رواية ظل في قلبه البارت الثاني
الفصل الثاني
- في مثل هذا اليوم ، تنهدت بريهان و هي تقوم من سريرها ببطء بينما الفجر لم يعلن بعد عن ميلاده .
في الحمام توضأت بمنتهى الصمت ، تخشى أن تزعج نوم أمها ، رفيقتها الوحيدة داخل الشقة الواسعة .
لذلك لم تشعل النور ، فقط اكتفت بالضوء الخافت الآتي من البهو .
بعد قليل ، داخل غرفتها ، كانت تصلي فجرها .
و طال سجودها فيه ، طال و طال حتى ليظن الرائي أنها لن تقوم .
قامت من صلاتها و اتجهت نحو النافذة ، شرعتها بهدوء و استندت بذراعيها على حافتها تتأمل السماء المعتمة في شرود .
مضت دقائق لم تشعر بطولها سوى حين رأت خيط الفجر الباهت يشق الظلام فأغمضت عينيها ببطء تعود لليلها .
ليست شغوفة أبدا بالاستيقاظ لأنها تعلم أنه سيكون أمامها يوم جديد تستوعب فيه مجددا الشكل البارد الذي أصبحت عليه حياتها .
لكن اليوم بالذات تكره بشدة أن تستيقظ فحتى اللحظة لم يتعلم قلبها التأقلم مع لحظة اليقظة المفزعة التي تتكرر كل سنة ...
في مثل هذا اليوم .
اليوم الذي افترقت فيه عن ذاتها القديمة إلى الأبد .
اليوم الذي تتأكد فيه أن حزنها لم يمت ، لم يذبل ، فقط كان كوحش مفترس يأخذ غفوة بعد أن اقتات على أيام و أشهر و سنوات من عمرها .
و الآن و تلك الورقة من الأجندة تسقط يستيقظ شرسا ، جائعا ضاريا ، ضاربا بصبرها و تجلدها عرض كل حيطان العالم .
أسدلت جفنيها و تركت العنان أخيرا لدموع مدفونة في ذلك الجرح الغائر داخل قلبها .
و دموعها تنهمر و تجري ، امتدت أناملها تكتب على صفحتها الخاصة جملة قرأتها بالأمس و وقعت روحها في أسرها لعلها توقف مؤقتا نزف جرح كجرحها لم يندمل .
" إن عوض الله اذا حلّ ، أنساك كل ما فقدت "
عادت تسدل جفنيها و تلوذ بليلها حتى سمعت هاتفها يرن بإشعار جديد ففتحت عينيها تتفحصه .
" الحياة وإن مالت، تستقيم بـمن نحب " هكذا أتاها رد نادية يسابق رياح الود التي بينهما .
نادية هي عوض ، عوض جميل من الله .
نادية المخلصة ، الكريمة ، الأصيلة في زمن قلة الأصل .
رفيقة درب الطفولة و صديقة الهم و الشباب .
كم تتمنى أن يبتعد العالم الخارجي هاربا و لو للحظات تنغلق عليهما فيها أبواب ذلك الماضي الساحر السعيد .
**
**
بعد ساعات بدت كأنها أبد و هي تغير ملابسها و ترتدي نفس ذلك القميص القديم الذي تكدس زاد أنوثتها ليجعله ضاغطا ضيقا تختنق منحنياتها تحته لكن مع ذلك عليها أن تضعه فلن تكتمل حفلة الشوق بدونه .
خرجت إلى البهو المتوسط الحجم و حانت منها التفاتة أو ربما سرقت منها نظرة إلى الطاولة العريقة الضخمة في قاعة الطعام و التي أصرت أمها أن تحتفظ بها كأنها ترفض أن تودع حياتها السابقة وداعا نهائيا .
كانت طاولة ذات ست كراسي ، اثنان فقط مازالا قيد الاستعمال ، أحدهما تشغله هي و الآخر أمها و اثنان رحل عنهما صاحباهما ، شقيقها و شقيقتها الأكبر منها ، إلى كراسي مختلفة حول سفرتين أخرتين .
و آخر كرسيين هما من فئة تلك الكراسي الشاغرة إلى الأبد ، تلك الكراسي داخل زوايا الروح التي لن يسمح باحتلال غيرهم لها .
أبوها و شقيقها الأكبر .
أغمضت عينيها بألم ، فتحتهما لتصطدم بالجدران الشاحبة الطلاء ، كل منها مرآة تكاد ترى في انعكاسها جزءًا من صورة ، طيف ضحكة بعيدة ، نكتة ألقيت بعفوية ، كلمات نصح و إرشاد .
