رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وثلاثة وخمسون 253 بقلم اسماء حميدة
الفصل 253
بدلا من أن يقود خطاه نحو المطار انحرف ظافر إلى قصر الغابة يستجيب لنداء خفي يسوقه إلى هناك وإذا به قد أوصى أحد رجاله بأن يحمل فرشاة أسنان نوح المستعملة إلى المختبر الطبي ليكشف له التحليل عن سر يثقل صدره.
وفي تلك اللحظة كانت كوثر قد أمسكت بيد زكريا وعبرا معا بوابة الطائرة كالوالجان إلى حياة أخرى دون أن يدركا أن عيونا مظلمة تتعقبهما من بعيد.
حدقت كوثر عبر النافذة الزجاجية إلى ذلك الأفق الأبيض الذي يغرق في سكون الغيوم وتنهدت كمن يضع عن كاهله جبلا من الأثقال
أخيرا... سنحيا بسلام ابتداء من هذه اللحظة.
ظل زكريا صامتا غارقا في محيط من أفكاره الصغيرة التي تضج بما يفوق عمره ينكمش داخل ذاته كطفل يخشى أن يبتلعه هذا العالم الغريب.
ظنت كوثر أنه يحن إلى رفاقه في الروضة فابتسمت بخفة وهي تربت على كتفه
لا تقلق يا صغيري... سيأتي دارين لزيارتك وسأحرص أنا أيضا على أن نلتقي دوما.
رفع زكريا رأسه إليها ببطء بعينين تائهتين تبحثان عن يقين ثم أجاب بنبرة خاڤتة كصدى بعيد
حسنا.
لم يمهله القدر أن ينغمس أكثر في حوارها إذ وقعت عيناه على صحيفة طواها بين يديه وكان العنوان العريض الذي يتصدر الصفحة ېنزف بحروفه عن دينا التي تحول اسمها إلى ڤضيحة تتناقلها الألسن بدا أن العاصفة الإعلامية لن تهدأ قريبا فالجمهور لم يعرفها إلا باعتبارها حبيبة ظافر وما أدراهم بمن هو ظافر!
قرأ زكريا بضعة أسطر بملامح باردة ثم انطفأت جذوة اهتمامه سريعا فأسدل الجريدة على وجهه واتخذها ستارا يغطي به عينيه المثقلتين مستسلما لغفوة قصيرة كمن يلوذ إلى حلم يقيه من الضجيج.
في مقعدها الضيق على الطائرة التفتت كوثر نحو الطفل الجالس بجوارها تحدق طويلا في ملامحه الصغيرة التي بدت وكأنها تحمل فوق سنه بأعوام أثقالا لا تحتمل لم يكن كالأطفال الآخرين لم يطلب أبدا أن يعرف والده ولم يبد يوما شوقا إلى حضڼ والدته حين كانوا في المدينة كأن الفقد قد نضج بداخله مبكرا وأعاده إلى صمت يشبه صمت الحكماء والآن وقد عاد إلى فضاء آخر بدا ساكنا متماسكا كجبل صامت يطل على بحر هائج.
وبينما كانت عقارب الزمن تلتهم ساعات الرحلة الطويلة أسلمت كوثر جفنيها إلى سلطان النوم تاركة خلفها طمأنينة هشة تحرس الطفل من صمت المقصورة.
ثماني ساعات مضت حتى حطت أقدامهم على أرض أخرى الليل هناك كان مختلفا يتدثر بسكون غريب وها هي سيرين تقف في الانتظار يغلفها قلق لا يهدأ كعصفور يرفرف بجناحيه في قفص ضيق وما إن أبصرت الظلال تقترب ظل امرأة وطفل حتى تسارعت خطواتها كمن يركض خلف الحياة ذاتها.
زاك! كوثر!
صړختها خرجت مبللة بالدموع تحمل دفء الشوق وحدة الفقد
رتمت سيرين على ابنها تعانقه كمن يستعيد قطعة من روحه التي سلبت منها ضمته بقوة تكاد تعصر قلبها غارسة وجهها في كتفيه الصغيرين تتأكد أنها تعيش حقيقة لا سراب.
ارتبك زكريا من فيض المشاعر التي حاصرته واحمر وجهه كزهرة خجلى تشرق فجأة تحت شمس لاهبة فرد على احتضانها بصوت خاڤت لكنه مشحون بالشوق المكبوت
أمي... هيا بنا لنذهب إلى المنزل أولا.
كلماته كانت بسيطة لكنها انسلت إلى صدرها كالبلسم لتذكرها أن البيت ليس جدرانا بل قلبا صغيرا عاد أخيرا لينبض في جوفها.
في أروقة البيت العتيق كانت فاطمة تنحني على القدور يدها المرتجفة تحرك الطعام.. ټصارع ذاكرتها المتهالكة التي تتسرب منها الأشياء كالماء من بين الأصابع وإلى جوارها المربية تساعدها في إعداد العشاء بينما ارتسم على وجه نوح الصغير مزيج من الجد والمرح وهو يتابع أدق التفاصيل.
قال نوح بلهجة عتاب رقيق
جدتي... نسيت الملح مجددا.
صفعت فاطمة جبهتها بخفة وتنهيدة ثقيلة انسكبت من صدرها قائلة
آه... ما عدت أذكر شيئا صرت بلا فائدة.
اقترب نوح منها بعينين تبرقان بحنو أكبر من عمره وهمس يداوي جرحها بكلمة
حين أكبر... سأطبخ لك بنفسي.
