رواية ملاذ قلبي سكن الفصل السابع والخمسون 57 بقلم عائشة حسين
يقول ابن القيم : من أراد إنشراح الصدر ، وغُفران الذنب ، وتفريج الكرب ، وذهاب الهَم فليُكثر من الصلاة على النبي ﷺ
********
استقبله حسان بمودة حقيقية وبشاشة معهودة متأصلة ومتجذرة في ملامحه المريحة «يا مُرحب بالشيخ»
جلس سليم لاهثًا، يخبره بابتسامة واسعة وفرحة تغمر قلبه وملامحه «فينك يا عم بدور عليك»
ابتسم حسان بحنان تدفق من نظراته وهو يلملم بهجة سليم في قلبه «موجود يا ولدي»
هتف سليم ببراءة وعفوية ومازالت الابتسامة تحتضن ملامحه «وحشني الكلام معاك ياعم»
أطال حسان النظر إليه بصمت وابتسامة حنون متذكرًا ابنته وعفويتها، اشتاقها كثيرًا لم يعد يأتيه خبرًا عنها؟ الكل انشغل بحاله وانشغل هو بمكيدته لرفعت «ميوحشكش عزيز ولا غالي يا ولدي»
تأمله سليم بنظرات متوهجة قبل أن يصارحه بما في قلبه «بتفكرني بأبوي يا عم معيزكاش تغيب»
خطّ حسان بعصاه على الأرض الترابية قائلًا بتنهيدة «اللجا نصيب والفراق نصيب»شرد حسان قليلًا يأخذ حقه من الأنفاس بطمع قبل أن يهمس بأمنيته «لو ينفع اتمنى كنت اتمنيت واد كيفك يا سليم ولو ينفع أحلم كنت هحلم ببذرة صالحة زيك »
هتف سليم بتأثر وكلمات حسان تترك صدىً بقلبه غير محمود «ليه متمنتش وحججت يا عم؟»
ابتسم حسان وهو ينظر له بمودة ودفء مراوغًا إجابته «هتحجج أنت يا ولدي»
تنهد سليم من عمق روحه قبل أن يحكي له بفرحة طفولية،يتحدث بحماس ويضحك بإرتباك «جالي جدها النهاردة يا عم وجريت الفاتحة معاه، مش عارف كيف حصل ولا إزاي»
خفت حماسة وقال بحزن ينتظر رأي حسان « من ورا أبوها يا عم ومن ورا أمي» طمأنه حسان محتويًا انزعاجه وخوفه وقلقه «أمك هتشوفك فرحان وتفرح اطمن وأبوها مين أبوها يا ولدي؟»
زفر سليم بيأس وهو يخبره «رفعت عامر أبو سعد تعرفه؟»
ابتسم حسان قائلًا وهو يضع إبريق الشاي فوق النار «هيدبرها صاحب الأمر، النجمة سجطت خدها وحاوط عليها،الهزيمة في العشج فوز»
صارحه سليم بتلقائية محببة للنفس «بحب كلامك يا عم؟»
اتسعت ابتسامة حسان وهو يصبّ الشاي في الأكواب متسائلًا «هتكتبوا متى؟»
ضحك سليم قائلًا وهو يحك مؤخرة رأسه بخجل «لو كان جلي وقتها دلوك كنت وافجت »
أدمعت عينا حسان وهو يستمع له مقتسمًا معه السعادة «ربنا يحججلك أمنيتك يا ولدي»
تناول سليم كوب الشاي وارتشف منه يحكي بإنطلاق عن شعوره وإحساسه حين جاء له جدها، وفرحته التي لا يسعها الكون
فيبتسم حسان ويدعو له وهو ينصت بإهتمام وصبر.. ثم نهض قائلًا في حزم «جوم نصلي الوجت أزف»
وقف سليم في استعداد بعدما توضأ فطلب منه حسان بخشوع أن يرتل سورة التوبة، ابتسم سليم وأقام الصلاة بخشوع.
انتهيا فأطفأ حسان النار ووقف أمام سليم يودعه قائلًا بإبتسامته البشوش «عايز تعرف أنا مين يا سليم واسمي إيه»
قال سليم ونظراته تمرً على ملامح حسان مغتنمةً «مبجاش يهمني ياعم ولا فارج»
ضم حسان شفتيه قائلًا قبل أن يوصيه بمودة زرعها الله في قلبه له «لما تضيج بيك الدنيا تعالى هنا صلي واذكر ربنا، وأوعاك تسيبها يا ولدي هي منك وأنت منها»
ازدرد سليم ريقه بتوتر قبل أن يسأله بقلق «بتوصيني ليه يا عم هو أنا مش هشوفك تاني؟»
أخبره حسان بابتسامة واسعة «جولتلك اللجا نصيب ومحدش عارف يا ولدي نصيبه»
ارتجف قلب سليم بالخوف، فربت حسان على كتفه قبل أن يستدير ويرحل..
نداء سليم المرتجف أوقفه مكانه، التفت على طلبه التالي «ممكن أسلم عليك يا عم»
أدمعت عينا حسان بتأثر قبل أن يندفع سليم ويعانقه بمودة ودموع متحجرة، ربت حسان على ظهره قائلًا «أيامك كلها خير يا شيخ مطمن عليك عشان جلبك عمران بحب ربنا»
ابتعد سليم ينهب من ملامح حسان قدر حبه له، يلملمه في نظرة طويلة متأنية قبل أن يتركه حسان ويرحل.
*************
عاد المنزل مبتهج القلب غير عادته، مُفتتًا قالب الكآبة مُحلقًا في سماء واسعة من السعادة يدندن بالأشعار ويوزع الابتسامات بسخاء، استقبلته أبرار بهمسها «يا مساء الروجان كنت فين يا شيخ»
قرص وجنتها ومال يسألها بهمس خافت ونظرة مستكشفةً ما حوله «أمك نامت»
أجابته بنفس الهمس «من بدري»
سألها وهو يخطو للداخل متجهًا للمطبخ «وأنتِ صاحية ليه؟»
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت «مستنياك نتعشى سوى وتحكيلي ايه غيّر حالك»
ارتشف بعض المياه وقال وهو يخطو للخارج «هغير هدومي على ما تجهزي العشا وأحكيلك كل حاجة»
أومأت بحماس قبل أن تبدأ في تجهيز الطعام بطاقة ونشاط، بدّل ملابسه وخرج يبحث عنها حتى وجدها في الصالة الواسعة تجلس متربعة أمام الصينية التي تحوى العديد من الأطباق الممتلئة بصنوف الطعام المختلفة، جلس سليم مقابلها مثنيًا على صنيعها «إيه كل دِه»
ضحكت بخفوت وهي تميل هامسةً «مزاجك رايج وهتاكله كله»
تناول منها رغيف الخبز مؤكدًا قولها «صُح وياريت يكفيني، دلوك هاكل وأنا مرتاح وأشبع وأنا مطمن، وأدوق الأكل من أول وجديد»
اتسعت عينيها على وجهه الباسم تسأله «إيه ده كله، ليه حصل إيه؟»
أجابها وهو يدس الطعام بفمه مستمتعًا بمذاقه كأنه يتذوقه لأول مرة «حصل كتير»
نظرت إليه بقوة ترجوه بفرحة، فمنذ زمن لم ترى ضحكته ولم تنعم بهدوء باله «احكيلي يلا»
سرد عليها سليم ما حدث بالتفصيل وصمت منتظرًا رأيها المخيب للآمال رغم ما يتراقص من فرح لأجله داخل نظراتها
«هتتجوزها من ورا أبوها»
أجاب بحذر وحماس يتكاثر ويطغى على كل قلق «جدها عارف وحمزة وزين وكلهم»
همست أبرار بخوف أقلق مضجع الأمان وألهب صدرها «دول كلهم عادي،إنما أبوها هيسكت؟ هيعديها»
أجابها بلا مبالاة وهو يدس الطعام بفمه بشهية زائدة «هيعمل إيه؟»
أوشت بما في قلبها من فزع «سليم أنا خايفة عليك منهم، بعدين إيه يخليهم يجوزوها كده في السر؟»
نفض كفيه ببعضهما ونهض حامدًا الله يخبرها دون اهتمام «مسألتش ومش مهتم»
تبعته للمطبخ قائلة والخوف يحاصرها ويندد بالويل لقلبها الآمن «إزاي؟ بلاش يا سليم»
وضع براد الشاي فوق الموقد قائلًا بحسم «مفيش بلاش مش هسيبها ولا هضيع فرصتي في الجرب منها»
ذكرته بما قد ينساه ويطرده من ذاكرته الممتلئة بأهازيج الفرح «وأمك هترضى بالكلام دِه؟ لو عرفت هتعديهالك؟»
تنهد قائلًا وهو يصب الشاي في الكوب «مش بفكر فأي حاجة دلوك ولا هشغل بالي بحاجة»
عاتبة بإنهزام وخضوع أمام إرادته القوية الصلبة «بتعمل إيه يا سليم فنفسك وفينا؟»
رغم ارتجاف نبرتها وخوفها الواضح ابتسم يطمئنها بحنو «كل خير بس ادعيلي»
قالت بتعجب ونظرة مستكشفة كأنها تراه للمرة الأولى «من متى وأنت وأنت بتغامر»
همس بشغف وعشق يستوطن حنايا القلب «عاليا تستحج المغامرة، الحب عايز شجاعة »
تقلصت ملامحها بضيق وهمّ عظيم، فانسحب لحجرته وأغلق خلفه بصمت لا يعكره سوى تعجله للأيام حتى تنقضي.
