رواية نجمة الباشا الفصل الرابع 4 كاملة
رواية نجمة الباشا كاملة
من هنا
الفصل الرابع:
في اليوم المتفق عليه اللقاء....
كان سليم يتراقص على لهب الانتظار وهو يتصل بها مرة بعد مرة وتلك البلهاء لا تجيبه ابدًا خالطة الأفكار السوداء في عقله يمينًا ويسارًا مطعونة بسم القلق، زفر مقررًا فتح ذلك الموقع الالكتروني كي يتأكد ان كان تمسك هاتفها أم لا.
أمسك جهازه اللوحي يبحث عن الحساب الخاص بها ليرى متى كان أخر ظهور، فتملكت الدهشة الممزوجة بالغيظ ملامحه وهو يرى صورة منشورة للتو من حساب صديقتها معلنة تواجدهم في مطعم بأحد الفنادق!!
تفحص الصورة التي تجمعها مع خليط من الفتيات والشباب وتابع تلك السعادة الني تلوح له من وجهها الأبيض وكأنها تتعمد إغاظته.
تبًا لها..
ها هو يحترق بجمرات الانتظار والقلق وهي هناك مع رجال آخرون تستمتع بوقتها، ركز ببصره على المنشور يحاول تحديد تفاصيل الفندق لاعنًا اهمالها وعدم تفكيرها في نظرة الناس بوجودها في فندق مع هذ الجمع حتى لو أصدقاء.
بل اسوأ هي لم تفكير في خيالاته المظلة التي تتساءل لما دونًا عن كل المطاعم هم متجمعون في فندق؟
عض شفتيه يبعد الشيطان عن أفكاره لا يرغب في الخوض بتلك المنطقة حتى لا يجن جنونه، نهض سليم تاركًا المكان الذي كان ينتظرها فيه، والغضب يغلي بين دماءه، يقسم على إعادة تربيتها وعقابها على اجتماعها برجال آخرون، لا يصدق ان ذويها وافقوا على ذهابها معهم.
استقل سيارته متوجهًا للمكان المنشود في وعيد واخيرًا بعد وقت ليس بطويل، وصل أمام الفندق، كاد ينزل ويقتحم المكان ليحطمه فوق رأسها لكنه جذب عدة أنفاس يفكر قبل أن يخرج هاتفه متصلًا بها وكالعادة لم تجيب، فأرسل لها رسالة كان محتواها:
" أنا تحت فندق **** لو مطلعتيش حالًا، قسمًا بالله هنزلك بفضيحة وما هيهمني أي حد يا نجمه "
على الطرف الآخر رن هاتف نجمة بأحد الاشعارات فرفعته في اعتيادية، لتتقابل مع رسالة سليم الغاضبة، ارتج قلبها في صدمة وفزع، مدركة تمامًا أنه قادر على فعلها وهي في غنى عن أي ضجة قد تُصيب سُمعتها بلطخة لن تستطع إزالتها يومًا.
نهضت في سرعة تغادر جلسة العشاء متحججة بكلمات مختصرة لأصدقائها الذين لاحظوا توترها ووجهها الشاحب لكنهم لم يعترضوا ظنًا ان والديها قد عرفوا بأمر خروجها دون موافقتهم.
تحركت في خطوات مهتزة نحو باب الفندق وكل خلية بها تتوسل أن يكون كاذب قاصدًا إخافتها لأنها لم تتواجد في مكان لقاءهما، ولكن للأسف عيناها رصدت هيئته الغاضبة التي لا تبشر بالخير، تقدمت منه في سرعة تعدل خصلات شعرها كحركة تلقائية حينما تتوتر، ثم سلطت فوهة حروفها بوجهه تحت بند جملة ' افضل وسيلة للدفاع هي الهجوم ' فراحت تصيح غاضبة رغم توترها البين:
-أنت بتهددني بالفضايح يا حضرت الباشا!
أومأ سليم مؤكدًا كلماتها، وراقبت عيونه البنية تشتعل بلون غليان القهوة وقد سكبت بنزين على تماسكه دون أن تلاحظ، فرد في لهجته الجافة:
-لأ مش بهددك، أنا بنفذ على طول.
اتسعت عيناها من ثبات نبرته وهو يؤكد إقباله على فعلته القبيحة، ولكن قبل أن تنطق كان يسحبها من مرفقها بعنف مقصود ليُدخلها السيارة متمتمًا بصوت خافت من بين أسنانه:
-أمشي قدامي، الحساب مش قدام الناس.
ضحكت في عنف ساخر خالي من المرح اثناء محاولتها تخليص يدها من قبضته العنيفة المؤلمة:
-لأ وأنت الصراحة بتخاف من الشوشره والفضايح أوي.
أغلق الباب في عنف أشد من اللازم هز ثباتها ثم اتجه في خطوات ثابتة إلى مقعده مشعلًا محرك السيارة بثبات يُحسد عليه رغم هياج صدره بالغضب ورغبته في فك أسر وحشه الثائر الراغب في الانقضاض عليها، لكنه زمجر مجيبًا في نبرة ذات مغزى:
-لو عليا مش بخاف، هما اللي هيخافوا لو شافوا هعمل فيكي أيه!
لوت شفتاها في تهكم وعناد يرتسم ملامحها، ولكن لم تستطع السيطرة على اهتزاز وتر الثبات الذي استبدل بالخوف من كلماته وغضبه الذي تراه يكاد يُمزق مجحري عيناه المُخيفة.
وصلا إلى مكان هادئ نوعًا ما به عدد قليل جدًا من الناس ثم نزل من السيارة وهو يزجرها بنظراته:
-انزليلي.
-مش نازلة!
هتفت في خوف وتحدي لكنها ابتلعت جملتها فاتحة باب السيارة كي تترجل وحدها ما إن اندفع نحوها ونواياه الواضحة بإنزالها عنوة تسيطر على ملامحه وبدون أي تردد كان يزمجر فيها مفجرًا كل مشاعره:
-إنتي ازاي تسمحي لنفسك انك تخرجي مع شباب يا محترمة!
-مش شباب بس على فكره كان في بنات، وبعدين ده Fun day يعني اكيد مش هروح لوحدي!
