اخر الروايات

رواية سليم والمراهقة الفصل التاسع عشر 19 بقلم خضراء القحطاني

رواية سليم والمراهقة الفصل التاسع عشر 19 بقلم خضراء القحطاني

البارت التاسع عشر _ سليم والمراهقة _
من بعد الليلة دي، ليلى ما بقتش زي الأول.
ما عادتش بتستناه يصحى أو يرجع من شغله.
بقت تصحى بدري، تجهز نفسها، تخرج تزور أهلها أو تروح النادي،
وترجع مبتسمة، كأنها نفضت عن قلبها وجع السنين.
كانت بقت تضحك أكتر، تهتم بنفسها،لبسها أنيق، شعرها دايمًا مرتب،وحتى صوتها لما تكلمه بقى هادي، بلا عتاب، بلا انتظار.
في البداية، فارس تجاهل التغيير.
قال في نفسه:يمكن فترة وتزهق.
لكن الأيام عدّت وليلى بقت فعلاً مختلفة.
دخل يوم عليهم في الصالة، لقاها قاعدة على الكنبة،
بتضحك وهي بتتكلم في التليفون مع أختها.
ضحكتها كانت دافية، نغمتها خفيفة،
وكأنها نسيت تمامًا وجوده.
وقف لحظة يتأملها،وفي قلبه حاجة اتحركت من غير إذنه.
هي بتضحك كده من غيري؟
لكن سرعان ما رسم على وجهه الجمود المعتاد،
وقال ببرود: شكلك مبسوطة النهارده.
التفتت ليه بابتسامة خفيفة: آه، كنت بكلم هالة بنفكر نطلع مشوار بكرة.
قال بنبرة محايدة: لوحدكم؟
آه، ليه؟
لا بسأل.
سكت.
رجع يقلب في أوراقه على الطاولة كأنه مش مهتم،
لكن ودنه معاها،
وعقله مش عارف يركز.
وبالليل، وهو في مكتبه،فضل يسمع صوتها وهي بتتكلم مع نفسها في المطبخ،تغني بصوت واطي، نفس الأغنية اللي كانت دايمًا تغنيها زمان قبل ما الحزن يملأ بيتهم.
حس بحاجة بتخنقه،مش غيرة واضحة ولا حب معلن لكن حاجة ما قدرش يسميها.
طلع من المكتب، وقف في الممر يراقبها وهي واقفة قدام الفرن،وشعرها سايب على كتفها،ضحكت لما شافته وقالت
بلطف: جوعت؟
قال بسرعة، كأنه بيهرب من ضعفه: لا، كنت عايز ميه.
دخل المطبخ، مد إيده على الكوب،بس صوته خرج أهدأ من العادة وهو يقول: شكلك مرتاحة اليومين دول.
قالت وهي بتصب العصير: بحاول أعيش يا فارس الحياة قصيرة.
كلمة أعيش وقعت عليه زي س*هم.
رد بهدوء جاف: تمام، عيشي زي ما تحبي.
وغادر المطبخ،لكن قلبه كان م*ولّع غيرة ووج*ع.
دخل أوضته،قعد على السرير،وهمس لنفسه:هي فعلاً بطّلت تحبني؟ ولا بتحاول تخليني أغير؟
بس مهما كانت الإجابة،قرر يفضل صامت، كعادته.
مش هيعترف لا بغيرته،ولا بحبه اللي حاول يخ*نقه سنين لكنه نسي إن الصمت أحيانًا بيك*سر القلوب أكتر من الكلام.
كانت ليلى في المطبخ بتحضر القهوة،والبيت هادي كأنه نايم على أطراف أصابعه.
النهارده كانت ناوية تخرج مع صاحبتها القديمة هالة اللي رجعت من السفر،لبست فستان بسيط لونه سماوي،نزل شعرها على كتفها، وبسمة خفيفة على وجهها كأنها بتتحدى الح*زن اللي عاش فيها سنين.
فارس كان قاعد في الصالة،بيراجع شوية أوراق،لكن لما شافها نازلة من فوق،
اتجمد مكانه.
هي دي ليلى؟
اللي كانت دايمًا حزين*ة، مطفية؟
النهارده كانت شبه النسمة،وفي عينيها ضوء غريب، مزيج من القوة والأنوثة.
قال بهدوء مصطنع: رايحة فين؟
قالت وهي بتعدل شنطتها: خارجة مع هالة شوية.
رفع حاجبه: الساعة دي؟
آه، اتأخرت علينا شوية هنقعد على القهوة، مش أكتر.
سكت لحظة،عينه بقت تلاحق كل حركة منها،كل تفصيلة في لبسها.