*************
في اليوم التالي
اجتمعوا في بيت حمزة لمناقشة أمر جواز عاليا بينهم، أعلن حمزة رفضة كما السابق «أنا مش موافج يا زين متغّريش سليم وتستغله» صمت زين بصبر يمرر لسانه داخل فمه ونظراته الحادة لا تترك حمزة ثم قال بضيق «أنا مستغلتش حد هو طلبها وجدها وأفق»
قال حمزة في هدوء يكتم ثورة، وسخرية تهز ثبات النظرات من حوله «وأنت دورك إيه؟ بتتكلم ليه بكل الحماس دِه أمال»
مال فم زين بابتسامة قاسية وهو ينهض قائلًا «كلام اعتبره تصريح منك بعدم التدخل»
نهض عمار يركل بينهما الكلمات خوفًا من غضب قد يسبب شجارًا أو يدفع إلى قطيعة «استهدوا بالله واتفاهموا بالراحة»
وجّه حمزة كلماته لعمار بحدة يستفسر ونظراته تقف عند زين «أنت جوله لو خالك عرف هيعمل إيه فعاليا وسليم وجدي»
رفّ جفن عمار بقلق وخوف وهو يزدرد ريقه موضحًا بما يعرفه عنهما «هيجتله هو أصلًا حالفله»
أعلن زين قراره الحاسم «هجوزهاله وهيكون فحمايتي وتحت عيني»
هتف حمزة بغضب متعجبًا من إصراره وتمسكه بالأمر «مش فاهم إيه سر إصرارك وجولت إيه لجدي عشان يوافج»
طرق الجد بعصاه لينتبه الجميع مترقبين، تنهد ثم قال بحسرة بعدما استمع لهم جميعًا «سليم هيتجوز عاليا وياخدها يا عبد الحكيم»
ارتجف حمزة لوهلة من مناداة جده له باسم والده، تقدم وانحنى موضحًا بحنو «خايف عليكم من عمي يا جدي أنا مش عايش هنا»
نظر إليه الجد طويلًا ثم همس بثقة نقذت لأعماق حمزة «مش خايف منه يا عبدالحكيم وأنت جاري، جوّز راضية لصالح وابعدها عن شر رفعت وأذاه»
يبدو أن رواسب الماضي طفت، حجر ثقيل حرّك الأعماق فهاجت، اشتبك الماضي بالحاضر، تراجع حمزة ينظر لعيني جده برأفة وحنو بالغ قبل أن يستطرد الرجل بدموع وقد وعى ما حوله «جوزت راضية وهجوز عاليا خليها تبعد يا حمزة يا ولدي وأوعدني تجف معاهم وتحميها كيف سكن»
صمت حمزة يستوعب ما يحدث لا يجد تفسيرًا، الوجوه لا تكشف ستر ما في الصدور والكلمات تخرج من الأفواه محاطة بحذر لا يفهمه، انكسار جده مميت ومربك لدواخله لكنه سيوافق، قرار جده نافذ شاء أم أبى «حاضر يا جدي»
ابتسم زين بإرتياح وصمت عمار صمت الخائف المترقب لا يفهم لكنه لا يجادل ولا يستفسر، تعجب مثل حمزة من زين لكنه لا يملك الجرأة لسؤاله وردعه بالكلمات.
جلس حمزة جوار جده بصمت ثقيل لا يعرف ماذا تخبيء لهم الأيام.
نام عامر مكانه داخل المندرة بعدما تفرق الجميع، شدّ حمزة عمار من ذراعه وأدخله للمنزل بعد رحيل زين قائلًا «تعالى اتغدى معايا»
ابتسم عمار شاكرًا «لاه مريم مستنيه»
جلس حمزة أرضًا أسفل الأريكة التي تجلس عليها سكن وقال «ابعتلها هي يعني هتركب مواصلة»
رفض عمار ببعض الإرتباك والحرج، من كرم حمزة وتعامله اللطيف معه وكأنه نسي ما كان «مرة تانية»
أشار له بنفاذ صبر «أجعد يا عمار الوكل جاهز»جلس عمار جوار أخته على استحياء، انشغل حمزة بمهاتفة هيما وخرج فحمحم عمار قائلًا «ازيك يا سكن»
أجابت بإقتضاب «الحمدلله»
سألها عمار ببعض الخجل «صحتك كويسة؟»
ابتسمت قبل أن تجيبه بسخرية وهوان «لاه مش كويسة يا عمار»
قال باهتمام وقلق على حالها «حجزتلك عند دكتور بيجي من القاهرة»
التفتت إليه بمزيج من دهشة واستنكار، تخبره «الي فيا مش مرض يا عمار»
حمحم قائلًا ومازال الإرتباك والتردد قائم في علاقتهما «خلينا نجرب، أمي جالتلي وأنا بدور على عمي عشان يجيلك»
لم تفارقها الدهشة بما قال وسعيه لأجلها. أمس فاجأتها مريم ببعض مما تحب من حلوى ومقرمشات قائلة إن عمار أحضرها من قنا خصيصًا لها وأوصاها أن تُعطيها لها ولا تأكل منها ، ظلت دقائق مبهوتة صنمًا من دهشة نحتته المواقف، مترددة لا تأخذ ولا تتخلى حتى شجعها حمزة فأخذتها شاكرة..
جاء حمزة حزينًا بائس الملامح، بعينيه نظرة كئيبة جعلتها تسأله «مالك يا حمزة»
عاد لجلسته قتيل المفاجأة والخبر الذي أخبره به هيما، قال وهو يمسح وجهه بوجوم «أم حسن اتوفت»
انقبضت ملامحها بحزن وتأثر، فقال حمزة «عايز أسافر أعزيه وأكون جنبه»
جاءت ورد بصينية الغداء الكبيرة، نهض عمار ليساعدها فشكرته وجلست أرضًا جوارهم، ساعد عمار أخته التي ترددت كعادتها في منحه ذراعها فشفعت له نظرات حمزة المشجعة عندها فمنحتها له برضا ، أجلسها وجلس في حياء وبخته ورد عليه «واد يا عمار كامش ليه؟ كُل يا ولدي أنت فبيتك»
سألت ورد وهي تقدّم الأطباق من عمار بحنو واهتمام «مين مات يا حمزة؟»
أخبرها حمزة بشهية أغلقها الخبر الحزين «أم حسن»
سألته بإهتمام «هتروح تعزي؟»
أكّد حمزة بشهامة ونبل وهو يأكل بقلة حماس «لازم مينفعش أسيبه»
كتمت سكن غيظها وحنقها قبل أن تعترض «عزيه في التليفون وخلاص»
قال حمزة بحزن متفهمًا قول زوجته وشعورها ناحية الصديق الذي خذله «مينفعش يا سكن دِه موت وواجب لازم أكون جنبه»
عضت سكن شفتيها مبتلعة اعتراضها خاصة عندما شجعته ورد بفخر «أصيل يا حمزة»
عرض عمار عليه في بعض الإرتباك «أروح معاك»
تنهد حمزة قبل أن يرفض «لاه خليك هِنا مع أمي وسكن، معرفش بعد كتب كتاب عاليا هيحصل إيه؟ عشان أكون مطمن عليهم»
تكلم حمزة ببساطة كأن الأمر عاديًا وعمار صديق حميم، منحه الثقة دون أن يلتفت للوراء، أو يوضح مبتغاه من القول..
ضحكت ورد بخفوت وهي تطالع عمار الصامت برهةً بتعجب وفم مفتوح، كفه تتوقف عند طبق الطعام، ولم تقلّ عنه سكن دهشة وإن كانت تعرف زوجها حق المعرفة وتمتلك خرائطه.
وحدها ورد أشادت نظراتها بما قال، غمرته بعاطفة ممتلئة بالفخر والإعجاب، ولدها يمد جسور من ثقة بينه وبين عمار، يخبره أنه نال صك العفو والغفران، يجدد العهد بينهما ويعلن اعتماده عليه.
تناول عمار الطعام بنهم وفرحة تغمر القلب كالفيضان، التقت نظرات بحمزة بسكن تحدثا بما في القلوب، سألت فأجاب، اعترضت وعاتبت فرقّ لها واحتواها بحنان ثم صمتا بانشغال في تناول الطعام.
***********
اضطر حمزة تأجيل سفره يومًا لكتب كتاب عاليا، أرسلت عاليا لحمزة مرسالًا مع زوجته، تطلب منه أن يكون شاهدًا على العقد والكلمات حملت معنىً آخر وصله كاملًا، هي تريد مؤازرته وحمايته، تطلب العون والسند.. صمت بتفكير وبعدها رد لها مرسالها مُعلنًا الدعم والحماية.
ترتدي فستانًا لا تعرف من جاء به ولا كيف؟ ولا شاركت في اختياره كما تمنت وخططت، الأحلام تملك جناحين نحلق بهما في رحب الأمنيات، وهي بجانحين مكسورين وحوصلة تخلو من الزاد الذي يجعلها تقاوم وتحاول... ضمتها سكن بفرحة لا يعكرها سوى العجز، سكن الطيبة خانتها قدماها فانطلقت أقدام قلبها بإخلاص تمحو العجز، تضمها كثيرًا في فرحة لا تشعر هي بها بل كلما قبضت عليها تتسرب من بين أناملها كذرات الرمل.
