رواية بين الامس واليوم الفصل المئة وسبعة 107 بقلم الكاتبة انفاس قطر
تناولت الهاتف من فورها لتتصل بفهد بأنامل مرتجفة.. وغضب عارم يجتاح روحها..
+
فور تناولها للهاتف... وردها اتصال من ذات الرقم الغريب..
+
فتحت الاتصال دون أن تقصد..
+
لتتفاجئ بالصوت الرجولي غير الغريب أبدا وهي تهمس بصدمة كاسحة:
+
خــــلــــيــــفـــــة؟؟!!!
+
صوته وردها مرتبكا محرجا بعيدا: مساج الله بالخير جميلة...
+
ردت بارتباك أكبر: هلا خليفة.. فيه شيء؟؟
+
عمي أحمد فيه شيء؟؟
+
خليفة ارتبك أكثر..وأكثر... وكثير مما يريد قوله يتسرب من خياله...
+
( أ حقا هذا صوتها؟؟ لماذا يبدو لي مختلفا؟؟
+
خاليا من نغمته الحلوة..
+
بل أقرب للبلادة!! )
2
خليفة يجمع كل حزمه رغم ارتباكه: أنا صار لي 3 شهور أنتظر ذا اللحظة..
+
حسبت لها يوم بيوم وشهر بشهر..
+
جميلة تشعر باستغراب عظيم وبضيق أعظم.. تتمنى لو انتهى هذا الاتصال بسرعة..
+
تشعر أنها تخون فهد بتلقيها لهذا الاتصال والسماح لصوت خليفة بدخول أذنها
+
وهي تعلم غيرة فهد الشديدة وتضايقه من مجرد اسمه..
+
بل شعرت بإحساس غريب وهي تسمع صوت خليفة بعد مرور كل هذا الوقت..
+
أن زخم حضور خليفة السابق في روحها يتضاءل ويتضاءل.. وهي تراه باهتا تماما أمام إشعاع فهد وألقه في روحها..
+
كما لو أنك أطفأت مصباحا فجأة... ثم أشعلت مصباحا آخر فورا..
+
همست بهذا الضيق والاستغراب: وليش 3 شهور بالضبط؟؟
+
خليفة ارتبك أكثر.. وأفكاره تتشوش تماما... يتمنى لو أنه لم يتصل..
+
بدت له هذه المرأة غريبة.. باردة.. جافة..
+
وخالية تماما مما كان يفتنه فيها!!
+
(وش كان عاجبني فيها؟؟!!)
+
يشعر لأول مرة برغبة عارمة أن يترك كل هذا ليتوجه ليدفن وجهه بين كفي زوجته ويغمرهما بقبلاته..
1
وهو يعلم أنها تنتظر مولودهما الأول بين لحظة وأخرى بعد أنهت شهرها التاسع تقريبا..
+
وتوجهت لتقضي أيامها الأخيرة عند أهلها.. بعد أن يأست أنها قد تثير في نفسه التفاعل الذي تتمناه..
+
بينما هي تكاد تقتل نفسها لتحصل منه على مجرد ابتسامة رضا..
+
يضن بها عليها وهو يتسربل ببرود غريب رغما.. رغم أنه يحاول أن يبدي لها طيب تعامله ردا على طيب تعاملها..
+
ولكنه كان يحلق في عالم آخر بعيدا عنها.. وهي احتملت من أجله كل شيء!!
+
حرر عنقه من أزراره العلوية.. وهو يشعر بالاختناق والكلمات تجف على شفتيه..
+
وجميلة همست بذات الضيق والحرج: خليفة فيه شيء؟؟ أو اسمح لي أسكر..
+
خليفة باختناق: أنا كنت أنتظرج تخلصين عدتج.. عشان يكون لي حق أكلمج..
+
جميلة بصدمة: عدة؟؟ أي عدة؟؟
+
خليفة بحرج أشد: سمعت إنج تطلقتي قبل 3 شهور..
+
جميلة باستنكار: تطلقت؟؟ من اللي قال ذا الخرابيط..
+
عمي أحمد قال لك كذا..؟؟
+
خليفة حرجه تزايد وتزايد: لا.. وحدة من خالاتي قالته.. وأنا حفظت الوقت واستحيت أسأل عن التفاصيل..
+
جميلة تنهدت وهي تهمس بحزم: غلطان أنا ما تطلقت..
+
ولولا حشمتك كنت سكرت التلفون لأني ما أرضى أكلم رجّال غريب من ورا رجالي..
+
خليفة حينها ابتسم..ابتسامة شاسعة...
+
شعور غريب بالحرية والانطلاق اخترم روحه من أقصاها إلى أقصاها..
+
كان يظنها طُلقت بسببه.. وخطرت بباله عشرات الأفكار التي حالت بينه وبين زوجته..
+
ثلاثة أشهر وهو ينتظر شيئا لا معنى له..!!
+
وشهور قبلها يبكي حلما فر من يديه... حلم لم يكن يوما له..
+
يبتسم لأنه الآن حر..
+
يبتسم لأنه لو لم يكلمها لكان بقي أعمى طوال عمره من أجل شيء لا يستحق...
+
كم يبدو لنا الشيء عظيما لأنه بعيد.. ولم نحصل عليه..
+
بينما ماهو بين أيدينا هو الأعظم والأجمل..
+
قد تكون جميلة حلما جميلا.. تعب من أجله وتمناه.. وزاد من حسرته أنه لم يستطع الوصول له..
+
لكن زوجته كانت حقيقة واقعة.. واقع ناضج.. وصله دون تعب... لذا لم يتحمس له..
+
لم يفكر ببساطة أن زوجته كانت مكافأة له على أيام الشقاء التي قضاها مع جميلة..
+
وكم من الأشياء العظيمة تكون بين أيدينا... وتضيع.. لأننا لا نعرف قيمتها..
