رواية عيون الريان الفصل العشرين 20 بقلم نيللي العطار
قلبي غالٍ جداً لا أبادله بآلاف الأرواح، ومع ذلك فإن ابتسامتك تأخذه مني.
+
(جلال الدين الرومي)
+
***************
كانت چيسي تتململ في فراشها الوثير ، تتمطا بذراعيها متثائبة بكسل وصداع رأسها مستمر في الازدياد جرّاء احتسائها كمية كبيرة من المشروبات الكحولية في ليلتها الماضية ، انقلبت لتنام على بطنها ثم مدت يدها تتناول هاتفها الموضوع فوق الكومود الذي بجوارها كي تستعلم منه عن الساعة لكنها تفاجئت بوصول رسالة من صديقتها دينا عبر تطبيق الواتساب جعلتها تنتفض لتجلس بتحفز شديد ، ولم تستغرق ثواني حتى نهضت كلياً تتصل بها بلهفة شديدة ..
-(مورنينج عليكِ يابيبي) .. قالتها دينا ضاحكة بانتصار، فردت عليها بنبرة متوترة (ايه اللي حصل طمنيني؟)
+
ابتسمت دينا بنظرات شيطانية وهي تتفحص بعض الأوراق في يديها قائلة (ده حصل كتير أوي) .. أغلقت الملف ثم وضعته على الطاولة أمامها متابعة بخبث (تعالي عالنادي حالاً ، عندي ليكِ قنبلة أخبار)
+
اتجهت چيسي نحو خزانتها تلتقط منها بعض الملابس بعشوائية متسائلة (تخص ريان؟)
+
أجابتها دينا بتأكيد قاصدة إثارة فضولها (ومريم) .. صمتت هُنيهة تراقب ردود أفعالها عبر الهاتف وأردفت (حبيبته)... ثم أطلقت ضحكة ساخرة مستطردة (قصدي خطيبته الكفيفة)
+
توقفت چيسي عما كانت تفعله وكأنها أصيبت بشلل في كل خلايا جسدها من الصدمة وصدى كلمة "كفيفة" يتردد بآذانها.. اشتعلت عينيها بلهيب مُستعر لو طال ريان والمدعوة بحبيبته لأحرقهما أحياء، وجنون عظمتها يحدثها بـ أيعقل أن يرفضها من أجل فتاة ذات عيبٍ ومَنْقصةٍ مثل كف البصر؟، هل القوالب نامت والأنصاف قامت؟ .. وبعقلها المحدود وتفكيرها الضيق اعتبرت مريم نصف أنثى بل أقل بكثير وكأن فقد أحد الحواس والابتلاء فيها يقلل من شأن المرء، لا تعلم أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وأن التي تعتبرها منقوصة عنده أكمل مما تتخيل ..
-(عشر دقايق بالكتير واكون عندك، اوعي تتحركي من مكانك).. قالتها بنبرة مخيفة ثم أغلقت الخط وألقت الهاتف على الفراش بعصبية وغضب عارم، تعض أناملها من الغيظ وتود لو تصرخ وتعبأ الدنيا صراخاً وتكسيراً وقتلاً وتدميراً، تجذب مقدمة شعرها حتى كادت تقتلع خصلاتها من منابتها، حاولت تهدئة أعصابها بأخذ بعض الشهيق والزفير المتتابع استعداداً لما هو قادم وفي غضون دقائق تجهزت وخرجت لتقود سيارتها بسرعة كبيرة، متجهة إلى النادي كعاصفة رعدية غزيرة الأمطار ، وبالفعل لم تستغرق الكثير من الوقت حتى وصلت أمام البوابة، صفت السيارة بشكل عشوائي وانطلقت نحو الداخل تدق الأرض بنعليها، مرتدية نظارة شمسية قاتمة العدسات تخفي بها الشرر المتطاير من مقلتيها، ولم تكن بحاجة البحث عن صديقتها لأنها تعلم مكان جلوسها المفضل أمام إحدى النوافير المقابلة لكافيتريا النادي، اقتربت منها بخطوات واسعة وبدون مقدمات جلست أمامها قائلة بأعصاب مهتاجة (أنا يا قاتل يامقتول انهاردة)
+
ناولتها دينا الملف الذي يحتوي على كل المعلومات التي تحتاجها قائلة بهدوء مستفز (افتحي واقري)..أطاعتها بتحفز وحالتها تزداد سوءاً كلما تعمقت في القراءة حتى وصلت لآخر صفحة
