رواية ظل في قلبه كاملة
الفصل الأول
ذراع يغطيها قفاز أبيض أنيق حتى المرفق و إشارة تكسوها الغطرسة اضطرتها للتوقف على جانب الطريق .
توترت يدا نادية على المقود و هي تستمع إلى الهمهمة المنبعثة من بين شفتي أمها و الأخيرة تكرر المعوذتين كعادتها كلما ركنوا السيارة رضوخا لشرطي مرور .
التصقت عيناها بالمرآة الجانبية و هي ترى الخيال الأسود يتقدم متباطئا ، يرفع يده في الأثناء بنفس الطريقة ليكبر صف السيارات السجينة على جانب الطريق .
يوقف و لا يتوقف ، و داخل مرآتها يكبر و يكبر ، يطرد جميع الموجودات الأخرى لتنعكس أخيرا صورته هو وحده .
ألقى سلاما عمليا أجابته هي بتحية فاترة و أمها بابتسامة مرحبة كأن الرجل حضر ليتعرف عليهم .
- هل هناك مشكلة بني ؟
- اسألي ابنتك يا حاجة و هي ستجيبك .
أوراقك و أوراق السيارة من فضلك ، وجه الكلام لها بفتور .
بطرف عينها وجهت نادية نظرة توسل لوالدتها قبل أن تعود لتحدق عبر الزجاج الأمامي إلى صف الهياكل الحديدية الأخرى ، ضحايا تقف تنتظر الحكم عليها في عجز .
تصاعدت أنفاسها ثقيلة بضيق و هي تبحث داخل الصندوق الجانبي ثم مدت يدها بالأوراق دون النظر نحوه ، تناولها منها ليفرشها على سقف السيارة ثم يقطع صفحة من دفتر المحاضر و يخرج قلمه ، يضغط على الزر و يهوي به نحو الورقة ، تعالت همهمات أمها في تلك اللحظة و أغمضت نادية عينيها في استسلام و هي تكاد تتصور المشهد القادم .
- لا داعي للدعاء و الحسبنة علينا يا حاجة ، سمعته يقول بين أصوات السيارات المارة بجانبه ، نحن نؤدي واجبنا هنا ، ابنتك أخطأت و عليها أن تتحمل مسؤوليتها .
بشهقة حملت نفس صدمة ملامحها أشارت السيدة بكفها تشتت ظنونه و تقول بأشد درجات صوتها دفئا :
- أنا أدعو عليكم ؟!! معاذ الله بني ، أنا أدعو لكم .
من قلبي أدعو لكم .
بسم الله ما شاء الله ، قالت بإعجاب واضح و هي ترفع عينيها تتأمل تناسق طقمه الرسمي و وسامة ملامحه ، شكل محترم و هيئة مشرفة ، أنتم فخر للبلد .
" لأجل هذا الموقف و أمثاله خلقت الكلمات البذيئة "، فكرت نادية في سرها .
فخر للبلد من أي ناحية الضبط لأنه ممشوق الجسد و يرتدي هذا الطقم اللامع المستورد حتما من خارج البلد ؟
ربما يختلف شكله عن أولئك العساكر ذوي البطون البارزة و الأكتاف المتهدلة و لكن في النهاية مهما كان القالب فالفكرة واحدة .
و الفكرة هنا هو أنهم جميعا أصابع قاسية ليد ضخمة تعصر و تعتصر المواطن المغلوب على أمره .
زفير خافت غادر من بين شفتيها و هي تواصل الاستماع بصبر إلى الموال المألوف الذي تصيغه أمها السيدة نعمات كعادتها في مثل هذه المواقف .
بجانب عينها راقبت نادية وجه والدتها يلبس ذلك الشكل الطيب الوديع و هي تبتسم ابتسامتها الواسعة التي أُغمضت لها عيناها الضاحكتان و غاب أنفها الصغير المستدق بين خديها المكتنزين و برز شبح الغمازتين الخفيفتين لتبدو كل تقاسيمها تَبُشُّ و تَهُشُّ ، ترحب و تستقبل بطريقة غالبا ما تهزم المقابل لها .
