رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وستة وستون 166 بقلم اسماء حميدة
الفصل 166
حين أنهت سيرين كلماتها كانت جمرات الاحتراق لا تزال تتلألأ في عينيها... وها قد سحبت حقيبتها من على المكتب كما يُنتزع القلب من صدرٍ مُنهك ثم خطت نحو الباب بخطى ثابتة كأنها تنفصل عن كل شيء خلفها... عن المكتب، عن المكان، عن ظافر.
بينما ظل هو واقفًا هناك متجمّدًا في مكانه كتمثال من شكٍّ مذهول يراقبها وهي ترحل، يرمق انتصاب ظهرها وحركة شعرها وهي تبتعد وكأن شيئًا منه كان يُنتزع معها.
بقيت كلماتها تطنّ في رأسه كأغنية مکسورة لا يعرف كيف يوقفها.
«هل هذه هي سيرين؟ زوجته؟ تلك التي اعتادت أن تُطفئ النيران بدلًا من إشعالها؟ تلك التي كانت تمتصُّ الڠضب كما يمتصّ الرمل المطر؟»
شعر ظافر وكأن امرأة جديدة قد خرجت من داخل سيرين القديمة، امرأة بنصلٍ في الروح لا تخشى أن تُطلق الڼار على من أحبّت إذا خذلها... والأغرب من ذلك أنه لم يغضب بل أعجب بها أكثر، أعجب بتلك النبرة، بذلك الاحتراق النبيل، بتلك الكرامة التي تشبه تاجًا من لهب... وها هو يعترف بأنه قد قلل من شأنها كثيرًا في الماضي إذ ظنها ظلًا، فإذا بها شمسًا تعمي من يجابهها.
وفي الخارج طرق ماهر الباب طرقًا خفيفًا كمن يتحسس مزاج العاصفة قبل أن يقترب منها.. ومن ثم فتح الباب متوجساً يقول بصوت خفيض:
ــ "سيد ظافر؟"
رفع ظافر رأسه ببطء وهو لا يزال مغمورًا بوهج ما حدث وأجاب ببرود يحاول أن يستعيد به اتزانه:
ــ "ما الأمر؟"
دخل ماهر وقد بدا التردد في نبرته:
ــ "أسهم *كارنيفال سنترال ميديا* تراجعت بسبب قضية السيدة دينا... هل نترك الفريق الإعلامي يتصرف أم نتدخل؟"
تذكر ماهر تحذير ظافر الصارم بعدم التدخل مجددًا في شؤون دينا، لكنه لم يملك أن يتخذ القرار بنفسه في ظروف كتلك فماهر بحنكته يعرف أن خيطًا رفيعًا يفصل بين الخطأ والخړاب.
دلك ظافر جسر أنفه بأصابعه كما لو كان يحاول ضغط ذاكرته لتتوقف عن التفكير، ثم قال فجأة:
ــ "ابحث عن شخصٍ ما... اسمها *ساسو*... ملحنة وكاتبة أغانٍ من أثينا."
أومأ ماهر وشرارة من الدهشة مرت في عينيه إذ أخطئ الظن فهو كان يتوقع أن يرفع ظافر حمايته عند دينا كما أمر مسبقاً ولكن ها هو ظافر يُحاول تبييض وجه دينا بشراء ذمة تلك الملحنة المڠتصب حقها فازداد غيظه لكنه لم يُظهر شيئًا بل قال مجبر:
ــ "أجل سيدي."
وبما أن ظافر كان قد طلب ذات مرة معلومات خاصة عن سيرين من أحد الرجال الخطرين هناك وإن لم يستوفوا كافة البيانات ولكن شخص مشهور گـ ساسو فإن الوصول إليها لم يستغرق وقتًا بل في غضون ساعتين عاد ماهر وهو يحمل قنبلة من الحقائق.
ــ "سيدي... السيدة *ساسو* معروفة دوليًا... كتبت أغانٍ لمشاهير عِدّة..."
توقف ماهر قليلًا ثم قال كمن يسقط الستار عن مسرحية كاملة:
ــ "رجالنا اكتشفوا أنها ليست سوى... السيدة تهامي."
"سيرين؟" همس ظافر وقد ضاق ما بين حاجبيه كمن يُحاول رؤية ما خلف الكواليس.
أومأ ماهر مؤكدًا... فإن لم تكتشف دينا شيئًا لكن ماهر قد فعلها عبر وسائل لا تُذكر في التقارير الرسمية.
ذُهل ظافر وأحسّ بأن قطع الأحجية تسقط في مكانها الصحيح فجأة.
"لهذا كانت غاضبة إلى ذلك الحد..." تمتم ظافر في سرّه وكأن الڠضب صار له لحنٌ يفهمه.
"لقد كانت الأغنية لها... و*دينا* سرقتها!!"
وهنا لم يعد الأمر مجرّد قضية عمل بل خېانة ذات طابعٍ شخصيّ... وفي الوقت ذاته قد ازداد فضوله نحو تلك السنوات التي غابت فيها سيرين... من كانت هناك؟ من صقل هذه المرأة؟ وأي نارٍ نضجت في قلبها حتى عادت بهذه القوة؟
قال بصرامة من يعلن الحړب بصوتٍ خفيض:
ــ "لا تخبر أحدًا بهذا... هل فهمت؟"
ــ "نعم، سيدي."
وعندما استدار ماهر ليغادر تراجع خطوة وسأل:
ــ "وماذا عن الآنسة دينا؟"
أجاب ظافر كمن يتخذ قرارًا لا رجعة فيه:
ــ "لا علاقات عامة... ولا دعم لها عندي... لستُ في حاجة لتبرير قبحٍ لا يُغتفر."
