اخر الروايات

رواية حين صافحتك الحياة الفصل الثاني 2 بقلم ماسة الحريري

رواية حين صافحتك الحياة الفصل الثاني 2 بقلم ماسة الحريري


حين صافحتك الحياة
"،البارت الثاني
رائحة المطر في صباح القاهرة كانت تحمل شيئًا غريبًا، وكأنها تمهد لحدث لم يكن في الحسبان. جلست حنين على مكتبها في دار النشر، تراجع الفصل السابع من الرواية الإيطالية… لكن فجأة، توقفت.
صفحة قديمة، مختلفة، مكتوبة بخط يدوي لا يشبه باقي الصفحات… لم تكن ضمن النص المطبوع.
همست لنفسها بقلق:
— إيه ده؟ الصفحة دي ما كانتش موجودة قبل كده...
سحبت الهاتف فورًا، واتصلت بيوسف.
— يوسف، لازم نتقابل النهارده. فيه حاجة غريبة في الرواية.
ردّ بنبرة جادة:
— تمام، فين وإمتى؟
— نفس المقهى… بعد ساعة.
في المقهى، كان التوتر ظاهرًا على وجه حنين، بعكس يوسف الذي جلس كالعادة بهدوء ظاهري يخفي وراءه شيئًا أعمق.
أخرجت الصفحة ووضعتها أمامه.
— اقرأ دي. ما لقيتهاش وسط الصفحات اللي كنت بشتغل عليها قبل كده. واضح إنها مكتوبة بخط إيد، ومش مترجمة.
أمسك يوسف بالصفحة، وما إن قرأ السطر الأول، حتى تغير لون وجهه.
— دي... دي مش المفروض تكون هنا.
نظرت إليه حنين بدهشة:
— يعني إيه؟ الصفحة دي فيها مشهد مختلف تمامًا… اعتراف بخيانة؟ فيه اسم جديد كمان… “كلارا”؟
سكت يوسف للحظة، ثم قال بصوت خافت:
— كلارا كانت جزء من الحكاية اللي محدش حكاها… مش من المفروض إنك توصلي للصفحة دي.
— ليه؟ الرواية المفروض إنها تتنشر كاملة، من حقي أعرف الحقيقة.
قال يوسف بعينين تنبضان بالألم:
— الحقيقة أوقات بتوجع أكتر من الكذب. الرواية دي كتبها جدي، بس في نسختين… واحدة للعالم، والتانية للوجع اللي دفنه معاه.
اقتربت منه، وقالت بحدة:
— يوسف، أنا مش مترجمة بس، أنا جزء من القصة دلوقتي. ولو في أسرار في الماضي، أنا مش هقبل أكون متفرجة.
أطرق برأسه قليلًا ثم قال:
— كلارا… كانت حب جدي الأول، قبل ما يقابل جدتك. واللي حصل معاها قلب كل حاجة…
قاطعته حنين وهي تفتح دفتر ملاحظاتها:
— وده يفسر ليه الرواية بدأت بقصة حب مثالية وانتهت فجأة بجفاء. كان فيه حاجة ناقصة… حاجة متقصودة تتشال.
قال يوسف بنبرة مشبعة بالتوتر:
— جدي كان بيحاول يحمي صورة الحب، يحمي اللي فاضل من روحه… يمكن عشان كده خبى الحقيقة.
سكتت حنين لثوانٍ، ثم نظرت في عينيه وقالت بنبرة فيها تحدٍ ناعم:
— وأنا مش ناوية أخبي حاجة. لو الرواية دي هي اللي جمعت بينا… فالحقيقة هي اللي هتحدد إحنا نكمل ولا ننهزم زيهم.
وفي تلك اللحظة، لم تكن الرواية مجرد نص يُترجم، بل أصبحت مرآة لكل خيبة دفنتها حنين، ولكل صمت عاشه يوسف.
الصفحة الغامضة كانت بداية لعاصفة لن تهدأ…
وربما، تلك الصفحة كانت المفتاح لكل شيء.
ساد صمت ثقيل بينهما. يوسف ظلّ يتأمل الصفحة، كأنه يرى ماضيه يتسرب من بين السطور، وحنين كانت تحدق فيه، في ارتباكه، في ملامح وجهه التي بدأت تتصدع بصمت.
