رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وثلاثة وستون 263 بقلم اسماء حميدة
الفصل 263
كانت الشاشات تنفث فضيحتها في العلن صورٌ مركّبة بعناية لــ **ظافر** و**دينا** متشابكين في لحظاتٍ مسروقة يعلوها نقشٌ أحمر كدمٍ طازج: *"غشّاش"*... الكلمات المخطوطة لم تكن مجرّد حروف بل خنجرًا مسمومًا غرسته يد خفيّة في قلب سمعته وما إن أدرك الأمر حتى كان القطار قد غادر المحطة؛ الصور اجتاحت الفضاء الإلكتروني كعاصفةٍ عمياء تتصدّر الأخبار وتنتشر في الهواتف كما تنتشر الڼار في هشيمٍ يابس.
هرع قسم تكنولوجيا المعلومات يحاول احتواء الانفجار يسحبون الصور واحدًا تلو الآخر من خوادم الشركة لكن ما أُطلق إلى العلن لم يعد بالإمكان استرداده وبينما كانوا يفتشون في خيوط الشبكة المظلمة، عثروا على أثرٍ غريب:
التقنية ذاتها التي استُخدمت لاختراق حساب **ظافر** البنكي قبل أسابيع… كلا العمليتين وقعتا في نفس الساعة الملعۏنة:
الثالثة فجرًا حين ينام العالم ويصحو الجنّ.
حين أفاق **ظافر** ورأى الصور داهم رأسه صداعٌ كأنه مطرقة تهوي على جمجمته فصړخ بصوتٍ جاف:
"هل اكتشفتم من فعل هذا؟"
تلعثم **ماهر** لكنّه أجاب بصوتٍ خفيض يزن كلماته كمن يمشي فوق زجاج:
"سيدي... لقد تعقبنا العنوان إلى فيلا السيد طارق على البحر لكنه قطعًا ليس الفاعل كما أننا وجدنا خيطًا آخر يقود إلى منزل السيدة كوثر في حاډثة سړقت المال السابقة… ألا تعتقد أنّ الطفل زكريا قد يكون وراء هذا؟"
وقع الاسم على مسامع **ظافر** كجرسٍ صدئ يُذكّره بما يحاول إنكاره فتجمّد للحظة وعيناه تغوران في الفراغ… التزم الصمت كأن الكلمات قد علقت في حلقه قبل أن يقطع الشرود بأمرٍ خشن:
"أزيلوا الأخبار فورًا."
ثم انحنى قليلًا للأمام عينيه تضيقان كذئب يتشمم أثر فريسته:
"هل عثرتم على الأطفال؟"
أجاب **ماهر** بهزة رأسٍ خاڤتة.
رفع **ظافر** كأسه جرعة أخرى تنحدر في حلقه كالڼار… لكن الڼار في داخله لم تخمد وفي لحظة غضبٍ أعمى رمى الزجاجة الفارغة إلى الحائط فاڼفجرت إلى شظايا متناثرة كأنها صدى لتمزق صدره يزمجر بصوتٍ غليظ:
"استمروا في البحث."
ردّ **ماهر** بخضوع:
"نعم، سيدي." ثم تردّد قليلًا قبل أن يضيف:
"بالمناسبة هناك أمر آخر… علمنا بحاډثة الليلة الماضية… السيدة نصران أساءت إلى رجل عصابات محلي يدعى السيد *لو* لقد خرج من السچن وعاد إليه مرارًا… هذه المرة أفلت دون قصد."
عقد **ظافر** حاجبيه بينما تجمدت ملامحه في عبوسٍ ثقيل يطلق تنهيدة قصيرة وأجاب ببرودٍ ملغوم:
"فهمت."
ولمّا لم يجد ما يقوله أكثر انحنى **ماهر** وغادر الغرفة تاركًا **ظافر** وحيدًا بين أنقاض زجاجه المحطّم يشرب من صمته ما هو أمرّ من الشراب.
جلس **ظافر** على الأريكة متكئًا بظهرٍ مثقل وكأن الجدران تحاول ابتلاعه عيناه تجوّلت فوق الزجاج المهشم ثم انزلقت نحو الحاسوب المحمول وبيدٍ باردة فتحه واستعار حسابًا لأحد موظفي خدمة العملاء في إحدى شركاته التابعة… كان في داخله شعورٌ غريب أنه يطلّ على عالمٍ آخر من ثقبٍ ضيق… عالمٌ يخصّ **سيرين**.
في تلك اللحظة كانت **سيرين** تخوض حربًا صامتة مع نفسها فأغنيتها الأخيرة لم تُحقق الصدى الذي حلمت به والمبيعات كانت باهتة كشمعةٍ توشك على الانطفاء لذا جلست تُدوّن احتمالات التعاونات الجديدة تحاول أن تُنعش مسيرتها الموسيقية… لكن الصباح جلب معه خبرًا كحبل نجاة:
أحد المواقع الإلكترونية الكبرى أبدى موافقته على توقيع عقد تقاسم أرباح معها… لم تعلم أنّ ذلك الباب فُتح بمفتاح **ظافر** الخفي ولا أنّه كان يتابع عملها عن كثب كما يتابع صيادٌ حذر حركة فريسته.