لم يفهم ماهر تمامًا فظافر لا يُقدّم على خطوة إلا إذا كانت تخدم مصالحه بشكلٍ مباشر ولكن ماهر ذكّره بخفّة:
ــ "لكن يا سيدي هذا سيسيء إلى سمعة المجموعة أيضًا."
تصفّح ظافر الوثائق التي بين يديه ثم قال بنفور أقرب إلى الڼار:
"على دينا أن تتحمّل نتيجة أفعالها. فإن لم تكن مستعدة لمواجهة ما يجره الضوء من ظلال، فلا يليق بها أن تكون نجمة."
لقد كان ظافر يُضحي بالبيدق. لينقذ الملكة... وكان اسم الملكة في رأسه يرن كترنيمة لم ينساها: *سيرين*.
هو صادق فيما يقول لسنوات كان يمد العون لدينا، بنى لها الجسور وأزاح لها العوائق، لكن طمعها كان أبعد من الامتنان. أرادت أكثر، أرادت الزواج... أرادت أن تسرق ما لا يمنح.
أنهى ظافر مطالعة الأوراق سريعًا، ونهض واقفاً يستعد للعودة إلى قصره، لا ليستريح بل ليعيد ترتيب ساحة الحړب.
في حين أن سيرين قد خرجت بالفعل من مبنى الشركة، وفي عينيها أثر رماد لا يزال يسطع من مواجهةٍ لم تُطفأ نارها بعد.
كتمت سيرين تنهيدة ثقيلة وفتحت باب السيارة بخفةِ من يحاول أن يُغلق خلفه باب العالم بأسره ومن ثم جلست على المقعد الخلفي وقالت للسائق بنبرة واهنة لا تخلو من الشجن:
ــ "خذني إلى المنزل."
تحرّكت السيارة بهدوء كأنها تنساب بين شوارع المدينة مثل قاربٍ يسير فوق بحرٍ راكد لكنّ الهدوء لم يدم طويلًا فقد مرت دقائق معدودة وسرعان ما تسلّلت إلى روحها رعشة غريبة... شعور مبهم بالترصّد، كأن الهواء من خلفها يهمس باسمها دون صوت.
استدارت سيرين بنظرة خاطفة إلى النافذة الخلفية فواجهها فراغٌ لا يوحي بشيء. لا سيارات قريبة، لا وجوه مألوفة، فقط الطريق... والطَرقات.
هزّت رأسها كمن يطرد كابوسًا شاردًا.
ــ "جنون عظمة! على رسلك يا فتاة" قالتها في سرّها واختارت أن تغلق على هذا الإحساس في قبو الوعي حيث ترمي كل ما لا تُريد تصديقه.
في تلك اللحظة لم تكن تعلم أن ظلًّا يتبعها بالفعل... ففي أحد الأزقة الموازية كان هناك رجل يرتدي قبعة "بيسبول" باهتة يقود سيارة أجرة كأنها خرجت من فيلم بوليسي... عيناه مثبتتان على سيارتها منذ أن غادرت، لا يرمش، لا يتردد... هذا الرجل... كان أنس.
أنس الذي بدا وكأن كل محاولاته للاقتراب منها قد قوبلت بجدرانٍ غير مرئية ففي السابق كان يتحسس خطواته من خلف رجال ظافر الذين كانوا يحومون حول سيرين كخلايا دفاع لا تنام... لكنه الآن بعد رحيل رامي إلى مسقط رأسه لأمورٍ خاصة وبعد أن خفّت قبضة الحراسة قليلًا شعر بأن الستار بدأ ينزاح... وها هي النهاية تقترب إذ ظلّ يترصّد هذه اللحظة كما يترقّب القنّاصُ رعشةَ الهدف.
"اليوم... ربما هو يومي."
قالها أنس في نفسه وهو يتبعها دون أن يلفت الانتباه... حذر كذئب يطارد أنثى غزالة يعرف أنها أقوى مما تبدو.
لكن أنس لم يكن يتحرك وحده... بل كان يحيك خطواته بخيطٍ غير مرئي مع صاحبة الشأن الأولى: *دينا*.
وقبل أن يُفكر في أي تصرف أخرج هاتفه وكتب لها رسالة وأرفق بها صورة سيارة البنتلي السوداء التي تُقل سيرين:
ــ "دينا... قلتُ لكِ إنني أستطيع حمايتكِ وسأفعل... لا تقلقي.... سأُزيل كل تهديداتك... وقريبًا."
في مكانٍ آخر تحت ضوء مصباح ناعم، وبينما كانت دينا تجلس أمام مرآتها، تمرر على بشرتها طبقات من العناية كما لو أنها تمحو آثار الحقيقة من فوق ملامحها رنّ هاتفها بنغمة الرسالة فصُوِبت نظراتها تلقائياً نحو الشاشة ثم توقفت يدها في الهواء كما لو أصابها تجمّد مفاجئ وذلك عندما قرأت الرسالة بتمعّن ثم نظرت إلى الصورة فارتجف جفنها للحظة.
كادت أن تنمو لها جناحي خفاش لزج من شدة الفرح وكتبت بخفة أنثى تُخفي خبث نواياها في سطر قصير:
ــ "إذا نجحتَ في تخليصي منها... سأعود إلى الخليج معك."
كانت كلماتها كفخٍّ عطِر... وعدٌ مُعلّق لا يليق إلا بضعفاء النفوس.
رواية عشق لا يضاهي الفصل المئة وستة وستون 166 بقلم اسماء حميدة
تعليقات