+
سعيد لأنه عرف قيمتها قبل أن يفوت الآوان..!!
+
هتف بذات الابتسامة: أنا بس حبيت أقول لج..
+
إنج بنت عمي وعلى رأسي.. وتأكدي دوم إن وراج أخوان..
+
وأنا يوم طلقتج.. طلقتج لأني كنت مجروح وايد من تصرفج معاي..
+
ما قصدت أقلل من قدرج ولا قيمتج وادري إني غلطان وأنا آسف سامحيني..
+
كان لازم أقول هالكلمتين عشان أقدر أعيش مع زوجتي بدون ما أحس بالذنب..
+
زوجتي مرة مافي مثلها.. بس لاني حاس بالذنب من ناحيتج ماقدرت أقول لها وش كثر هي نادرة..!!
+
وش كثر أنا أحبها..!! وش كثر أنا سعيد إنها بتيب لي ولد أو بنت تعطيهم من طبايعها الرايقة وقلبها الطيب وروحها الحلوة..!!
+
ابتسمت جميلة ابتسامة شاسعة بشفافية: أنت متصل لي عشان تتغزل بزوجتك؟؟
+
كلمها وقول لها ذا الكلام كله..
+
خليفة ضحك.. وضحك.. وضحك.. : الحين بأروح بنفسي وأقول لها ذا الكلام وأكثر..
+
لم يكن مطلقا هذا هو الكلام الذي خطط ليقوله لجميلة..
+
كان هناك كلام مختلف.. تبخر كله حالما سمع همسات جميلة.. وقبل أن يعلم أنها ليست مطلقة حتى..
+
وصورة زوجته تتضخم وتتضخم لتحتتل هي كل الذاكرة وأكثر..
+
جميلة همست بشجن: وقبل ما تسكر ودامك كلمتني بنفسك..
+
خلني أقول لك.. إنك أنت رجّال مافيه مثلك.. والله يهنيك مع مرتك..
2
وأنه جميلك فوق رأسي طول عمري.. وإني لو شكرتك ألف مرة ما وفيتك حقك...
+
وأنا يوم مارضيت أرجع معك من المطار.. ماعفتك..
+
لكن كنت أبيك أعطيك حرية الخيار بس..
+
وسبحان الله هذا أنت لقيت نصيبك وأنا لقيت نصيبي..
+
لأنه نصيبنا عمره ماكان مابعض..!!
+
انتهى الاتصال...
+
وجميلة اختلطت شفافية دموعها بابتسامتها..
+
إحساس خيالي بالحرية والانطلاق والرحابة.. تشعر به..
2
لا تعلم.. لو لم يهاتفها خليفة كيف كانت ستبقى على عمى بصيرتها..
+
وكأن الأمرين يجتمعان ليزيلا الغمة من أمامها...
+
سفر فهد.. واتصال خليفة...
+
فلو أن خليفة اتصل وفهد كان موجود لا تعلم كيف كان من الممكن أن تكون النتائج..
+
ولو أن فهدا سافر.. وخليفة لم يتصل.. لربما بقي إحساسها بخليفة يكدر علاقتها بفهد..
+
فهل لابد لنا من هزة لتفيقنا من الغيبوبة؟؟!!
+
جميلة تنهدت من أفكارها وهي تمسح دموعها وتتنهد بعمق.. تتنفس أنفاسا مثقلة بعبق حرية مختلف تماما..
+
لتعود وتتذكر المهمة المعلقة..
+
فـــــــــهـــــــد..!!
+
تشعر الآن أنها ستجن من إحساس لذيذ اســمــه (الـغـيـرة )!!
+
وكل شيء يبدو واضحا أمامها لدرجة صفاء الصورة المذهل..
+
قلبها يُعتصر.. يعتصر من كل شيء!!
+
وأكثر شيء يعتصر قلبها.. اشتياقها له..
+
مشتاقة له كأنه غائب من عامين وليس من يومين... وكأنها باشتياقها له تريد أن تعوضه عن برودها معه لليالي متطاولة!!!!
+
جمعت كل شجاعتها.. واتصلت..
+
حينها كان فهد يتعشى مع مجموعة من زملائه في مطعم..
+
حين رأى اسمها يضيء الشاشة.. كادت الملعقة تسقط من يده..
+
وهو يضع الهاتف على الصامت.. وينتظر قليلا ليتماسك!!
+
بينما هي اتصلت عدة مرات ولم يرد عليها..
+
كادت تجن وهي تحاول دون رد عليها..
+
هو ماعاد قادرا على أن يتناول لقمة واحدة .. ثم استأذن وخرج للشارع ليكلم بحريته..
+
" غريبة.. وش عندها متصلة؟؟
+
لا تكون غلطانة الأخت بس!! "
+
حالما وصلها اتصال منه..
+
تصاعدت دقات قلبها بعنف..
+
إحساس جديد آخر تختبره لأول مرة!!
+
هذه اللهفة... والأنفاس المبهورة.. والدقات المتصاعدة!!
+
فتحت الهاتف لتجيب فورا بحزم مقصود يخفي اختلاج أنفاسها: يعني تلفونك معك؟؟ ماخذوه منك؟؟
+
أجابها ببساطة أقرب للسخرية: هذا أنتي يوم فكرتي تتصلين لقيتيه معي..
+
جميلة بغضب: وليش قلت لي إنهم بيأخذونه..
+
وش عندك ما تبيني أعرفه؟؟
+
فهد يشعر باستغراب حقيقي (وش عندها ذي): نعم؟؟ وش عندي يعني؟؟
+
جميلة بذات النبرة المشتعلة: أنت أدرى؟؟
+
ثم أردفت بإصرارها المشتعل:وينك الحين ووش تسوي؟؟
+
أجابها ببساطة: في مطعم.. أتعشى..