جاءت الأمنية في وقت لم يعد في الصدر رحابة، تتفجر الكآبة من النفس ويطفو الكدر بلا ثقل، همست سكن جوار أذنها بمزاح «بدل ما هتصلي التراويح وراه ورجلك تتكسر هتصلي قيام ليل»
عيناها متحجرة بأهداب لا تتحرك، وقلب لا يهتدي لسبيل تائه مثلها، أصرّت ورد أن يكون الاحتفال ببيت عمها، أن تصنع لها العشاء بنفسها، وزينتها سكن لا تعرف كيف تم الأمر؟ من خلف ظهر والدها لكن لا بأس
يكفي أنها ستهرب، هل تهاب والدها؟ لا بل تكرهه وتتمنى موته، يؤسفها أن تعلنها بمرارة العلقم، هو قتلها وانتزع روحها والجسد هو الباقي، والجسد فاني من تراب ولا خلود له.
زغرتت راضية وفعلت ورد، احتضنت سكن عاليا وهي تهمس لتفيق من شرودها،تكرر على مسامعها،تغويها كجنية ساحرة تذكرها بحلمها وأمنيتها «سليم يا عاليا سليم »
في المندرة الكبيرة تنهد زين بإرتياح والجد اتكأ براحة بعد تعب وقد بلغ ما أراد... رحل زين مع المأذون يحتضن بين جنباته شوقًا لا تخمد نيرانه لزوجته.
وغادر حمزة ليأتي بعاليا،التقت نظراته بنظرات زوجته متذكرًا والحدث يتكرر بأبطال مختلفين،ابتسمت سكن تتذكر تلك اللحظات بقلب بلغت معرفته حدود الرضا وقمة الطمأنية.
غاص الجد في نوم عميق لا يعرف من أين آتى، وترك الأمر لحمزة في ثقة
طلب حمزة بأدب وابتسامة تكلل نظراته بعدما منح زوجته كل الوعود والأماني «عاليا الشيخ سليم مستنيكي»
قادها بعدما أفلتت أحضان سكن التي زينتها برقة وأظهرت مواضع جمال وجهها وأبرزت رسمة عينها كأنها تعرف أن سليم يعشقها..
جلست بالقرب منه في صمت، لا تصدق ربما حلمًا كالذي تعيشه كل ليلة، أو خيال لعين من خيالاتها الوردية التي تخترعها لتهدأ وتنسى..اقترب منها مرتجف الفؤاد يرمش مستوعبًا ما يحدث في لحظة انقلب كل شيء، وأصبحت له، فلينس أمر والدته وليفكر في عطية القدر ومنحة الحظ.
استجمع شجاعته وتنفس بقوة قبل أن يمد كفه ويمسك بكفها هامسًا برقة وشغف «عاليا»
انتفضت كميت دبت الحياة في جسده من جديد، روى شرايينها وغذى وريدها فشهقت بنعومه والروح تعود للجسد تلك المره وقد مُزجت بروحه، ذاب كيانها في كيانه.. همس بإسمها ثلاث مرات واحدة بإندفاع اللهفة وأخرى بتأني وذهول وأخرى برضا وفرح... فتحت قبضتها في دعوة، فردت كفها مرحبة بعناق أنامله الحنونة
أنفاسه تعبق صدرها، وتداعب حنايا الصدر وتهيم بين الضلوع باحتياج..
مرر كفه داخل كفها بحنو ورقة بالغة ودغدغة لذيذة، قبل أن يتخلل أناملها بأنامله ويهمس بما ضاق به صدره «بحبك يا عاليا» لن يكتم أكثر فماعاد يجدي سوى البوح.
رفعت نظراتها الدامعة لعينيه فهمس بابتسامة «تبارك الخلاق العظيم»
تساقطت دموعها بغزارة فرفع أنامله ولملمهم برقة تسرق القلب وتعيد إليه الحياة، طُمست الذكريات في القاع وطفى هو بلمساته ورقة كلماته، همس مُذكرًا إياها «مين دلوك محظوظ أنا ولا نيوتن يا صاحبة التفاحة، جيتي البيت تسرجيها وجيت أنا هنا أسرجك»
رفض متشبثًا بقراره رغم إلحاح الجميع تناول العشاء الذي أعدته ورد لهما خصيصًا في مودة ورحمة، نهض يستأذنها الرحيل ويستسمحها المغادرة «مضطر أمشي يا عاليا»
توددت إليه نظراتها الرقيقة وتوسلته أن يبقى قليلًا فابتسم يعدها في رقة «هنتجابل كتير وهكلمك أكتر»
ضمت شفتيها مستسلمة لقراره، تخبيء لهفتها على بقائه، تحرك ليغادر فاستوقفته بهمسها الذي أنعش خلاياه اللحظة «سليم»
توقف يرتعش فرحةً وحماس، استدار يهمس بإبتسامة واسعة تربت على جراح الروح «أأمري يا ست البنات عايزه إيه»
نظرت إليه دون خجل أو حرج تأملته وهي تعض شفتيها كاتمة تأوهًا نبع من الشوق الكامن بروحها ثم همست «استنيتك كتير»
ابتسم وقطع المسافة الفاصلة بينهما وهمس وهو يستنشق ويعبق صدره هواءً برائحتها «مش هتستني تاني»
أغمضت عينيها وفتحتهما هامسة بخجل «ينفع أجولك وأنا كمان بحبك يا شيخ»
فغر فمه محملقًا فيها قبل أن يضحك بصوت متقطع وأنفاس لاهثة مستفسرًا «ينفع أنا أحضنك»
صمتت، هي تريد مثله التدفء بذراعيه والإحتماء بأحضانه، أن تلوذ بصدره وأنفاسه، ظنت أنها يوم يحدث ما تتمنى ستخجل منه لكنها تشعر كأنه جزء مقتطع من روحها وشريكًا غاب عنها وعاد، مطمئنة النفس ترفل في راحة غريبة، همست بإحتياج شديد «ينفع يا شيخ»
ضمها بين ذراعيه بلهفة شديدة ودموع تتجمع في عينيه تطرق دفوف السعادة والفرح، سلبت من رائحته ما أستطاعت متمنية أن يتوقف الزمن ولا ينتهي العناق
ابتعد يلثم جبينها بلهاث ونظر لعينيها التي يعشق نظرة أخيرة وبعدها رحل ومعه قلبها... شيعته وبعدها دخلت، انضم له حمزة بعدما ودّع زوجته ورحل للقاهرة وبقيت هي مع سكن التي تسألها بمزاح عما حدث بينهما؟ سكن لا تريد المعرفة بقدر ما تريد أن تسرقها من أحزانها وتجعلها تشعر بالفرحة لحصولها على ما تمنت، ثرثرت كثيرًا قالت أنها تفتقد حمزة من الآن.. وعاليا صامتة في ملكوتها الخاص تسترجع الأحداث ببطء، يسيطر هو على حواسها تتلمس موضع قبلته وتضم ذراعيها مستشعرة الدفء الذي تركه، تتذكر نظراته وتسمع همساته تقبل مسامعها برقة..
يئست سكن منها وانعزلت تراسل زوجها، بينما نامت عاليا على حالها بفستانها وفرحتها، محتفظة بكل ما نالته منه بداخل قلبها وخزائن روحها، صباحًا ستسأل سكن عن حقيقة الأمر وتراسله لتتأكد.
غاصت في نوم راحة وهناء فدثرتها سكن المجاورة لها بحنان واستمرت مستيقظة تراسل زوجها تؤنس وحدته وتشغله عن الشعور بوحشة الطريق والفقد... حتى نامت
**********
في الصباح
هتف زين ببشاشة وهو يجلس بالقرب من سكن في احترام وتأدب بعدما علم بمرضها واستجارت به مودة ليبحث عن حسان «ازيك يا خالة العيال»
ابتسمت سكن رغم الحزن بنظراتها والتعب المتشعب بروحها «ازيك يا حضرة الضابط نورتنا»
قال زين بابتسامة لطيفة يمازحها «من مدة عايز أجي أسلم عليكي وأشكرك بس الأحداث والظروف»
بعينين ذابلتين ووهن يمد جذوره في الروح ويجتث الكبد «على إيه»
هتف زين بإمتنان حقيقي «على حاجات كتير أكيد أنتِ عرفاها»
ابتسمت بتفهم فاستطرد في ضيق وحزن من ذبولها ودموعها التي تتساقط عنوة من شدة ألمها الذي تكتمه «جولت أجي أجعد شوية مع خالة العيال وأسألها عن مودة»
ابتسمت ابتسامة بائسة متردد وهي تسأله «عايز تسأل عن إيه؟»
طرد الحزن من نبرته رأفةً بها وقال «عايز أسمع وأعرف كل حاجة عن مودة»
اتسعت ابتسامتها في فرحة رفرف لها القلب ثم قالت بحماس «مودة متسمعش ولا تعرف عنها مودة تكتشفها بنفسك»
ضحك زين قائلًا بإعجاب«غلبتيني يا خالة العيال والله»
وضعت كفها على جبهتها في تعب يشتد عليها فتكتم صرخات عذابها وتتلوى في ألم، تغمض عينيها تنهب من الأنفاس نهبًا، رمقها زين بشفقة قبل أن يستأذن ويخرج باحثًا عن حسان في كل مكان.