قالت بنبرة أهدأ، لكنها لا تزال تحمل إصرارًا:
— يوسف، اسمعني… أنا مش جاية أفتش في جراحك، ولا أفضح أسرار عيلتك. بس الرواية دي بقت أكبر من مجرد مشروع ترجمة.
رفع رأسه ببطء، وقال بصوت متعب:
— وأنا اللي بدأت… وأنا اللي خبيّت. ودي غلطتي.
حنين اقتربت منه قليلًا، وضعت يدها على الصفحة، وقالت:
— احكيلي. من البداية. من غير تصفية… ولا تلميحات.
نظر في عينيها طويلًا… ثم تنهد.
— جدّي… كان شاب بسيط من نابولي، اتنقل يشتغل في مكتبة قديمة في فيرونا. وهناك… قابل كلارا. بنت من عيلة غنية، مثقفة، قوية، بس متمردة على مجتمعها.
سألته حنين بدهشة:
— مش كانت الرواية بتقول إن جدتك "روزاليا" هي أول حب ليه؟
ضحك يوسف بسخرية مُرة:
— علشان دي النسخة "الصالحة للنشر". الحقيقة إن الحب الأول كان كلارا… بس نهايته كانت مأساوية.
حنين عقدت ذراعيها باهتمام وقالت:
— إيه اللي حصل؟
يوسف سحب أنفاسه وقال:
— كلارا كانت على علاقة بحد تاني. سياسي نافذ… جدي اكتشف، بس بعد ما كانت متعلقة بيه جدًا. حصلت مواجهة. ليلة انهيار. وبعدها اختفت كلارا… للأبد.
— اختفت إزاي؟!
— محدش عرف. جدي لف عليها نص إيطاليا. وآخر رسالة وصلت له كانت سطرين مكتوبين بخطها:
"أحيانًا الحب بيقتل، ومش لازم نكمل علشان نحيا… لازم ننهي علشان ننجو."
حنين ضغطت على شفتيها بقوة، ثم قالت:
— والرواية؟ كتبها بعدها؟
هز رأسه ببطء:
— بعد سنين… كتبها علشان يحكي حكاية خيالية، بس دفن فيها الحقيقة. وأنا… لما ورثت مخطوطاته، كنت ناوي أنشر النسخة المطهّرة، لحد ما لقيت الصفحة اللي معاك.
سألته بنبرة مشبعة بالحيرة:
— وليه كنت ناوي تخبيها تاني؟
نظر إليها طويلًا… ثم قال:
— لأن الحقيقة مؤلمة. ومش كل القلوب تقدر تحتملها.
سكتت حنين لحظة، ثم قالت بجرأة:
— يمكن. بس أنا قلبي مش زي قبل. أنا جرّبته لما اتكسر… وبنيت حوالينه حيطان من نار.
أنا… مش عايزة أترجم رواية رومانسية، عايزة أعيش حكاية حقيقية. حتى لو كانت موجعة.
يوسف ضحك، بس كانت ضحكته خايفة:
— يعني إيه؟
قالت وهي تميل للأمام:
— يعني نكمّل القصة سوا. نرجع فيرونا. نبحث عن اللي حصل فعلًا. ندور على كلارا، أو على أثارها.
لو الرواية دي فتحت باب، يبقى لازم نعدي منه.
صمت يوسف. لم يُجِب فورًا. فقط حدّق في كوب قهوته، ثم رفع نظره إليها وقال بصوت خافت:
— لو رجعنا، ممكن نلاقي حاجات ندمت عيلتي إنها حصلت… وممكن، نرجع بجراح جديدة.
ردّت حنين بابتسامة مائلة إلى الحزن:
— ما هو أصلًا… محدش بيرجع من الرحلة دي سليم.
وفي اللحظة التي وضعت فيها يدها على الغلاف الجلدي للرواية، شعرت بشيء داخلي يتحرك، كأن الحياة بدأت تهمس لها:
"مرحبًا… أنا الحياة، صافحتك أخيرًا."
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close