+
سألته بحدة: ومن اللي معك؟؟
+
نهرها بحزم: نعم؟؟ تسألين من معي؟؟
+
مالش شغل...
+
جميلة انفجرت: الرجال اللي يكذب على مرته كذا..
+
يكون عنده شيء داسه.. كنه سواد وجهه!!
1
فهد صرخ فيها بغضب: أص ولا كلمة... إني ولد إبي.. أنا تقولين لي كذا؟؟
+
زين ياجميلة دواش عندي لا رجعت..
+
حينها انفجرت تبكي بهستيرية: زين ارجع.. ارجع وسوي فيني اللي تبيه بس ارجع.. ارجع الحين..
2
فهد لم يفهم نبرة الوجع والاشتياق في صوتها!!
+
أو ربما لم يصدقها !!.. أو لم يستوعبها..!!
+
فكل مافهمه أنها تتحداه.. وكأنها تقول (كن فيك خير ارجع وسو اللي تبي)
+
هتف بغضب حقيقي: كلها كم يوم وأرجع.. وأقص لسانش اللي يبي له قص!!
+
أغلق هو الهاتف في وجهها..
+
وألقت هي هاتفها جوارها وهي مستمرة في النحيب.. بلا توقف..
+
بلا توقف!!!
2
*************************************
+
" ها وضحى أوديش لبيتش..
+
وإلا تروحين معي لبيتنا وتكملين السهرة معنا لين يجيش نايف"
+
وضحى تشير بمودة: أبي بيتي فديتك.. الساعة صارت 11..و نايف معزوم على العشاء عند رياجيل..
+
وأكيد على وصول!!
+
أبي أكون قبله في البيت...
+
وضحى نزلت لتتفاجأ بوجود نايف ومعه شقيقتيه نورة وسلطانة..
+
سلمت عليهم.. ثم جلست جوار نايف وهي تهمس في أذنه بمودة:
+
ليش ماقلت لي إنهم هنا.. كان رجعت بدري..
+
نايف همس بمودة باسمة: هم اهجموا علي وأنا كنت بأروح للعشاء..
+
قلت دام طلعتي خربتي ليش أخرب طلعتش..
+
تونا تعشينا.. وهذا أنا معهم .. وش يبون بعد؟؟
+
ولكن لم يكن رأيه كرأيهن.. إذ همست نورة بنبرة أقرب للغضب:
+
والله يأمش ماخبرت المرة تلوب بين البيوت ورجالها قاعد يحرس البيت..
+
(تلوب= تدور بالمعنى السلبي
+
لوبة= اسم لمن لا تقر في بيتها)
+
وضحى تنهدت بعمق وهي تشد لها نفسا عميقا وتحاول أن تتحامل على نفسها:
+
أنا طلعت مع أخي ومرته.. ونايف كان بيطلع وراي.. لأنه معزوم على عشا..
+
لو دريت انكم بتجون ماكان رحت..
+
حينها سألت سلطانة بفضول: مرت أخيش ماحملت..؟؟
+
وضحى شدت نفسا آخر: لا.. الله يجيب خير من عنده..
+
حينها هتفت نورة بمباشرتها القاسية: الظاهر أخوانش كلهم عندهم مشاكل..
+
كاسرة ماحملت إلا عقب سنة..
+
وذا تميم كملت مرته سنة ونص ماحملت..
+
وأنتي قدش بتكملين ست شهور..
2
وضحى ابتلعت عبرتها بالفعل.. قد يكون موضوع الحمل لا يشغلها حاليا لا هي ولا نايف.. فما زال الوقت مبكرا..
+
لكن هذا التجريح الجامع جرحها بالفعل..
+
والأسوأ أنها كانت تنتظر من نايف تحركا ما..
+
لم تكن تريد أن ترد عليهم في وجوده.. قررت أن تصمت حتى ترى ردة فعله..
+
وهو لم ينطق بحرف.. ووقت الرد فات..
5
وخصوصا أن نورة عاودت الاستئناف بذات المباشرة الحادة:
+
اللي أنا مستغربته بنت آل ليث اللي كنها زبدة وش مصبرها على أخيش..؟؟
+
أطرم ولا فيه عيال...
3
حينها انفجرت وضحى فعلا وهي تقفز واقفة وترتعش: لا.. لين هنا وبس..
+
حتى أخي.. لحقتوه بالحكي..
+
انتهينا..
+
أنا طالعة من ذا البيت اللي رجالي ماعرف يحشمني فيه..
2
من يوم خذته وأنا حاشمتكم من حشمتي له.. وأنتو ما حشتموني عشانه..
+
وليش تحشموني وهو أساسا ماحشمني!!
+
وخلا كل وحدة منكم تمد لسانها علي وش طوله!!
+
نايف أخيرا نطق بتمزق: وضحى عيب عليش..
6
وضحى انفجرت بغضب أشد: الحين طلع لك لسان.. الحين حكيت..
+
اشبع بخواتك وخلهم يشبعون فيك..
+
أنت أساسا ماتبي لك مرة.. تبي لك بقرة..
+
تأكل علف وتهز رأسها وهي ساكتة..
+
أنا خلصت من ذا الدور... شبعت من دور البقرة..
+
دور لك بقرة غيري..
+
سلطانة بذهول توجه الحوار لشقيقها: أنت بتسكت وهي تسبك كذا..؟؟
2
وضحى ماعادت تسمح لأحد أن يتكلم وهي متفجرة تماما:
+
وش تبين بعد؟؟
+
يضربني قدامكم عشان ترتاحون؟؟
+
قلت لش أنا طالعة.. باخلي لكم الجمل بما حمل..
+
اشبعوا في أخيكم.. لأنه أنا مالي رجّال في ذا البيت..
+
الرجال هو اللي نزلني هنا.. وراح..