-(يعني مش كفيفة بس، دي عايشة في ملجأ كمان؟).. قالتها بعدما أغلقت الملف بصدمة كبيرة، فأجابتها صديقتها ببرود (وكانت شغالة هنا مع الفرقة الموسيقية من حوالي شهرين)
+
أخرجت چيسي علبة السجائر من حقيبتها لتشعل إحداهن تسألها باهتمام (انتِ عرفتِ المعلومات دي منين؟)
+
ردت عليها دينا بثقة (نيرمين بنت خالتي، سكرتيرة مديرة النادي جابتلي قرارهم) .. ثم بدأت في سرد الأحداث التي سرّبتها لها قريبتها منذ إعلان النادي عن حاجته لعازفة بيانو مروراً بتعيين مريم وريهام وتوصية ريان عليهما وحادثة شادي وتبعاتها انتهاءً بالمواجهة داخل مكتب المدير، ولم تنسَ أهم تفصيلة والتي تعنيها كثيراً وهي وجود هيثم وتعمده إخفاء الأمر عنها .. رفعت دينا كوب العصير الطازج لترتشف منه على مهل قائلة (نسيت أقولك، الحلوين معزومين على رحلة العين السخنة اللي هاتطلع كمان يومين)
+
نفثت چيسي دخان سيجارتها في الهواء مستهزأة (ياحبايبي، أكيد أعصابهم تعبانة ومحتاجين يغيروا جو)
+
رمقتها دينا بنظرات شامتة ثم تحدثت وابتسامة صفراء تعتلي ملامحها (الرحلة دي فرصتنا عشان نضرب تحت الحزام براحتنا)
+
-(مش فاهمة)
+
-(اهدي وانا هافهمك، بس على شرط) .. سكتت تستقرأ تعابير وجهها الثائرة ثم قالت (هيثم بره اللعبة)
+
صكت چيسي أسنانها هاتفة بغيظ (الحيوان،ده انا هافعصه تحت جزمتي زي.....)
+
قاطعتها دينا بلهجة مهددة (قولت بره اللعبة لو عايزة تكملي الموضوع، غير كده أنا كمان أوت وهاتشيلي الليلة لوحدك)
+
تعجبت چيسي من إصرارها على تنحية هيثم جانباً لكنها وافقت لأجل مصلحتها قائلة (ماشي، ولا كأنه موجود)
+
تلاعبت دينا بميدالية مفاتيحها قائلة (اتفقنا، اسمعيني بقى كويس عشان الحكاية محتاجة تركيز وهدوء) .. انتبهت لها چيسي بكامل حواسها بينما بدأت هي بوضع خطة مُحكمة، مستغلة كل الظروف لتمكنها من أخذ ثأرها بطريقة لا تخطر على بال الشيطان، لا تعلم أن تلك التي اعتبرتها صديقتها المقربة تحفر قبرها قبل قبر غريمتها وتخفي نوايا خبيثة ستظهر مع الوقت والأهم الآن أن تتخلص من مريم حتى تستطيع التخلص منها بتزويجها لريان، هكذا اعتقدت أو بمعنى أصح هذا ما ستسعى إليه جاهدة حتى تحصل على ماتريد
+
*******************
في صباح اليوم التالي /
+
استيقظ ريان مبكراً كعادته، مشغول التفكير، يدرك صعوبة الطريق وأن الباب الذي سيفتحه على نفسه كثير الريح، وحجم العثرات والحواجز التي ستحول بينه وبين عِزّ مطلبه كبيرة ، لكنه لن يتخلى عن قراره وسيواجه العالم أجمع ليظفر بذات قلبه.. خرج من الڤيلا مستقلاً سيارته وهو يرتق صدره بالأذكار والآيات، يسأل الله وليّ المتعثرين الخطى الآمنة، اتجه مباشرةً نحو عمله متحصناً باليقظة وروحه متوجة بحدس يحثه على الاستبشار خير .. تذكر أمر رحلة العين السخنة وعليه إيجاد طريقة يقنع بها والده ليوافق على غيابه عن الشركة لمدة ثلاثة أيام والأصعب من ذلك سفر كريم أيضاً معه بلا بدائل لكليهما .. دخل مكتبه سريعاً بعدما أعطى أمراً لسكرتيرته بإبلاغه فور وصول السيد سعد لأنه يريده بشكل طارئ وبالفعل لم تمر سوى دقائق قليلة حتى اتصلت به عبر الهاتف لتخبره بوجوده .. وأثناء جلوسه ليفتتح أعماله اليومية انتبه لطرقات خفيفة على الباب يتبعها دخول حذر لريان يلقي التحية بهدوء رغم توجسه..