قال بصوت فيه نغمة غيرة خفية: يعني لازم تروحي كده؟
نظرت له باستغراب: كده إزاي؟
فستان مفتوح كده والناس كلها هتبص.
ضحكت بخفة وقالت:فارس، دا فستان عادي جدًا.
عادي بالنسبالك، مش بالنسبالي.
قرب منها خطوتين،وصوته نزل أوطى: ما بحبش الناس تشوفك كده.
قالت ببراءة، لكنها كانت حاسة بقلبها بيدق: ليه؟
رد ببطء، وهو بيحاول يخفي توتره: ما بحبش بس كده.
قاطعهم صوت رسالة على موبايلها.
بص فارس تلقائيًا للشاشة،
شاف اسم هالة، لكنه لمح قبلها إشعار من رقم غريب بيقول:وحشتينا يا ليلى.
وقف مكانه،عينه اتبدلت.
قال بحدة: مين دا؟
اتلخبطت وقالت بسرعة: دا رقم غلط، أكيد.
رقم غلط بيقولك وحشتينا؟!
اقترب منها أكتر،صوته بدأ يفلت منه الغض*ب اللي كان حابسه سنين:أنتي كنتِ بتتكلمي مع حد؟
نظرت له بدهشة وأل*م: إنت جنيت؟ أنا طول الوقت في البيت!
مش دايمًا من لما بدأتي تخرجي وأنا مش مطمن.
سكتت لحظة، وبعينين فيها دموع قالت: دلوقتي بس افتكرت تسألني فين بروح؟ بعد ما كنت مش شايفني أساسًا؟
كلمتها وج*عت قلبه،لكن كرامته منعته يرد بلين،فقال بحدة:جاوبي بس.
مش هجاوب على حاجة بالشكل دا.
وأدارت ظهرها، وراحت ناحية الباب.
لكن قبل ما تمسك المقبض،مد إيده بسرعة ومسَكها من ذراعها بلطف،صوته كان مك*سور المرة دي: ليلى استني.
اتجمدت مكانها.
نظرت له،وشافت في عينيه حاجة أول مرة تشوفها بوضوح خوف.
قال بصوت واطي جدًا: أنا مش عايز أخسرك حتى لو ما تعرفيش قد إيه.
سكتت،وعينيها دمعت همست بخفوت:متأخر يا فارس بس يمكن لسه في وقت.
سيبته ومشيت،وسابته وراه تايه بين ندمه وغروره بس أول مرة يحس إن الخوف الحقيقي مش من الرص*اص اللي واجهه طول عمره،إنما من فقدانها هي.
كانت الساعة تعدّت نص الليل،
والشارع هادي إلا من صوت الكلاب البعيدة وصوت أنفاس ليلى المت*قطعة.
جلست على الكنبة في بيت هالة،عينيها حمر من البكاء،وشعرها مفكوك، كأنها فقدت السيطرة على نفسها.
هالة قعدت جنبها،حطت فنجان الشاي قدامها وقالت بهدوء:اشربي يا ليلى، نفسك هيهدى شوية.
ليلى مسكت الكوب، لكن إيديها كانت بترتعش.
قالت بصوت مخن*وق: هو ليه بيعمل كده يا هالة؟
أنا تعبت والله تعبت.
مش قادرة أفهمه، يوم يبعدني، ويوم يغير عليا كأنه بيحبني ولما أقرب، يرجع يقفل كل الأبواب.
هالة لمست كتفها بلطف وقالت: يمكن بيخاف، يمكن اتعود يخبي مشاعره.
يخاف؟ يخاف من إيه؟
أنا مراته! المفروض أكون أقرب واحدة ليه، بس حاسه نفسي غريبة عنه.
كأن بينا سور عالي، كل ما أحاول أوصل له، يبعد أكتر.
انف*جرت بالبكاء،دفنت وجهها في حضن هالة،وصوتها كان بيخرج متقطع، مليان وج*ع: أنا ما طلبتش منه حاجة غير إنه يكلمني،يضحك معايا، يسألني عن يومي لكن حتى دي بقت كتير عليه.
ولما ابتديت أضحك تاني، غير عليا وض*ربني بنظرته،
كأنه بيحاسبني إني عايشة!
هالة كانت بتمسح دموعها بإيدها وهي بتحاول تهديها: يا حبيبتي، ما تستسلميش للحزن كده.
اللي بيحبه دايمًا بيغلط، بس يمكن هو مش عارف يوصللك.
الرجال اللي زي فارس صعبين،بيكتموا كل حاجة، بس جوّاهم ن*ار.