+
والحين بيرجع يأخذني..
+
وضحى أنهت عبارتها وخرجت فعلا وهي ترسل رسالة لتميم أن يعود ليأخذها فورا بدون تأخير..
+
لأنها ستنتظره في الشارع..
+
نايف للتو يفوق من الغيبوبة.. كان يريد الركض خلفها...
3
لولا أن نورة حلفت بصرامة: والله لا تطلع وراها إني ماعاد أرفع برقعي لك..(يعني أهجرك من السلام)..
+
وأن لساني ما عاد يخاطب لسانك..
+
خل بنت مزنة.. خلها...
+
مثل ماطلعت بروحها.. بترجع بروحها وهي ماتشوف الدرب!!!
+
نايف ينظر نحو الباب بتمزق حقيقي: نورة الله يهداش.. عيب في حقي أخلي مرتي تطلع ذا الحزة من بيتها..
2
بأوصلها بيت أهلها بس..
+
استغفري يأخيش.. طالبش..
+
نورة بصرامة أشد: أنا حلفت خلاص..
+
وكنك فجرتني؟؟.. والله ماعاد أعرفك.. لا أنت أخي ولا أعرفك..
1
واشبع حزتها ببنت مزنة!!
5
**************************************
+
هاهما وصلا مكانها الجديد منذ بعض الوقت..
+
وهي جلست على المقعد.. بينما مازال هو واقفا..
+
هتف زايد بحزم: منتي بمبدلة ملابسش؟؟
+
مزنة بحرج: زايد الله يهداك.. إذا طلعت بدلت..
+
زايد بإصرار: باقعد هنا لين تنامين..
+
عاجز عن الاقتراب.. لكنه أيضا عاجز عن الابتعاد.. يريد أن يرى وجهها..
+
كيف أثرت فيه علائم البعد؟؟
+
هل حفرت فيه علائم الشوق كوجهه؟؟
+
يريد أن يشعر برائحتها قريبة.. يراها خارج إطارها الرسمي الذي تسربلت به طوال الأشهر الماضية..
+
تتنهد هـــي بيأس وهي تراه قريبا هكذا..
+
وحيدان.. وكل ماحولها يضغط عليها لتتقبل قربه الذي يعرضه..
+
ولكنها تخشى أن تقبل هذا القرب.. فيعود هو لدوامة الذنب التي تعلم أنها تخنق روحه الطاهرة..
+
سيعذب نفسه ويعذبها..
+
وعذابها لا يهمها.. فقد اعتادت الألم.. ولكنها لن تحتمل رؤية ألمه مرة أخرى..
+
وهو يرجوها أن تتركه لأنه يتعذب في قربها...
+
زايد تنهد بصرامة: مزنة لا تصيرين عنيدة كذا..
+
أبي أتاكد إنش تمددتي قبل أروح..
+
وإنش ماتبين شيء..
+
عاجبش حالتش؟؟
+
كانت مزنة على وشك الرد.. لولا الاتصال الذي وردها!!
+
********************************************
+
" كاسرة.. تعالي بس..
+
حن جايين هنا عشان تقعدين في المطبخ؟؟"
+
كاسرة بمودة: بأسوي لك عشا بس..
+
كساب بمودة أعمق: العشا تلاقين الطباخ سواه أساسا..
+
وأنا ما أبي عشا..
+
شوفتش قدامي مثل الحلى اللي عقب العشا..
+
خبرتي حد يتعشا عقب ما يأكل الحلى ؟!!
+
ابتسمت برقة: لا ماخبرت.. مثل إني ماخبرت إنه حد يشبع من كلام..
+
ومع كذا أنا شبعت مع أني كنت جوعانة..
+
ابتسم كساب وهو يشدها لتجلس جواره: بنتعشى بس بعد شوي
+
لو مهوب عشاننا... عشان ولدنا مايموت من الجوع..
+
ثم أردف باهتمام: إلا أنتي ماقلتي لي.. عجبتش المزرعة عقب التغييرات اللي سويتها فيها؟؟
+
كاسرة احتضنت عضده برقة وهي تهمس بعفوية حانية: تجنن والله..
+
أصلا أنت كل اللي تسويه يجنن..
+
ليتك بس تدري وش كثر..................
+
بترت عبارتها شعرت لثقل ما ستقول أنها عاجزة عن إخراجه كما تشعر به..
+
بينما هو شعر لحظتها كما لو أن دقات قلبه توقفت انتظارا لما ستقوله..
+
أنفاسه أصبحت ثقيلة لأبعد حد وهو يهمس بهذا الثقل كما لو أن خروج الكلمات يمزق حنجرته: وش كثر ويش؟؟ ليه سكتي؟؟
+
همست بإبتسامة تخفي خلفها أنفاسها اللاهثة المتقطعة: وش كثر خاطري أسمع منك سالفة دخلتك السجن واللي صار عقبها؟؟
+
كساب بإصرار موجوع ( أحقا كانت ستقولها؟!!) : لا ماكانت كذا.. أنا متأكد..
+
همست كاسرة بابتسامة عذبة مثقلة بالولع: إذا قلت لي السالفة.. كملت لك العبارة اللي أنت صرت عارف تاليها..
+
حينها ابتسم كساب بأمل شفاف: وعد.. اسمع الجملة كاملة.. لو قلت لش السالفة كاملة..
+
بس تجمدين لي قلبش..
+
ابتسمت بحماس: قلبي حديد وجامد.. والجملة تبيها مقدم قلناها..
+
شد كفها بولع حقيقي: خليها في الآخر عشان الكلام يجر كلام أكبر!!
+
وخلينا في سالفتي أخلص منها ومن همها..
+
وعشان تفهمينها عدل.. لازم نرجع بالزمن ورا خمس سنين ونص بالضبط...