ليس حضرة الضابط محل السؤال على ما يبدو لأنه استمر بكتابة المحضر دون أن تنكسر الصرامة حول شفتيه و هو يستمع لتبريرات أمها .
- بني ، واصلت السيدة نعمات بثقة فلم تكن تعترف بالهزيمة .
- ماما ، همست نادية بين أسنانها بغيظ ، لا تذلي نفسك له ، مادام بدأ في كتابة المخالفة فيستحيل أن يتراجع .
- بني ، قالت أمها بصوت أعلى تتجاهلها عن عمد .
اعتبرني أمك و اشرح لي فيما أخطأت ابنتي بالضبط ليس لأننا نريد أن تلغي المحضر و لو أننا سنكون ممتنين طبعا لأن زوجها سيسود ليلتها عندما يعرف بالأمر و لن يعطيها السيارة مجددا لتوصلني إلى الدكتور بعد اليوم و سأضطر إلى الذهاب بالمواصلات و أنا لدي الضغط و آلام مزمنة في ظهري .
- ماما ، فحت نادية و هي تكاد تشم رائحة احتراق كرامتها .
لكن السيدة نعمات رمقتها بنظرة تدعى اخرسي و واصلت بكل أريحية :
- و كما قلت بني أنا أريد أن أعرف فيما أخطأت كي لا تفعله مرة أخرى ، سأنبهها بنفسي المرة القادمة .
أخيرا توقفت الأصابع الرشيقة في الهواء .
- لكنك قلت لتوك يا حاجة أن زوجها لن يعطيها سيارته مرة أخرى .
- لن يعرف بني لأني أنا التي سأدفع مبلغ المخالفة ، تنهدت بمسكنة و همست بضعف عجوز تجاوزت المائة ، لن أشتري المُسَكِّن و سأدفع .
بشيء من الدهشة راقبت نادية طيف ابتسامة يتشقق له أخيرا جفاف تلك الملامح ، توقفت جميع أنفاسها داخل صدرها و هي تشاهده يلتفت نحوها فجأة لترى وجهها العابس ينعكس لامعا على الزجاج الأسمر لنظارته الشمسية :
- اشرحي للحاجة يا مدام ما الذي أخطأت فيه بالضبط .
شاحنة ضخمة مرت بجانبهم لتتلاعب مجموعة من الظلال الهاربة فوقهم و تنكشف عيناه للحظة خاطفة أمام عينيها ، عميقتان ، قريبتان من حاجبيه الكثيفين تبادلانها تحديقا بتحديق قبل أن تبتعد المركبة العالية جارة عتمتها خلفها و معيدة غطاء الغموض على نظراته .
- تجاوزت السيارة التي كانت أمامي و الخط متصل ، تمتمت نادية و هي تسدل جفنيها و تهز كتفيها ، شيء ما يتحرك داخلها لم تعرف كنهه و لم تحاول فليس وقته .
راقبته بطرف عينها يثني جذعه الأعلى و يميل ليستند بذارعه على حافة نافذتها فتسمرت نظراتها بقوة أمامها و بذلت جهدا واضحا حتى لا يخونها تماسك ملامحها و ينكسر أمام ما تشعره تفحصا دقيقا لها .
أطرقت برأسها تلقائيا و هي تستمع للصوت الذي تبدت لأذنيها الآن نبرته العميقة بينما صاحبه يتوجه بالحديث لأمها :
- و تعلمين يا حاجة معنى أن تتخطى ابنتك خطا متصلا ؟
- كلا بني لا أعلم فأنا لا أقود .
