارة.
اجابه زوج سمر بانفاس متقطعة وقد ضبط اعصابه قليلا : لقد عصتني وهذا لن اسكت عليه ...قلت لها لاعمل ولكنها تعمدت ان تعصيني يااخي.
عاد حازم يردد برزانة وهو يربت على كتفه: ولا احد يحق له ان يلومك ولكن عليك ان تتصرف بتعقل يااخي...سنعود الان الى هناك وتحدث مع زوجتك بهدوء ولكن اولا اريد رقم هاتفك ....ساتصل بك لاحقا لنكمل حديثنا ....لقد اعجبت بصرامتك اخي.
زفر الزوج بارتياح ....ثم اجاب بود: اشكرك لتدخلك يااخي....يشرفني ان اتعرف عليك ....تفضل هذا رقمي...سانتظر اتصالك ونتقابل لاحقا.
بعد ساعتين....في احد المقاهي الراقية حيث تواعد حازم مع زوج سمر....هتف حازم بجدية: حسنا ...اخبرني الان ماهي المشكلة يا فؤاد؟
فؤاد بحنق: لقد تشاجرنا كثيرا حول عملها ....ولكن منذ فترة ولانني اغيب لاسابيع عن المنزل بسبب عملي المتنقل من محافظة الى اخرى ....حذرتها من ان تخرج الى العمل في غيابي ....وهي وافقت وقالت انها ستعيد فتح الموضوع بعد عودتي....وانا سافرت ....لاعود فجأة قبل موعد عودتي بيوم واكتشف انها غير موجودة بالبيت ....ولم احتج لمعرفة مكانها ....فتوجهت مباشرة الى الجريدة وفعلا كانت هناك ....اذن من المخطىء هنا انا ام هي التي عصتني وخدعتني لتذهب الى عملها في غيابي!!
صمت حازم للحظات ...ثم همس برزانة: هل تزوجتما وزوجتك تعمل فؤاد؟
فؤاد بحدة: اجل ....ولكنني لم اعد اريدها ان......
لكن حازم قاطعه بعتاب: هنا انت المخطىء فؤاد بل وظالم ايضا...مادام عملها لايرضيك كان عليك ان تناقشها في ذلك منذ البداية لا ان توافق وتعترض لاحقا اخي.
ثم اضاف عندما وجده مقطبا بحنق: اما خروجها في غيابك فهذا خطأ منها ....كان عليكما ان تحلا الامر وليس ان تتركاه معلقا وكلاكما يتحدى الاخر بحقوقه وينتقص من حق الاخر.
واردف بحكمة : يحق لك ان تعاقبها لانها عصتك وخرجت الى عملها في غيابك دون رضاك هذا لانقاش فيه واعلم انك ستعاقبها بالطريقة المناسبة ....ولكن ايضا لايحق لك ان تمنعها عن عملها وانت كنت موافقا عليه منذ البداية....الرجل عندما يمنح كلمته لايعود فيها فؤاد....وانت رجل شهم وانا اكيد انك ستعيد النظر ...توصلا لحل لوسط يرضي كليكما ...حافظ على حقوقك دون ان تمنع عنها حقوقها ....اكسبها بتفهمك ومناقشتك الهادئة لا بفرض اوامر مجحفة تعترض مع مامنحته لها ....لاتعد في كلمته و قرارك اخي....طالما اتفقتما منذ البداية على عملها ورضيت به لاتحرمها منه ولكن توصلا لحل وسط يرضي كليكما ...هذا زواج والزواج شراكة واتفاق بين الزوجين ...على كليكما ان يتنازل نحو الاخر ليستمر وينجح.
///////عودة من الفلاش باك
عادت سمر تهتف بحرج: لقد غافلته في غيابه.. وخرجت للعمل مع انه حذرني من ذلك واتفقنا اننا سنتناقش مجددا بعد عودته من سفره الذي سيدوم بضعة اسابيع لكنني تفاجأت بعودته قبل موعده وحصل المشكل....وبعد حديثه مع خطيبك عاد الى منزل اكثر هدوءا وتفهما لكنه اخذ مني الهاتف ومنعني من الالتحاق بالجريدة ليومين كعقاب لانني عصيته في غيابه ....ثم تناقشنا مطولا...وكان لكلام خطيبك اثر كبير في جعل فؤاد يقر بانه لايحق له ان يمنعني عني عملي....وانا اعتذرت منه لعصيانه ووعدته انني ساوازن بين عملي وبيتي اكثر .
ثم اضافت بسعادة: وها انا هنا اليوم ازاول عملي ....لن انسى صنيع خطيبك ابدا رنا ...اشكريه جدا نيابة عني عزيزتي.
واردفت باستغراب: رنا...رنا ...عزيزتي اين انت شاردة ؟!!