وجده بعد عناء، التقاه بحماس طفل وأمنية عاجز، اندهش حسان وسأله «خير يا ولدي»
أخبره زين وهو يقوده للسيارة في تعجل «اركب يا عم وهفهمك لازم نلحق سكن الله يكرمك»
انتفض حسان في زعر وقلق مرددًا اسمها في جزع «مالها بتي مش جولتوا كويسة»
مسح زين وجهه في ندم حارق وهو يخبره بآسف «مش كويسة وقالوا أنت بس الي تقدر تعالجها»
أدمعت عينا حسان بقهر وكفه يتسلل لجيب جلبابه يطمئن على وجود العمل به، بحث عنه كثيرًا حتى وجده وقرر فكه لكن زين سبقه.
وصلا منزل راضية بعدما أعلم زين زوجته بأن تأتي بسكن من منزلها ليراها عمها..
جفف عينيه من الدموع وطرق الباب المفتوح يستأذن الدخول بوجل، كانت مودة في انتظاره... مد كفه بتردد لكنها ابتسمت له وبددت خوفه وحرجه مطالبة بعناق أبوي زاده شجن، ضمها لصدره يربت على ظهرها بحنو وعينيه الندية تطلق الامتنان بسخاء ووفرة، صالح خلّف صلاحًا يملأ الأرض طهرًا ونقاء
سأل عنها لينتهي ويرحل، يشعر باللوم ينحره ، كلمات صالح الأخيرة تقف الأن وتتكاثر حوله في منزله، تملأ الأركان ودبيبها يتسلل لروحه، آه لو لم يفعل ما فعله لما دخل اليوم خائفٌ يترقب «سكن فين»
أشارت له مودة للحجرة وهي تعود لتلتصق بزوجها، عينيها تطلب الحماية وانتفاضتها تطلب رداء من حنو واحتواء لم يبخل به، فرد ذراعه حول كتفيها وابتسم برقة أذابت الخوف فتنهدت براحة وهي تتابع عمها حتى دخل الحجرة واستوطن الرضا نفسها، مال زين ناحيتها وهمس «قلقانة ليه؟»
صارحته بما في نفسها المكلومة وهي تتلمس الدفء من نظراته «سكن هتخف؟»
هز رأسه مبتسمًا بحنو وهو يجذبها ليجلس وتجاوره قائلًا «بإذن الله»
همست بنبرة حملت كل المشقة والتعب «خايفة عليها»
تخلل بأنامله أناملها وهمس يطمأنها «متخافيش هتخف»
ضمها يحتوي رجفتها بين ذراعيه، أذاب خوفها وصهره على صدره ، تثير حنانه بحالتها وتدرّ عطفه بخوفها وتشبثها به كأنه طاقة من نور تهتدي بها، يعجبه ضعفها الذي بدأت تظهره له براحة وطمأنينة، تسلمه مفاتيها دون خوف وهو يقبض عليها في وعد.
وقف حسان على باب الحجرة دامعًا ينظر لجسدها الهزيل بحسرة ملأت نفسه وخضبت كفي أبوته الصادقة بالملامة والعتب، نائمة ومازالت رغم المعاناة ملائكية الطلة وبريئة الملامح.. أي ذنب اقترفته تلك المسكينة لتحل عليها لعنات الدنيا؟ استغفر ربه واقترب منها انحنى يهمس بحشرجة من يوشك على البكاء «سكن»
رفعت نظرات غائمة بالوهن يجرها التيه خلفه، تفقدت ملامحه قليلًا لا يعرف هل تتذكره أم تتأكد؟ ابتسمت بعدها بهدوء وضعف،حتى انتفاضة الجسد لا تملكها، لكن يكفي انتفاضة قلبها واختلاجته الآن، فاضت عيناها وهي تهمس برضا «فكرت مش هشوفك تاني؟»
ابتسم بحنو وهو يمسك بذراعها لتنهض وتجلس، جلس جوارها يضمها بأبوة وهو يخبرها «جدر ومكتوب يا بتي وأديني جيت مالك يا سكن إيه صابك؟»
أغمضت عينيها وأخبرته والجمر يكوي حشاها «شر يا عم مجدراش أرده»
طمأنها بحنو وصدق وهو يبعدها عنه ليتفحصها «عمك موجود يزيحه عنك بإذن الله»
سألته بعينين حائرتين «حمزة كلملك»
أخبرها بابتسامة رؤوفة «ربنا رحيم بجوزك محملوش مالا يطيق، زين الي بلغني وجابني فجيتك جري»
همست ببراءتها وصدق قلبها «وحشتني ياعم»
أدمعت عيناه وهمس قائلًا «اتمنيت أشوفك تاني والحمدلله ربنا استجاب»
سألته بحزن غرقت في بحوره وابتلعها «هخف؟»
قال بحزم رفيق وعزم شديد «هتخفي وهجصر الشر عن طريجك بإذن الله»
صارحته بوجع «كنها أمنية، ووجودك حلم»
تنهدت مغمضة العينين في تعب وعذاب، فهمس بصوته الدافيء الذي تغلغل لصدرها «لما تصحي من الحلم عايزة تشوفي إيه؟»
أغمضت عينيها وتخيلت مبتسمة ما تقوله «حمزة، لما يرجع يلاجيني خفيت»
ثم غطت وجهها وبكت، بعد قليل أزاحت كفيها عن وجهها الغارق في الدموع وهمست بشفقة «تعب كتير فحياته وجيت أنا وكملت عليه»
طالعها بنظرة مشفقة، يراها حفنة من صدق وحب تسحر القلب، فابتسم هامسًا بوعد«لما ييجي هتجري وتتلجيه على الطريج»
سألته بتوسل صدقه وترجو محبته«صُح يا عم؟» مازحها وهو يربت على خدها بمزاح «عمك متى كدب عليكي؟»
عانقته بتلقائية وشكر، فضمها مُربتًا على رأسها بحنان قبل أن يبدأ في عمله.
*******
تناول الطعام بصحبة إبراهيم وأخوته، دفّء نفسه بحبهم واحتمى بدرع محبتهم قبل أن يغادر هو وهيما لمنزل حسن، طوال الطريق صامت منقبض النفس متراجع، تمنى لو لم يأتِ، صدره ضيق والمقابلة ثقيلة تملأ الروح بالكدر، وصلا فاستقبلهم حسن بجفاء، سلّم عليهم بآلية وترحاب يفتقر الود، تبادلوا الكلمات المعزية وجلسوا جميعًا في صمت مهيب،لا يتبادلون الحوار ولا ينظروف لبعضهما، أقام الخذلان جدارًا بينهما فانعزلا
كلما سأل حمزة عن شيء، مجترًا معه الحديث يصده حسن ويجيبه بإختصار.
ملّ حمزة واستاء من تلك المعاملة، ودعه بالكلمات ورحل وبقيّ حسن.
عاد لبيت خالته وانعزل بحجرة هيما وبعدها نام بعمق من شدة التعب..