أجابته بصوت مرتبك يتردد ما بين الانخفاض والعلو وهي ترمش جفونها في تلقائية متوترة، فازداد صراخه حدة وهو يشد على خصلاته القصيرة يكاد يقتلعها من فرط الغضب والغيظ:
-إنتي هتجننيني ليه ولا الهانم فاكرة ان ملهاش حاكم ولا رابط؟!
ده انا هخليه fun زفت على دماغك ودماغهم انهارده.
اخفت ارتجافه جسدتها وقفزت مكانها كالقطة الشرسة التي كلما اضعفها إعصار غضبه تحاول النجو بخربشتها:
-وأنت مالك أصلاً دي المرة المليون اللي بقولك فيها انك مش وصي عليا،
هتفهم أمتى ان محدش لي حكم عليا؟!
جذبها سليم من ذراعها بعنف يقربها منه دون اهتمام بفضول بعض المارة المتعلق بشجارهما، صائحًا في نفس الحدة:
-هنشوف يا نجمة في حاكم ولا لا!
سمحت نجمة ليدها بدفعه رافضه اقترابه الماجن منها ثم رفعت حاجبها الأيسر ساخرة:
-إيه هتخليني رافعه ايدي لفوق نص ساعة ولا هتحبسني في اوضة الفيران.
انتهت جملتها بتأوه متألم حين ضغط سليم على ذراعها في عنف وهو يعض شفتيه كي لا يمطرها بوابل من الألفاظ الخارجة الحصرية للمجرمين، لكنه أخرج صوته كالفحيح محملًا بوعيد العقاب:
-ده هيتحدد على حسب أهلك بيعاقبوكي ازاي!
تجمدت نجمه في مكانها تسأله بحروف مبهوتة كملامحها وداخلها يتوسل ألا يكون ما تتوقعه صحيح:
-إيه علاقة أهلي بالموضوع؟!
ارتسمت ابتسامة صفراء مقيته على وجهه وهو يرد متعمد البرود وكأنه يخبرها بطقس اليوم:
-ازاي مش لازم يعرفوا أن بنتهم بتتسرمح مع الشباب من وراهم ومش في اي سرمحه دي سرمحة فنادق!
زعزع الخوف ثباتها ولكنها حاولت إحكام زمامه فرفعت حاجبها الأيسر مرددة بسخرية ظاهرية:
-لا والله، متقدرش تعمل كده وهتقولهم بصفتك مين أصلاً؟
عقد سليم ذراعاه معًا قاصدًا إحراق كل خلية بها بالذعر:
-الله، ليه كده ده احنا عشرت شهور يا شيخة وسجل المكالمات يشهد علينا،
ولا تلاقيكي كنتي بتمسحيه، ما أنا عارف هواياتك انك تشاغلي الرجالة وابوكي نايم.
صرخت فيه نجمه الغاضبة والتي انسابت دموعها في ألم غير متوقعة وقاحته وكلماته الجارحة:
-وأديك عرفت إني مش محترمة وبتاعة رجالة حل عني بقا.
حينها انقشعت قشرة البرود التي تغطي ملامحه وهو يقترب منها ليهدر فيها بنبرة غليظة متوعدة:
-بعينك، أنا هوريكي بتاعة الرجاله بيحصل فيها أيه لما تقع مع راجل بجد!
وقبل أن تنطق بكلمة اخرى كان يسحبها بقوة معاودًا إدخالها للسيارة وكأنها شيء مملوك وليست بشر، حاولت الهبوط وهي تصرخ في عنفوان رافضة التواجد معه أكثر، وسمحت لغضبها في إطلاق سيل من الشتائم نحوه لكنه تجاهل كلماتها الوقحة مغلقًا الأبواب الكترونيًا، تاركًا إياها تصرخ بنبرة منفعلة:
-افتح الباب، وسيبني في حالي بقولك!
لم ينظر لها حتى وهو يغمغم بنبرة جافة:
-هسيبك عند أهلك!
ضربت نجمه على السيارة أمامها في جنون وذعر وهي تزمجر:
-أنت مجنون يا سيدي أنا مش محترمة، مالك ومالي بتتدخل في حياتي ليه!
ضرب سليم كفه في السيارة بقوة أكبر وقد اشتعل بسبب موافقتها المستمر على كلماته بأنها غير سوية وكأنها تؤكد له سوء ظنونه، يدري انها تتغني بتلك الكلمات لمضايقته لكن رجولته ونخوته لا تتحمل سماع تكرارها على التوالي، فدوى صوته الهادر يشق عنادها والحرب في عينيها:
-انا اللي مش عايزك، ومش عايز أعرف حتى انتي محترمه ولا لا!
انغرست كلماته في قلبها فقبعت ساكنه في مقعدها وقد تملكها البكاء الهستيري، كارهة حياتها وكلماته ولما آلت عليه الأمور بينهما، لم يهتز سليم الغاضب ببكائها الذي يمزق نياط قلبه...
فلم يعد للحديث بقية......
مالت تستند برأسها على المقعد تحاول تجفيف دموعها وإيقاف تأوهاتها الباكية بأي طريقة، لكن قلبها يفور ويتألم لظنونه بها، مر الوقت بينهما وكلاهما غارق في هذا اليوم المشؤم الذي تحولت بعده مجريات علاقتهما للأبد....
***
وقف سليم امام سيارته يستند بجسده فوق مقدمتها ناظرًا لساعة يده في ترقب، يتنظر خروج "نجمة" من "الكورس" بفارغ الصبر.
مرر أصابعه بين خصلات شعره القصيرة يحاول الحفاظ على إطلالته المهندمة أملًا في إثارة إعجابها، ويتملكه شعاع من التوتر لأنها المرة الأولي التي يخاطر بلقائها خارج إطار دائرة أصدقائهم المشتركين.
ابتسم يتذكر أحاديثهم التي بدئت منذ ليلة الميلاد الخاصة بصديقه المفضل، تنهد فالمشاكسة لاتزال تسلب عقله بدلال نظراتها وكلماتها مع تمنعها المستمر، لكنه لم ييأس متأكدًا أن الإعجاب بينهما متبادل ولم يهدأ حتى وصل لجميع حساباتها على مواقع التواصل الالكتروني وصارا يتحادثان طوال اليوم وبدون توقف حتى سحرته وصار يتطلع لها أكثر من تلك النجمة المنتظرة بعد نسره فوق كتفه.
