رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وستة 206 بقلم اسماء حميدة
الفصل 206
دفعت كلمات لين الساخرة بسيرين إلى يقظة مفاجئة كأنما انسلت من غيبوبة حلم مبلل بالأوهام... فرفعت عينيها نحوها ببطء يشبه انسحاب الضباب عن قمة جبل مجروح بالشروق تنظر إليها لا بكراهية بل بدهشة من قسۏة ما عادت تمتثل إليها كما في السابق.
كانت لين ترتدي ثوبا رسميا ضيقا عكس قوامها الممشوق لكنها لم تكن أنيقة بقدر ما كانت مستفزة وجهها صغير مشدود يملأه ذلك العبوس الذي يولد حين يخلط الكبرياء بالحسد... لم تكن الغيرة تنكر وجودها في ملامحها بل كانت تحتفل هناك.
في الماضي رأت سيرين هذه الفتاة مرارا فقد تعرفت على تلك القسۏة في خطواتها والاحتقار في نظراتها وذلك رغم أنها لم تكن سوى ابنة كبير الخدم إلا أنها كانت تتصرف كأن الډم الأزرق يسري في عروقها كأن القصر ولد من رحمها!
وحين لم تجد لين أي رد ظنت أن سيرين لم تكن تسمعها أو لعلها لم تكن ترتدي بسماعاتها فتقدمت بخطوة متعجرفة وركلت الملابس الملقاة على الأرض... تلك الثياب التي ما زالت تحمل دفء جسدها ورعشة اللحظة التي سبقتها ونظرت إلى سيرين باشمئزاز وقالت
وقحة أنت حقا! فتاة صماء وها أنت تجيدين إغواء الرجال! كنت تتظاهرين بالبراءة والآن أنظري إلى نفسك! انظري إلى ما ترتدينه! هل هذه هي القيم التي عدت بها من الخارج
ثم جثمت بقدمها على الفستان الملقى بحركة مقصودة لم تكن عبثية بل إعلانا صريحا بالعداء... بدت تلك الصغيرة وحشا يتغذى على شعور السيطرة صړخت بغل وكأنها تنتزع من سيرين شيئا ثمينا بمجرد دوس تلك الأقمشة لكنها لم تكن تدري أن سيرين لم تعد تلك الفتاة التي كانت تبتلع الإهانة لأجل رجل لا يراها... فقد تغير كل شيء... هي أيضا تغيرت. ... لم تعد تلك البريئة التي كانت تتألم في صمت لم تعد تلك الصماء التي يستباح قلبها ما دامت لا تشتكي... الآن ثمة ڼار أخرى تسري في عروقها ڼار لن تطفئها قدم غريبة.
غطت سيرين جسدها بمعطف ثقيل كأنها تحتمي بدرع من الذكريات الموجعة ومن ثم نهضت عن السرير بخطى بطيئة تشبه انسحاب الموجة الأخيرة من شاطئ مهجور... كل خطوة كانت تكتب سطرا جديدا في دفتر امرأة لم تعد تشبه ماضيها وإذا بها تقترب من لين بصمت قاتم لا يحمل اعتذارا ولا رغبة في المصالحة.
وحين التقت النظرات لاحظت لين السماعات خلف أذني سيرين فتسللت بسمة ساخرة إلى شفتيها وهي تقول بنبرة مملوءة بالخبث
آه... إذا كنت تسمعينني طوال الوقت ظننتك صماء بالكامل... كم هو مخز أنك لم تعودي تعرفين الصمت!
لكن الكلمات لم تجد طريقها لتخترق روح سيرين بل سقطت مباشرة على الأرض وتحولت إلى شرارة ففي لحظة خاطفة ارتفعت يمين سيرين وصفعت لين
بقوة صڤعة كأنها اقتلعت زمنا من القهر وسنوات من الإذلال... صڤعة دوت في الغرفة كأنها جرس القيامة.
اهتزت لين من شدة المفاجأة وتخضب وجهها بالحمرة كمن صفع على كبريائه لا على جلده فشهقت وقالت بذهول
كيف تجرئين! أتضربينني!
هزت سيرين يدها قليلا وقد شعرت پألم بسيط في مفاصلها كأنها لا تزال تتدرب على استعمال قوتها الجديدة ثم نظرت إلى عيني لين مباشرة وقالت ببرود
نعم ضربتك... وماذا ستفعلين
اشټعل الڠضب في عيني لين التي علت يدها محاولة رد الصڤعة بصڤعة أشد لكن سيرين رفعت يمينها المټألمة مجددا وأمسكت بمعصم لين قبل أن يكتمل الفعل كأنها تثبت الزمن ذاته ثم هوت بيسارها تعيد الكرة وصڤعتها مجددا على صدغها الآخر لكن هذه المرة كانت أكثر ۏجعا.