في المساء ارتدى ملابسه وذهب للمطعم، يباشر العمل ويطمئن على أمور جلال ويطمئن على هند... غادر معه هيما، اشتاق حمزة للعمل فارتدي زيه ووقف في المطبخ حتى تأتي هند.. أنهى بعض الأطباق وغادر لحجرته، في طريقه تعرقلت نظراته بحسن واقفًا بصحبة هند، قطب في حيرة واندهاش قبل أن يخطو تجاههما للترحيب، استوقفه عامل وسحبه يستشيره في بعض الأعمال فغادر بصحبته لدقائق ثم عاد ولم يجدهما، تحرك تجاه المكتب الخاص بهند ووقف على الباب، قبل أن يطرق وصله صوت حسن العالي
«عايز أرجع يا هند»
صرخت به هند في حدة وغضب شديد من أفعاله «مفيش رجوع خلاص»
قال حسن بتمسك وإصرار «لا، رجعوا لجلال فلوسه وخلاص»
وبخته هند بتحقير ونفور «مستحيل أنا مش هقول للراجل الي أنقذنا من عمايلك خلاص خد فلوسك، انسى يا حسن إنت اخترت وخلاص»
اعترض حسن بغضب «المكان مكاني كبرته معاكم وتعبت فيه»
رمقته هند بنظرة ساخرة مشتعلة «مبقاش مكانك أنت الي اخترت»
سألها حسن متشتتًا يعض أنام قلبه ندمًا «ليه جلال؟»
أجابت هند بعملية «صاحب حمزة هو الي جابه مأمنش لحد غيره وبصراحة هو محترم ومتعاون ومراته بتنزل وتشتغل في المطبخ وبقالها أطباق مميزة فوقت قصير جدًا»
هتف حسن بحرقة وفظاظة لم تستوعبها هند واستنكرتها عليه «حمزة اختاره هو علشان يضايقني لإنه عارف إني مبحبوش»
اوقفته هند بغضب «حمزة يضايقك ليه هو الي قالك أبقى ندل وواطي معانا يا حسن، وبالمناسبة لجلال فهو الي جه وطلب لوحده»
لم يقتنع حسن وهدر في جنون راكلًا السنون والمودة بقدم الحقارة «أنا مش ندل»
هدرت هند بنفاذ صبر وهجوم حاد شرس « لما تسيبنا تبقى ندل وهانت عليك العشرة لما تضغطنا تبقى ندل ولما تبص لمرات صاحبك ومتتحكمش فنفسك تبقى واطي وأنا مش هأمنلك تاني، أنت خنت صاحب عمرك واستكترت عليه مراته وأنت أكتر واحد عارف كد إيه حمزة مر بظروف صعبة»
ابتلع حسن ريقة وقال بثبات مزيف «حبيتها غصب عني ومكنتش هقدر أفضل وأشوفهم قدامي»
بصقت كلماتها في وجهه بإشمئزاز وقرف «أنت حقير يا حسن ومتستهلش حب حمزة ولا صداقته، أنت اخترت وخلاص متجيش تقول أرجع.. أنا أصلا مش هرجعك ولا عيزاك وسطنا، فاكرني عبيطة لولا سكن صدتك ووقفتك عند حدك كنت اتماديت ولا همك عشرة ولا عيش وملح»
استند حمزة على الحائط مرتجفًا، شاخص البصر في ضياعٍ وذهول، قبضة حسن الباردة اعتصرت قلبه وفتته، فسقط في حشاه من هول ما سمع.. التقط أنفاسه واندفع يفتح الباب عليهمًا مواجهًا بصلابة
توقفت الكلمات في حلق هند وحدقت فيه بقوة تستشف رد الفعل، أما حسن فظل على بروده تظلل شفتيه ابتسامة متشفية ونظرة انتقامية، يراقب صديقه الذي يعرفه بشماته.. ولج حمزة للداخل بصلابة ونظرة غامضة، جلس خلف المكتب مُرحبًا ببرود وهو يهتف ببساطة لا توشي بأنه سمعهما «ازيك يا حسن نورت أخبارك إيه..؟ أجبلك شاي ولا تتغدى»
ضمه حسن قبضته حتى ابيضت مفاصله وشكره من بين أسنانه بغيظ «شكرًا»
سأله حمزة وهو يمد ساقه ويضع قدميه على الكرسي المقابل مسترخيًا أمامه ببرود وهو يسأل «جاي محتاج حاجة؟»
قال حسن بغضب «المفروض مجيش؟ »
ابتسم حمزة ببرود وأخبره بهدوء قاتل «آه متجيش»
قطب حسن بضيق واستنفار قبل أن يقول «جيت أسلّم على الشباب ولا مينفعش كمان»
هز حمزة رأسه وقال بإبتسامة مستفزة وهو يضغط على كلماته «مينفعش لازم تستأذني أو تستأذن جلجل، أنت دلوقت منافس مينفعش تدخل المكان ولا المطبخ غير بموافقتنا»
انطلق الحقد من نظرات حسن بعدما تعرت نفسه أمام حمزة، وجّه إليه حمزة نظرة متوجعة لائمة قبل أن يخفيها ببراعة ويعطيه نظرة باردة مستهينة.
هتف حسن بغيظ لم يتحكم فيه وكراهية أباح لها الظهور «خلي جلال يرجع كل حاجه»
أصدر حمزة بفمه صوتًا معترضًا قبل أن يقول ببرود وهند تضع كفها على قلبها خائفة تترقب «صص لاه جلال مش هيمشي أنت الي تمشي وتوريني عرض كتافك إحنا مش فاضيين، أنت عارف زحمة الشغل»
صرخ حسن بعصبية مستنكرًا على حمزة المعاملة «حمزة اتعدل وكلمني كويس»
بنفس البرود والهدوء القاتل سأله حمزة «ليه»
صمت حمزة قليلًا وبعدها انتفض من مقعده واقفًا بشموخ، يرفع رأسه بكبرياء وهو يكرر السؤال وأطياف من ألم وحسرة تعانق نظراته «ليه يا صاحبي؟ مرتي أنا يا حسن؟ سيبت بنات الدنيا كلها وبصيت لمرت صاحبك؟»
قال حسن بإرتباك وهو يهرب من نظرات حمزة المشتعلة التي تبتلعه وتجلده دون رحمة «عشان حبيتها وأنت محبتهاش زيي سبتها ومشيت بكل بساط...
قبل أن يكمل لكمه حمزة على أنفه بعنف فسال الدم منها دافئًا، مسحه حسن وزمجر بغضب قبل أن يشتبك مع حمزة في مشاجرة عنيفة، حاولت هند فصلهما وإيقافهما لكن غضب حمزة وهجومه كان أقوى مما تخيلت وأعنف مما توقعت، فتت عظامه وركله بحرقه حتى خارت قواه
وبعدها وقف يلهث يبصق الدماء من فمه وهو يهدده ويحذره «مشوفش وشك فأي مكان أنا فيه؟ المرة الجاية لو اتجرأت وجبت سيرة مرتى هدفنك مكانك ومش هعمل حساب لا لصحوبيه ولا لعيش وملح»
استطرد حمزة بعذاب ونظرة متألمة ونبرة تغمرها الحسرة والمرارة «كنت زعلان وخايف أكون زعلتك من غير جصد، بس تصدق ريحتني يا حسن ريحتني يا صاحبي وعشرة العمر فهمت أنك كلب متستحقش أزعل عليك ولا منك، متستحقش غير تترمي فصفيحة زبالة يا واطي...
على وجهي جلال وهيما تجلت الصدمة على وجهيهما، نفضها جلال وتنهد براحة مستمتعًا بما حدث كان يتمنى أن يفعلها حمزة وها قد فعلها، أما هيما فوقف مبهوتًا لا يصدق ما سمعه، تخطاهما حمزة بعدما نزع مريول المطبخ بعنف كأنه يتجرد من كل شعور حمله لهذا الممدد يومًا، رحل وخلفه هيما يركض بلهاث
انحنى جلال ناحية حسن وقال بشماتة امتزجت بسخريته «اخس عليه حمزة إزاي يضربك كان طلقها وجوزهالك»
ابتسم جلال بتشفي قبل أن يشير إليه «بره يلا دا مكان أكل عيش»
نهض حسن يتعكز، يمسح الدماء من كل وجهه بكمه في كراهية، خطواته عرجاء وأنفاسه متقطعة، خرج ليجد الجميع ينظر إليه في شفقة،، فهرول للخارج لا يصدق ما حدث ولا يستوعب إنقلاب الحال وخروجه من مكانه بتلك الحالة وبيد صديقه، فاق أخيرًا من سكرة حقده ولام نفسه كيف وصل لتلك الحالة وكيف سيطر شيطانه وطغى ضرب رأسه بالمقود وبعدها قاد سيارته ورحل.
***********
بعد مرور يومان
طرقت نفيسة الباب بوجل، بقلب يرتجف بين الضلوع وتردد يخترق الأنفاس ويبعثر القوة، وقفت سكن مبهوتة أول الأمر تنظر إليها برجفة خوف لا تبرح الملامح وتعكر الفرحة، اشتبكت النظرات لدقائق قبل أن تبتسم نفيسة في مبادرة لمد جسور الود بينها وبين رفيقة ابنتها «كيفك يا سكن»
بهتت سكن أكثر وتشتت خاصة مع نطق نفيسة لاسمها الجديد والمتداول كأنها تمد كفًا بالوعد، ابتلعت سكن ريقها وقالت وهي تنظر حولها بتيه «مرت خالي»
هزت نفيسة رأسها وقالت بمزاح ساخر ومازالت تقف على عتبات المنزل في احترام وتوقير حتى يأذن لها أصحابه بالدخول «جالولي حمزة قص لسانك مصدجتش، كنه صُح يا بت راضية وحمزة واد عبدالحكيم عمل الي محدش عمله»
ارتجف قلب سكن وابتسمت بفرحة حين قالت نفيسة ما قالت، هاهي تعترف أن هذا الشبل من ذاك الأسد لا ابن ورد كما تنعته دائمًا، ابتسمت نفيسة لابتسامة سكن وفرحتها قبل أن تطلب بحنو غريب «تعالي سلمي عليّ يا بت»
جاءت ورد من خلفها وقفت قليلًا بهدوء قبل أن تشجع سكن برحابة صدر «دخلي مرت خالك وسلمي عليها يا سكن»
قالتها ورد وجلست على الأريكة منتظرة قدوم نفيسة، مدت سكن كفها بإرتعاش فجذبتها نفيسة وضمتها مهنئة في عاطفة أمومة زادت من حيرة سكن وذهولها «الحمدلله إنك جومتي بخير، ربنا يكفيكي كل شر ويعوض عليكي يا بتي»