بساطتها أرخت ملامحه و زادت بالمقابل عبوس نادية ، شعرت به الأخيرة يدير وجهه نحوها لثوان قليلة قبل أن يعود بنظراته و كلامه لأمها :
- سأشرح لك الأمر يا حاجة .
ابنتك عندما تخطت ذلك الخط كأنها دخلت في جدار و حطمته .
- كلا بني ، هزت السيدة رأسها بتأكيد .
ارتفع الحاجبان باستغراب منتظر فأضافت بثقة :
- صاحب السيارة نصف النقل الذي كان أمامنا هو الذي حطم الجدار و ابنتي دخلت من الثغرة التي تركها وراءه .
كتمت نادية أنفاسها و مشروع ضحكة تهدد بالانطلاق و ساد صمت فقط لجزء من الثانية قطعته قهقهة رجولية عالية اهتز بها الصدر العريض للحظات قصيرة قبل أن تمزق الأصابع القوية صفحة المخالفة ثم ينحني صاحبها قليلا و يقول بتهكم و نظراته لا تغادر جانب وجه نادية :
- مادامت ابنتك لا تراعي قواعد المرور أنصحك يا حاجة أن تعلميها كيف تبتسم على الأقل و تُسَيِّر أمورها مثلك .
- طبعها كطبع أبيها بني ، حركت السيدة نعمات يديها في تعبير عن العجز .
- كان الله في عونك إذن .
عاد لينتصب قائما يشرف عليهما بنظرة أخيرة لم تعرف نادية إن كانت بطيئة أم هو توترها الذي جعلها تشعر بذلك .
انخفضت يده إلى مستوى وجهها يعيد لها وثائقها و ما إن تسلمتهم من بين أصابعه حتى ضربت كفه الأخرى سقف سيارتها بقوة في إشارة لهما بالانصراف .
ابتعدت نادية تقود السيارة القديمة بحرص زائف لم يكن أبدا من طبعها .
رفعت عينيها إلى المرآة العاكسة فرأت هيأته يقف عاقدا ذراعيه على صدره و يراقب ابتعادها .
عاد ذلك الشيء يتحرك بقوة في أعماقها فوجمت ملامحها دون شعور .
- افردي وجهك قليلا حتى الرجل الغريب نطق ، تنهدت أمها و هي تقولها ثم أراحت رأسها و واصلت باسترخاء ، الحمد لله أنه كان ابن حلال .
- الرجل الغريب ، ابن الحلال كما تصفينه ، كان سيحرر لي محضر مخالفة بحجم ربع مرتبي و طبعا كان المفروض أن أبتسم له و أشكره و أتحزم و أرقص لو لزم الأمر .
- ابتسامة بسيطة و بعض التأدب في الكلام و كنت ستسلكين مثل الشعرة من العجين .
- تعرفين ماما ؟ هتفت نادية بحدة لم تتعمدها ، في مرة نفذت هذا المثل حرفيا و تعرفين ما الذي حصل ؟ حين جذبت شعرتي من العجين تقطعت .
- ذلك لأن شعرتك قاسية مثل طبعك .
- شكرا ماما ، قالت بجفاء و هي تلتفت عابسة تعاتبها بعينيها .
- العفو يا روح أمك ، ابتسمت السيدة نعمات باستفزاز لاحتداد ابنتها غير المعتاد ، و الآن انظري أمامك أو تدخليننا هذه المرة في جدار حقيقي .
استدارت نادية و هي تلوي شفتيها في انزعاج لكن شيطانها الرافض للهزيمة كان أقوى منها و وجدت نفسها تقول بتهكم لم تحاول إخفاءه :
- على فكرة يا ماما ، حضرة الضابط أكيد عرف من بطاقتي أني لست متزوجة و عرف أن السيارة ملك لبابا و هكذا أكيد استنتج أن التي ستسود ليلتها هي واحدة أخرى غيري .
يعني ببساطة لم يصدق حرفا من موّالك .
