رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وثلاثة وتسعون 193 بقلم اسماء حميدة
الفصل 193
لأوّل مرة منذ أن بدأ ظافر رحلته في هذا العالم الموحش المسمّى بسوق الأعمال يُخترق حسابه المصرفي... لم يكن الحدث مجرد صدمة رقمية بل صڤعة كونية تمزق جدارًا كان يظنه منيعًا، جدارًا شيّده من الثقة والأنظمة والخبرة الطويلة.
حتى ماهر رجل الظلال الذي لا يهتز بقى عاجزًا عن الكلام للحظات كأن دماغه تعثّر عند منتصف الليل حين أتاه النبأ كرصاصة بلا صوت.
تجلّت نبرة صوت ماهر في المكالمة مشوّشة، باهتة تحت ضوء الخۏف:
"سيدي… إنها المرة الأولى التي يحدث فيها هذا... لم نكن مستعدين."
ردّ ظافر بصوتٍ بارد كقاع البحر:
"هل عرفت من فعلها؟"
ثانية واحدة فقط ارتجف فيها صوت ظافر بين الظنّ والدهشة ثم هدأ فجأة كما يهدأ الإعصار حين يسبق الکاړثة.
قال ماهر بعد تنهيدة قصيرة كمن يعترف بالهزيمة:
"ليس بعد... الھجوم كان خاطفًا، سريعًا بطريقة لم نعهدها من قبل... وعندما التقطنا أول إشارة كانت الأموال قد اختفت من أمامنا… كأنها لم تكن."
لم يرمش ظافر، لم يزمّ شفتيه حتى لكن شيئًا في عينيه انطفأ... أكثر من سبعة مليارات… سُرقت في غمضة عين.
لكنه لم يسأل "كيف؟" بل سأل نفسه بصمت:
"لماذا أنا؟ ولماذا بهذا التوقيت؟"
كان منطق الھجوم غريبًا؛ إن كان المخترق يملك الجرأة على اختراق حسابه، لِمَ لم يتجه مباشرة إلى البنك؟
لماذا لم يفتح فمه على مصارف كبرى وترك بصمته في صفحات الجرائد العالمية؟ إذاً فالهدف لم يكن المال بل الرسالة... بالتأكيد هذا لم يكن لصًا عاديًا بل أحدهم أراد أن يُعلن الحړب.
أنهى ظافر المكالمة بجملة واحدة:
"لديك يوم واحد."
أغلق ظافر الهاتف وكأن قلبه أُغلق معه إذ كان يعلم أن اختراق الحساب ليس التحدي الحقيقي، الرهان كله في كيفيّة نقل تلك الأموال دون أن تُمسَك، دون أن يتبخّر الفاعل بين طبقات الشبكات والـVPN والبيانات المشفّرة.
الرقم المالي لم يعد يظهر في الحساب، هذا صحيح، لكنّ المال... المال لم يكن قد اختفى بعد بل فقط غاب عن العين كالوهم وحتى إن اختفى تمامًا لم يكن ظافر ممن يبكون على المال... ما يؤلمه لم يكن فقدان المليارات بل ظهور يد خفيّة تعرفه جيدًا.
يدٌ اختارت اللحظة بدقة واختارته هو تحديدًا لبدء النهاية.
في صباحٍ شاحبٍ رمادي استيقظت كوثر على غير عادتها مبكرًا كما لو أن شيئًا غامضًا أيقظها من الداخل قبل أن يرنّ المنبه.
جهزت كوثر كعادتها حقيبة زكريا الصغير ورتّبت زجاجة الحليب ومريوله المُطبع بنجومٍ زرقاء... لكنها حين فتحت باب غرفته وجدت سكونًا غير مألوف يخيّم على المكان.
أين هو؟
نظرت إلى السرير فوجدته لا يزال نائمًا.
أدارت رأسها في بطء كأنها تشكّ أن عينيها تخدعانها.
"هاه؟ ما خطبه اليوم؟"
همست لنفسها بدهشة مشوبة بالحذر فزكريا لم يعتد أبدًا التأخر عن موعده إذ كان دوماً ما يسبق عقارب الزمن بساعة كأن في داخله ساعة بيولوجية مبرمجة على الدقة... دقة رجل.
اقتربت منه ببطء تنظر إلى وجهه النائم المغمور بضوء الصباح الكثيف المتسرّب من بين الستائر.
كان مسالمًا، وجهه الطفولي لا يحمل أي نذير عاصفة... شعرت كوثر بالضيق للحظة لكنه ضيق مشوب بالحنين.
مدّت يدها تقرص خده بخفة وقالت بابتسامة ساخرة:
"يا له من مشهد نادر... سأمنحك تأخيرًا رسميًا مرة واحدة فقط."
لكن ما لم تكن تعلمه كوثر أن هذا الصغير لم يُغمض عينيه حتى الرابعة فجرًا... كان مشغولًا باختراق أحد أكثر الحسابات البنكية تحصينًا في القارة... ولما استيقظ أخيرًا كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف... عبس وكأن الدنيا كلها ارتكبت چريمة التأخير بحقه.
وقف زكريا أمام المرآة يصفف شعره بتنهيدة رجل خمسيني، متمتماً بضيق:
"يبدو أنني نمتُ أكثر من اللازم."
