رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وسبعون 170 بقلم اسماء حميدة
الفصل 170
فهم كارم تماما ما أرادت سيرين أن توصله... الكلمات لم تكن بحاجة إلى شرح فصوتها وحده كان كافيا ليكشف النوايا الدفينة.
أومأ لها بطمأنينة ثم قال بصوت يقطر ثقة ويخفي نيرانا مشټعلة
استريحي... واتركي هذا الأمر لي.
وبعد أن تأكد بنفسه من استقرار حالتها وراقب الطبيب وهو يفحصها للمرة الأخيرة كمن يفتش عن شقوق في تمثال ثمين تأكد كارم أنها بخير. وعندما طمأنته سيرين بابتسامتها الباهتة غادر الغرفة تاركا وراءه ظلا ثقيلا من الحضور كما يترك البحر ملوحته في الهواء حتى بعد انحساره.
في لحظة موازية قد عاد ظافر بعد أن أنهى ما كان يجب عليه فعله وهي جملة لم يشرحها لأحد وربما لن يفعل.
دخل بخطوات هادئة وعيناه تفترسان التفاصيل... كل شيء بدا في مكانه... باستثناء كارم الذي كان قد غادر لتوه.
رافقه طارق بثياب داكنة وعينين تفضحان ولاء لا يتزعزع... وحين وصلا كانت إحدى الممرضات تغير الضمادات فاختار الاثنان الانتظار في الحديقة الملحقة بالمستشفى.
استنشق طارق الهواء المشبع برائحة المطهرات والورد الصناعي ثم قال بصوت فيه نغمة تساؤل صادق
كيف وقع الحاډث بهذه الطريقة المفاجئة هل تمكنوا من معرفة السيارة التي تسببت به ومن كان خلف المقود
رد ظافر بهدوء قاټل
كارم سبقني إلى الفاعل وعثر عليه وتولى أمره قبل أن أصل.
ارتفع حاجبا طارق بدهشة لم يحاول إخفاءها
كارم يملك بعض المهارات إذا! لقد سبقك إلى خط النهاية هذه المرة.
وما إن أنهى كلماته حتى ارتج شيء ما في أعماق ظافر وسأل فجأة بصوت عميق كأن صدره يغلي تحته
هل تراه أفضل مني
صمت طارق لوهلة حاول أن يفهم السؤال ثم ضحك ضحكة خاڤتة أقرب إلى السخرية منها إلى المزاح وقال
ظافر!! كيف يمكن مقارنته بك مهما كانت مهاراته فهو يلعب داخل حدود تضعها أنت... كل شيء هنا يخضع لك.
لكن ظافر لم يبتسم... لم تكن هذه الكلمات مرهما بل كانت على چرح لم يندمل.
مرت لحظة من الصمت قبل أن تهب ريح باردة محملة برذاذ ناعم كأن السماء بدورها قررت أن تتدخل في النقاش.
تمتم ظافر بنبرة مخڼوقة لا تشبهه
هل تعلم من كان أول من اتصلت به سيرين حين وقعت في ورطة كارم.
اتسعت عينا طارق بدهشة لكنه تماسك وأجاب بغيرة مطمسة وهو يحاول أن يبدو لا مباليا
ربما هو يجيد الحديث المعسول... النساء تحب ذلك... كارم يشبه الثعالب... أذكياء بارعون ينسلون إلى القلوب من بين الشقوق.
كان طارق يحتقر هذا النوع من الرجال أولئك الذين يسطعون ظاهريا ولكن قلوبهم خاوية... كانوا برأيه مثل زجاج لامع يخفي خلفه فراغا.
ثم نظر إلى ظافر الذي كان دائما أشبه بوردة متوحشة تنمو في قمة جبل لا يطال وسامته آسرة لكن الاقتراب منه مغامرة محفوفة بالخطړ.
أما كارم فكان شيئا آخر... وسيم نعم
لكنه ناعم فيه لمسة من سحر مظلم يجذب كما تجذب الڼار فراشة ضائعة وكثير من النساء لا يستطعن هذا النوع من الجاذبية
تنحنح طارق ثم قال مترددا
لقد تأخر الوقت... ربما علينا أن نعود إلى المنزل.
رفع ظافر عينيه ببطء وكأن الزمن ثقل فوق جفنيه ثم قال بنبرة قاطعة تخلو من المجاملة
اذهب.
أصيب طارق بالدهشة إذ شعر بأنه طرد بلطف قاټل... فهو لم يكن معتادا على أن يرفض بهذا الأسلوب ومع ذلك لم يعترض فقط تنهد ثم استدار.
وقبل أن يبتعد طارق تماما رفع عينيه نحو نافذة غرفة سيرين وظل ينظر إلى الضوء الدافئ المنبعث من داخلها كأن شيئا بداخله لم يرد أن يغادر بعد.
لم تكن سيرين قد أنهت تغيير ضماداتها إلا للتو حين التفتت نحو الباب وكأن إحساسها به سبق حضوره وما إن التقت نظراتها بعينيه حتى توقف الزمن لوهلة بينهما...
تفرست عينيها بظافر الذي دخل بخطوات صامتة كأن الهواء قد تشقق بقدومه لوهلة بدا اليوم شخصا آخر...
كانت بدلته التي اعتادت أن تراها كما لو خرج لتوه من غلاف مجلة مبعثرة بعض الشيء وقد زحفت التجاعيد إلى أطرافها كأثر أرق ثقيل.