ابتسم سعد قائلاً بمزاح ممزوج بالعتاب (أشرقت الأنوار يابشمهندس.. وشك ولا القمر؟)
+
بادله ريان ابتسامته بأخرى لطيفة ثم اقترب منه ليجلس على المقعد المقابل للمكتب قائلاً (وشي طبعاً ، هو القمر حلو كده؟)
+
ضحك سعد قائلاً (وحشتني على فكرة) .. أخفض ريان بصره بخجل من نفسه، يعرف أنه أصبح مقصراً في رؤية والديه وقلما يتقابل معهما لانشغاله بمريم وبأحواله الفترة الماضية ولم يرد بينما أردف والده بمرح (شكلك عايز حاجة ومكسوف تقول) .. نظر إليه بأعين راجية مؤثراً الصمت ، يعلم جيداً أن تلك النظرة تلمس شغاف قلبه الحنون تجاهه، وبمثابة نقطة ضعف ومفتاح لمداخله وتجعله يخضع لطلباته البسيطة بكل ترحيب ..
-(بتستغلني بالبصة دي يعني؟)..قالها سعد ضاحكاً فرد عليه ببراءة مصطنعة (الصراحة آه)
+
استمر سعد في الضحك قائلاً (طلباتك أوامر ياسي ريان، بس اعرف الأول انت عايز ايه)
+
تنحنح ريان محركاً حاجبيه لأعلى وأسفل بشقاوة (أجازة)
+
قطب سعد جبينه متسائلاً باستغراب (ليه؟)
+
أجابه ريان بترقب (هاسافر أنا وكريم العين السخنة كام يوم)
+
-(لا ياراجل انت وكريم مرة واحدة؟، وكام يوم كمان؟)
+
-(هم تلات أيام مش أكتر)
+
-(والشركة هاتستحمل غيابكم تلات أيام بحالهم؟)
+
-(بابا!، أنا محتاج أغير جو والموضوع ده هيفرق معايا) ... سكت سعد لثواني يُقلب الأمر برأسه ولم يستطع الرفض ثم تنهد قائلاً باستسلام (خد بالك من نفسك ، وماتنزلش البحر كتير عشان ماتتعبش)
+
تهللت أسارير ريان يسأله بعدم تصديق (بجد ... يعني حضرتك موافق؟)
+
رد عليه سعد بمرح وسعادة لسعادته (اجري حضر الشنط بسرعة قبل ما ارجع فكلامي)
+
نهض ريان يقول بحماس (هاروح اقول لكريم إنك وافقت)
+
استوقفه سعد قائلاً باستنكار (تعالى يالا هنا، مفيش بوسة ولا حضن لبابا؟)
+
حك ريان مؤخرة رأسه ثم اقترب منه ليحتضنه قائلاً (ربنا مايحرمني منك أبداً)
+
شدد سعد عناق ولده قائلاً بحنو بالغ (تروح وترجع بالسلامة ياحبيبي) .. سأله باهتمام (محتاج فلوس؟)
+
ابتعد عنه ريان برفق قائلاً (مستورة الحمدلله).. ثم تابع بابتسامة ممتنة (خيرك سابق يا ابو ريان) .. تحرك عدة خطوات للخلف مستكملاً (ماتقولش لماما ، أنا هاقولها) .. أومأ إيجاباً بتفهم فأردف هو بغمزة مشاكسة قبل أن ينصرف كلياً (انهاردة عيد ميلادها ياسعودي) ..