- لم تكن الفكرة أن يصدق ، ربتت السيدة نعمات على صدغها كأنها تشكر دماغها و أضافت ، الفكرة أني قلت له ما أريد و الأهم بالطريقة التي يريد .
و هو كان فعلا ابن حلال و تجاوز عنك رغم أنك مخطئة .
لم تقدر نادية أن تنكر لكن نوعا من الصراع دار داخلها جعل ملامحها ترفض التخلي عن وجومها فيما استرخت السيدة نعمات في جلستها أكثر و بتعبير مشاكس دائما يلائم ملامحها المترواحة بين طيبة و مكر لكزت نادية الشاردة و هي تقول بحروف ضاحكة :
- بنت لماذا لا تتصلين بعمتك و تخبريها أننا قادمتين للغداء عندها .
- حرام عليك يا ماما ، قالت نادية بابتسامة واسعة طردت معظم وجومها ، عمتي كبيرة و لن تحتمل صدمة كرم مفاجئة أخرى ، قهوة في أول الأسبوع و غذاء في آخره ، ارحميها من أجل القرابة التي تسري في دماءكما .
- الحمد لله أنها لم تتجاوز الدم إلى الطباع .
- الحمد لله جدا جدا جدا .
تصوري لو كنت أنت أيضا مثل بابا و أسرته !
لكزتها أمها ثانية و هي تقول :
- إذن على سبيل الشكر و الامتنان اتصلي بعمتك سعاد يا بنت و دعينا نضحك عليها قليلا .
رقص طيف ابتسامة فوق شفتي نادية قبل أن تقول و هي تشير لهاتفها الموضوع بينهما :
- لم لا تكلمينها أنت يا ماما ؟
- أنا لا أستطيع أن أمسك نفسي عن الضحك مثلك ، اتصلي يا بنت و لا تكوني عاقة .
دعينا نضحك قليلا قبل أن نعود للبيت و ينكد علي أبوك .
*********************
تأخرت !!
قفزت الكلمة كرة عملاقة تنط على سطح وعيها ، مع خفقات قلبها الموتورة ، مع أنفاسها المبتورة ليقفز جسدها مغادرا السرير المغري بدفئه الناعس ليقظة الصباح الباردة.
بعد دقائق قليلة كانت تقف بجانب السرير من جديد بعد فنجان شاي ساخن و قطعة كايك أكلتها لترحمها أمها من الموال اليومي البائس .
أنت نحيفة ، أنت شاحبة ، انظري إلى هذه ، تأملي تلك ، أرأيت الفرق ؟ إذن كلي و غذي نفسك .
كأنها إذا أكلت جيدا في هذه السن ستلحق هرمونات النمو التي غفت غفوتها الأبدية داخل جسدها .
أين كان كل ذلك الاهتمام يا أمي حين كان جسدي و نفسي يحتاجانه ؟ تمتمت بمرارة و هي تتحرك لتكمل تجهيز نفسها .
الشيء الوحيد الذي تحبه في فترة الامتحانات هو أن بؤسها الأسود يغطي كل أنواع البؤس الأخرى .
هزت رأسها تنفض عنها كل شيء ثم التفتت تبحث بتوتر حولها .
البنطلون الوردي أين هو ؟ فكرت حائرة و هي تعض طرف إصبعها الرقيق
تذكر جيدا أنها وضعته على ظهر كرسيها الدوار .
لكنه لم يكن على الظهر و لا عند الأقدام .
أين ؟ أين ؟ ظلت ترددها و هي تبحث في أركان غرفتها الضيقة .
تحت السرير ؟ كلا .
ربما تكون أعادته في مكانه في الدولاب ؟ كلا أيضا .
تأملت كومة الملابس المكدسة فوق الكرسي الآخر ، ذلك الجندي المجهول الذي يتحمل بصبر ما يفيض عن قدرة دولابها .
بحثت و فرزت و لا أثر للبنطلون الوردي .