تصلب جسد سكن بين ذراعي نفيسة ومازال القلق يسيطر عليها، ابتعدت تشير لها بتلعثم وهي لا تصدق ما يحدث.«اتفضلي»
جلست نفيسة أمام ورد بصمت، جابت بنظراتها المنزل قبل أن تستقر نظرتها القوية فوق ملامح ورد فتنكسر وتعلن إنهزامها، قالت ورد وهي تمرر أناملها فوق حبات مسبحتها بتأني وهدوء
«عزيزة جيتك يا نفيسة والي وراها واعر»
تجردت نفيسة اللحظة من جبروتها وغرورها، ركعت أمام أمومتها تهتف بحسرة تقطع الأحشاء
«مفيش أوعر من الضنا يا أم حمزة»
هتفت ورد بنظرة ثاقبة تعري الروح وتكشف المستور«المرة التانية تدخلي بيتي يا ترى ليه؟»
انطفأت لمعة عينيها وسقط كبريائها وهي تخبر ورد بإنكسار وخضوع
«بحمي الي باجي جبل ما ينهشه رفعت»
سألتها ورد بفطنة وهي تتأمل ضعف نفيسة وكسرتها بشعور غامض
«عاليا»
أوضحت نفيسة والدموع تترقرق في عينيها متحسرة،الإعتراف ينحرها بسيفه الصديء
«ومن غيرها هي الي فاضلة وهتفضل بإذن الله سعد خلاص راح فسكة ممنهاش رجوع»
قالت ورد بهدوء ويقين نفذ من أعماقها الطاهرة
«عاليا ميتخفش عليها الخير الي جواها هينجدها»
صارحتها نفيسة في عودة مؤلمة للماضي، تذكرها في ترقب
«زي ما نجدك بيدي يا ورد زمان»
واجهتها ورد بقوة وثبات كاشفة نواياها
«جيالي أرد الدين يا نفيسة؟»
أكدت نفيسة بقوة بها بعض التوسل
«فرجبتك يا أم حمزة»
ابتسمت ورد ساخرة تخبرها مرارة، تعري الوهم وتكشف الحقائق
«معملتهاش حُب يا نفيسة عملتيها راحة وخلاص»
جادلتها نفيسة ببعض الثقة، تنسب الفضل لذاتها
«بس نجدتك ومحدش غيري كان يجدر»
هزت ورد رأسها وتنهدت مؤكدة وهي توضح لها ما خُفيّ عنها
«صح سبحانه من سخرك وخلاكي تظنيه خلاصك وكان في الحجيجة خلاصي أنا
بس مش دِه بس الي جابك»
ابتسمت نفيسة قائلة دون ذرة شك
«محدش غيرك يجدر أنتِ وحمزة عملتوها زمان لسكن»
طالعتها ورد بذهول وهي تستنكر بسخرية
«عاليا مش سكن»
همست نفيسة برجاء وهي تبتلع دموعها
«عاليا تستحج تعمليها عشانها فيها من عمها يا ورد الوحيدة الي متشبهناش، جولي لحمزة ووصيه، ملهمش غير بعض»
تأوهت ورد بصوت عالي قبل أن تطالعها مستفسرة بملامة
«كان فين كلامك ده زمان؟ معملتيش ليه حساب يوم زي ده، كسرتي خاطر ولدي ألف مرة»
شكتتها نفيسة في نفسها وقالت تلتمس لأفعالها العذر موضحة
«يمكن لو كنتي مكاني كنتي عملتي زيي يا ورد»
تملصت من إدعائها ورد واستنكرت في حدة وغضب من مراوغتها
«مش أنا ومكنتش هعمل»
ابتسمت نفيسة وتابعت بحسرة تتراقص كاللعب في نظراتها المنكسرة الخانعة
«مترمتيش في الوحل يا ورد ومدجتيش الهوان فمش هتحسي بيا»
تراجعت ورد بفطنة وندم، لا يمكنها الحكم على نفيسة هي لم تختبر، تزوجت من أرادت وعاشت كما تمنت، مرفهةً المشاعر،مدللة زوجها
«يمكن»
صارحتها نفيسة بما في نفسها وتكتمه ودموعها تنساب في ألم
«اتربيت أني لحكيم وكبرت وأنا عارفه أنه ليا، جيتي أنتِ جلبتي حياتي وغدر الدنيا بيطلع أوحش ما فينا»
قالت ورد بلين يغمر نبرتها وبعض الشفقة
«مش ذنبي»
هتفت نفيسة بشرود وحسرة
«ولا ذنبي أعيش نص العمر أحلم وتيجي أنت تحققي أحلامي أنا وجدامي»
عاتبتها ورد متذكرة ما وقع عليها من ظلم وحياتها التي قلبتها نفيسة، وغضب الجدة ومعاناتها هي وحكيم معها
«ظلمتيني كتير واتهمتيني بالباطل»
قالت نفيسة بلا تعبير أو مشاعر
«ربنا عوضك وردلك حجك يا ورد»
شكرت ورد وهي تضع أناملها على عينيها المغمضة تحبس الدمع «الحمدلله»
نهضت نفيسة من مكانها وتقدمت منها، أمسكت بكفها القابضة على المسبحة وتوسلتها
«انجدي عاليا واعتبريها بتك متسبيهاش»
فتحت ورد عينيها في اندهاش وبعض الفزع،مما آلت إليه الأمور وانقلاب الحال،قالت وهي تحاول سحب كفها
«أنتِ تجدري يا نفيسة بعدي ولدي»
تركت نفيسة كفها وقالت في توعد وشراسة
«الي أجدر اعمله هعمله بكلمك على بعدين»
سألتها ورد وهي تحدق في ملامحها التي تبدلت للنقيض «متى بعدين؟»
تجاهلت نفيسة سؤالها وابتعدت عنها تحكم الطرحة حول رأسها وصية لها
«متهمليش عاليا أنا جاية وكلي عشم فحمزة يراعيها ويعتبرها أخته»
أوقفتها ورد بقولها الحازم الساخر
«وليه فكراني هعمل الي تجوليه يا نفيسة»
التفتت نفيسة واخبرتها بإبتسامة صادقة
«عشان إنتِ ورد بتي أمانة فرجبتكم متسيبهاش لرفعت ينهشها أكتر»
أكدت ورد بفهم تطمئنها على فتاتها
«بتك ربنا معاها حافظها»
رحلت نفيسة كما جاءت بسرعة وتركت ورد في حيرة وشتات.
*****************
♡بمنزل زين ♡
قالت مودة وهي تتأمله «هتطلع برضو يا حضرة الضابط»
ترك فرشاة الشعر واستدار قائلًا وهو يتأملها بنظرة ماكرة مشتهيةً«دا سؤال ولا إعتراض؟»
وضعت الطوق فوق رأسها واقتربت منه قائلة «الاتنين» قالت بيأس وإحباط من أفعاله «الناس هتجول أكيد العروسة عفشة عشان كده العريس مجعدش يوم»
قطب يستفسر بصبر ونظراته تتوهج«أي ناس؟»
اقتربت من طاولة الزينة قائلة وهي تمشط خصلاتها «زمايلك»
قال بلا مبالاة وهو يخطو ناحية باب الحجرة مصممًا على الخروج «محدش يقدر بعدين هقعد جنبك اعمل إيه؟»
مطت شفتيها قليلًا ثم قالت بزفرة إحباط «معرفش هبجى اسأل سكن الرجالة بتجعد جنب مراتاتها تعمل ايه؟»
استدار عائدًا وقف أمامها يهتف بمزاح ساخر «مودتي مصرةً أنتِ على العلقة»
قالت بنظرة مستهينة وهي تقف أمام الخزانة «روح مشوارك عشان متتأخرش»
فتح الخزانة بيأس، تسحب عباية مناسبة ترتديها وتذهب لتقضي السهرة مع والدته وأخته، ولج الحجرة متراجعًا بعدما رأى ضيقها وحزنها، وقف خلفها يضمها لصدره قائلًا «خلاص مش طالع»
عادت لجمودها وبرودها الظاهري، قالت «لا خلاص مش مشكلة »
رفع حاجبه وهتف بإسمها في تحذير وسأم «مودة اظبطي واتكلمي علطول»
تأفف منزعجة واستدارت تعدل عن سحب عباءة، طوقت عنقه وقالت بنعومة «زينو خليك معايا ومتطلعش أجازتك من حجي أنا»
تنهد بهيام وهو يلثم خدها قائلًا «يخربيت خالك» ضحكت برقة قبل أن تهمس بخجل «مش هسأل سكن جولي أنت بيعملوا إيه؟ »
تصنع التفكير قائلًا «تصدقي مش عارف»
لوت فمها معاتبة بدلال «عيب ضابط ومتعرفش وأنا الي جولت هتعلمني»
ضيق عينيه على ملامحها بتفكير قطعه قائلًا «تصدقي عيب فعلا»
ضحكت برقة قبل أن تخبره بتفهم «لو زهجان تعالى ننزل نسهر معاهم»
ابتعد ينزع معطفه قائلًا «مش زهقان ومش هننزل وهنسهر عادي»
ابتسمت بسعادة وتحركت تخبره بحماس بعدما لثمت خده لبقائه معها «هروح أجهزه شوية أكل»
قبض على مرفقها وأعادها قائلًا وهو يضمها لصدره قائلًا «أكل إيه الله يخرب بيت خالك أنتِ ميتشبعش منه»
****
جلس حسان ينظر للعمال بنظرة متعبة، ورثة الشعور، الحزن داخله يتعملق ويسيطر والراحة تتقزم حتى تفنى فيمتلك الحزن الكيان كله ويهزمه، مازال رفعت يلهث خلف الدنيا دون اتعاظ، دون ندم أو حرقة لا يأبه بالدماء ولا الأرواح أنانيًا لا يعرف سوى ذاته وما يريد ويرغب، وهو يتبع خطة زين دون تفكير، بثقة لا تبصر سوى الخلاص من الذنب.. قطع رفعت عليه تفكيره بالسؤال «جربوا الرجالة ولا لسه؟»
قال حسان وهو ينظر للعمل الجاد والنشاط المشتعل «هانت على الفجر»
ابتسم رفعت بظفر وهو ينظر لعمق الحفرة، يتمنى ويلقي الشيطان في أمنيته عبثه وحقده، سيفوز بالكنوز ويقتل حسان، سيدفنه في مقبرة تليق بمشواره العظيم، سيتخلص منه كما فعل قديمًا.. نظر لحسان بغموض محدثًا نفسه بما تهوى وتضل، حسان يجب أن يكون ممتنًا لأنه سيمنحه تلك الميتة وذلك القبر، ابتسم بسخرية وهو يستدير على نداء بإسمه وحسان مازال على حاله وصمته ونظرته المخيفة.