صور كثيرة ، صور ثابتة يد المشاعر تحركها ، ترتب تبعثرها كأنها قطع بازل صغيرة لتصبح حياة ، حياة سابقة .
حياة لن تعود .
و هي أكثر من يعرف ذلك لكن كيف تعلم قلبها العنيد أن يتعود عليه .
**
**
بعد ساعتي سفر في مركبة الدرجة الأولى من القطار المبكر باتجاه مدينتهم الساحلية التي غادروها لكنها لم تغادرهم ، جلست بريهان في نفس البقعة من نفس الشاطئ ، مكان اللقاء الفراق .
تلفتت حولها تتأكد من خلو الفضاء حولها ثم بلطف فكت أسر خصلاتها من وشاحها القطني العريض و تخلصت من بلوزتها .
شعرها تطاير بعبث يلهو متمردا مع الريح ، زرقة عينيها غرقت في الخضرة الزمردية للبحر الممتد أمامها ، تتأمله كيف يعانق أمواجه الراحلة .
لم يكن لها هذا الترف أبدا ، لم يسمح لها الزمن بمعانقة موجه قبل رحيله .
- أتعرف أنك محظوظ جدا لؤي ، رحلت قبل الجميع ، قبل أن تعلمك الدنيا كيف يكون وجع الوداع .
انحنت رقبتها و أطرقت برأسها أرضا بينما تثقل عيناها بالدموع مرة أخرى .
- صدقني لم تكن لتفتقد أي شيء ، همست باختناق و شفتاها ترتجفان ، خصوصا أنا لأني جامدة في نفس تلك اللحظة .
تلك اللحظة التي فقدتك لؤي و فقدتني فيها .
تنفست بعمق و أغمضت عينيها ، خصلاتها كانت ما تزال تتراقص بحرية حول وجهها ، من حين لآخر تشعر بمداعبة أطرافها الناعمة لبشرة وجهها معيدة آثار لمسة أخرى مشابهة في رقتها .
شفتاه الرجوليتان تحطان للحظة كخطف البصر على خدها ثم تتراجعان و داخل عينيه تنحسر نظرة مشتعلة ليحل محلها ندم عميق .
في نفس هذا المكان حيث تجلس الآن ، كانا قد توقفا ، قريبين جدا من بعضهما البعض ، يتبادلان نظرات جانبية مسروقة و بسمة متلاعبة على الشفاه تكشفهما أمام نفسيهما .
ثم كانت تلك القبلة السريعة ثم كان ذلك الندم الأسرع ثم كانت تلك الهمسات ، عميقة دافئة ، سكنت بين نبضاتها و لم ترحل :
- لم أستطع مقاومة الورد على خدك ، أنا آسف .
آسف ، آسف ، آسف
لم تعُدّ كم مرة كررها .
لكن قلبها عدَّ تلك القبلات الأخرى .
عندما انحنى يقبل طرف قميصها هذا الذي ترتديه الآن .
خمس قبلات ملهوفة ثم شبك أصابعه الدافئة بأصابعها المتجمدة و سحبها وراءه و لم يعدها لنفسها أبدا .
ابتسامة ألم تمايلت على شفتيها لمشهد آخر ، عصفورا مغردا ، حط على سور ذكرياتها .
تلك المرة عندما أرته أول صورة رسمتها له من وحي الذاكرة .
- أبدو أجمل داخل لوحتك ، همس و عيناه كالعادة تضحكان لها ، ضحكة خاصة بها وحدها .
- هكذا أراك ، بصدق أجابته .
و هو اكتفى بأحبك ، من روحه نطقها.
قيلت لها بعده من آخرين لكنها كانت قد توقفت عن الشعور بها كأن عاطفتها أصيبت بالزكام .
ببطء وقفت تنفض عن تنورتها الطويلة ذرات الرمال الناعمة ثم ارتفعت يداها تعيدان الخصلات الشاردة إلى حضن وشاحها السماوي .
بدأت تمشي متمهلة الخطوات ، تستدير للخلف كل بضع لحظات ، عيناها تلمحان صورا خاطفة لهما معا هي و هو و أُذناها تلتقطان صدى ضحكاته لها مختلطة برنة همساته الحنونة و هو يبثها حبه ، يغرقها بشغفه في ذلك اليوم الأخير .
لم يكف هو و لم تمل هي كأنه كان يعرف أنه آخر حديث بينهما فاختار أن تكون كلماته من قاموس الحب و لا شيء سواه .
- الحقيني ما دمت أحبك ، التفت يومها يستعجلها بينما هي تمشي سكرانة بتأثير حبه و اعترافاته .