فغر سعد شفتيه بصدمة لأنه نسي مناسبة مهمة تخص زوجته ولولا تذكير ريان له لنال تقريعاً وخصاماً حتى السنة القادمة ويجب عليه الآن المسارعة في شراء هدية أو تحضير مفاجأة تنقذه من الهلاك إذا لم يفعل ذلك ... وعلى صعيد آخر خرج ريان من مكتب والده وقلبه يتقافز من السعادة ولم ينسَ ابلاغ كريم بأخذه الموافقة ثم غادر الشركة كلياً بعدما أجرى اتصالاً هاتفياً بوالدته يطلب منها تجهيز نفسها لأنه يريدها في أمر عاجل، قاد سيارته عائداً مجدداً نحو الڤيلا وبالفعل لم يستغرق وقتاً طويلاً حتى وصل إلى هناك ليجدها في انتظاره أمام البوابة بقلق .. وما أن رأته حتى اقتربت منه
قائلة بتوتر (فيه إيه،طمني).. سكتت هُنيهة تلتقط أنفاسها متابعة بخوف (بابا كويس؟)
+
رد عليها ضاحكاً (ماتقلقيش سعودك زي الفل)
+
اطمأنت بعض الشيء واستقلت السيارة بجواره متسائلة (حد جراله حاجة؟)
+
أجابها وهو ينطلق مرة أخرى مبتسماً (هو لازم تحصل كارثة عشان نخرج سوا؟، ماينفعش مثلاً توحشيني واكلمك اعدي عليكِ، ونخرج مع بعض زي أي أم وابنها عادي؟)
+
ابتهجت رويدا كثيراً قائلة بملامح تبدو عليها السعادة (ينفع طبعاً ياحبيبي، انت وحشتني أوي)
+
أمسك كفها يرفعه ليقبل ظاهره قائلاً بحب (وانتِ أكتر ياست الكل)
+
تأملته رويدا بحنان شديد، فكم كان جميلاً، بشوشاً، وجهه يشبه رغوة الحليب في نقائها، تحيط به مساحة من النور منبعها قلبه البريء وعيونه الشفافة ..
-(هانروح فين؟) سألته بفضول فأجابها بمراوغة (مفاجأة) .. اتسعت ابتسامتها والتفتت كلياً بجسدها لتستند بظهرها على زجاج النافذة، مستمتعة بمراقبته أثناء القيادة، غير عابئة بالطريق، ولا الأماكن ،ولا الأشخاص، يكفيها أنه بجوارها ويتنفسان الأوكسچين ذاته .. وبعد وقت ليس بقليل توقف فجأة ثم أخرج من جيبه عُصابة سوداء وطلب منها أن تضعها فوق عينيها ، أطاعته بتعجب وفضولها مستمر في الازدياد .. ترجل أولاً ثم فتح بابها ليساعدها على النزول من السيارة متولياً إرشادها نحو الوجهة المنشودة .. تركت رويدا نفسها، واثقة به تمام الثقة لكنها أحست برجفة حنين اختلجت قلبها، الهواء حولها يحمل ذكريات هجرتها منذ زمن بعيد، الألفة التي تتملك منها الآن أعادتها إلى الوراء لسنوات كثيرة .. رائحة عميقة الجذور اخترقت حواسها فسحبت شهيقاً طويلاً تعبأ به رئتيها وزفرته ببطء شديد .. وأخيراً فك ريان عُصابة عينيها ، فغرت شفتيها بعدم تصديق ، أيعقل؟، ألم يخبرها زوجها أنه باع تلك الشقة بعد هجرتهم مباشرةً؟.. سألته بصوت مهزوز وكأنها على مشارف البكاء (إزاي؟)
+
احتوى كفيها بين راحتيه يجيبها بنظرات حانية (اشتريتها تاني من الراجل اللي بابا باعها ليه) .. صمت لثواني يراقب ردود أفعالها الفَرِحة ثم استطرد مبتسماً ابتسامة صافية (كل سنة وانتِ طيبة يا ام ريان)
+
اتسعت حدقتيها أكثر وبدون مقدمات جذبته لأحضانها تعانقه بكل ما أتاها ربها من قوة تبكي قائلة بنبرة متقطعة (ياحبيبي، انت فاكر عيد ميلادي؟)
+
ضمها إلى صدره أكثر يستنشق عطرها قائلاً (عمري مانسيته يا ماما والله)
+
أبعدها عنه قليلاً يمسح دموعها بإبهاميه قائلاً بمرح (كنت محتار أهادي حفيدة أوغلو أغا بإيه) خبطته على كتفه بخفة ضاحكة فتابع متسائلاً وهو يحثها على التحرك نحو الداخل أكثر ليشاهدا سوياً باقي المكان (ايه رأيك؟، لسه زي ما سيبتيها زمان؟)
+
ردت عليه بفرحة كبيرة (أجمل بكتير)
+
-(أنا اختارت كل حاجة شبه العفش القديم)
+
-(تسلم عيونك اللي اختارت ويحفظ قلبك من كل شر يارب) ... دعوة صادقة خرجت من قلبها تبعها عناق كبير بحجم سعادتها الآن، دقائق مرت عليهما وهما مشحونان بعاطفة قوية، قلباً بقلب ،ووِداً يوازي وِد، وروح تشتبك مع روح في لقطة لم تشهدها تلك الشقة من قبل .. طبع ريان قبلة عميقة فوق رأسها قائلاً (عقبال مليون سنة وانتِ راضية عني ياحبيبتي) ... أمسك كفها ليدخلا الشرفة الواسعة المطلة على النيل حيث جهز لها كعكة صممت خصيصاً لعيد ميلادها مغروس بها شمعتين يشكلان الرقم 25 قائلاً بمزاح (خوفت ازود أكتر من كده)
+
وزعت رويدا نظراتها بين الطاولة المزينة وبينه قائلاً بتأثر (ده السن اللي سافرت واتحرمت منك فيه) ..