يا ربي ماذا سأرتدي الآن ؟ سأضطر لاختراع طقم آخر من وحي اللحظة ؟
الحل الوحيد هو بنطلون جينز و فوقه أي شيء .
و لحظتها فقط و هي تمد رجلها لتدخلها في طيات القماش اكتشفت أنها تضع بالفعل بنطلونها الوردي .
- بسم الله الرحمان الرحيم ، تمتمت بذهول تخاطبه ، كيف و متى ارتديتَني ؟ !!
دارت دورة كاملة حول نفسها تبحث عن شيء ليست متأكدة من ماهيته ثم أطلقت زفير راحة : البلوزة البوردو .
بالأمس كانت قد استقطعت وقتا لا يعوض من وقت مذاكرتها لتكويها بضمير على غير عادتها لذلك حمدت الله و هي تجدها معلقة باحترام على مقبض النافذة لا محشوة كما اتفق مثل باقي أخواتها .
حشرت نصفها الأعلى فيها بسرعة و هي تلوي خصرها و أطرافها بليونة كراقصة باليه رشيقة ثم ارتفعت أصابعها لتقفل الأزرار الثلاثة العلوية التي تركتها مفتوحة .
و الآن أين ذلك الحزام الجلدي البيج المظفور ؟
أين تختبئ مني يا ...
بترت شتيمتها و هي تشعر به ذيلا يتدلى خلفها .
- يا لئيم أنت و أنت و أنت ، صرت على أسنانها و هي توجه أصابع اتهامها نحو قطع ملابسها بينما تشاهد شكلها النهائي في المرآة .
رن منبه الهاتف مرة عاشرة لتعود للدوران حول نفسها بضياع و الكلمة نفسها تعود لضربها في وجهها .
تأخرت ، تأخرت .
- إييييييييييثار ، ارتفع صوت أمها .
- قا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ادمة .
ربما هي تتعمد التأخر كي تنال بعض الاهتمام و لو كان على شكل صراخ .
- لا فائدة منك ، احتدت السيدة سهير في وجه ابنتها الوسطى ، حتى في أيام الامتحانات تتأخرين .
"لا فائدة منك " ، كم كانت و ما تزال الكلمة تؤثر فيها ، لم يضع منها الألم حتى بضياع سنوات العمر .
بسرعة أخفت تأثرها ، في أية حال من ذا الذي سيلاحظه ؟
بصوت خافت يتظاهر باللامبالاة ، تمتمت و هي تنحني لتضع حذاءها :
- تعلمين ماما ما الذي يقوله الفرنسيون عن التأخر ؟
يقولون التأخر هو أدب الفنانين .
- تعلمين يا ابنتي ما الذي نقوله نحن المصريون عن التأخر و المتأخرين ؟
- كلا ماما ، ابتسمت بتعاسة ناعمة للحزم في وجه أمها الناظرة لها و أضافت بهزة كتف ، لا أعلم و لا أريد أن أعلم أنا مصرية صحيح لكن الهوى فرنسي .
زفرت السيدة سهير بيأس من تعود على هكذا مهاترات ثم مدت يدا حاسمة باتجاه إيثار تضبط لها ياقة بلوزتها و تدخل خصلات نافرة من حجابها الحريري الوردي اللون .
بحركة رشيقة أعادت ضبط الدبابيس الثلاثة و هي تدير القماش الحريري الناعم حول وجه ابنتها ليتدلى الجانب المزدهي بالنقوش الغامقة على كتفها الأيمن .
لامست بشفتيها الجبين الغض و مجموعة من الأدعية بالتوفيق ترفرف فراشات رقيقة تداعب بشرة إيثار و تسافر عبر أذنيها لتغمر قلبها رغم كل شيء بدفئ مطمئن .
- شكرا ماما
همست إيثار بنعومة قبل أن تطبع قبلة خفيفة على خد أمها ثم تستدير لتحلق بها خطواتها إلى عالم ما خارج شقتهم .