عض شفتيه متذكرًا كيف استمر في رسائله المؤكدة بانه لا يرغب سوى في صداقتها وكيف استسلمت في نهاية الأمر رغم جملتها الشهيرة التي صار يحفظها عن ظهر قلب "احنا مجرد أصدقاء مش حاجة اكتر"، لمعت عيونه بلمعة مكر وما اجملها من صداقة مليئة بالمُغازلة والحب، وكأن هناك رجل سيستطيع مقاومه سحرها الساذجة، لكنه قرر مجاراتها في اللعبة واثق من رضوخها الوشيك لمكنونات قلبيهما.
-بالله عليك اديني خمسة جنيه افطر، مكلتش من اسبوع!
قطع تفكيره الرومانسي، دخول "صابر" غلام سمين في سن المراهقة ممن يمتهنون التسول كان متخذ من الدائري القريب من عمله مقرًا لتسوله، ولكن الصغير لم يتعرف عليه دون بدلته الرسمية، فمد سليم أصابعه يضع فوق السيارة حقيبة ورقيه كانت في يده قبل أن يمسك مقدمة قميصه قائلًا:
-خد ياض بخدودك دي هنا، اسبوع ايه اللي مكلتش فيه ده انت واكل اخواتك قبل ما تنزل!
هو أنا مش قايل تبطل تسول وبعتك لواحد تسترزق منه باليومية.
ارتبك "صابر" ما أن خلع سليم نظارته الشمسية وتعرف عليه فأجابه في ارتباك وتلعثم:
-باشا!
والله يا باشا الراجل طلع مفتري وبهدلني والدنيا جت عليا أوي نزلت اشحت بدل ما اسرق ولا أموت من الجوع يباشاا.
انهى كلماته بمسرحية محترفة فمط سليم خدي صابر في استنكار واضح مردفًا:
-تموت من الجوع ودي تيجي بردو، بقولك أيه انا الشغل ده ميمشيش معايا،
انت شكلك مش هترتاح غير وأنت في الأحداث .. صح ؟!
-لا والله العظيم يا باشا اقسم بالله، أنا عايز اشتغل بس هو جه عليا جامد!
اخبره "صابر" في سرعة وقد سيطر عليه الخوف من تهديدات سليم المبطنة فربت سليم على وجهه مرة اخرى يهدئه بصوته الرخيم:
-يا ابني انت صعبان عليا، احنا نازلنا قرار نلم اي حد بيشحت مش عايز مستقبلك يضيع في الأحداث..
حرك صابر رأسه يعبر عن فهمه للحديث وكاد يبكي من ضيق الحال وقلة الحيلة لكن سليم استكمل يحثه في صدق:
-انت بقيت طول بعرض وكلها سنتين وتبقى راجل، متتنازلش عن كرامتك وتهين نفسك عشان القرش،
بلاش تضيع فرصتك واسمع كلامي!
-حاضر يا باشا اخر مرة والله.
اخبره الغلام في نبرة منخفضة صادقة وهو يخفض رأسه كالمذنب، فأخبره سليم بخشونة وحنو متناقضان:
-انا هبعتك لواحد تاني قوله انك من طرفي ولو عملك اي حاجه انت عارف مكاني تعلالي فورًا، فاهم !!
تحرك سليم نحو سيارته يبحث عن ورقه يدون عليها العنوان والاسم ثم أعطاها لصابر الذي حاول الابتعاد عنه سريعًا لكنه اوقفه من جديد مخرجًا محفظته قبل أن يعطيه بعض المال قائلًا:
-خد روح أفطر وتطلع على الراجل على طول، أنا هتصل بيه كمان ساعه اشوفك روحت ولا لا!
-ربنا يخليك لينا يا باشا والله هطلع على هناك فُريرة.
تركه سليم وراقبه يركض بجسده رغم وزنه الزائد بعيدًا عنه، حرك رأسه في يأس قبل أن يعود لمكانه عند مقدمه السيارة ممسكًا بالحقيبة الورقية أعلاها.
لكنه ما كاد يستند بشكل كامل حتى انتفض قلبه وهو يرى نجمة خارجه، استقام في حماسة وتقدم منها بترقب وطيف ابتسامه خفيفة على شفتيه.
تسمرت نجمة ما ان انتبهت لوجوده ووقفت تطالعه في ذهول، اقترب سليم منها بابتسامه مشاكسة وكاد يفتح فمه للحديث لكنها سبقته متسائلة في نبرة فظة مرتعبة:
-سليم، أنت بتعمل إيه هنا؟
-امم، أنا كمان مبسوط إني شوفتك.
أجاب سليم والسخرية تنضح من حدقتاه قبل أن يمد كفه الممسك بالحقيبة الصغيرة التي لم تنتبه لها حتى، نظرت حولها في ارتباك قبل أن تسأل في خفوت:
-إيه ده؟
-افتحي شوفي مش هيعضك.
رمقته باستخفاف تخفي خلفه الفضول ثم مدت يدها تلتقطها، اتسعت عيناها في تعجب هامسة:
-تشيز كيك بالفراولة!
-ومعاها دبل شوت اسبرسو متلج، أو كان متلج.
أخبرها في فخر ممازحًا، فنظرت نجمة بعيدًا لحظه تحاول كبح ابتسامة رضا على هذا الاستعراض الصريح بالاهتمام، فقد اخبرته في محادثة أمس عن رغبتها في تناولهم وعندما اخبرها باعتياديه أن تحصل عليهما بعد كورسها تحججت بالمكان البعيد وانها ان تأخرت ستأكل والدتها رأسها.
-طيب قولي شكرًا، ما تبقيش متلبدة المشاعر كده.
قاطعها صوته الساخر فعادت عيناها الحانقة نحوه تخبره في غلاظة:
-مشاعر!!
لا خدهم مش عايزة حاجة.
-بس بس يخربيت اللي يهرج معاكي، خليها يا ستي ألف هنا علىقلبك.
قال سليم سريعًا يوقف رحيلها ويدها الممتدة نحوه بأنف شامخ، لكنها استمرت في دلالها مستكملة في عتاب:
-بغض النظر ان شكرًا وكل حاجة، بس متستعبطش وتجيني تاني، ولا أنت عايز تعملي مشاكل لو حد شافنا؟
تنهد في ملل لكنه اجابها بشفاه ممطوطة ومكر لم يُخفى عليها:
-أنا عارف ان الكورس ده لوحدك ومعكيش اي حد من زمايلك ومتقلقيش مش هتحصل تاني، بس لو عايزة انا ممكن اتقدم ونخرس الألسنة!