+
أحاط كتفها بذراعه قائلاً (عارف وقاصد عشان نبدء من مكان ماوقفنا، بغض النظر عن إننا كبرنا يعني)
+
سحبت رويدا كرسي لتجلس أمام الطاولة قائلة بدلال (اتكلم عن نفسك، أنا ماكبرتش)
+
اتخذ ريان مقعداً مقابلاً لها يعد على أصابعه (لو حسبنا 25 سنة هنا و23 سفر و3 بعد مارجعتي يبقى عندك بالظبط.......)
+
قاطعته رويدا بحنق طفولي (ولد!، عيب تقول لست جميلة زيي عندك كام سنة) .. قهقه ريان بشدة على حديثها فأردفت هي بلمحة ألم رغم سعادتها (العمر عدى بيا وانا بقاوم انهياري، حتى حزني ماقدرتش أمارسه في العلن) .. سكتت تطالع منظر النيل الهادئ وعطر حي المنيل الممزوج بعبق الماضي يداعب أنفها ثم استطردت بشجن (الفرحة كانت بتمر على قلبي مكسوفة من وجعي لفراقك)
+
أحس ريان بغصة توخز حلقه قائلاً (انسي ياماما عشان خاطري، أنا جنبك دلوقتي وكنت معاكِ زمان بقلبي)
+
اغرورقت عينيها بدموع مقهورة (الغربة نشفت دمي وخلت مشاعري زي الحطب ياريان، عيشت 23 سنة عطشانة لكلمة ماما اللي بسمعها منك دلوقتي بعد مابقيت شاب على وش جواز)
+
أمسك كفها قائلاً بصدق (أنا مستعد أعمل أي حاجة عشان اشوفك فرحانة)
+
تنهدت قائلة بابتسامة مشجعة (اتجوز وخلف عيال كتير ينادوني يا أنّا)
+
بادلها ابتسامتها بأخرى أكثر مرحاً (بس كده هاتكبري غصب عنك)
+
جذبت كفها تضربه على كفه بلطف قائلة (بعينك ده انا هاكون أعيل منهم)
+
أرجع ظهره للخلف عاقداً ذراعيه حول صدره ثم قال بهدوء (بالمناسبة أنا مسافر العين السخنة بعد بكرة)
+
غمزت له بشقاوة (لوحدك؟)
+
رفع حاجبيه يقلب عينيه يميناً ويساراً ثم قال بشفتين مزمومتين بلطافة (مع كريم)
+
قلدت حركته قائلة (كداب)
+
مال برأسه قليلاً ولم يرد فأدركت أنه يتهرب من الإجابة فسألته مغيرة مجرى الحديث (هاترجع إمتى؟)
+
-(هانقعد هناك تلات أيام)
+
-(اتبسط ياحبيبي بس خد بالك من نفسك)
+
أومأ لها إيجاباً ثم أمسك بسكين موضوع بجانب الكعكة وقام بتقسيمها ثم وضع قطعة كبيرة في طبقها قائلاً (دوقي عمايل إيديا وقوليلي رأيك)
+
سألته بتعجب (انت اللي عاملها؟)
+
رد عليها وهو يضع قطعة أخرى في طبقه (لا طبعاً، بس شيلتها من عند بتاع الحلويات على إيدي لحد هنا، يبقى عمايل إيديا دي ولا مش عمايل إيديا؟)
+
غرست رويدا الشوكة في الكعكة لتلقط بعضاً منها ثم تناولتها ضاحكة (دمك زي الشربات)
+
-(هانشربه قريب بإذن الله)
+
-(هو إيه ده؟)
+
-(الشربات)
+
-(مش فاهمة)
+
-(كلي بس دلوقتي، ولما نرجع من العين السخنة هافهمك).. أنهى كلماته بنظرة ذات مغزى أدركته وفرحت له كثيراً، واليوم وبعد كل هذا الوقت لا تريد من الدنيا سوى سعادته وأن ينام قرير العينين بمن اختارها بملأ إرادته، تنتظر لحظة تحمل فيها خَلفه الغالي بين ذراعيها ليعوضها عن سنوات عاشتها مطعونة بخنجر حرمانها منه عنوة وجوع روحها لكلمة أمي .....