زكريا رغم صغر سنه كان دقيقًا كالعقارب التي لا تتوقف لكن هذه هي المرة الأولى التي ينكسر فيها نظامه... نهض واغتسل وارتدى ملابسه بسرعة كأنما الوقت نفسه يطارده لكن المفاجأة كانت تنتظره في الخارج فكوثر لم تكن قد غادرت بعد بل كانت جالسة على الأريكة وفنجان القهوة بين يديها ونظرتها معلّقة فيه كمن يقرأ تقريرًا جنائيًا.
قالت كوثر بابتسامة لئيمة ناعمة:
"يبدو أنك تأخرت اليوم يا صغيري."
تجمّد زكريا في مكانه لثانية كمن كُشف أمره ثم تدارك نفسه بسرعة:
"ألا يُفترض أن تكوني في العمل الآن كوثر؟"
أراد تحويل دفة الحديث فابتسمت هي ابتسامة مغلفة بالحزن:
"سأقابل أحدهم لاحقًا."
"لا تقولي لي أنه… السيد طارق؟"
قالها زكريا وهو يحشو كتبه في الحقيبة.
توقفت كوثر ورفعت حاجبًا مذهولة... ومن ثم قالت:
"كيف عرفت؟"
أدار زكريا وجهه وتظاهر بالبراءة:
"كان مجرد حدس..."
"آه... حدس، نعم؟" ردّت بسخرية لم تستطع كتمها لكنها لم تضغط عليه... لم تكن قادرة على ذلك.
قال زكريا بعدها وهو يربط الحقيبة حول ظهره:
"حسنًا... دعينا نذهب."
وفي الطريق وبينما كانت السيارة تنزلق بسلاسة في شوارع المدينة كانت كوثر تراقب انعكاس وجهها على الزجاج شاردة في فكرة قديمة:
لماذا يريدونها؟
عائلة طارق إحدى السلالات الثقيلة في عالم السلطة والمال.
لماذا اختاروها هي؟ إنها لا تحب طارق بل كانت تكرهه كرهاً مريباً بلا مبرر واضح، ربما لأن عينيه لا ترمشان كثيرًا أو لأن صوته يحمل شيئًا من السيطرة حتى حين يبتسم.
في هذه الأثناء لم تُدرك كوثر أن عقل زكريا الصغير الذي بجوارها، كان غارقاً في دوامة مختلفة.
لقد رآه...
رآه يقف عند بوابة الروضة قبل أيام ذاك الرجل ذو الملامح المتجمدة يختبئ خلف شجرة، يراقبه كصيّاد يعرف فريسته جيدًا... كان طارق... لكنه لم يكن وحده.
ولأن زكريا لم يكن طفلًا عاديًا قرر أن يعيد ترتيب أوراقه،
أن يستبق الخطړ القادم،
فإن لم يُخطط للكمين قد يقع فيه.
بينما كانت السيارة تقترب ببطء من بوابة الروضة غمرت أشعة الشمس الزجاج الأمامي فانعكست على وجه زكريا وألقت بظلالٍ طويلة على عينيه.
كانت كوثر تظن أن الصمت قد غلف المسافة بينهما بما يكفي لتريح عقلها لكنها فوجئت بصوته يخترق السكون فجأة كطلقة غير متوقعة في منتصف صلاة:
"كوثر... هل ستتزوجين السيد طارق؟"
للحظة شُلّت يدها التي كانت تمسك بزجاجة الماء وما إن تسللت كلماته إلى أذنها حتى اختنقت بأنفاسها وكادت تبصق ما بفمها.
استدارت إليه بحدّة واتسعت عيناها بدهشة تليق بصڤعة غير مرئية.
"لماذا قد أفعل ذلك؟"
قالتها بنبرة فيها خليط غريب من الڠضب والدهشة والنفور ثم أردفت وهي تزفر بتوتر:
"طارق رجل سيّء... لن أتزوجه أبدًا."
كانت كلماتها صادقة تُشبِه قَسَمًا خرج من قلبها قبل أن يُصاغ على لسانها
لكنها لم تنتبه كيف بدا وجه زكريا بعدها... لقد ارتخى واختفت العقد الصغيرة بين حاجبيه وكأن روحه أُعتقت لتوّها من قيد غير مرئي.
"هذا جيد..."
قالها زكريا بهدوء ثم الټفت إلى الباب قائلاً بمرح:
"ها قد وصلنا... إلى اللقاء."
فتح زكريا باب السيارة بخفة وهبط منها كجنديٍ صغير أنهى مهمته السرية.
ظلت كوثر تتابعه بنظرها وعينها مُعلقة على ظهره الصغير وهو يعبر بوابة الروضة... وفي داخلها ظل السؤال يتردد كهمسة متواصلة في رأسها:
لماذا سألني ذلك؟ ما الذي يعنيه؟
وقبل أن تصل إلى أي استنتاج... رنّ هاتفها.
الاسم على الشاشة وحده كان كفيلًا بأن يعيدها إلى الأرض.
طارق.
ظهر اسمه كخنجر بارد في شاشة مضيئة... ضغطت كوثر زر الرد على مضض وفي عينيها ظلال من الحذر وفي صدرها ارتجاف لم تعترف به.
رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وثلاثة وتسعون 193 بقلم اسماء حميدة
تعليقات