+
تراجعت نبرته لتتحول لشيء غامض.. خليط من وجع ومرارة وذكريات قاسية:
+
نرجع لأيام ماخلصت مزون الثانوية...
+
أذكر زين تيك الأيام..
+
ماكنت أنام .. سهران معها وهي تدرس.. حفظت دروسها من كثر ماكنت أسمع لها..
1
خليت شغلي وكنت أقعد على باب المدرسة من يوم أوصلها لين تطلع علي..
+
عشان أشيك معها على إجاباتها..
+
كنت حاس كأني اللي أمتحن.. من كثر ماكنت أحاتيها..
+
وعقب ماخلصت... حسيت الأيام ماتمشي وأنا أنتظر نتيجتها..
+
يوم طلعت نتيجتها فرحت فيها أكثر من فرحتي أنا يوم خلصت ثانوية وجامعة ألف مرة..
+
أسألها وين تبين تدخلين؟؟ تقول لي طيران.. حسبتها تمزح.. بس هي صممت وإبي قوى رأسها..
+
حاولت فيها بكل طريقة.. حتى قلت لها بأروح معها أي مكان في العالم عشان تدرس شيء ثاني..
+
كنت مستعد أوقف حياتي كلها عشانها.. وهي ماهان عليها ترد على رجاي أنا وعلي!!
+
مع إن ذا السالفة انتهت.. بس حتى تذكرها يوجعني.. ما تخيلين وش كثر ترجيتها.. ماباقي إلا أبكي قدامها..
+
وهي مارحمتني.. ما تخيلت إن مزون اللي أغلى علي من روحي ممكن تسوي فيني كذا..
+
مزون ماكانت أختي.. كانت بنتي.. من يوم دخلت صف أول ماكان حد يدرسها غيري..
+
كنت أعرف أسماء مدرساتها وصديقاتها وكل شيئ يخصها مهما كان صغير!!
+
كسرتني هي وإبي كسرة شينة.. شينة..!!
+
صرت حتى قعدة المجالس أتجنبها.. أظن الكل يتكلم عنا.. وعن أختي اللي دخلت طيران!!
+
وعقبه تجنبت الكل.. دخلت نادي رفع أثقال.. كنت أقعد فيه من الصبح لين الليل.. ما أطلع إلا للمسجد..
+
أبي شيء أفرغ فيه حرتي وابردها.. وحرتي عيت تبرد.. عيت تبرد..
+
عقبه قررت أهج برا الدوحة.. سجلت ماجستير ادارة أعمال في أمريكا..
+
كنت أبي شيء يشغلني عن التفكير والقهر.. لا أستخف..
+
دراسة الماجستير كانت سهلة علي واجد.. دوام صبح قصير ومقررات سهلة..
+
كنت أبي شيء يشغلني أكثر..
+
فدخلت هناك نادي رياضي..
+
كنت أقعد فيه من يوم أطلع من الجامعة الظهر تقريبا.. وما أطلع منه لين يسكرونه..
+
كانت طاقة القهر تخليني ما أكل ولا أمل.. خلال 3 شهور بنيت عضلات يبي له الواحد سنة عشان يبنيها..
+
كان فيه واحد يتدرب معي.. ويراقبني بدقة... والأكيد طبعا إنه سوى تحريات عني..
+
في يوم قرب مني.. قال لي النادي ذا ما يناسبك.. قدراتك تفوقه بواجد..
1
أدلك على مكان أحسن هو اللي بتقدر تفرغ فيه طاقتك..
+
سألته وين مكانه؟؟
+
قال لي أنا بأوديك.. بس تراه مكان غالي واجد.. مهوب الكل يقدر على قيمته...
+
وفعلا وداني مكان.. تخيلي يتبع من؟؟
+
الجيش الأمريكي... طبعا هو غير مصرح إنه يتبع الجيش الأمريكي..
+
بس أي غبي بيفهم إنه التقنيات والامكانيات ذي لهم...
+
مكان تتدرب فيه وممكن تأخذ شهادة مدرب جيش لو قدرت توصل لين الأخير...
+
بس أنا لأني ماني بعسكري الشهادة ذي ماتفيدني!!
+
بس أنا حسيت بالإغراء والمغامرة... مكان مثل ذا هو اللي بيشغلني فعلا..
+
تدرين إن الجيش الأمريكي هو اللي مدرب المرتزقة والإرهابيين المنتشرين في العالم..
1
أي حد يشوفون عنده إمكانيات.. يجيبونه عشان يتدرب.. ويصير له ملف عندهم..
+
ويأخذون منه مبلغ مهول فعلا...
+
المهم تدربت عندهم أربع شهور لين خلصت الماستر اللي كان كله سبع شهور..
+
كنت أروح عندهم من عقب الجامعة لين الفجر..
+
أتدرب 14 ساعة متواصلة... فخلصت في فترة قياسية كل متطلبات البرنامج..
+
ما تتخيلين أيش اللي سووه فينا في ذا التدريب..؟؟
+
كان معاي عيال ناس أغنياء جابتهم هنا البطرة والرغبة في المغامرة..
+
شفتهم قدامي يبكون مثل البزران..
+
وفيه اللي شفته يطيح من فوق الجبال ويتقطع..
+
وفيه اللي مايعرف يفتح المظلة ويتكسر..
+
وطبعا كل واحد منا موقع إنه المسئول الوحيد عن نفسه!!
+
بس كله يهون يهون.. قدام اللي شفته عقب..
+
كاسرة بدأت دقات قلبها تتصاعد بعنف وريقها يجف أكثر وأكثر وهي تسأل بتوتر:
+
وش اللي صار عقب..؟؟
+
هتف بسكون موجع والذكريات تستغرقه للبعيد: قالوا اللي يبي شهادة مدرب جيش معتمدة من الطراز الأول..
+
يسوي الاختبار الأخير..