+
**************
بعد يومين/
+
في غرفة الموسيقى خلف البيانو كانت تجلس كزهرة أقحوان موشاة ببتلاتها البيضاء بين براعم صغيرة تتقافز حولها بسعادة سخية لعودة معلمتهم الغالية لتغزل أحلامهم البريئة برخام النغمات وياقوت الألحان، هنا تجد مريم روحها، الدار بمثابة وطنها ومن أرادوا تغريبها ليتخلصوا منها لم يعلموا أنهم زرعوها قطرة في نشيد مجرى نبع من النور ... وجميلة الروح والمُحيّا تشعر بحماسة شديدة فالمتبقي على موعد الرحلة ساعة وبضع دقائق قليلة وأخيراً ستتقابل مع ريان بعد غياب لمدة يومين مروا عليهما عمراً بأكمله.. انصرف الأولاد إلى أماكنهم عقب انتهاء درسهم واتجهت هي نحو غرفتها لتجهز نفسها بقلب يضخ شوقها إليه مع الدم في وريدها .. ارتدت أحلى فساتينها وتركت خصلاتها حرة جامعة الغُرّة للخلف بملاقط مصنوعة من اللؤلؤ الصغير وجلست تنتظر قدومه كغزالة وديعة.. وبالفعل لم يمر سوى ثواني تُعد على أصابع اليد حتى أتاها اتصاله يعلمها بوصوله أمام بوابة الدار .. تولّت ريهام تنزيل الحقائب أولاً ثم عادت إليها ليغادرا سوياً بعدما ودعتهما مربيتهما الغالية صباح والسيدة وسيلة التي لم تستطع رفض سفرهما وكعادتها أعطتهما حريّة مشروطة بطمأنتها عليهما فور وصولهما ومهاتفتها بين الحين والآخر والاعتناء ببعضهما البعض.. وأثناء وقفته مستنداً على سيارته ينتظر إشراق شمسها عليه انتبه ريان لاقترابها منه كحمامة بيضاء يطير بها النسيم من صباح إلى صباح، تأملها بنظرات عميقة العشق وفي تلك اللحظة يتمنى لو ضبط مواقيت الدنيا على إيقاع خطوات سيدة الروح وست النساء الهادئة .. مد كفه يحتضن خاصتها وعينيه ترسل ألف عبارة اشتياق وياليتها تبصر لتقرأها واضحة .. ساعدها على اتخاذ مقعدها في السيارة بجواره بينما احتلت ريهام المقعد الخلفي بإحباط لعدم وجود كريم الذي سبقهم إلى النادي ثم انطلق بهن قاطعاً الطريق بسرعة البرق وكأنه يسافر على متن غيمة ليصل أمام الحافلة المخصصة للسفر في وقت قياسي .. لمحهم كريم من بعيد فاتجه نحوهم بخطوات مسرعة ليساعد ريان في حمل الأمتعة ووضعها في مكانها .. وفي طريق عودتهما لمريم وريهام توقف الأخير مع إحدى الفتيات التي ما أن رأته حتى قفزت فرحاً لتعانقه وتقبله يميناً ويساراً وسط نظرات ريهام المحتقنة، أحست بوجع يغزو أضلعها وكأن أحدهم ضرب قلبها بزجاجة تناثرت شظاياها الحادة بين أنسجته .. لم تستطع تحمل الموقف واستأذنت لتصعد إلى الحافلة تجنباً لرؤية مايحدث، رغم رغبتها العارمة في اقتلاع رأس تلك السخيفة والتمثيل بجثتها وأكل قلبها حي لكنها لا تغار ومن يكون هو لتشتعل غيرتها عليه .. اختارت مقعداً في نهاية الحافلة بجانب النافذة وجلست بملامح عابسة تراقب توافد الركاب المبتهجين بالرحلة ..