وكأي أنثى وقعت في الفخ الذي أعده لها بين حروفه الماكرة وارتبكت في ثوان لتخبره متلعثمة:
-قولتلك مش بحب الكلام ده، احنا مجرد أصحاب.
رفت جفونها بشكل متوالي وهي تبرر، ليخبرها والانزعاج يملئ نبرته:
-ماشي يا نجمة، أنا متأسف ليكي، عن أذنك.
كاد يرحل وقد شعر بالضيق يتملك صدره لأنها لم تشعر بالزلزال الذي زلزله منذ رآها إلا إنها اوقفته بنبرتها المقطرة بدلال خفي كعادتها كلما انهالت عليه بسماجتها:
-وهتسيني واقفه في الشارع كده، طيب تعالى وقفلي تاكسي.
رمقها بجانب عينيه قبل ان يهز رأسه فاقدًا الأمل في فهم إشاراتها المبعثرة لكنه اخبرها في قبول:
-اتفضلي يا ستي، ومش هقولك انك زي القمر انهارده لتتقمصي.
سمع صوت ضحكتها الصغيرة لكنها اكتفت بنظراتها المائعة التي تنجح في تشتيت خلايا عقله وتجعله عاجزًا عن فهم طبيعة مشاعرها نحوه.
رن هاتفها داخل حقيبتها أثناء تحركهم على جانب الطريق سويًا قاطعًا لحظة مغازلة صامته بين الأعين، رفعت الهاتف ثم أجابت سريعًا بابتسامه واسعة:
-ألو يا رودي ....آآ..
مستشفى ليه، أيه اللي حصل؟
انهت جملتها في فزع، فاتاها الرد سريعًا:
-مش واقته يا نجمة حصلينا على مستشفى ****** ولما تيجي هفهمك اللي حصل!
أغلقت نجمة الهاتف ونظرت بعيون متسعة إلي سليم القلق قائلة في لهجة سيطر عليها الاضطراب:
-وقفلي تاكسي حالًا، دنيا صاحبتي في المستشفى ولازم اروحلها.
-طيب هدي نفسك وتعالي اوصلك أفضل، انتي شكلك مهزوز.
حركت رأسها في نفي أثناء تحركها كالمجنونة تبحث عن وسيلة مواصلات مؤكدة:
-مينفعش يا سليم، ممكن حد يشوفنا.
تحرك سليم وراءها الذي يصارع لمتابعه جانبي الطريق حولهما يخشى أن يصيبها مكروه، لكنه نجح في إيقاف سيارة أجرة سريعًا ووقف يتابعها تختفي على مهل.
***
هرعت نجمة حيث تقبع دنيا لتقابل رودي الباكية بانهيار امام باب غرفتها فسألت في هلع ونبضات متسارعة وكأنها في مارثون:
-بتعيطي ليه كده، دنيا جرالها حاجة!
-جوزها ضربها علقة موت يا نجمة!
كادت تدلف للغرفة حيث دُنيا لكن نادية صديقتهم الرابعة اوقفتها مردفه في جدية تحذرها:
-استني يا نجمة لما تدخلي حاولي متبينيش أن الموضوع صعب.
ارتبكت نجمه وشعرت بدوار خفيف لكنها سألت وهي تكاد تخر باكية أمام قدمي نادية:
-هو عمل فيها أيه؟
زفرت ناديه قبل ان تسرد على نجمة تفصيل اعتداء زوج دُنيا عليها بالضرب، وضعت نجمه كفها فوق وجهها تخفي ذعر كلمات نادية وهي تخبرها:
-مفيش مكان سليم في وشها، وحفاظًا على نفسيتها محدش هيقولها، هي متكسرة يا قلبي ومحتاجه مننا التشجيع.
تحركت نجمة إلى الداخل بعد دقائق طويلة أفرغت فيها شحنت بكاءها مع صديقاته بالخارج، ولكنها لم تكن كافية عندما رأت دنيا مستلقية فوق الفراش في ضعف وآثار الضرب والكدمات ظاهرة على وجهها وذراعيها.
المتوحش المجنون البشع، حسبي الله ونعمة الوكيل في كل جبروت تخلى عن إنسانيته بتلك الطريقة.
-نجمه!
خرج صوت دنيا ضعيفًا قبل ان تستمر في بكاءها الصامت بنشيج مزق اوتار قلب نجمة، فرافقتها نجمة رحلتها الباكية وهي تحاول أن تهدأ من روعها:
-شوفتي عمل فيا ايه المفتري!
-معلش يا حبيبتي ربنا ينتقم منه، انتي لازم ترفعي عليه قضيه ولازم يتعاقب بالقانون.
-قانون، أحمد هو القانون يا نجمة!
منه لله زي ما كسر عضمي وكسر نفسي المفتري، عشان عارف محدش قادر عليه يبهدلني كده،
أنا استحملت اهانه كتير منه لكن ده ضرب موت وأنا مستحيل أعيش معاه تاني.
كانت تغمغم بهذيان تشعر بالألم يفرض حصاره على كل خلاياها ليست الجسدية فقط وإنما تشعر بروحها تأن من فرط الألم وقلة الحيلة.
فيما شعرت نجمة بالتيه وهي تربت على أصابع دنيا المتشابكة مع أصابعها ورغمًا عنها بكت في حسرة وقهر لأن مبنى حبها الصغير تهاوت أساساته أمام عينيها.
ففي تلك اللحظة وهي ترى صديقتها مُهانه جريحة لأنها تحت رحمة رجل أعمته السلطة وجنون العظمة، اتخذت قرارها بأن حياتها غالية وليست للتجربة لتقول أن سليم مختلف، لا لن ترتكب أبدًا نفس الخطأ ولن تتزوج ضابط مهما كان يبهرها بروعة كروعة "سليم".
منذ البداية وهي تحارب للابتعاد، حاولت طمس مشاعرها ورفض تودده إليها ولكنه حاوطها بحباله من كل جانب حتى وقعت في شباكه بكل رضا.
تنفست في حده نعم هي من بدأت تلك المهزلة بسيرها خلف قلبها الساذج لكنها أيضًا من ستنهيها بعقلها الثابت.
"سليم" صفحة غامضة لن تكتشفها، ستطوى إلى الأبد ولن تستسلم لمحاولاته وكلماته المعسولة من جديد، لن تخاطر مهما كانت تعشقه.