سارت و معادلات كثيرة شتى تتطاير في فضاء ذهنها ، تهاجمها من كل حدب و صوب ، دون انتظار في الصف ، همجية في تقدمها و في ذات الوقت خفيفة غير ثابتة كفقاقيع تنتظر أي لمسة من الواقع لتنفجر و تختفي .
كنفير سيارة عال أو صياح بعض الباعة و هل يخلو أي طريق منهم .
تقلقلت أنفاسها داخل صدرها وهي جالسة في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة ، حدقتاها معلقتان بنداء مترج صامت للضوء الأحمر الذي أصر على التشبث بأحقيته في البقاء .
إلى الأبد على ما يبدو .
زفرت بتوتر متزايد ثم فتحت هاتفها ، ولجت إلى صفحتها ، نقشت بعضا من كلماتها و انتظرت .
" ماما تلومني لأني تأخرت في الخروج في أول أيام امتحاناتي قلت لها من يريد التبكير و هو يتوجه إلى الجحيم ؟ "
خمسة ، سبعة ، عشرة " لايكات " و عدة وجوه مقهقهة بينما الضوء الأحمر ثابت المبدأ ، لا تقهره المتغيرات حوله ، لا صوت الأبواق المزلزلة و لا الرؤوس المطلة المتذمرة و لا شيء .
**
**
بعد ساعة .
دخلت إيثار أخيرا لجنتها بعد أن نظرت ثلاث مرات إلى الرقم المعلق على صدر الباب .
بقايا دموع مشتبكة في شرك أهدابها الطويلة تأبى الارتحال .
سارت ثقيلة الفكر و الخطوات لتتخذ مجلسها بصمت غير دارية بذاك الذي وقف في ركنه يتأملها و قد تجمد في مكانه .
منذ دقائق طويلة يقف في نفس الزواية البعيدة عن النافذة ، حدود جسده تلتهمها الظلال القاتمة ، فكره يكاد يصدأ من التجول بنظراته بملل يراقب ، يعري الغش و الغشاشين و لا يتصدى .
هكذا ظل حتى دخلت هي بتلك الرموش المبتلة المثقلة و الشفتين المنحنيتين بتعاسة رقيقة نحو الأسفل لتحدث زلزالا في نفس المكان الذي ظن يقينا أنه حصنه بجدار مُصمت من البرود و اللامبلاة .
ما الذي يحدث ؟ و كيف ؟
جاهد أكرم بقوة ليخرجها من بيت أفكاره لكن تلك القطرات المعلقة بأستار الرموش أبت إلا أن تسرق تركيزه نحوها و نحو صاحبتها .
بخطوات بطيئة تقدم نحوها .
- المفروض أن لا أقبل بدخولك إلى اللجنة الآن إلا بإذن خاص من العميد .
بصمت مطبق قامت و بدأت بإعادة قلمها إلى محفظتها ، دفعت كرسيها إلى الوراء و وقفت تنتظر ابتعاده لتخرج و تغادر .
ماشاء الله على الحماس ، تمتم في سره قبل أن يسرح صوته و يقول بفتور :
- لكني سأقوم باستثناء هذه المرة لأنك لست الوحيدة التي تأخرت .
بنفس الصمت و دون حتى كلمة شكر عادت لتجلس ، تناولت منه ورقة الامتحان و بدأت في الكتابة أعلاها .
ابتعد أكرم ببطء ليستند على الحائط مراقبا الظهور التي تواجهه .
رغما عنه زاغت نظراته نحوها ليراها معتدلة في جلستها ، جامدة الحركة .
احتار في أمرها ، تدخل متأخرة ، منهارة ، ثم تتجمد لا تحاول حتى النظر هنا أو هناك ، لا تشغل قرونها الاستشعارية كباقي زملائها .