-(ممكن اقعد هنا، لو سمحتِ؟) .. قالها علي زميل مريم القديم في الفرقة مبتسماً فصمتت لثواني تفكر في شئ ما ثم أجابته بترحيب (آه، اتفضل)
+
جلس بجوارها محافظاً على المسافة بينهما قائلاً بمزاح (لو محجوز هاشوف كرسي تاني)
+
ردت عليه وهي تلمح صعود كريم بصحبة الفتاة (لامش محجوز)
+
سألها محاولاً جذب أطراف الحديث معها (انتِ مش فاكراني؟)
+
نظرت إليه قائلة بهدوء زائف (فاكراك طبعاً)
+
-(أول مرة تروحي العين السخنة؟)
+
-(آه)
+
-(يبقى هاتتبسطي جداً) .. ثم أخرج من حقيبة ظهره مشروبين غازيين ناولها أحدهم متابعاً بمرح (اشربي دي، الجو حر والطريق لسه طويل)
+
كادت أن ترد يده رافضة عزومته البسيطة لكنها تراجعت عندما لاحظت مراقبة كريم لها بمقلتين يتطاير منهما الشرر قائلة بابتسامة تتصنع لطافتها (ميرسي كتير) ...
+
وعلى صعيد آخر اتخذ كلاً من مريم وريان مقعدين في منتصف الطرف الموازي، هي بالداخل وهو بالخارج ليضمن راحتها وعدم مضايقة أحد لها وكفه مازالت تحتوي كفها برفق
-(وحشتيني) .. همس بها مقترباً منها فردت عليه برقة أذابت أعصابه (وانت كمان)
+
تنهد مرجعاً رأسه للخلف قائلاً بقلة حيلة (الصبر من عندك يارب)
+
تعجبت مريم وظنت أنها ضايقته متسائلة (أنا عملت حاجة زعلتك؟)
+
نظر إليها قائلاً بصوت يقطُر عشقاً (كل خير ياروحي، عملتِ كل خير والله)
+
أهدته ابتسامة حُلوة كشمس تحمل الكثير من الأعياد متوشحة بصمت خجول تدرك جيداً أنه يثير حنقه، أخرجت هاتفها توصل به سماعات الرأس ثم ناولته إحداهن ليضعها بأذنه ووضعت الأخرى داخل أذنها وقامت بتشغيل رائعة من روائع ياسمينة الشام وقيثارة الأحلام "فيروز" .. اعتدلت بنصف التفاتة ليتقابل وجهها الفاتن مع وجهه الهائم بها واتخذت من مسند المقعد وسادة لجلسة أكثر راحة ، تنصت بإمعان لموسيقى وكلمات الأغنية التي تشبهها لدرجة التماهي الغريب ، بينما هو كان غارقاً حد الثمالة في تفاصيلها تفصيلةً تفصيلة، يراقب حركاتها حركةً حركة عن كثب وكأنه يشاهد فيلماً كلاسيكياً من أفلام الزمن الجميل، يشعر بها طفلة بريئة ترتب نوافذه المبعثرة بأناقة تعجز قصائد الشعر عن وصفها ، يود لو يأخذها إلى البعيد حيث لا يوجد غيرهما ليتبادلا القُبل وسط سلالاً من رحيق عشقهما الناعم ..