لا أضمن قلبي في الثانية التالية .
تخصرت له هي وقتها و هي تقول بنزق فتاة العشرين التي كانتها :
- من يريدني يأتي لعندي ، أنا لا ألحق بأحد .
- يا قاسية ، أنا " أحد " عندك .
شفتاها اللتان التصقتا وقتها بتردد خجول تباعدتا الآن تجيبانه كما لم تقدر يومها :
- أنت كل الناس .
تابعت بريهان سيرها المبتعد ، هاجرة آثارا يطبعها حذائها الأبيض على سجاد الرمال الدافئة .
بعد دقائق و قدمها تودع نعومة الرمال و تحط على الممشى الحجري الضيق المؤدي للشاطئ ، التفتت و الوجع يعصر قلبها لتتفتت همستها الأخيرة بين هدير الأمواج التي ابتلعته منذ سنوات :
- اشتقت لك حبيبي .
لؤي آآآه يا لؤي .
**
**
بعد نصف ساعة من المشي السريع ، أوصلتها خطواتها إلى بيت أخيها الأوسط .
اليوم يصادف يوم نهاية الأسبوع لذلك ستمر عليه .
بيت أخيها هو في واقع الأمر بيت العائلة لكن بعد وفاة شقيقها الأكبر تنازلت هي و شقيقتها له عن أغلب حقهما فيه مقابل تنازله هو عن نصيبه في شقتهم بالعاصمة ، لم تكن صفقة عادلة بمقاييس الدنيا .
لكن فاجعة فقد أخيها الأكبر علمتهم جميعا أن الدنيا ما هي إلا موجة غادرة مهما علت بك سترميك يوما على شاطئ الفناء .
و رغم أن أفواه الناس كثيرا ما تهامست و علت باللوم لهن ، هي و أختها و أمها ، بعد أن وقعن على عقد التنازل و كيف يتركن امرأة غريبة ترتع و تتربع على عرش كن هن ملكاته لكن أيا منهن لم تندم فماذا يساوي التنازل عن بضع أمتار من أرض في سبيل إراحة شقيقها الوحيد المتبقي خاصة بعد أن اختار هو وقتها أن لا يرحل من هواء مدينتهم البحرية إلى اختناق العاصمة بينما فضلت والدتها سند الأخ بعد فقدها لسند الزوج و الابن البكر .
أما هي شخصيا فلم يشكل الأمر لها أي فارق ، هنا أو هناك ؟
كلها غربة ، كلها لجوء مادام القلب الذي كان يحتويك غادرك .
هزت بريهان رأسها و هي تتنهد بعمق ، أولجت المفتاح داخل قفل الباب الخارجي لهذا البيت الذي كان منزلهم و الذي حوله تتابع السنوات و تغير الماديات من فيلا كلاسيكية أنيقة بطابق واحد إلى عمارة حديثة مؤلمة للنظر من طوابق ثلاث .
نظرت إلى الساعة الفضية الناعمة التي تعانق معصمها فتزيده رقة .
العقا رب الدقيقة تشير إلى الساعة الثامنة .
هل الوقت مناسب لتطرق الباب على أخيها و زوجته في صباح يوم عطلة ؟
أكيد الجواب لا و كلا و كل أدوات النفي .
لذلك توجهت بآلية إلى الاستديو الصغير الذي ظل ملكهن و الذي قامت والدتها ببناءه بجزء من أموالها الخاصة من أجلها هي و ابنتيها كي تجدن راحتهن متى أردن الهروب من ضوضاء العاصمة .
فتحت الباب الخشبي اللامع ثم توجهت فورا إلى غرفة النوم الوحيدة و ألقت بجسدها على السرير المزدوج فربما حين تنام ينام معها بعض الألم .
في الساعة العاشرة كانت أمام المبنى الرئيسي تطرق باب الطابق الأرضي الذي اختار شقيقها سامر أن يقطنه و يؤجر الطابقين الذين يعتليانه .
مدت يدها لتطرق ثانية لكنها توقفت في الهواء و هي تسمع الصوت المألوف للأقدام الصغيرة تتراكضان لفتح الباب رغم تنبيه أمهما المتكرر لهما بترك هذه المهمة للكبار .
لكن سما و لمى كان لهما رأي آخر طبعا .
في هذا الأمر كما في كل أمر آخر .
انحنت أرضا و هي تسمع صوت توقفهما يفصل بينها و بينهما الباب العريض السميك لكن ليس بما يكفي لتسمع اللغط المعتاد : سما الكبرى تشد شعر لمى ، لمى تفتح حلقها على آخره في سيمفونية بكاء أكيد أيقظت الحي بأكمله من سباته .