وكان على فكه ظل خفيف للحية غير حليقة ظل رجل لم ينظر إلى المرآة منذ زمن أو كأن المرآة رفضت أن تنظر إليه.
شعرت سيرين بشيء يتغير في داخله... في هيئته... في ملامحه... في صمته.
رآها تراقبه فرمقها بنظرة خاطفة لكنه لم يعلق... فقط اقترب منها بخفة صامتة كأن كل خطوة يزنها بميزان الغموض.
قال دون أن يفصح عن أي توتر
طلبت من أحدهم أن يرسل إلينا بعض الإفطار.
ولم يأت على ذكر كارم كأن اسمه بات خطا أحمر لا يجب لمسه.
ألقى نظرة على سترة بدلته التي كانت مطوية إلى جانب السرير ثم جذب كرسيا وجلس بقربها كأن وجوده بجوارها هو نوع من الطقوس التي لا يمكن كسرها.
حين سحب الكرسي لاحت لسيرين
سألت بصوت خاڤت لا يخلو من قلق
ما الذي حدث ليدك
رمقها ظافر بنظرة باردة ثم أجاب بجفاف متعمد
لا شيء... مجرد إصابة بسيطة.
لكنها لم تعلم أنه كسر زجاج نافذة السيارة بقبضته العاړية ليخرجها من الحطام ولم يخبرها... ربما لأنه لا يريد أن يبدو ضعيفا أمامها أو ربما لأن ما فعله لم يكن يستحق الذكر في نظره.
قالت بصوت خفيض ممتزج بالحذر وكأنها تتلمس طريقها وسط حقل
أخبرني الطبيب... أنك من أحضرني إلى المستشفى... شكرا لك.
توقفت قليلا ثم عضت على شفتيها لم تذكر أن كارم هو من أخبرها بذلك خشية أن يتلون الهواء بنبرة توتره.
تبدلت ملامح ظافر للحظة كأن جدارا من جليد
داخله قد تشقق.
أنت زوجتي قالها بنبرة يشوبها مزيج بين التأكيد والامتعاض ثم استكمل بتملك
من البديهي أن أكون أول من يأخذك إلى المستشفى بعد حاډث
كهذا.
كان مجرد حاډث! قاطعته سيرين متسائلة بسرعة و لهفة كمن يسحب الكلمات من فمه قبل أن تتسرب منه الحقيقة.
كانت تدرك جيدا مدى تعلق ظافر بدينا و لو علم بتورطها فربما... فقط ربما لن تكون ردة فعله كما تأمل.
تأملها ظافر طويلا بعينين زاخرتين بالأسئلة لكنه لم ېكذب حدسها و لم يصدقه... فقط صمت.
ذلك الصمت العجيب الذي يقول فيه المحب كل شيء دون أن يتفوه بحرف هذا ما فسرت به سيرين موقفه الأجوف.
بعد لحظات وصل الإفطار وتشاركا الطعام معا على مائدة صامتة يتقاسمها الخبز و السكوت و تتسلل النظرات بين فواصل الكلام المبتور... و حين انتهيا لم يبد ظافر أي نية للمغادرة بل فتح حاسوبه و جلس إلى جانبها و كأن العالم كله اختزل في تلك الغرفة... و كأن حراسة قلبها باتت أهم من كل التزامات الأرض.
أما سيرين فظلت ممددة على سريرها ترقب تصرفاته بنظرات جانبية من عينها في حين كان جسدها تحت المراقبة الطبية... و قلبها تحت مراقبة رجل يخفي وراء الصمت أعاصير.
حل الليل كوشاح أسود ناعم ينسدل فوق المدينة ببطء ممزوجا بضوء شاحب كالحزن الجميل يلمع من بين الغيوم كأنه بصيص من ذاكرة بعيدة.
من نافذة المستشفى بدا العالم الخارجي وكأنه مرسوم على زجاج باهت لا يمكن لمسه و لا الهروب منه.
و في الداخل كانت سيرين غارقة في كتاب لم تكن تقرأه بقدر ما كانت تختبئ خلفه.
كل حرف كانت تمر عليه كان يذوب في عينيها بلا أثر بينما ظلت تراقب من طرف عينيها ظل ظافر الجالس في ركن الغرفة بعد أن ترك لها مساحتها كي ترتاح قليلا وبقى ساكنا هناك لا يتحرك كثيرا ولا يتكلم... فقط موجود... رجل لا ينسحب و لا يقترب.
الزمن بدا مشوها كل دقيقة تمد أطرافها كأنها ساعة وكل نظرة تتسرب في القلب كقطرة من سم العسل.
و مع مرور الوقت خفتت أنفاسها شيئا فشيئا و استسلم جسدها للإرهاق فغلبها النعاس كما يغلب البحر ضوءا صغيرا.
في الحلم كان الليل أكثر سوادا و الرؤية أكثر وضوحا.
رأت أنس واقفا أمامها وجهه شاحب كقناع بلا حياة و عيناه متسعتان ككهفين لا قاع لهما يغمرهما الجنون و الخذلان.
لم يقل شيئا لم يبتسم لم يعبس... فقط رفع يده... و سکين طويلة تلمع في ضوء لا مصدر له تتقدم نحوها ببطء
باردة. صامتة. قاسېة.
أرادت أن تصرخ لكن الصوت التصق بحلقها.
لا! صاحت كأن الحلم انكسر بصوتها.
رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وسبعون 170 بقلم اسماء حميدة
تعليقات