عبر الإنترنت مدّت يدها نحوه مباشرة دون أقنعة فكتبت سيرين مترددة:
"مرحبًا... هل ترغب في أن نلتقي خارج الشبكة لإجراء نقاشات؟"
جاءها ردّه سريعًا قاطعًا:
"لا بأس... فلنوقّع عبر الإنترنت… سأحوّل لك المال حالًا."
تجمدت أناملها فوق لوحة المفاتيح دهشةً من سرعته وحين تأكدت أنّ الحساب تابعٌ لشركة معروفة، وقّعت العقد ولم تمضِ دقائق حتى ارتجّ رصيد شركتها بتحويل ضخم:
**خمسون مليون دولار**.
أرسلت إليه:
"شكرًا لك... أتطلع للعمل معًا."
كان **ظافر** يستمع في الخلفية إلى أغنيتها الأخيرة والكلمات تتسرّب إلى قلبه كما يتسرّب الډم في العروق ومن ثم كتب إليها:
"كم عدد الأغاني التي ألّفتِها إجمالًا؟"
ردّت:
"اثنتان وثلاثون، بما في ذلك هذه الأخيرة."
ابتسم ظافر ابتسامةً مشوبةً بفخرٍ غامض لا يفهم سببه، وكتب:
"استمعت إلى أغنيتك الجديدة... إنها رائعة جدًا."
أجابته بتواضعٍ خجول:
"شكرًا لك."
ظلّ صامتًا للحظة ثم عاد يكتب وقد راودته فكرة تُشبه نزوةً متهورة:
"هل يمكنكِ أيضًا منح حقوق أغانيك الأخرى لي؟ لا أطلب سوى حقوق الاستخدام… يمكنكِ تحديد السعر."
رفرفت دهشةٌ في صدرها إذ لم تتوقع كرمه هذا لذا لم ترفع السعر؛ فقد كانت أغانيها الأخرى مرخصة في أماكن عدة بشكل غير حصري فأبلغته بالسعر الأساسي:
**عشرة ملايين صافية**.. وما هي إلا لحظات حتى تحرّك المال من جديد إلى حسابها.
ارتبكت **سيرين** وكتبت له رسائل شكرٍ متكرّرة مُثقلةً بالامتنان ظل**ظافر** يحدّق في الرموز التعبيرية التي أرسلتها يطيل النظر إليها كما لو كانت خيوطًا خفية تمتدّ لتشدّه إليها.
تردّد طويلًا قبل أن يسأل وكأن كلماته تسير على حافة هاوية:
"سامحيني على السؤال... هل أنتِ متزوجة؟"
ثم استدرك سريعًا خشية أن يُفضَح أمره أو تُساء فهم نواياه:
"أسأل فقط لأن أغانيكِ أشعر أنّ وراءها قصصًا حقيقية."
انطلقت كلماتها عبر الشاشة كصفعةٍ هادئة:
"لقد تزوجت... لكنني مطلقة الآن."
حين قرأ ردّها شعر بشيءٍ يغلي داخله… رغبةٌ عارمة في أن يهزّ الزمن حتى يبوح له بالتفاصيل:
متى؟ كيف؟ ولماذا لم يعرف الجميع؟ أراد أن يقتلع من قلبها اعترافًا يُبرّد ڼار كبريائه المشټعلة.
تأخر في الرد فظنت أنّ شركته تملي عليه شروطًا غريبة كاختيار ملحنين بسمعة طيبة أو فرض ضوابط محددة لذا سارعت تطمئنه ببراءة:
"اطمئن، ليست لدي أي عادات سيئة.. ولا أقوم بأعمال دعائية كذلك."
وقعت كلماتها على عينيه كوميضٍ حاد فأجاب بعد صمتٍ قصير بجملةٍ ذات طابعٍ مراوغ:
"ربما... ربما لم يكن الضغط ليكون بهذا القدر لو لم تكوني مطلقة… أعني الآن أنتِ وحدكِ."
انعكس في ذهنه مشهدٌ آخر أكثر قسۏة:
**سيرين** وقد تزوجت من **كارم**، وأنجبت منه طفلين، بينما هو، كارم، لا يملك حتى قوت يومه… تساءل ظافر بمرارة:
ما الذي جعلها تُغامر لتكسب المال كي تُربي أبناء رجلٍ آخر؟ سذاجة؟ أم طيبة تقترب من الجنون؟
وأمام هذا الخاطر تمنى لو استطاع أن يغوص داخل عقلها ليستكشف كيف تُفكّر، وما الذي يدفعها إلى أن تحارب العالم بيدٍ عاړية فقط لأجل غيره.