ليلى رفعت راسها من حضنها،نظرت لهالة بعينين غارقة في الدموع وقالت: بس ال*نار دي بت*حرقني أنا.
هو مش بيحس، وأنا اللي بت*كوي كل يوم بصمته.
قامت من مكانها، مشت خطوتين ناحية الشباك،وبصت في الظلام وقالت بصوت واهي: يمكن أكون غلطت لما حبيته يمكن كنت بفتكر إنّي هقدر أغيره بس الحقيقة، هو اللي غيرني خلاني أخاف من الحلم، ومن الضحك، ومن نفسي كمان.
اقتربت منها هالة،وحطت إيديها على كتفها وقالت: اللي بيتألم كده، بيكون لسه في قلبه أمل يمكن اللي بينكم لسه ما ماتش،بس محتاج شوية صبر، وشوية صدق.
سكتت ليلى،وبصت لهالة بنظرة حزينة وقالت: نفسي أصدقك بس قلبي مش قادر.
وانهارت تاني بين أحضانها،تنهيدة طويلة خرجت منها كأنها بتودّع وج*ع عمره سنين،وهالة حضنتها بقوة،وهي بتهمس في أذنها: لو هو حبك بجد هيعرف يرجعك بنفسه.
كان الصبح لسه بيطلع،ضوء الشمس الخفيف بينسل من شباك الصالة،والبيت فاضي إلا من صوت الساعة اللي بتعدّ الثواني ببطء.
فارس دخل البيت بخطوات تقيلة،وشه متعب، وعينيه فيها أثر سهر طويل.
وقف في النص، بص حواليه،على الكنبة اللي كانت بتقعد عليها ليلى،على الكوب المك*سور اللي لسه ما اتشالش من الأرض،على السكون اللي خ*نقه خ*نق.
نادى بصوت واطي: ليلى سكت لحظة ليلى، أنا عارف إني غلطت، بس ارجعي.
مافيش صوت غير صدى كلماته.
قرب ناحية غرفتها، فتح الباب،
لقي سريرها فاضي، والغطا متكوم كأنها خرجت مستعجلة.
قلبه وقع.
حط إيده على راسه وقال بينه وبين نفسه: إيه اللي أنا عملته؟
أنا كنت بحاول أبعد عنها علشان ما أوجع*هاش،
بس في الآخر وجعتها أكتر.
اتنهد وهو بيبص في المراية اللي على الحيطة،شاف وشه الشاحب وقال: تستاهل يا فارس دا جزاء اللي بيكتم كل حاجة جواه.
في اللحظة دي دخل فراس،أخوه، وشافه واقف كده، فسأله بقلق: مالك؟ وشك متغير كده ليه؟
ليلى مشيت، يا فراس.
قالها فارس بصوت مبحوح، كأنه بيتكلم لأول مرة عن وج*عه.
فراس اتنهد وقال له: ما تلومهاش، يا فارس.
البنت كانت بت*تألم، وإنت كنت عامل نفسك مش شايف.
أنا كنت شايف كل حاجة بس كنت خايف، خايف أحبها أكتر فت*تأذي بسببي.
كل اللي حواليّ بي*توجع، وأنا مش عايزها تكون زيهم.
فراس قرب منه وقال بحدة فيها شفقة: الحب مش ضعف، يا فارس.
اللي بيخاف من الحب بيضيع نفسه واللي بيحبّه.
دور عليها، قبل ما تروح منك بجد.
طلع فارس المفاتيح من جيبه،وقال بعزم: مش هرجع غير وهي معايا.
ركب عربيته، والعالم حواليه كان ضباب،عقله كله صور
ليلى ضحكتها، زعلها، عيونها اللي كانت بتتكلم أكتر من كلامها.
فضل يسوق في الشوارع،يسأل أصحابها،يروح الأماكن اللي كانت بتحبها،لحد ما وقف قدام بيت هالة،وقف لحظة ياخد أنفاسه،
وبعدين نزل، دق على الباب.
هالة فتحت، اتفاجئت لما شافته،قال بهدوء، وعينه فيها قلق وحزن: ليلى هنا؟
هالة بصّت له بنظرة فيها عتاب وقالت: جاي تدور عليها دلوقتي؟ بعد ما كسرت قلبها؟
عارف إني غلطت، بس عايز أصلّح.
هي مش هنا، راحت بيت أهلها بس يا فارس، لو بتحبها بجد، ما ترجعهاش بنفس القسوة،رجّعها بالحنية اللي استنتها منك سنين خصوصًا وهي حامل وبتتأثر بأي حاجة.
سكت فارس لحظة،وعينيه لمعت دموع وهو يقول:المره دي مش هسيبها تدمع لوحدها.