مزقت الظلام بجسدها حتى وصلت إليهما، تميل بإغواء وتهمس بغنج «أنسيتو»
دقق حسان النظر فيها متحققًا من هويتها قبل أن يبتسم بسخرية ويشيح بعيدًا، قال رفعت بنظرة ثاقبة تفتش داخل أعماق حسان المظلمة «جاية تساعدك»
أعماق حسان ليس لا قرار، ابتسم مُرحبًا بوجودها «يا مرحب»
قالت بتحدي وهي تنظر لعينيه دون رهبة «أعرف كيف ما بتعرف وهساعدك»
تنهد حسان تنهيدة طويلة مفعمة بأنات الحزن معتقة برحيق الوجع «لو تعرفي مكنتيش جيتي»
ارتجفت قليلًا من ثباته وضحكته المتهكمة، ثبتت نظراتها عليه بحقد ورفعت يبادلهما النظر بترقب ذئب «الي معايا يعرفوك يا حسان»
قال ببرود يربكها وهدوء يستفز خوفها « الي معاكي أضعفهم»
ارتبكت أكثر بينما صبر رفعت، قالت بتحدي وهي تضع كفها على خصرها «هنشوف»
نهض حسان من جلسته، تحرك يترك كلماته خلفه تدوى في السكون وتفجر الصمت المحيط «ياريتك متشوفيش بس هي أجدار ومواعيد»
ووقف حسان بعيدًا، بينما التفت رفعت للواقفة تتابع حسان بغيظ وغرور حتى اختفى، قالت ناصحة «خلي عينك عليه دِه مالوش أمان»
نظر إليها بجرأة وهو يخبرها بنظرة تعريها «هاخد منه مصلحتي واجتله»
ابتسمت بشك وهي تتدلل عليه «ماشي بس الي معاي جالولي حسان شديد»
مال رفعت قليلًا يلتصق بها هامسًا «سيبك من حسان ويلا بينا على البيت»
ضحكت بإغواء قبل أن تشده من كفه فيسير خلفها بلهاث ورغبة، ليبصق حسان في أعقابها لاعنًا في نفور.
************
نسي ما كان بعد مقابلتها له، فحرصت على تذكيره بها والاتصال به، مطاردته حتى لان لها، أغوته فرحّب وها هي تدخل به المنزل تحت مرى ومسمع من سما التي احتمت بحجرتها تراقب من فتحة الباب ما يحدث بوجه متجهم..
لا يهمها ما تفعله خالتها ولا يعنيها، تريد تلك العائلة، ترغب في أن تصبح فردًا إجباريًا فيها، تريد الإلتقاء بحمزة ورؤية سكن بعد ما حدث، تريد الاطمئنان أن العمل يسير كما تريد ويأتي بنتائج مُرضية..
سحبته خالتها للحجرة وهو مستسلم تملأ نظراته الرغبة.
ابتعدت سما عن الباب بعدما أغلقته ببطء وهدوء، غاصت في مخدعها مفكرة منتظرة، بعد مرور وقت سمعت صوتًا بالخارج فتحركت تجاه الباب من جديد، وجدت خالتها تحيط كتفيها بالشال في استعداد للخروج، تحركت تجاهها متسائلة «رايحه فين؟»
أجابتها بجفاء «ملكيش صالح»
نظرت للحجرة مستفسرة بقلق وعيون زائغة «هتسيبيني مع الراجل دِه لوحدي»
قالت بقسوة وهي تفتح باب المنزل «مش هيصحى دلوك»
توسلتها سما بإرتجاف «خديني معاكي»
رمقتها بنظرة منزعجة يتطاير منها الشرر وهي تردعها في غلظة «روحي أوضتك وأجفلي على نفسك»
حاولت الحديث فمنعتها بإشارة تحذيرية «خلاص متحكيش»
ازدردت سما ريقها وهي تطالع باب الحجرة بقلق لا تعرف مصدره وخوف يفتت العظام، غادرت لحجرتها راكضة بينما رحلت خالتها...
جلس حسان في هدوء الليل يذكر الله بعدما صرف العمال، يستعد لرؤية باب المقبرة وفتحها أمسك بشعلته وتحرك تجاهها بوجل.. لتقطع طريقه تلك التي ظهرت من العدم قائلة «على فين؟ مش هتخبر رفعت»
وجّه الشعلة لوجهها وهو يُجيبها بثبات «لما تفتح الأول»
رمقته بنظرة ساخرة قبل أن تقول بتحدي وثقة «هتفتح محدش غيرك الي يجدر»
ابتسم بخشونة وهو يعاود الجلوس فوق الصخرة من جديد يسألها «جيتي وهملتي رفعت ليه؟»
دارت حوله كشيطان وهي تهمس «عشان نتفج»
سألها دون أن يهتز له جفن، أو تفتر صلابته «على إيه؟»
أخبرته وهي تحتكر نظراته وتقبض عليها عنوة «نفتحها وناخد الكنز ونهربوا مع بعض»
قهقه حسان بخشونة واستهانة جعلتها تزفر بغيظ، ثم توقف يسألها «وإيه يجبرني؟ طالما هتتجسم على اتنين ليه ميكونش رفعت»
قالت بحدة وهي تنظر لعينيه بقوة لا يهابها «عشان رفعت بيدبر يفتحها ويجتلك»
سألها بفطنة «وإيه يضمنلي إنك صادجة ما يمكن تجتليني ولا تكوني مخططة معاه»
ابتسمت قائلة وهي تتأمله بنظرة جريئة بها من الوقاحة ما يُنفر «لاه رفعت ميلزمنيش مش على هواي»
صمتت قليلًا تغزوه بنظراتها وهي تقول بإبتسامة قبيحة«أنت الي على هواي واتحادنا خير لينا»
قال حسان بسخرية مفتتًا ثقتها بنفسها «إيه يجبرني برضك»
قالت وهي تميل ناحيته بعنج «هجول لرفعت على زين؟»
أبعدها عنه في نفور وقرف، حدّق فيها ثم قال بسخرية «ممكن اجتلك هنا»
نظرت لعينيه بقوة ثم قالت «مش هتجدر بالعكس جتلي هيضرك ومش هتفلت من رفعت، لكن بوجودي هنفتحها وناخد الي فيها ونجهر رفعت، لسه جواك شيطان بيوسوسلك تنتجم»
عاد خطوة للخلف في إرتباك سيطر عليه وقال بتحدي «مش هفتحها»
حملقت فيه بنظرة كريهة مقيتة وقالت متحدية «هتفتحها عشان أسيب سكن فحالها» لمس الإصرار والطمع في نظراتها فاتجه بشعلته لباب المقبرة في صمت، وهي خلفه تترنح بنشوى وتدندن بإنتصار.
وقف أمام الباب الحجري، نظر للنقوش التي عليه يقرأها بصمت، ففُتح باب المقبرة فجأة كأنها وحشًا يدعوهما ليلتهمهما ..
شهقت بفرحة جنونية تُمني نفسها بالكنوز، تراجع حسان قائلًا في ارتباك«لازم نطلع الكنز ليه حارس تاني واعر، وقفت متخصرة بتحدي ترفض تصديقه والمغادرة«مش همشي»
ظهر تحت ضوء الشعلة سلّم فاندفعت متلهفة في اعتراض واضح «لاه هنزل أنا»
حاولت أخذ الشعلة فرفض محذرًا «اطلعي المجبرة الي هيدخلها هيموت»
وقفت قليلًا مترددة لكنها ظنت أنه يخدعها ويُرهبها لتترك المقبرة ويفوز هو بالغنائم، سحبت الشعلة عنوة وهبطت الدرجات بتأني بينما ركض هو للخارج في سرعة، صرخت بفزع يرجف الأبدان، صرختها هزت الأرض و أيقظتها لتُعلن عدم رضاها عن الطمع وجشع النفوس.
ازدادت صرخاتها واستغاثاتها حتى تهدم النفق الكبير وابتلعت الأرض المقبرة كأنها لم تكن.. وظل هو ينظر لما حدث بتحديق ورعب.. شكر الله وحمده وبعدها نهض راحلًا.