- أنا التي أفتح الباب ، في المرة القادمة احترمي نفسك حتى لا أضربك ، كان هذه نبرة سما التي يفوق حزمها بكثير سنوات عمرها السابعة .
- عا ا ا ا ا ا....ا ا ا ا ، كان هذا رد لمى المألوف .
فتحت بريهان حقيبتها بسرعة و اتجهت أناملها للجيب الأوسط و ما إن فتح الباب حتى كانت قطعة الشوكولاتة تدس بنجاح داخل الفم الباكي .
- عمتو ، هتفت سما و هي تلقي بجسدها الضئيل داخل أحضانها الجاهزة .
- عم..هم..يم ..تو ، نجحت لمى أخيرا في تقليد أختها الكبرى و هي ترمي جسدها مع شعرها المنفوش على أحدث صيحات الموضة في ما تبقى من حضنها .
أغمضت بريهان عينيها تبتسم بحنان و صور من الماضي تصبغ لحظتها الحاضرة بألوان الحنين لتشعر كأنها لم تكبر يوما واحدا ، كأنها فقط تحولت من جسد المحضون إلى جسد الحاضن .
- صباح الخير ، أيقضها صوت نهلة زوجة أخيها من نشوة حنينها لترفع عينيها و تقابل ذلك المزيج الغريب من الترحيب و الغيرة في نظراتها المتفحصة لها .
- صباح النور ، تمتمت بريهان و هي تقف لتشرف عليها يساعدها في ذلك فرق الطول بينهما .
أحيانا و هي ترى و تشعر بتلك الموجات الباردة المنبعثة من هذه التي اختارها أخوها تكاد تشعر بالندم لإمضاءها في ذلك اليوم البعيد لكنها تعود و تتذكر أنها … دنيا فتهز كتفيها في كل مرة باستخفاف كما فعلت اللحظة و هي تتقدم لتجلس على الأريكة براحة و تسأل عن أحوال أخيها.
- الحمد لله ، جميعنا بخير و خالتي كيف حالها ؟
" خالتي " هكذا كانت تنادي والدتها رغم كل ما فعلته من أجلها لكن يبدو أنه لم يكن كافيا لتناديها " ماما " كما تفعل الكثير من زوجات الأبناء .
عندما تشاهد هكذا علاقات بين أفراد العائلة الواحدة يزيد نفورها من فكرة الزواج و تعاف روحها توديع علاقة بصفاء و رقي السماء لتقحم نفسها في ارتباط كطين الأرض ، قاتم ثقيل و لزج .
- ماما بخير ، ردت باختصار قبل أن تقف فجأة غير راغبة بالبقاء أكثر ، أين سامر ؟ أريد أن أسلم عليه لأني سأغادر في قطار الحادية عشر .
- آه ! رفعت الأخرى حاجبيها ، كنت أظن أنك ستبقين للغذاء .
هل كانت تلك خيبة حقيقية ما سمعته في نبرة صوتها أم نوعا من الكذب المجامل ؟
لم تهتم و لم تكلف نفسها بالتدقيق أكثر ، بدل ذلك اكتفت بالابتسام بهدوء و هي تقول :
- في المرة القادمة إن شاء الله و أنتم طبعا لا تحتاجون دعوة لتأتوا لزيارتنا متى شئتم .
صمتت لتبتسم بصدق هذه المرة بينما يصلها صوت تثاؤب شقيقها العميق العالي ، عادت بأنظارها إلى وجه زوجة أخيها لتتمتم و البسمة مازالت تعانق شفتيها :
- هل تسمحين لي بأخذ البنتين معي ؟
تمضيان معنا اليوم و يعيدهما سامر معه عندما يأتي لزيارة ماما في الغد .
التعابير التي ارتسمت الآن على وجه زوجة أخيها صارت فجأة مشرقة كشمس نفضت عنها غيومها بقوة .
- سما و لمى اسبقاني إلى غرفتكما ، علا صوتها منطلقا بارتياح ، سأجهزكما بسرعة لتسافرا مع "عمتو " .
الأمومة تتجلى في أبهى صورها ، فكرت بريهان و هي تكون رقم والدتها لتتصل بها ، هكذا هي الحياة و هكذا هم البشر .
يركضون وراء حلم ثم حين يصبح واقعا يصير قيدا .
فليتركوها إذن تنعم بحرية حلم لم يتحقق و ليعيشوا هم سجن الواقع الذي سعوا إليه .
الفصل الثالث من هنا