لا يدري كيف أخذته تساؤلاته إليها ليعود و يقترب من مكانها ، توقف و هو يرى ذلك الشاب النشط الذبذبات يميل باتجاهها و يخاطبها بكلمات يظنها همسا :
- صباح الخير يا قمر لدي كل الإجابات تقريبا ، قولي فقط ما السؤال الذي صعب عليك و أنا سأتصرف و أبعث لك حله .
انقبض صدره بضيق غريب و بدأ يبتعد ليسمح بمحاولة أخرى للغش عندما سمعها تجيب الآخر بنفس درجة صوته لكن ببرود واضح و دون أن تميل نحوه كما مال هو نحوها :
- يموت الورد و لا يطلب من أحد أن يسقيه .
بُهتت أحاسيسه مرة أخرى و في اللحظة التالية لا يدري كيف وجد نفسه يقف بجوار طاولتها ، يتأمل أظافرها الخالية من أية ألوان ، شفتيها المزمومتين في سكوت جامد كأنما هجر عتباتهما الكلام ، جفنيها المسدلين بإصرار و أصابعها المرتخية بإصرار أكبر .
- اكتبي شيئا على الأقل ، تمتم بخفوت و جذعه الأعلى يميل شيئا بسيطا نحوها .
- كتبت اسمي دكتور ، همست بصوت يميل للفتور .
ضيق عينيه يفك شيفرة الحروف المضطربة ثم عاد ليتمتم :
- آثار مثل الممثلة ؟
- كلا إيثار مثل لا أحد ، قالتها بفتور واضح هذه المرة و هي تتململ في جلستها ، هل أستطيع المغادرة دكتور ؟
- لماذا جئت بالأساس ؟ همس باحتداد فجره برودها ، كان بمقدورك أن تكتفي بكتابة اسمك في بيتك دون أن تكلفي نفسك عناء المشوار .
صوته الغاضب ، نظراته الجافة ، سخريته الساطعة في وجهها ، كل ذلك كان قطرات أفاضت الكأس الفائض أصلا و دون وعي بنفسها كان وجهها يحط بين كفيها الخائنتين في إذن لمزيد من الدموع لتنهمر و تسيل ، تفضح ما فشلت أصلا في ستره .
- ما الذي حصل ؟
ربما نبراته التي لبست دفئا لا لبس فيه ، ربما شفقتها على نفسها و استخسارها لذهاب تعبها هدرا ، لا تدري أي الأسباب كان الأقوى لكنها وجدت نفسها تبوح له .
في البداية تلكأت الكلمات على شفتيها لكن حرفا فحرفا ، جملة فجملة انطلق لسانها من جموده و حكت له ، كيف وصلت متأخرة جدا إلى الكلية ، كيف دخلت اللجنة الخطأ ، كيف لم ينتبه المراقب لعدم انتمائها للجنته سوى بعد أكثر من نصف ساعة أمضتها و هي تحل الامتحان ، كيف عندما انتبه أخيرا و هو يتحقق من هويتها أخرجها من اللجنة بعد أن أخذ ورقة الامتحان منها و ألقاها في سلة المهملات .
تفوهت بآخر حروفها ثم التزمت صمتا آخر ، فيه شيء من ندم و بعض من أمل .
أما هو فاستمع لها دون أن تتغير تركيبة ملامحه ، رسمية مع شيء من الجدية .
بمجرد أن سكتت واصل تأملها بنظرة تقييمية أخيرة ثم سار بخطوات سريعة نحو الباب .
راقبته يمد رقبته قليلا خارج الغرفة ، يرفع يده يشير نحو شخص ينتظر دخوله ثم يغادر .
تأملت وجه الساعي الشاب الذي دخل قاعة الامتحان ثم وقف بتوهان يحاول أن يتصدى لرسائل الحمام الزاجل المحلقة في سماء المكان بكل جرأة بينما يجاهد ليصرخ دون إقناع و لا اقتناع بتأنيب من هنا و تحذير من هناك .