من هنا
في اليوم المتفق عليه اللقاء....
كان سليم يتراقص على لهب الانتظار وهو يتصل بها مرة بعد مرة وتلك البلهاء لا تجيبه ابدًا خالطة الأفكار السوداء في عقله يمينًا ويسارًا مطعونة بسم القلق، زفر مقررًا فتح ذلك الموقع الالكتروني كي يتأكد ان كان تمسك هاتفها أم لا.
أمسك جهازه اللوحي يبحث عن الحساب الخاص بها ليرى متى كان أخر ظهور، فتملكت الدهشة الممزوجة بالغيظ ملامحه وهو يرى صورة منشورة للتو من حساب صديقتها معلنة تواجدهم في مطعم بأحد الفنادق!!
تفحص الصورة التي تجمعها مع خليط من الفتيات والشباب وتابع تلك السعادة الني تلوح له من وجهها الأبيض وكأنها تتعمد إغاظته.
تبًا لها..
ها هو يحترق بجمرات الانتظار والقلق وهي هناك مع رجال آخرون تستمتع بوقتها، ركز ببصره على المنشور يحاول تحديد تفاصيل الفندق لاعنًا اهمالها وعدم تفكيرها في نظرة الناس بوجودها في فندق مع هذ الجمع حتى لو أصدقاء.
بل اسوأ هي لم تفكير في خيالاته المظلة التي تتساءل لما دونًا عن كل المطاعم هم متجمعون في فندق؟
عض شفتيه يبعد الشيطان عن أفكاره لا يرغب في الخوض بتلك المنطقة حتى لا يجن جنونه، نهض سليم تاركًا المكان الذي كان ينتظرها فيه، والغضب يغلي بين دماءه، يقسم على إعادة تربيتها وعقابها على اجتماعها برجال آخرون، لا يصدق ان ذويها وافقوا على ذهابها معهم.
استقل سيارته متوجهًا للمكان المنشود في وعيد واخيرًا بعد وقت ليس بطويل، وصل أمام الفندق، كاد ينزل ويقتحم المكان ليحطمه فوق رأسها لكنه جذب عدة أنفاس يفكر قبل أن يخرج هاتفه متصلًا بها وكالعادة لم تجيب، فأرسل لها رسالة كان محتواها:
" أنا تحت فندق **** لو مطلعتيش حالًا، قسمًا بالله هنزلك بفضيحة وما هيهمني أي حد يا نجمه "
على الطرف الآخر رن هاتف نجمة بأحد الاشعارات فرفعته في اعتيادية، لتتقابل مع رسالة سليم الغاضبة، ارتج قلبها في صدمة وفزع، مدركة تمامًا أنه قادر على فعلها وهي في غنى عن أي ضجة قد تُصيب سُمعتها بلطخة لن تستطع إزالتها يومًا.
نهضت في سرعة تغادر جلسة العشاء متحججة بكلمات مختصرة لأصدقائها الذين لاحظوا توترها ووجهها الشاحب لكنهم لم يعترضوا ظنًا ان والديها قد عرفوا بأمر خروجها دون موافقتهم.
تحركت في خطوات مهتزة نحو باب الفندق وكل خلية بها تتوسل أن يكون كاذب قاصدًا إخافتها لأنها لم تتواجد في مكان لقاءهما، ولكن للأسف عيناها رصدت هيئته الغاضبة التي لا تبشر بالخير، تقدمت منه في سرعة تعدل خصلات شعرها كحركة تلقائية حينما تتوتر، ثم سلطت فوهة حروفها بوجهه تحت بند جملة ' افضل وسيلة للدفاع هي الهجوم ' فراحت تصيح غاضبة رغم توترها البين:
-أنت بتهددني بالفضايح يا حضرت الباشا!
أومأ سليم مؤكدًا كلماتها، وراقبت عيونه البنية تشتعل بلون غليان القهوة وقد سكبت بنزين على تماسكه دون أن تلاحظ، فرد في لهجته الجافة:
-لأ مش بهددك، أنا بنفذ على طول.
اتسعت عيناها من ثبات نبرته وهو يؤكد إقباله على فعلته القبيحة، ولكن قبل أن تنطق كان يسحبها من مرفقها بعنف مقصود ليُدخلها السيارة متمتمًا بصوت خافت من بين أسنانه:
-أمشي قدامي، الحساب مش قدام الناس.
ضحكت في عنف ساخر خالي من المرح اثناء محاولتها تخليص يدها من قبضته العنيفة المؤلمة:
-لأ وأنت الصراحة بتخاف من الشوشره والفضايح أوي.
أغلق الباب في عنف أشد من اللازم هز ثباتها ثم اتجه في خطوات ثابتة إلى مقعده مشعلًا محرك السيارة بثبات يُحسد عليه رغم هياج صدره بالغضب ورغبته في فك أسر وحشه الثائر الراغب في الانقضاض عليها، لكنه زمجر مجيبًا في نبرة ذات مغزى:
-لو عليا مش بخاف، هما اللي هيخافوا لو شافوا هعمل فيكي أيه!
لوت شفتاها في تهكم وعناد يرتسم ملامحها، ولكن لم تستطع السيطرة على اهتزاز وتر الثبات الذي استبدل بالخوف من كلماته وغضبه الذي تراه يكاد يُمزق مجحري عيناه المُخيفة.
وصلا إلى مكان هادئ نوعًا ما به عدد قليل جدًا من الناس ثم نزل من السيارة وهو يزجرها بنظراته:
-انزليلي.
-مش نازلة!
هتفت في خوف وتحدي لكنها ابتلعت جملتها فاتحة باب السيارة كي تترجل وحدها ما إن اندفع نحوها ونواياه الواضحة بإنزالها عنوة تسيطر على ملامحه وبدون أي تردد كان يزمجر فيها مفجرًا كل مشاعره:
-إنتي ازاي تسمحي لنفسك انك تخرجي مع شباب يا محترمة!
-مش شباب بس على فكره كان في بنات، وبعدين ده Fun day يعني اكيد مش هروح لوحدي!
أجابته بصوت مرتبك يتردد ما بين الانخفاض والعلو وهي ترمش جفونها في تلقائية متوترة، فازداد صراخه حدة وهو يشد على خصلاته القصيرة يكاد يقتلعها من فرط الغضب والغيظ:
-إنتي هتجننيني ليه ولا الهانم فاكرة ان ملهاش حاكم ولا رابط؟!