**********
همست سكن وهي تنسحب من جوار عاليا متجهة للمطبخ حتى لا تزعج نومها «ازيك يا حبيبي وحشتني»
أجابه بنبرة جاهد لتخرج خالصة من الحزن والضيق حتى لا تكتشف أمره «وأنتِ يا سكني طمنيني أنتِ بخير؟»
نظرت لقدميها وقالت بفرحة «زي الفل، حتيجي متى يا حموزتي»
قال بنبرة قل حماسها «يومين كده» ثم استطرد بأسف «سامحيني يا سكن غصب عني سيبتك، مكنتش أحب حد غيري يساعدك»
احتوت حزنه وقلقه بطمأنته «مش متضايجة ولا زعلانة تيجي بالسلامة بس متجفلش الفون وتغلبني يا حمزة»
ابتسم بحنو قائلًا «ماشي»
سألته وهي تصنع لها مشروب دافيء«مال صوتك يا حمزة مهموم كده»
تهرب منها وهو يتمدد فوق الفِراش «مفيش يا حبيبتي تعب من الشغل»
أغوته بضحكتها ودلالها «لما تيجي هضيعلك التعب كله»
قال بحماس رغم ما يعتريه من بؤس وحزن يفتت النفس «ماشي هشوف»
سقط الكوب وتناثرت شظاياه فسألها بقلق «أنتِ فين وإيه الي وجع منك؟»
أجابته بإرتباك وهي تجلس ململمة قطع الزجاج المتناثرة «مفيش الكوباية وجعت مني»
قالت بخوف و نفسه تؤنبه على تركها وحيدة «نادي أمي يا سكن»
قالت بعفوية «لاه أنا كنست الأرض وخلاص»
ردد بإندهاش «كنستي أرض إيه وكِيف؟»
تهربت من الإجابة بمزاجها قائلة «متجلجش يا واد عبد الحكيم واطمن»
تنفس ببطء وهو يخبرها بعشق «مبطمنش غير وأنتِ فحضني يا سكن»
ضحكت ضحكة قصيرة رقيقة وهمست « طيب متتأخرش»
ابتسم قائلًا «حاضر، يلا نامي متسهريش واتغطي زين يا سكن أنا مش جاعد أغطيكي»
همست بغيظ وسخرية«حاضر هتغطى وأشرب اللبن ومش هسهر أي حاجة تاني يا دكتور»
ضحك بخفوت وهو يلقي لها قبلة «لاه مفيش»
منحته واحدة وأوصته «متنساش الفستان لو نسيته هرجعك يا حمزة أنا لازم أحجج الحلم»
ضحك حمزة وشاكسها قائلًا «كل دِه معجبكيش فعايزة تحججيه»
ضحكت قائلة بإستمتاع «أيوة ولازم أحججه»
أعلن موافقته ورضوخه بمكر امتزج بحماسه «وأنا مش خسران حاجه بالعكس، بس توعديني أحجج أنا كمان أحلامي»
ضحكت بخجل، وهي تعده بشغف «ماشي اتفجنا يا حموزتي»
•تصبحي على خير يا سكني.
•وأنت بألف خير يا حبيبي ربنا يحفظك.
******"******
بعد مرور ثلاثة أيام
نهضت سكن بحماس وفرحة، كأنه يوم عيد، صلت الفجر وصنعت لنفسها كوب من الحليب ارتشفته وصعدت للأعلى تنتظره أمام النافذة غير مهتمة بالبرد ولا صقيع الفجر ما يعنيها هو وكيف تستقبله.
استيقظت الشمس من نومها تتثاءب على استحياء فرشت بأشعتها كبد السماء بينما ظلت نظرات سكن على امتداد الطريق بين الحقول.. حتى لمحت خيالًا يتحرك هلل قلبها مرددة «حمزة» كلما لمحته من بعيد يخطو بين الزروع بحذر، قفزت صارخة بإسمه غير عابئة لا يسع الكون أجنحتها.. وضعت كفيها على حافة النافذة تناديه بصوتٍ عالي جهوري «حمزاوي» نظر حوله متلفتًا يفتش عن مصدر الصوت حتى وجده أمامه يقترب كلما اقترب هو
رفع رأسه للنافذة ييتبع صوتها الذي يعرفه، رقصت دقاته طربًا وهو يراها تقفز هكذا تود لو ألقت بنفسها..خاف عليها ولام المحيطين الذين تركوها وحدها أمام النافذة في هذا الوقت الباكر والبرد الشديد،لكن كيف تفعلها وما هذا الجنون؟
اشتدت خطواته بقلق وحذر
وعينيه لا تبرح النافذة في خوف يسكن الضلوع، لم يبقى سواها هي الأنس والونس والحياة، لوحّت بكفها فابتسم ضاحكًا من جنونها يبادلها الإشارة ببعض القلق،اختفت فحمدالله وأسرع الخطى أكثر .
لم تستطع الصبر ولا التحمل، وضعت حجابها فوق رأسها وغادرت تلتهم الدرج وتطويه طيًا حتى عبرت البوابة غير عابئة بنداء ورد ولا استفسار راضية التي جاءت تتناول فطورها معهما ككل صباح.. ركضت بأقصى سرعة وحماس وكلما أقتربت منه صرخت بإسمه ضاحكة «حمزاوي»
وقف قليلًا منتفضًا لا يصدق ما يراه، عينيه كانت على ساقيها اللتين تطلقهما للرياح الآن، يرمش ليستوعب ويفرك عينيه ليتحقق، ربما خياله يعذبه برؤية ما يتمنى ويشتهي أو هواجس صنعها عقله الباطن
لا يعرف كيف يوقفها أو يجاري جنونها تلك اللحظة كلما وصله صوتها اتسعت ابتسامته وزاد ذهوله حتى تكونت ضحكة رائقة استقبلها بها،لا يصدق أنها الآن تركض سليمة معافاة ..وقفت أمامه تلهث ووقف هو يتأملها مبهوتًا،يلملمها في نظرة مستقرها عند قدميها،ولمّا أستوعب وواصلت هي ، ألقى حقيبته وفتح ذراعيه يستقبلها.. تعلقت به ضاحكة يتخلل اسمه انفاسها الثائرة بفرحة «حمزاوي»
ضمها يرفعها عن الأرض بها مشاركًا لها جنونها، يقهقه مستمتعًا وهو يدور بها حتى توقف يلتقط أنفاسه وهمس بغير تصديق «بتمشي؟»
هزت رأسها ونظراتها مسلطة عليه بإشتياق وجوع، همست «حمزاوي وحشتني»
نثر قبلاته فوق وجهها يهمس بحرارة وعاطفة شديدة «وإنتِ يا سكني»
أبعدته تنبهه بخجل «إحنا في الطريج»
همس قبلاته لا تتوقف «مش جاقدر يا سكني» عاتبها وهو يعتصرها بين ذراعيه «مكنتيش عارفه إنه طريج وأنتِ جاية تجري وعارفة مش هصبر»
ضحكت بشقاوة وهي تبتعد عنه تهمس بلا مبالاة «لما بشوفك مبشوفش حد، وكأنها مش دنيا ولا فيها ناس، الدنيا وجتها بالنسبالي فعنيك يا حمزة»
عاد لحقيبته، حملها من جديد وهي تسأله
متأملة إحمرار عينيه وأنفه بحنان «بردان يا حمزاوي»
أخبرها وهو يضمها لصدره من جديد بقوة «كنت بس اتدفيت بيكِ»
ابتعدت تلف ذراعها حول ذراعه، ثم تركته وتحركت أمامه، منحته وجهها تثرثر وظهرها للطريق، عينيه من تفعل تتنقل نظراته بينها وبين الطريق خلفها ليحميها، يبتسم ويستمع لثرثرتها التافهة بحب، تتعرقل فيمسك بكفها ويشدها لأحضانه ينعم بدفئها قليلًا بشوق ثم يتركها.. حتى وصلا
استقبلته ورد بأحضانها وكذلك راضية، جلس جوارهما محاطًا بكل الحب وعقله مع التي غادرت تعد له الفطور.
عادت بعد قليل بصينية واسعة، وضعتها أرضًا، فوجهتها ورد بحنو وفطنة «طلعيها فوج يا بتي عشان يفطر ويريح شوية من تعب السفر»
عضت شفتيها تكبح ابتسامتها، وصعدت بحماس المحبين وشغف العشاق، ربتت ورد على كتفه «يلا يا حبيبي»
قبّل رأسها وصعد، اختفى عن نظرات والدته وعمته فركض للأعلى دون صبر وبلهفة طفل، دخل الحجرة وأغلق خلفه وقف يتأملها قبل أن يغمرها بصدرها ويذيبها بين ذراعيه، يمنحها عبق اللهفة وحلاوة الشوق يندفع بلهفة المراهقين وإتقان الخبير، يمتلكها ببطء مستشعرًا مذاق كل لحظة معها.. وهي تنصهر وتتوحد تهمس بكلمات العشق لا يهمها سواه، تعطي بجود وتمنح بسخاء فيطلب أكثر.
بعد مرور وقت انكمشت بأحضانه تلف ذراعها حول بطنه في صمت، لا هو يسأل ولا هي تخبره، هو يعرف الإجابة فلما يعكر صفو اللحظة، ابتسمت سكن متنهدة وهي تعرف أنه لن يسألها فالإجابة عنده منحتها له عبر نظراتها فغلب حلمه حزنه، وطغت فرحته على كل حزن، حمزة الحنون غلب حبه لها كرهه لحسان، فاز القلب وانهزم العقل، حبه لها أكبر من كراهيته لحسان.
قالها عمها فوعتها واحتفظت بها في القلب.
لم يكن أمر حسان وحده الذي تجنب بل وحسن أيضًا هو قرر لن يخبرها ورؤيته لها معافاة زادت من ثباته على الأمر، فليغلق صفحته أو يمزقها لن يُحزنها بكلمات حسن ولن يعكر سعادتها بباطل إدعاه صديقه، سيتحمل وحده وستمر المحنة يكفيه وجودها وذراعيها،الصديق الخائن جزء يستحق البتر لا البكاء عليه.
«مش هتفطر» سرقت انتباهه بكلماتها فهمس بضحكة خافتة «فطرت»
قالت بدلال «طلعني يا حمزة، فسحني زي ما جولتلي ووعدتني»
قبل رأسها قائلًا «حاضر يا سكن»
اعتدلت جالسة تاركة أحضانة «جوم نفطر أنا جعانة»