خفتت كل الأصوات فجأة فرفعت إيثار عينيها و تلقائيا عضت على شفتها و هي تراه يعود إلى الغرفة أخيرا ، يصرف الفتى التائه و يتقدم نحوها بأجمل خطوات رأتها في حياتها .
سجنت أنفاسها الثائرة داخل رئتيها و هي تراه يضع الورقة التي تحمل إجاباتها و أملها ، يفردها بأصابعه المرتبة ثم يقرب القلم من أصابعها .
رفعت عينيها ببطء لتقابل نظراته الغامضة المحيرة بينما دمعة وحيدة تسيل في امتنان وصله دون حاجة لأي كلام .
من أين نبتت له هذه الفتاة سرابا يغزو صحراء حبس نفسه فيها اختياريا ، فكر أكرم و حججه تتبخر بوقاحة بينما نظراته تعود رغما عنه إلى رأسها المحني على ورقتها المجعدة مرارا و تكرارا .
******************
ألقى نديم نظرة طويلة أخيرة مات فيها كل اهتمام على غرفة الاستقبال الشاغرة داخل عيادته الجديدة ثم تناول سلسلة مفاتيحه المكتظة ، بمفاتيح معظمها صارت غير ذات جدوى و لكن أنى للقلب أن يقبل بتركها تسقط من حلقتها و في باله طوال الوقت أبوابها التي لا يريد غلقها .
تكسرت أنفاسه داخل صدره بألم رغم جمود ملامحه و هو يقفل الباب الحالي الجديد و يبدأ بالابتعاد متثاقل الخطى متجها نحو المصعد .
مع صوت إغلاق باب عيادته كل مساء يباغته فجأة شعور حاد بعدم الجدوى التام لكل حياته .
بعدم الانتماء لشيء و لا لشخص .
حتى لنفسه .
يعقبه تلك الرغبة العنيفة بالاضمحلال حد الاختفاء .
خطا داخل المصعد دون أي اهتمام بالالتفات حوله ، حتى و الباب يفتح لم تتحرك ذرة فضول في ملامحه .
تقدمت بريهان تحمل ابتسامتها الرقيقة على وجهها ، ألقت التحية بصوت خافت على جارتيها من الطابق الثالث و الرجل الآخر الغريب لكنها لم تحظى سوى بإجابتين .
أدارت وجهها للناحية الأخرى دون أي تأثر ، التهذيب و رقي الأخلاق لم يعودا في جميع الحالات عملة رائجة .
رن الجرس لتخرج المرأتان بعد تحية وداعية قصيرة و ظلت هي برفقة الرجل السمج لطابق واحد لحسن حظها .
ما إن فتح باب المصعد حتى خرجت دون أن تعيد خطأها و تخسر سلاما آخر عليه .
شعرت بخطواته يخرج بعدها لكنها مطت شفتيها بعدم اهتمام رغم استغرابها لوجوده فلم يسبق لها رؤيته أبدا من قبل .
عند باب شقتها ، بعد أن ضغطت الزر مرتين دون استجابة من أمها التي و لابد خرجت تسلي نفسها مع إحدى الجارات ، وقفت حقيبتها الواسعة مفتوحة على آخرها تبحث و تبحث عن مفاتيحها و حين وجدتها أخيرا مدت يدها تخرجها فقفزت تلك الكرة الصغيرة كأنما بفعل فاعل .
- بسم الله الرحمان الرحيم
تمتمت باستغراب و هي تشاهدها تتدحرج و تتدحرج حتى توقفت أخيرا عند عتبة الشقة المجاورة لهم و بالتحديد عند قدمي الرجل السمج ، عرفت ذلك و هي ترفع نظراتها إلى وجهه .
انتظرت ما هو متوقع ، أن ينحني ملبيا نداء اللباقة و يناولها لها لكنه بدل ذلك أشاح بوجهه ، فتح بابه ثم أغلقه في وجهها .