+
والاختبار إنه يدخل أخطر سجن في أمريكا لمدة ست شهور.. لو قدر يهرب من السجن قبل الست شهور.. يأخذ الشهادة..
+
ولو استحمل الست شهور بدون ما يستخف أو يصير له شيء هناك..
+
هم بيطلعونه ويعطونه شهادته العادية!!
+
زفر بحرقة ومرارة: أغبى قرار اتخذته في حياته..
+
وافقت أدخل.. حسبتها مغامرة ماراح تتكرر..
+
وقلت لأبي إني بأطلع تخييم فوق الجبال ويمكن أطول شهور وما أقدر أتصل!!
+
من أول مادخلت وشفتهم جايين بيحطون لي الوسم.. صحت..
+
(خلاص ما أبي.. طلعوني.. أنا ماني ببهيمة تحطون علي رقم..)
+
لكن ماحد عبرني..
+
كل يوم كنت أصيح طلعوني أنا ماني بمسجون.. وخلاص ما ابي..
+
مهوب لأني خايف من السجن..
+
لكن لأني ماني بقادر أستحمل اللي أسمعه..
+
تخيلي المسجون اللي معي في غرفتي يتفاخر إنه اغتصب 20 طفل وذبحهم..
+
ما استحملت.. ما استحملت...ضربته لحد ماكسرت وجهه..
+
ولا حد حاسبني..
+
يبونا نصير وحوش صدق..
+
لولا الصلاة وإلا كان استخفيت..
+
وتخيلي الله يسامحني إني كنت أصلي ووجهي أحيانا مهوب صوب القبلة لأني كنت أصلي في الزاوية
+
ظهري لطوفة وجنبي لطوفة..
+
عشان ماحد يباغتني من وراي..
+
ولو كان معي حد في الغرفة سجدت وركعت بعيوني بس..
+
لأني عارف إنهم ينتظرون مني لحظة غفلة وحدة..
+
ناس الإجرام صار يمشي في دمهم.. يذبحون لمجرد المتعة!!
+
وتخافين على نفسش من اللي أبشع من الذبح.. وأنتي فاهمتني..
2
كنت قاعد في ذاك السجن عيوني في قمة رأسي..
+
أرقد عين مفتوحة وعين مسكرة.. عشان كذا لحد الحين ماقدرت أتجاوز ذا المرحلة.. نومي ما أرتاح فيه..
+
واللي بيحركني وأنا نايم ممكن أكسر يده..
+
و ياكثر اللي تهاديت معهم في السجن.. واللي كسرتهم.. ومافيه محاسب..
1
لحد ماصاروا المساجين يتجنبوني ..
1
كنت طول اليوم أتدرب.. وأدور في السجن.. أحاول أدرس المخارج والمداخل..
+
وأدرس مناوبات الحراسة..
+
وأصنع لي أدوات وأدسها.. وأنا على ذا الحال خمس شهور..
+
لحد ماعرفت الطريقة اللي ممكن أهرب فيها..
+
استغليت فترة تغيير المناوبات وقت ماكان المساجين راقدين..
+
وهربت مع فتحة تهوية كانت تطلع على جبل..
1
تقطعت إيدي وأرجيلي وأنا أنزل الجبل بدون معدات..
+
كساب لم ينتبه إلى أن كاسرة بدأت دموعها تسيل بغزارة لشدة انشغاله بحكايته وهو يتنهد:
+
حسيت إني ورطت نفسي في سالفة كبيرة..
+
طلعت من السجن للسفارة... وبلغتهم كل شيء بالتفصيل.. حسيت إني لو ماسويت كذا..
+
يمكن أجي أرجع للدوحة ألقى اسمي على البلاك لست..
+
لقيت السفارة أصلا مشغولة تدور لي.. لأن إبي جنن الخارجية في الدوحة..
+
والخارجية جننوا السفارة..
+
السفارة كانوا يبون يتأكدون من اللي انا قلته..
+
لكن قبل ما يتحركون أي حركة..
+
كانت وزارة الداخلية والدفاع والأف بي أي كلها تتصل تسأل عني..
+
وأنهم مهتمين يبون يعرفون أشلون هربت بالتفصيل..
1
أنا بداية.. رفضت أقول لهم.. من القهر اللي في قلبي عليهم..
+
بس السفارة طلبوا مني أعطيهم المخطط كامل..
+
لأنه السجن ذا فيه أخطر مساجين ولو حد منهم تبع طريقي وهرب بتكون مشكلة كبيرة..
+
عطيتهم المخطط وعطوني الشهادة اللي ماكرهت شيء كثرها..
+
رجعت للدوحة..
+
و ماخلوني أرجع لهلي على طول..
+
قعدت في التحقيقات أسبوعين وهم يتأكدون من كل شيء قلته..
+
وعقبها عرضوا علي أني أسوي مهام للدولة..
+
ولأني ماني بعسكري كنت أسويها بشكل سري..
+
وكنت مخلي لهم تلفون خاص بهم.. ما أسكره لا ليل ولا نهار ولا أخلي حد يقرب منه.. عشان التواصل بيننا عن طريقه..
+
دربت في الجيش.. وسويت مهام انقاذ.. وخذت دورات في كل شيء يطري على بالش.. وسويت الدورات هذي هنا..
+
وشاركت في الكوارث اللي كان تروح لها وفود قطرية..
+
شفت خلال أربع سنين اللي ماشافه حد..
+
عرفت معنى الموت والحسرة والخسارة.. شفت الناس قدامي يموتون وما أقدر أسوي شيء..
+
شفت اللي تحدهم الكوارث يأكلون لحم الميتين عشان يعيشون..
+
أشياء عمرش ماراح تقرين عنها في كتاب أو تشوفينها في تلفزيون..