ده انا هخليه fun زفت على دماغك ودماغهم انهارده.
اخفت ارتجافه جسدتها وقفزت مكانها كالقطة الشرسة التي كلما اضعفها إعصار غضبه تحاول النجو بخربشتها:
-وأنت مالك أصلاً دي المرة المليون اللي بقولك فيها انك مش وصي عليا،
هتفهم أمتى ان محدش لي حكم عليا؟!
جذبها سليم من ذراعها بعنف يقربها منه دون اهتمام بفضول بعض المارة المتعلق بشجارهما، صائحًا في نفس الحدة:
-هنشوف يا نجمة في حاكم ولا لا!
سمحت نجمة ليدها بدفعه رافضه اقترابه الماجن منها ثم رفعت حاجبها الأيسر ساخرة:
-إيه هتخليني رافعه ايدي لفوق نص ساعة ولا هتحبسني في اوضة الفيران.
انتهت جملتها بتأوه متألم حين ضغط سليم على ذراعها في عنف وهو يعض شفتيه كي لا يمطرها بوابل من الألفاظ الخارجة الحصرية للمجرمين، لكنه أخرج صوته كالفحيح محملًا بوعيد العقاب:
-ده هيتحدد على حسب أهلك بيعاقبوكي ازاي!
تجمدت نجمه في مكانها تسأله بحروف مبهوتة كملامحها وداخلها يتوسل ألا يكون ما تتوقعه صحيح:
-إيه علاقة أهلي بالموضوع؟!
ارتسمت ابتسامة صفراء مقيته على وجهه وهو يرد متعمد البرود وكأنه يخبرها بطقس اليوم:
-ازاي مش لازم يعرفوا أن بنتهم بتتسرمح مع الشباب من وراهم ومش في اي سرمحه دي سرمحة فنادق!
زعزع الخوف ثباتها ولكنها حاولت إحكام زمامه فرفعت حاجبها الأيسر مرددة بسخرية ظاهرية:
-لا والله، متقدرش تعمل كده وهتقولهم بصفتك مين أصلاً؟
عقد سليم ذراعاه معًا قاصدًا إحراق كل خلية بها بالذعر:
-الله، ليه كده ده احنا عشرت شهور يا شيخة وسجل المكالمات يشهد علينا،
ولا تلاقيكي كنتي بتمسحيه، ما أنا عارف هواياتك انك تشاغلي الرجالة وابوكي نايم.
صرخت فيه نجمه الغاضبة والتي انسابت دموعها في ألم غير متوقعة وقاحته وكلماته الجارحة:
-وأديك عرفت إني مش محترمة وبتاعة رجالة حل عني بقا.
حينها انقشعت قشرة البرود التي تغطي ملامحه وهو يقترب منها ليهدر فيها بنبرة غليظة متوعدة:
-بعينك، أنا هوريكي بتاعة الرجاله بيحصل فيها أيه لما تقع مع راجل بجد!
وقبل أن تنطق بكلمة اخرى كان يسحبها بقوة معاودًا إدخالها للسيارة وكأنها شيء مملوك وليست بشر، حاولت الهبوط وهي تصرخ في عنفوان رافضة التواجد معه أكثر، وسمحت لغضبها في إطلاق سيل من الشتائم نحوه لكنه تجاهل كلماتها الوقحة مغلقًا الأبواب الكترونيًا، تاركًا إياها تصرخ بنبرة منفعلة:
-افتح الباب، وسيبني في حالي بقولك!
لم ينظر لها حتى وهو يغمغم بنبرة جافة:
-هسيبك عند أهلك!
ضربت نجمه على السيارة أمامها في جنون وذعر وهي تزمجر:
-أنت مجنون يا سيدي أنا مش محترمة، مالك ومالي بتتدخل في حياتي ليه!
ضرب سليم كفه في السيارة بقوة أكبر وقد اشتعل بسبب موافقتها المستمر على كلماته بأنها غير سوية وكأنها تؤكد له سوء ظنونه، يدري انها تتغني بتلك الكلمات لمضايقته لكن رجولته ونخوته لا تتحمل سماع تكرارها على التوالي، فدوى صوته الهادر يشق عنادها والحرب في عينيها:
-انا اللي مش عايزك، ومش عايز أعرف حتى انتي محترمه ولا لا!
انغرست كلماته في قلبها فقبعت ساكنه في مقعدها وقد تملكها البكاء الهستيري، كارهة حياتها وكلماته ولما آلت عليه الأمور بينهما، لم يهتز سليم الغاضب ببكائها الذي يمزق نياط قلبه...
فلم يعد للحديث بقية......
مالت تستند برأسها على المقعد تحاول تجفيف دموعها وإيقاف تأوهاتها الباكية بأي طريقة، لكن قلبها يفور ويتألم لظنونه بها، مر الوقت بينهما وكلاهما غارق في هذا اليوم المشؤم الذي تحولت بعده مجريات علاقتهما للأبد....
***
وقف سليم امام سيارته يستند بجسده فوق مقدمتها ناظرًا لساعة يده في ترقب، يتنظر خروج "نجمة" من "الكورس" بفارغ الصبر.
مرر أصابعه بين خصلات شعره القصيرة يحاول الحفاظ على إطلالته المهندمة أملًا في إثارة إعجابها، ويتملكه شعاع من التوتر لأنها المرة الأولي التي يخاطر بلقائها خارج إطار دائرة أصدقائهم المشتركين.
ابتسم يتذكر أحاديثهم التي بدئت منذ ليلة الميلاد الخاصة بصديقه المفضل، تنهد فالمشاكسة لاتزال تسلب عقله بدلال نظراتها وكلماتها مع تمنعها المستمر، لكنه لم ييأس متأكدًا أن الإعجاب بينهما متبادل ولم يهدأ حتى وصل لجميع حساباتها على مواقع التواصل الالكتروني وصارا يتحادثان طوال اليوم وبدون توقف حتى سحرته وصار يتطلع لها أكثر من تلك النجمة المنتظرة بعد نسره فوق كتفه.