استفاقت رنا من شرودها ...بشعور كبير بالندم ...وملامح شاحبة ....ثم همست بخفوت : لقد فسخت الخطوبة سمر
شهقت سمر بصدمة ...وغادرت مقعدها نحو رنا تعانقها بمودة ...ثم هتفت بندم شديد هي الاخرى: ماذا ؟!!..لماذا؟!!...بسببي اليس كذلك...ياالاهي انا اسفة جدا رنا .....حقا اسفة جدا
همست رنا بنبرة متأثرة وقد تحجرت الدموع في عينيها بحرقة: لا لست السبب سمر....انا كنت انتظر منه اي هفوة لابتعد عنه ....كنت اتصيد له الاخطاء لانفصل عنه وهاقد انفصلت عنه
ثم اجهشت بالبكاء ....فضمتها سمر بمواساة وهمست بحنان وادراك : انت تحبينه عزيزتي....انت تحبينه والا ماكان انفصالكما سيحزنك هذا....وهو يحبك جدا رنا....لقد كنت الاحظ اهتمامه بك واتصالاته المتكررة ومما اخبرتني به لهذا فهو ايضا يحبك وستعودان الى بعضكما عزيزتي.
ثم اضافت : هل اخبرته انك تحبينه ؟
ازداد شهقات رنا وهتفت بحرقة: لا ...لم اخبره ....سألني ولكنني لم اخبره سمر...لم اخبره....غادر ولم اخبره انني احبه .
شددت سمر من عناقها ...واخذت تربت على شعرها بحنان ...ثم همست بلطف: ستتصالحان عزيزتي فهو يحبك وانت كذلك .
وبقيت تعانقها طويلا ....الى ان انقضى اليوم وعادت رنا الى منزلها ....وبعد ساعات ....في فراشها ....بقيت تحدق الى الخاتم الثاني بعشق ....تقلبه في اصبعها الاوسط بسعادة ....ثم همست برجاء عاشق: احبك حازم ...احبك جدا ...سامحني ....اتصل مرة واحدة وساعتذر منك ولكن اتصل ارجوك.
لكن هاتفها لم يرن ....وبدل ان يخف وجعها ...ازداد ....فالان تكالب عليها الشعور بالندم و الشوق و العشق و الانتظار...وما اصعب انتظار الحبيب عندما نخطىء نحوه....تمر الدقائق كالساعات....نختنق بالندم ...تتهافت الذكريات الجميلة باصرار تزيد من شوقنا و حزننا....فتصبح ضدنا ...لكن كونه فارس الواقع النبيل فهذا يخفف من الاسى ....ثم نامت على غفلة منها ....نامت وذلك الخاتم يسكن اصبعها .
********
عطلة نهاية الاسبوع....استفاقت رنا متأخرة على غير عادتها وقد تجاوزت الساعة العاشرة...وكأن براءة حازم واعترافها بحبها له جعلاها تنام هانئة بعد ان كانت لليلتين تسهر دامعة ساخطة....فتمطت في فراشها بكسل ...ثم طالعت يدها وذلك الخاتم مبتسمة بنعاس وقد برقت عيناه بحب....لتغادر فراشها اخيرا متوجهة نحو حمامها بحماس...وبعد ساعة اخرى كانت تنزل السلالم لتجد والدتها هناك في الصالة وحيدة بعد غادر احمد لمقابلة اصدقائه القدامى كما يفعل كل نهاية اسبوع.
لاحظت سعاد ملامح رنا المرتاحة ....فتطلعت اليها باستغراب لكنها آثرت عدم خوض موضوع حازم حتى لاتحزنها....ظانة انها ربما تجاوزت حزنها وتحاول ان تتكيف مع انفصالهما او لعلها تتصنع السعادة بكبرياء حتى لاتظهر حزنها ....كما كانت تفعل سعاد في الماضي ...عندما ترتدي قناع اللامبالاة كلما تشاجرت مع احمد ...ثم تناولتا الغذاء معا ...تتبادلان احاديث متنوعة بعيدة تماما عن حازم ....فيما حماس رنا في الكلام يجعل والدتها تحدق اليها بتفهم لمحاولاتها برسم الابتسامة المزيفة...لكنها لم تكن مزيفة بل حقيقية ....ابتسامة عاشقة حقيقية
بعد ساعات وتحديدا على الثالثة عصرا...تقدم احمد نحو سعاد بملامح جامدة وهتف بهدوء: سعاد اصعدي وجهزي نفسك ....سنغادر بعد قليل .
التفتت نحوه سعاد باستغراب ثم اجابته مقطبة بفضول: الى اين احمد ؟!!