+
شفت أشلون قسوة الحياة والإنسان تحول الإنسان لوحش مايرحم...............
+
كان مازال سيتكلم لولا سماعه للشهقات المتصاعدة: بس كساب بس..
+
كان وجهها غارقا في الدموع.. وهو لم ينتبه لنفسه كيف استغرق في الحديث وهو يحرر ذاته أخيرا من كل ثقلها...
+
يشعر أمامها ومعها بالحرية من كل شيء!!
+
استدار نحوها بجزع وهو يهتف بتهدئة: خلاص كاسرة خلاص.. أنا آسف يا بنت الحلال.. آسف
+
كانت تشهق بعنف ودموعها لا تتوقف عن السيلان وهي تتخيل بشاعة كل مامر به..
+
تتخيل بشاعة الحياة وقسوتها التي حُكم بها عليه.
+
كانت تمسك ببطنها بقوة: كساب.. باولد.. بأولد!!
+
كساب قفز برعب وقلبه يقفز لحنجرته: أشلون تولدين وأنتي في السابع..
+
يتهيأ لش..
+
غلطانة أكيد..
+
كاسرة بدأت تنتحب بعنف.. فالألام بدأت تداهمها منذ بداية الحكاية قبل أكثر من ساعتين..
+
منذ شعرت بتأثره بما فعلته به مزون.. وكأنه لشدة تأثرها تأثر جسدها كله معها:
1
والله العظيم باولد.. بأولد..
+
أبي أمي.. تكفى كلم أمي..
+
كساب قفز ليحضر عباءتها وهو يسب نفسه بأقسى العبارات..
+
يلفها بعباءتها ليحملها وهو يهتف بجزع حقيقي:
+
الحين بأكلمها تجينا في المستشفى.. الحين.. هدي.. هدي..
+
كان يهدئها وهو غير قادر على أن يهدأ..
+
ركض بها نحو سيارته.. وهو يتصل بعمته.. ويخبرها..
+
مزنة صرخت برعب: أشلون تولد وهي في السابع.. تو الناس.. يمكن إنها مهيب فاهمة.. وش عرفها هي في الولادة!!
+
عطني إياها..
+
كساب أعطى كاسرة الهاتف وهو يقود بأقصى سرعته...
+
كانت كاسرة تبكي ووالدتها تحاول تهدئتها: يمه بأموت.. بأموت..
+
ماني بخايفة على نفسي.. خايفة على ولدي!!!
+
كساب حين سمعها تقول ذلك شعر أنه هو من سيموت فعلا... وهو يزيد سرعة سيارته بطريقة جنونية..
+
ومزنة تهدئها بيأس: يأمش اذكري ربش.. وخذي نفس... وش حاسة فيه؟؟
+
كاسرة تشهق: ما أدري يمه.. ما أدري.. بطني يتقطع من الوجع.. نفس آلام الدورة بس أقوى..
+
والحين أحس الكرسي تحتي غرق ماي...
+
مزنة قفزت من مكانها وهي تهتف برعب: عطيني كساب..
+
كساب تناول الهاتف برعب ومزنة تصرخ في أذنه برعبها: لا تخليها تمشي حتى خطوة وحدة..
+
أنا الحين باتصل في المستشفى يجهزون سرير النقل عند الباب..
+
الماي نزل عليها وخطر عليها وعلى الجنين..
+
أنا أنتظركم عند باب المستشفى... لا تتأخرون طالبتك يأمك..
+
كساب ألقى هاتفه خلفه بعنف.. وهو يبحث عن كفها بلهفة ليشد عليها..
+
كما لو أن حياته تتوقف على أطراف هذا الأنامل..
+
هتف باختناق: هدي.. كاسرة.. هدي.. بسم الله عليش..
+
ماعليش إلا العافية.. دقايق ونكون في المستشفى..
+
كان يشعر أنه سيبكي من القهر..
+
قد يكون شعر بالكثير من القهر طوال حياته..
+
ولكن لا شيء يشبه هذا القهر..!!
+
فحياة زوجته وابنه على المحك ولا يستطيع أن يفعل شيئا.. يتمنى لو كان يستطيع أن يطير..
+
فالطريق طويلة.. وحتى لو قاد بأقصى سرعة لن يصل قبل 40 دقيقة..
+
كانت تعتصر أنامله بقوة وهي تشهق: بأموت ياكساب..
+
باموت..وأنا ماشفت ولدي..
+
كساب يصر على أسنانه حتى شعر بالألم فيهما: استهدي بالله.. وش ذا الكلام..
+
أنتي والولد ماعليكم شر.. وش كثر نسوان ولدوا في السابع وعيالهم طبيعين ومافيهم شيء..
+
تحاول أن تتماسك وهي تشد لها نفسا عميقا وتزفر بقوة.. وهي تهمس من بين صرير أسنانها:
+
كساب لو صار لي شيء.. امنتك بالله.. أمي هي اللي تربي ولدي تحت عينك..
+
كساب يشعر أن روحه تذوي وتتأكل كشمعة أحرقها اللهيب.. وهو يهتف بصرامة موجوعة:
+
ولدنا أنا وأنتي بنربيه.. وما أبي أسمع ذا الكلام!! فاهمة!!
+
الطريق طويل.. طويل...
+
لا يريد أن ينتهي...
+
وهو يشد على كفها بقوة كما لو أنها المرة الاخيرة التي يمسكها فيها..
+
يُكثر من الدعاء.. والرجاء.. وهو يسمع شهقاتها التي باتت تكتمها...
+
والتي تخترق روحه بوجعها..
+
تشد أنفاسها وتزفرها بقوة..
+
بودها لو تقول له الكثير من الكلام..الذي لم تمنحها الحياة الفرصة لقوله..
+
ولكن هل للكلمات معنى الآن؟؟
+
كلماتها لن تفعل شيئا إلا أن تؤلمه.. وتعلم أنه الآن يتألم بما يكفي!!