عض شفتيه متذكرًا كيف استمر في رسائله المؤكدة بانه لا يرغب سوى في صداقتها وكيف استسلمت في نهاية الأمر رغم جملتها الشهيرة التي صار يحفظها عن ظهر قلب "احنا مجرد أصدقاء مش حاجة اكتر"، لمعت عيونه بلمعة مكر وما اجملها من صداقة مليئة بالمُغازلة والحب، وكأن هناك رجل سيستطيع مقاومه سحرها الساذجة، لكنه قرر مجاراتها في اللعبة واثق من رضوخها الوشيك لمكنونات قلبيهما.
-بالله عليك اديني خمسة جنيه افطر، مكلتش من اسبوع!
قطع تفكيره الرومانسي، دخول "صابر" غلام سمين في سن المراهقة ممن يمتهنون التسول كان متخذ من الدائري القريب من عمله مقرًا لتسوله، ولكن الصغير لم يتعرف عليه دون بدلته الرسمية، فمد سليم أصابعه يضع فوق السيارة حقيبة ورقيه كانت في يده قبل أن يمسك مقدمة قميصه قائلًا:
-خد ياض بخدودك دي هنا، اسبوع ايه اللي مكلتش فيه ده انت واكل اخواتك قبل ما تنزل!
هو أنا مش قايل تبطل تسول وبعتك لواحد تسترزق منه باليومية.
ارتبك "صابر" ما أن خلع سليم نظارته الشمسية وتعرف عليه فأجابه في ارتباك وتلعثم:
-باشا!
والله يا باشا الراجل طلع مفتري وبهدلني والدنيا جت عليا أوي نزلت اشحت بدل ما اسرق ولا أموت من الجوع يباشاا.
انهى كلماته بمسرحية محترفة فمط سليم خدي صابر في استنكار واضح مردفًا:
-تموت من الجوع ودي تيجي بردو، بقولك أيه انا الشغل ده ميمشيش معايا،
انت شكلك مش هترتاح غير وأنت في الأحداث .. صح ؟!
-لا والله العظيم يا باشا اقسم بالله، أنا عايز اشتغل بس هو جه عليا جامد!
اخبره "صابر" في سرعة وقد سيطر عليه الخوف من تهديدات سليم المبطنة فربت سليم على وجهه مرة اخرى يهدئه بصوته الرخيم:
-يا ابني انت صعبان عليا، احنا نازلنا قرار نلم اي حد بيشحت مش عايز مستقبلك يضيع في الأحداث..
حرك صابر رأسه يعبر عن فهمه للحديث وكاد يبكي من ضيق الحال وقلة الحيلة لكن سليم استكمل يحثه في صدق:
-انت بقيت طول بعرض وكلها سنتين وتبقى راجل، متتنازلش عن كرامتك وتهين نفسك عشان القرش،
بلاش تضيع فرصتك واسمع كلامي!
-حاضر يا باشا اخر مرة والله.
اخبره الغلام في نبرة منخفضة صادقة وهو يخفض رأسه كالمذنب، فأخبره سليم بخشونة وحنو متناقضان:
-انا هبعتك لواحد تاني قوله انك من طرفي ولو عملك اي حاجه انت عارف مكاني تعلالي فورًا، فاهم !!
تحرك سليم نحو سيارته يبحث عن ورقه يدون عليها العنوان والاسم ثم أعطاها لصابر الذي حاول الابتعاد عنه سريعًا لكنه اوقفه من جديد مخرجًا محفظته قبل أن يعطيه بعض المال قائلًا:
-خد روح أفطر وتطلع على الراجل على طول، أنا هتصل بيه كمان ساعه اشوفك روحت ولا لا!
-ربنا يخليك لينا يا باشا والله هطلع على هناك فُريرة.
تركه سليم وراقبه يركض بجسده رغم وزنه الزائد بعيدًا عنه، حرك رأسه في يأس قبل أن يعود لمكانه عند مقدمه السيارة ممسكًا بالحقيبة الورقية أعلاها.
لكنه ما كاد يستند بشكل كامل حتى انتفض قلبه وهو يرى نجمة خارجه، استقام في حماسة وتقدم منها بترقب وطيف ابتسامه خفيفة على شفتيه.
تسمرت نجمة ما ان انتبهت لوجوده ووقفت تطالعه في ذهول، اقترب سليم منها بابتسامه مشاكسة وكاد يفتح فمه للحديث لكنها سبقته متسائلة في نبرة فظة مرتعبة:
-سليم، أنت بتعمل إيه هنا؟
-امم، أنا كمان مبسوط إني شوفتك.
أجاب سليم والسخرية تنضح من حدقتاه قبل أن يمد كفه الممسك بالحقيبة الصغيرة التي لم تنتبه لها حتى، نظرت حولها في ارتباك قبل أن تسأل في خفوت:
-إيه ده؟
-افتحي شوفي مش هيعضك.
رمقته باستخفاف تخفي خلفه الفضول ثم مدت يدها تلتقطها، اتسعت عيناها في تعجب هامسة:
-تشيز كيك بالفراولة!
-ومعاها دبل شوت اسبرسو متلج، أو كان متلج.
أخبرها في فخر ممازحًا، فنظرت نجمة بعيدًا لحظه تحاول كبح ابتسامة رضا على هذا الاستعراض الصريح بالاهتمام، فقد اخبرته في محادثة أمس عن رغبتها في تناولهم وعندما اخبرها باعتياديه أن تحصل عليهما بعد كورسها تحججت بالمكان البعيد وانها ان تأخرت ستأكل والدتها رأسها.
-طيب قولي شكرًا، ما تبقيش متلبدة المشاعر كده.
قاطعها صوته الساخر فعادت عيناها الحانقة نحوه تخبره في غلاظة:
-مشاعر!!
لا خدهم مش عايزة حاجة.
-بس بس يخربيت اللي يهرج معاكي، خليها يا ستي ألف هنا علىقلبك.
قال سليم سريعًا يوقف رحيلها ويدها الممتدة نحوه بأنف شامخ، لكنها استمرت في دلالها مستكملة في عتاب:
-بغض النظر ان شكرًا وكل حاجة، بس متستعبطش وتجيني تاني، ولا أنت عايز تعملي مشاكل لو حد شافنا؟
تنهد في ملل لكنه اجابها بشفاه ممطوطة ومكر لم يُخفى عليها:
-أنا عارف ان الكورس ده لوحدك ومعكيش اي حد من زمايلك ومتقلقيش مش هتحصل تاني، بس لو عايزة انا ممكن اتقدم ونخرس الألسنة!