-(مريم!) ... خرج إسمها من بين شفتيه بعمق فأجابته بهدوء (نعم ياروح مريم) .. ردها الصادق الذي يحمل اعترافاً مباشرا بأنه أصبح روحها وجزء لا يتجزء من كيانها جعل مشاعره تنتفض كمسجون برئ يمشي فوق النار والماء فتأوه بصوت غير مسموع ثم قال (ملامحك وانتِ بتسمعي فيروز يتعملها تمثال من جمالها)
+
تحدثت بحزن حاولت إخفائه (بحس لما بسمعها إني شايفة أمي الله يرحمها)
+
تمسك بكفها أكثر مخللاً أصابعه بين خاصتها يمازحها (المفروض أغير منها دلوقتي؟) .. رفعت كتفيها وأنزلتهما سريعاً بدلال ولم ترد فأردف ضاحكاً بخفة (نتجوز بس وانا ورحمة أمك لاحطك في سندوتش وآكلك عاللي بتعمليه فيا ده)
+
خبطته على ذراعه قائلة بتذمر طفيف (بس يا ريان الناس حوالينا)
+
جذبها لتتوسد كتفه قائلاً بمرح (اسمعي الأغنية وانتِ ساكتة، خلي الرحلة دي تعدي على خير) ... أطاعته وأغمضت عينيها باستسلام لسطوة عشقه وتملكه الحنون، بينما هو ظل متيقظاً ،يوزع نظراته بينها وبين الطريق والركاب حتى لمح كريم جالساً في المقدمة وبجواره فتاة غريبة ، يدخن سيجارة بتعابير واجمة، شعر ببعض القلق يتسرب إليه فصديقه الذي يعرفه أكثر من نفسه لا يلجأ للتدخين إلا إذا كان غاضباً بشدة ويجاهد ليسيطر على ذلك الغضب .. بحث بعينيه عن ريهام فوجدها تجلس خلفهم وبجانبها علي زميل مريم القديم يتحدثان ويتضاحكان بلطف، فبدء عقله بربط الأحداث بإحساسه وأدرك أن حدسه صحيح ، لاح شبح ابتسامة متسلية على شفتيه .. إذن رفيق عمره الأحمق، وحِمار دربه الحائر ذو الأذن الطويلة يغار وينفث دخان احتراقه مع مخلفات سيجارته البلهاء .. أرجع رأسه
للوراء مطبقاً جفنيه ليصلوا أولاً إلى وجهتهم بسلامة الله وسيكون له معه حديث مُفصّل حول الأمر .. وأثناء انشغال الجميع بأحوالهم لم ينتبه أحد للواقفة في مقدمة الحافلة مرتدية نظارة شمسية سوداء كروحها الآثمة، ترفع هاتفها متصنعة تصوير نفسها بحركات أنثوية بينما كانت تلتقط صور لريان ومريم من جميع الزوايا وبشكل يوضح قوة العلاقة بينهما وبعدما انتهت من تنفيذ المطلوب قامت بإرسال الصور عبر تطبيق الواتساب للتي تتقلب على الطرف الآخر فوق مجامر نار حقدها وما أن وصلتها حتى هبت واقفة كالممسوسة، تسب وتلعن بألفاظ نابية، متوعدة برد الصاع صاعين وأثناء حالتها الثائرة دخل عليها والدها فجأة وجدها تستشيط غضباً فسألها بتوجس (مالك ياحبيبة بابي؟ مين اللي معصبك بالطريقة دي؟)
+
ردت عليه چيسي بعصبية (الحيوان الزبالة يسيبني أنا عشان واحدة عامية تربية ملاجئ)
+
أدرك محمود من حديثها أنها تتحدث عن ريان متسائلاً بتعجب (عرفتِ المعلومات دي منين؟)
+
أخرجت چيسي الملف الخاص بمريم وناولته إياه ليتفحصه قائلة بتهكم (البيه كان مقرطسنا كلنا ومشغلها فالنادي)
+
أخذ محمود يقلب بالأوراق حتى وقعت عيناه على الإسم وكأن صاعقة نزلت من السماء وضربت أوصاله ففغر فاهه بصدمة قائلاً (يانهار إسود دي مصيبة وهتحط على دماغي أنا وخالتك) .. ثم نظر إليها متابعاً بخوف (انتِ معاكِ صور للبت دي؟) .. اعطته الهاتف بريبة شديدة من ذعره الغير مفهوم ليشاهد الصور التي أرسلتها لها دينا .. جف حلقه وارتعدت مفاصله أكثر وظل يدور حول نفسه بعدم اتزان يقول بفكر مضطرب (أنا لازم أكلم رويدا حالاً، ابنها هايودينا في ستين داهية)
+
يتبع......... إلى اللقاء مع الفصل الحادي والعشرون
+