+
لكنها لابد أن تقول شيئا يريحه.. حتى لا يشعر مطلقا بأي ذنب قد يؤرق حياته فيما بعد..
+
همست بسكون استغربه.. بينما كانت دموعها تسيل بصمت وهي تحاول أن تتناسى آلامها التي تمزقها:
+
كساب أنا عمري ماندمت على دقيقة عشتها معك..
4
أنا ندمانة على الدقايق اللي ماعشتها معك!!
+
ولو رجع فيني الزمن ألف مرة.. كل مرة باختارك.. وأختار الحياة معك..
+
كساب قفز قلبه لحنجرته وهو يهمس بصوت مبحوح ممزق: وش لازمة ذا الكلام الغريب؟؟
+
شدت أنامله أكثر وهي تمسكها بيديها الاثنتين وتعتصرها كما يعتصرها الألم:
+
ماله لازمة على قولتك بس أنا حبيت أقوله لك..
+
كان يريد أن يقول هو شيئا ولكن مايريد قوله يحتاج سنوات وسنوات ليخبرها به..
+
لن تكفيه الثوان المتبقية وهو يدخل لداخل بوابة المستشفى..
+
ويرى والده ومزنة يقفان فعلا هناك.. وبجوارهما طاقم الإسعاف..
+
أوقف سيارته بشكل عرضي وعجلات السيارة تصر بصوت مسموع..
+
قفز بسرعة ليحملها هو.. وهو ينتزع غطاء سرير النقل الذي أسرعوا به نحو السيارة.. ويلفها به..
+
لم يرد أن يحملها سواه..
+
تعلقت بعنقه بضعف وشهقاتها تصبح أكثر ضعفا..
+
كاد يجن وهو وهو يرى مقعد السيارة مبقعا بالدم..
+
كان يتلوى من الأنين و يشعر أن أحشائه تتقطع من الألم..
+
وهو ينزلها على السرير..
+
و تهمس هـــي بضعف شديد في أذنه في (لحظة التماس الأخيرة) بينهما:
+
أحـــــــبــــــك..
9
كان يريد أن يصرخ لها ( وأنا أكثر) !!
+
لكن طاقم الإسعاف سحبوها منه بسرعة وهو يركضون بها للداخل..
+
ومزنة وزايد يركضان خلفهم..
+
بينما هو وقف لثوان عاجزا عن السيطرة على ارتعاشات جسده.. وأنفاسه المزفورة بحرقة..
+
ليشد نفسه ويدخل راكضا هو أيضا..
+
ويجد والده فقط.. هتف بهمسات مبتورة: وينها؟؟ وينها؟؟
+
والده يربت على كتفه بمؤازرة حانية: دخلوها داخل..
+
لا تحاتي.. أمها معها..
+
ووش كثر بزران يجون في السابع.. وهم وأماتهم بخير وسلامة..
+
صمت.. ابتلعه الصمت في بئر لا قرار لها..
+
وهو يتأخر ليلتصق بالحائط..
+
لا يريد كلمات مؤازرة باردة..
+
لا يريد أن يهدئه أحد..
+
يريدها هي فقط أن تخرج له سليمة..!!
+
لا يريد أن يقول له أحد ( لا تقلق )..
+
لأن ما يشعر به ليس مجرد قلق.. بل روحه تتمزق يأسا ورعبا ووجعا..
+
شيء في داخله ينبئه أن هذا الوجع الذي يمزق كل مافيه..هو وجع أعمق من مجرد انتظار ساعات..
+
وجع سنوات .. أو قرون..
+
قـــــــرون !! قــــــرون!!
+
فهذا الوجع لا حد له.. لا حد له!!
+
شرّح روحه تشريحا!!
+
عبر كل خلية في جسده بمناجله آلاف المرات...
+
يشعر أنه عاجز عن التنفس .. وهو يسند جبينه للحائط..
+
لم ينتبه حتى أنه لا غترة فوق رأسه.. وهو يهرع بكاسرة للمستشفى بثوبه الذي عليه!!
+
والده يقترب منه ويهتف له برفق:
+
كساب يا أبيك روح البيت.. اسبح وبدل ثيابك..
+
هذا أنا موجود عندهم..
+
والنسوان يبطون في الولادة..
+
لم يرد على والده حتى.. فالصمت ابتلع روحه في سوداويته..
+
يستحيل أن يبتعد عن المكان وهو مازال لم يطمئن عليها..
+
روحـــه هنا..
+
فمن يستطيع أن يبتعد عن روحه؟؟
+
الوقت يمضي بطيئا.. بطيئا.. بطيئا..!!!
+
ساعتان فقط..
+
ساعتان روحه تناجي روحها بيأس..
+
وأنفاسه تضيق وتضيق.. وتضيق!!!
+
يريد أن يمزق رئتيه عله يستطيع التنفس.. فلا يستطيع...
+
أن يفتح صدره وأضلاعه ليجلب نسمة هواء واحدة.. فلا يستطيع!!
+
حتى خرجت الطبيبة وجهها مسود كسواد اللحظات التي يمر بها وهي تسأل بتأثر:
+
وين زوج كاسرة ناصر؟؟
+
كساب استدار نحوها بعنف حاد.. لم يقل شيئا وهو يقترب منها.. ووالده خلفه..
+
وهي لم تحتج أن يخبرها من هو...
+
فوجهه أنبأها..!!
+
والوجع في عينيه أنبأها..!!
+
ورعشة شفتيه أنبأتها..!!
+
وهي تهمس بذات التأثر: أنا ما أعرف شنو أقول لك..
+
بس والله العظيم حاولنا جهدنا ننقذها..
+
بس أنتو وصلتوا متأخرين كثير..!!
8
#أنفاس_قطر#
+