وكأي أنثى وقعت في الفخ الذي أعده لها بين حروفه الماكرة وارتبكت في ثوان لتخبره متلعثمة:
-قولتلك مش بحب الكلام ده، احنا مجرد أصحاب.
رفت جفونها بشكل متوالي وهي تبرر، ليخبرها والانزعاج يملئ نبرته:
-ماشي يا نجمة، أنا متأسف ليكي، عن أذنك.
كاد يرحل وقد شعر بالضيق يتملك صدره لأنها لم تشعر بالزلزال الذي زلزله منذ رآها إلا إنها اوقفته بنبرتها المقطرة بدلال خفي كعادتها كلما انهالت عليه بسماجتها:
-وهتسيني واقفه في الشارع كده، طيب تعالى وقفلي تاكسي.
رمقها بجانب عينيه قبل ان يهز رأسه فاقدًا الأمل في فهم إشاراتها المبعثرة لكنه اخبرها في قبول:
-اتفضلي يا ستي، ومش هقولك انك زي القمر انهارده لتتقمصي.
سمع صوت ضحكتها الصغيرة لكنها اكتفت بنظراتها المائعة التي تنجح في تشتيت خلايا عقله وتجعله عاجزًا عن فهم طبيعة مشاعرها نحوه.
رن هاتفها داخل حقيبتها أثناء تحركهم على جانب الطريق سويًا قاطعًا لحظة مغازلة صامته بين الأعين، رفعت الهاتف ثم أجابت سريعًا بابتسامه واسعة:
-ألو يا رودي ....آآ..
مستشفى ليه، أيه اللي حصل؟
انهت جملتها في فزع، فاتاها الرد سريعًا:
-مش واقته يا نجمة حصلينا على مستشفى ****** ولما تيجي هفهمك اللي حصل!
أغلقت نجمة الهاتف ونظرت بعيون متسعة إلي سليم القلق قائلة في لهجة سيطر عليها الاضطراب:
-وقفلي تاكسي حالًا، دنيا صاحبتي في المستشفى ولازم اروحلها.
-طيب هدي نفسك وتعالي اوصلك أفضل، انتي شكلك مهزوز.
حركت رأسها في نفي أثناء تحركها كالمجنونة تبحث عن وسيلة مواصلات مؤكدة:
-مينفعش يا سليم، ممكن حد يشوفنا.
تحرك سليم وراءها الذي يصارع لمتابعه جانبي الطريق حولهما يخشى أن يصيبها مكروه، لكنه نجح في إيقاف سيارة أجرة سريعًا ووقف يتابعها تختفي على مهل.
***
هرعت نجمة حيث تقبع دنيا لتقابل رودي الباكية بانهيار امام باب غرفتها فسألت في هلع ونبضات متسارعة وكأنها في مارثون:
-بتعيطي ليه كده، دنيا جرالها حاجة!
-جوزها ضربها علقة موت يا نجمة!
كادت تدلف للغرفة حيث دُنيا لكن نادية صديقتهم الرابعة اوقفتها مردفه في جدية تحذرها:
-استني يا نجمة لما تدخلي حاولي متبينيش أن الموضوع صعب.
ارتبكت نجمه وشعرت بدوار خفيف لكنها سألت وهي تكاد تخر باكية أمام قدمي نادية:
-هو عمل فيها أيه؟
زفرت ناديه قبل ان تسرد على نجمة تفصيل اعتداء زوج دُنيا عليها بالضرب، وضعت نجمه كفها فوق وجهها تخفي ذعر كلمات نادية وهي تخبرها:
-مفيش مكان سليم في وشها، وحفاظًا على نفسيتها محدش هيقولها، هي متكسرة يا قلبي ومحتاجه مننا التشجيع.
تحركت نجمة إلى الداخل بعد دقائق طويلة أفرغت فيها شحنت بكاءها مع صديقاته بالخارج، ولكنها لم تكن كافية عندما رأت دنيا مستلقية فوق الفراش في ضعف وآثار الضرب والكدمات ظاهرة على وجهها وذراعيها.
المتوحش المجنون البشع، حسبي الله ونعمة الوكيل في كل جبروت تخلى عن إنسانيته بتلك الطريقة.
-نجمه!
خرج صوت دنيا ضعيفًا قبل ان تستمر في بكاءها الصامت بنشيج مزق اوتار قلب نجمة، فرافقتها نجمة رحلتها الباكية وهي تحاول أن تهدأ من روعها:
-شوفتي عمل فيا ايه المفتري!
-معلش يا حبيبتي ربنا ينتقم منه، انتي لازم ترفعي عليه قضيه ولازم يتعاقب بالقانون.
-قانون، أحمد هو القانون يا نجمة!
منه لله زي ما كسر عضمي وكسر نفسي المفتري، عشان عارف محدش قادر عليه يبهدلني كده،
أنا استحملت اهانه كتير منه لكن ده ضرب موت وأنا مستحيل أعيش معاه تاني.
كانت تغمغم بهذيان تشعر بالألم يفرض حصاره على كل خلاياها ليست الجسدية فقط وإنما تشعر بروحها تأن من فرط الألم وقلة الحيلة.
فيما شعرت نجمة بالتيه وهي تربت على أصابع دنيا المتشابكة مع أصابعها ورغمًا عنها بكت في حسرة وقهر لأن مبنى حبها الصغير تهاوت أساساته أمام عينيها.
ففي تلك اللحظة وهي ترى صديقتها مُهانه جريحة لأنها تحت رحمة رجل أعمته السلطة وجنون العظمة، اتخذت قرارها بأن حياتها غالية وليست للتجربة لتقول أن سليم مختلف، لا لن ترتكب أبدًا نفس الخطأ ولن تتزوج ضابط مهما كان يبهرها بروعة كروعة "سليم".
منذ البداية وهي تحارب للابتعاد، حاولت طمس مشاعرها ورفض تودده إليها ولكنه حاوطها بحباله من كل جانب حتى وقعت في شباكه بكل رضا.
تنفست في حده نعم هي من بدأت تلك المهزلة بسيرها خلف قلبها الساذج لكنها أيضًا من ستنهيها بعقلها الثابت.
"سليم" صفحة غامضة لن تكتشفها، ستطوى إلى الأبد ولن تستسلم لمحاولاته وكلماته المعسولة من جديد، لن تخاطر مهما كانت تعشقه.