ولسوء حظ لين التي ترتدي كعبا عاليا كانت روحها أكثر هشاشة من وقفتها فإذا بها تترنح وقد سقطت أرضا في مشهد رمزي لسقوط سلطانها الزائف... وها قد ارتطم جسدها بأرض لطالما حسبتها ملكا لها.
نهضت لين وهي تصر على أسنانها ومن ثم قالت والڠضب يبتلع صوتها
اخرجي من هنا سيرين... أنت غير مرحب بك!
قهقهت سيرين بضحكات فيها من السخرية ما يفوق الازدراء وقالت
أوه... وهل ظننت حقا أنك مالكة هذا المكان أم كنت فقط تتقمصين دور الملكة بينما لا تملكين حتى ظل التاج
احمرت عينا لين أكثر فتصاعدت الكلمات من صدرها كحمم من بركان مكتوم
ربما كنت خادمة لكن لا تنسي من أنا هنا... لا تنسي ليلة رأس السنة حين أبكاك الصقيع عندما أجبرت على مغادرة القصر... كل ما علي فعله هو البكاء مجددا أمام عدنان وسأبعدك كما فعلت سابقا!
انكمشت الذكرى في صدر سيرين كچرح لم يلتئم فهي تذكر تلك الليلة جيدا... كيف أودى بها البرد إلى حافة المۏت وكيف سمحت دموع لين الكاذبة أن تطرد من القصر كمنبوذة بلا اسم ولا قيمة... فعدنان والد ظافر _زير النساء المتصابي_ كان يفتتن بالبكاء أكثر من الجمال وكان يعامل لين كملكته المدللة لا كابنة خادم لأنها ببساطة نشأت بين جدرانهم فاعتبارها إحدى ممتلكاته الثمينة بينما سيرين كانت دائما دخيلة صماء معاقة بلا نسب يحميها ولا سند ينقذها.
تذكرت كيف خرجت في ليلة حالكة وسط الثلج بثياب لا تقيها سوى بالكاد من المۏت بينما لين كانت تبتسم من النافذة.
قالت سيرين بنبرة مغموسة بالهدوء لكنها تحمل في طياتها مرارة قرون من الذل المكبوت
لا حاجة لدموعك أمام السيد عدنان هذه المرة... سأغادر الآن وحدي بكامل إرادتي.
أطلقت كلماتها ولم تنتظر ردا بل تحركت كمن تحرر من قيده وارتدت ملابسها الجديدة كمن تتوشح بدرع من الكبرياء ثم تجاوزت الأخرى إلى الخارج بخطى متزنة كأنها تدعس على رماد
ماضيها.
لم تلتفت. لم ترتجف. لم تتوقف.
أما لين التي بقيت واقفة هناك تجمدت نظراتها عند الباب الذي ابتلع ظل سيرين لا تصدق للآن أن تلك الصامتة قد نطقت... وأن تلك الضعيفة قد اختارت الرحيل دون رجفة في صوتها أو عثرة في قدميها.
راحت تتأمل الفراغ من خلفها ولفها الصمت الممزوج بذهول متصلب كأنها فقدت للتو خصما لم تكن تدرك أنه ندها لكن الغيرة حين تخمد تترك رمادا ساما في القلب.
بزفرات متوترة أمرت لين أحد الخدم أن يتخلص من كل ملابس سيرين تصرخ بسواد قلب
تخلصوا من كل شيء يخصها... لا أريد ظلها عالقا بين جدراني.
كان القصر أشبه بمتاهة من الأصداء الذاوية لكن سيرين سلكت طريقا جانبيا لا يعج بالبشر كأنها تخترق عالما رماديا بين الحياة والمۏت... كل خطوة لها كانت صدى للحظات مؤلمة... وحين بلغت بوابة القصر لم تكن تهرب بل كانت تعلن ولادة جديدة.
أخرجت هاتفها تجري مكالمة... ولم تمر سوى ثوان حتى جاءها الصوت
سيدة تهامي أنا قريب من قصر نصران الآن.
كان صوت رامي حارسها الشخصي ومنقذها في اللحظات الأخيرة قد عاد مجددا بعد أن كاد أنس يزهق روحها وأنقذها ظافر.
أجابت سيرين بصوت هادئ لكنه حاسم كأنها تسلم الزمام لشخص أخير تثق به في هذا العالم
حسنا سأحتاج إليك الآن.
ردها جاءه كنداء لا رجاء. فأجاب فورا
بالطبع. أنا قادم.
رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وستة 206 بقلم اسماء حميدة
تعليقات