خرج، ركب العربية،وهو بيحس إن المرة دي لازم يتغير
مش علشانها بس،لكن علشان نفسه اللي تعبت من الصمت.
كانت ليلى قاعدة في شرفة بيت أهلها،
النسمة الباردة بتحرك خصلات شعرها الخفيفة،
وعينيها بتتأمل الشارع من غير تركيز.
من يوم ما رجعت، وهي بتحاول تقنع نفسها إنها نسيته،
لكن قلبها كان بيكذبها كل مرة تسمع فيها صوت عربية من بعيد.
وفجأة سمعت خبطة خفيفة على البوابة الحديد.
قامت بخطوات مترددة،ولما فتحت الباب شافته.
فارس.
واقف قدامها، لابس قميص أسود وبنطال جينز اسود، وشكله متغير.
فيه تعب، وفيه وجع، بس الأغرب فيه خوف.
قال بصوت خافت: ازيك يا ليلى؟
ما ردتش.
لفّت وجهها ناحية البيت وقالت: لو جاي تطمن، أنا بخير.
قرب منها خطوة،مش جاي أطمّن، جاي أرجّع اللي راح.
ضحكت بمرارة، اللي راح يا فارس، راح.
كلمة آسف مش كفاية بعد اللي وجّعني.
مد إيده كأنه بيحاول يلمسها، بس وقف في نص الحركة.
قال بهدوء غريب: ما جايش أقول آسف،
جاي أقول إني من غيرك تايه كل حاجة فقدت معناها.
بصّت له بعين فيها دموع مكبوتة: يعني دلوقتي افتكرت تحبني؟
بعد ما دُست على قلبي؟
ما نسيتش لحظة،كنت بحاول أحميك منّي،لكن الظاهر إن البُعد وجعك أكتر من قربى.
سكتت، وبصّت له،القلب عايز يركض له، بس الكرامة واقفة سداً بينهما.
قالت بصوت مهزوز: أنا تعبت يا فارس مش قادرة أعيش بين خوفك وصمتك.
قرب منها، ونبرة صوته كانت أقرب للرجاء:المرة دي مش هسكت،ولا هسيبك تبكي لوحدك تاني.
اديني فرصة واحدة أثبت لك إن فارس اللي عرفتيه مات،واللي قدامك دلوقتي، راجل بيحبك بصدق.
نزلت دمعة من عينها،لكنها أخفتها بسرعة وقالت: خليه يثبتها بالكلام ده مش بالوعود.
ابتسم بخفة وقال: وهعملها، حتى لو طول العمر.
وسابها تمشي،لكنه كان عارف إنها المرة الأخيرة اللي هيسيبها لوحدها.
وفي نفس الوقت،في القصر الكبير على أطراف القاهرة،
كان سليم الجندي واقف في شرفة مكتبه،الدخ*ان طالع من سي*جارته، ووشه ساكن،لكن جواه بركان.
دخلت سلسبيل بخطوات خفيفة،كانت لابسة فستان بسيط، شعرها مربوط بعفوية،وعيونها فيها حذر.
قالت بخفوت:كنت عايزني يا سليم؟
التفت ليها، وصوته جه غليظ وواثق: ليه خرجتي من الفيلا من غير إذني؟
ردت وهي بتحاول تمسك أعصابها: كنت محتاجة أتنفّس شوية حسّيت إني مخ*نوقة.
ضحك بس*خرية وهو يقرب منها: تتنفّسي؟
ولا تهربي؟
فاكرة إني مش هعرف؟
مش بهرب منك يا سليم،
بس أنا مش قادرة أعيش في خوف كل يوم.
كل الناس بتهابك، وأنا كمان قرب منها أكتر، عيونه سكنت على وجهها،وقال بصوت منخفض لكنه مخيف: وأنا عايزك تهابيني فعلاً بس أكتر من كده، عايزك تفهمي إنك تخصيني.
اتجمدت مكانها،مش عارفة ترد،لكن في عينيه لمحت حاجة مختلفة مش بس القسوة اللي متعودة عليها،فيها لمحة ضعف خفيفة، زي واحد بيحارب نفسه.
قالت بهدوء: أنا مش ملك حد، يا سليم.
أنا ليا كياني.
قرب منها خطوة تانية،وقال بجدية: وأنا عمري ما كنت بخاف من حاجة،لكن دلوقتي بخاف تفلتِي مني.
سكتت، ووشها احمر،قلبها بدأ يدق بسرعة،ولأول مرة،ما قدرتش تفرق بين خوفها منه وحاجتها ليه.
وقف بينهم صمت طويل،بس الصمت كان مليان كلام.


العشرين من هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close