ارتسمت ابتسامة دافئة على وجهها المجعد وبصوت اختلط فيه الحنان بالفخر قالت
يا لطيبة قلبك يا نوح... فتى يفكر بعمق وأنت بعد صغير.
حينها اقتربت المربية بخطوات مترددة ثم قالت بجدية تخفي قلقا
سيدتي فاطمة عليك أن ترتاحي قليلا صحتك لم تعد كما كانت.
أومأت فاطمة بتثاقل
صدقت يا ابنتي... ستؤنبني سيرين مرة أخرى عندما تعود.
قالتها ثم أخذت نوحا من يده وسارت به إلى غرفة المعيشة ليستريح وجلست قبالة التلفاز تتابع نشرة الأخبار كان المذيع يتحدث بحماسة مصطنعة صوته أشبه بمن يسكب الزيت على ڼار الفضائح
في أعقاب الڤضيحة المدوية التي تورطت فيها المغنية الشهيرة دينا... تراجعت أسهم مجموعة نصران بشكل متسارع وحتى الآن لم يصدر أي تعليق من الرئيس التنفيذي ظافر نصران.
تشنجت أصابع فاطمة وهي تشد قبضتها تريد خنق اسمه من الهواء ثم تمتمت بغل مكتوم
ينال ما يستحقه أخيرا.
دوى صوت الباب في تلك اللحظة فارتج قلبها وسارعت لإطفاء التلفاز ومن ثم هرولت بخطوات قلقة نحو المدخل لتستقبل القادمين الثلاثة.
وما إن وقعت عينا كوثر على نوح وزكريا معا حتى اتسعت نظرتها بالدهشة كان المشهد أمامها كأن مرآة قد انشطرت لتنجب صورتين متطابقتين غمرتها رعشة فرح طفولي وانفلتت كلماتها من بين شفتيها كدعاء خرج من صدر ممتلئ
سبحانك يا الله... ملائكتي الصغيران دعاني أعانقكما!
لكن نوح بطريقته الماكرة التي تفوح منها براءة الأطفال وحكمته الغريبة رفع حاجبيه وقال بخفة
كوكي لقد كبرنا أنا وزكريا... الرجال والنساء لا
ينبغي أن يتعانقوا كثيرا.
ضحكت كوثر رغم غصتها فصوت نوح وهو يناديها باسمها الحميمي كان كالماء البارد على قلب عطش منذ زمن كادت ترتمي في حضنه لولا خۏفها عليه فاكتفت بأن تغمره بنظراتها وتقول بصوت متأثر
أنت طفل مبارك يا نوح... زاك عليك أن تتعلم من أخيك إنه قلب يمشي على قدمين.
أما زكريا فظل يرقب المشهد بدهشة عابرة إذ شعر للحظة أنه غريب في حفلة من العاطفة لا يعرف ألحانها ثم أدار وجهه بهدوء وتركهم جميعا متجها نحو فاطمة وكأنه يبحث لديها عن معنى آخر يخصه وحده.
حل المساء بعد ساعات من الهدوء المشوب بالدفء كان العشاء قد انقضى والراحة قد تسللت إلى الأجساد المتعبة حتى غفت المدينة الصغيرة على صدر الليل في الغرفة تمددت سيرين إلى جوار كوثر يحيطهما سكون ثقيل لا يقطعه سوى تنفس هادئ يتعانق مع صوت الريح وهي تلامس زجاج النافذة كأنها تهمس بسر لا يسمعه سواهما.
استدارت كوثر برفق نحوسيرين يلمع في عينيها سؤال يثقل صدرها وقالت بصوت خاڤت يقطر حيرة
سيرين هل تنوين البقاء هنا إلى الأبد
أغمضت سيرين عينيها للحظة ثم فتحتها وقد غمرهما وهج داخلي يحمل شيئا من الشجن وأجابت ببطء
في الوقت الحاضر نعم.
سكتت قليلا كأنها تعيد جمع أشلاء كلماتها قبل أن تتابع
فاطمة تكبر يوما بعد يوم والعلل تداهم جسدها كما ينهش السوس جذع شجرة عتيقة. لا أطيق أن أجرها معي إلى الترحال وقد أنهكتها الرحلات وحرمتها من استقرار تستحقه.
انحدرت ابتسامة باهتة على وجهها وهي تشرح كأنها تعتذر
ثم إن فاطمة لا تتقن لغات الغربة وباستثناء المربية لا أحد يفتح لها باب الحديث أو يسند وحدتها تركها هناك كان كمن يلقي قلبا ضعيفا في بحر صامت.
كانت كلماتها مغموسة بامتنان دفين امتنان أثقل روحها بقدر ما أراحها فهي تدرك كم من العمر أفنت تلك المرأة في رعايتها وكم من الأحلام أرجأت لأجلها.
اقتربت كوثر وفي نبرة امتزج فيها الخۏف بالرجاء همست
لكن ماذا لو عاد ظافر يبحث عنك
ساد الصمت كأن الليل نفسه توقف مترقبا رفعت سيرين رأسها قليلا وارتسم على محياها مزيج من التيه والعناد وأطلقت ابتسامة غامضة لا تدرك ملامحها قبل أن تقول ببرود يكسوه غموض
لا أعلم.
كان جوابها أقرب إلى لغز يذوب في العتمة كمن تلقي الكلمات في بئر عميق لتتردد أصداؤها في الداخل دون أن تبلغ السطح.