هتف احمد بجدية: تعالي معي الى غرفتنا وهناك ساشرح لك عزيزتي ....هيا دعينا نجهز انفسنا سريعا فالمكان بعيد عن المدينة قليلا .
وبعد اقل من ساعة ....كانا ينزلان الى الصالة ...كلاهما بملامح جامدة ....ويغادران المنزل.
لاحقا.....نزلت رنا الى الصالة بعد ان غفت قليلا ....ثم توجهت مباشرة للجلوس ....تبحث عن والديها حولها....ليقع بصرها على بطاقة انيقة موضوعة فوق الطاولة فتناولتها بفضول وفتحتها لتتجمد بصدمة جاحظة عينيها باندهاش وهي تقرا فحواها:" يسرنا دعوة سيادتكم الى حفلة عقد قران السيد حازم و الانسة ليلى ....في سرايا عائلة حازم العنوان****** "
بيد مرتعشة تقراء تلك الدعوة بصدمة....تمرر عينيها الدامعة بحرقة على الكلمات ....وذلك الخاتم الثاني يسكن اصبعها بسخرية....ثم احتدت نظراتها بغضب وقد تلبسها الكبرياء بشموخ وهتفت بتحد مبتسمة باستهزاء مرير: ستتزوج اذن سيد حازم ....حسنا اريد ان اراك وانت تتزوج ايها الكاذب الذي تغنى بعشقه لي دوما.
وصعدت مسرعة نحو غرفتها تتناول مفاتيح سيارتها ....دون ان تغير ملابسها حتى ولحسن الحظ كانت عادية مناسبة....ولا ان تنتبه لذلك الخاتم الذي يسكن اصبعها .....فغيرتها المرة مع غضبها وصدمتها يعمونها عن اي تعقل....لتتوجه بسيارتها بسرعة جنونية نحو المزرعة حيث يقام عقد القران.....عيناها تركز في الطريق بحدة ....تقود ببسرعة دون الالتفات ....فقط تضغط على البنزين وتسرع نحو المزرعة معمية بغضبها عن ذلك الخاتم الذي يحتويه اصبعها وهي تضغط بكفيها على المقود حتى ابيضت اناملها .
بعد اكثر من ساعة بقليل....وقد اسدل الظلام ستائره قليلا .....صفت رنا سيارتها بعصبية امام بوابة ضخمة مفتوحة للمدعوين الذين يتهافتون نحوها ....والاضواء المشعة من الحديقة تعلن عن الحفلة داخلها ....فترجلت من سيارتها بهدوء ينتابها شعور بالبرودة وقد اختفت نيران الغضب ليحل محلها صقيع الالم.....ثم مشت بخطوات بطيئة نحو البوابة بملامح شاحبة....تدخل الى الحديقة الواسعة وهناك بعيدا ترى باب السرايا الفخم ...كلما تقدمت خطوة نحوه تشعر انها تتقدم نحو جحيمها ....وبقيت تسير ببطىء كانها لاتود ان تسرع في مشاهدة عذابها.
في الجانب الاخر....هتفت رباب بحماس: هيا حازم لقد تأخرت كثيرا والجميع ينتظر رؤية العروس .
اجابها حازم بجمود: حسنا خالتي انتظري مع المدعوين ....سانزل مع ليلى ما إن تجهز انها العروس وتجهيزها يلزمه وقت .
مهما حاول ان يؤخر الامر لكن ....تحتم عليه الان ان يقود نفسه الى هذا القرار المر الذي اتخذه باصرار ...وبعد بعض الوقت....بينما تصدح موسيقى الافراح في السرايا....هناك في الاسفل وقفت مريم تنتظر بحسرة بينما تنتظر رباب بحماس شديد وابتسامة واسعة ....اما في مكان اخر ....تنظر سعاد بغيظ بينما تجمدت ملامح احمد ....وباقي المدعوين ينتظرون ببهجة ظهور العروس .
اما رنا فتدلف الى السرايا وسط صخب الحاضرين لكنها التزمت ركنا منعزلا ...والداها هناك يحدقان الى الاعلى كالجميع....بينما تصفيقات المدعوين تزيد من ضربات قلبها ....فرفعت انظارها بقهر لتجد حازم ببدلته السوداء الانيقة وملامحه الصارمة بهيبة يتأبط ذراع ليلى المحمرة خجلا وهي ترتدي فستان زفافها!!!!!! .
فهمست رنا بحرقة و عيون دامعة والصدمة تعتلي وجهها الشاحب : ايها القاسي.....ايها القاسي .....انه نفسه... فستان الزفاف الذي اخترته لي ....ترتديه عروسك ايها القاسي.
وفي الاعلى نزل حازم السلالم رفقة ليلى ....يتطلع بجمود امامه وهو يهمس لنفسه بغصة :" للاسف رنا انت اجبرتني على هذا"