رواية عيون الريان الفصل السادس عشر16 بقلم نيللي العطار
"يَعود القلب طِفلاً ريَّان المشاعر إذا تابَ أو أَحبَّ"
+
- وجدان العلي -
+
*************
+
خرج يوسف من منزل جابر رحمه الله بمقلتين تغشاهما الدموع كظللٍ من الغمام وقلب يتهشمُ من الحزن والخيبة كزجاج نافذة ضربها إعصارٌ من الحسرات .. حزين حُزن شجرة تين هجرها الماء وروحه تأن أنين وترٍ مقطوع من آلة عودٍ عتيقة ألقاها عازفها على قارعة الطريق ذات يأس .. كلما نظر إلى شهادة ميلاد مفقودته المُزورة ينخُر الألم عظامه نَخراً عميقاً كحرمانها من أبسط حقوقها والإلقاء بها في دار أيتام وهي ضريرة .. مكسورة الجناح مثل طير أخذتْ العاصفةُ أعوادَ سرير طمأنينته .. وأثناء قطعه لطريق العودة من أسيوط للسويس رغماً عنه اختلت عجلة القيادة بين يديه ولولا صرخة أميرة ومسكها للطارة بأعجوبة لأصبحا في عداد الأموات ... (حاسب يا يوسف).. قالتها أميرة بخضة بينما ضغط هو على مكابح السيارة كي تتوقف سريعاً فأصدرت العجلات صوتاً عالياً نتيجة احتكاكها بالأسفلت .. غطى وجهه بكفيه ينظم اضطراب أعصابه قائلاً بنبرة مُرتعشة (أنا آسف .. مش قادر أركز)
+
تنفست أميرة الصعداء قائلة بدم هارب (الحمدلله ربنا ستر)
+
لم يستطع تمالك نفسه أكثر من ذلك وانهارت حصونه كلها دُفعة واحدة قائلاً ببكاء مرير (مش عارف أعمل إيه يا أميرة .. أنا زي الغرقان اللي كان بيتعلق بقشاية والقشاية سحبته لتحت أكتر)
+
ردت عليه أميرة بتعاطف كبير مع حالته المُتألمة (لازم تهدى وتريح أعصابك .. الإنهيار عمره ماهيوصلك ليها)
+
تحدث يوسف بانكسار مُوجِع (ريم أذتهم فإيه عشان يعملوا فيها كده .. وتترمي مرتين .. مرة يتيمة ومرة عاجزة .. انتِ مُتخيلة؟.. تترفض من أهلها كلهم وتعيش طفولتها وشبابها محرومة من أبسط حقوقها كإنسانة؟)
+
بكت أميرة تأثراً بكلامه عن مآساة شقيقته قائلة (أنا واثقة إنك هتلاقيها إن شاء الله وهاتعوضها عن كل حاجة وحشة شافتها)
+
مسح وجهه بجانب كفيه قائلاً بملامح يمتزج في تعابيرها الحزن والقسوة (أنا هاروح بالورق ده لأهل ماما ليلى الله يرحمها .. أكيد مرات إبنهم الحقيرة عارفة إسم وعنوان دار الأيتام اللي رمتها فيها)
+
حاولت أميرة التفكير بعقلانية لتساعده في اتخاذ خطوات صحيحة بعيداً عن أي تسرع قد يضر به وبشقيقته في منفاها قائلة (إنت كده هاتعرض حياة ريم للخطر .. على حسب كلام فريال بنت جابر إن مرات خالها هي والراجل اللي كان معاها هددوه بقتلها لو ما بعدش بيها وممكن ينفذوا تهديدهم دلوقتي لو الدفاتر القديمة اتفتحت عشان يحموا نفسهم).. ثم أضافت بنبرة جادة (أنا عارفة إن ده الحل الأصعب .. لازم تلاقي أختك الأول قبل أي مواجهة لو عايز تضمن سلامتها)
+
نظر إليها قائلاً بقلة حيلة (كلامك صح جداً بس الموضوع شبه مستحيل .. أنا زي اللي بيدور على إبرة في كوم قش)
+
أجابته مبتسمة بتحفيز (مفيش حاجة مستحيلة طول ماعندك يقين بالله ومتأكد إنه واقف جنبك لأنك بتسعى لرد حق مظلومة فمابالك إذا كانت المظلومة دي أختك؟)
+
قال وعينيه مغرورقتان بالدموع (ماتسيبينيش .. أنا هاقع من غيرك)
+
صمتت لبرهة تتأمل الحسرة والخذلان المرتسم فوق ملامحه ثم أضافت بنفس ابتسامتها الجميلة (يعني أنا أسيب الدنيا كلها وأسافر معاك وأنام خمس ساعات فالمواصلات.. ودي ماحصلتش قبل كده على فكرة .. وبعد ده كله تقوللي ماتسيبينيش؟.. تفتكر إني ممكن أعملها يادكتور؟)
+
بادلها ابتسامتها بأخرى نحتها من عمق آلامه قائلاً (بنت أصول يا أميرة وجميلك هافضل شايلة طول عمري فوق راسي)
+
رفعت حاجبيها قائلة بعتاب طفولي (ممكن تيجي مكاني وتسيبني أسوق أنا واهو بالمرة تعد الجمايل؟)
+
اتسعت ابتسامته قائلاً وهو يفتح باب السيارة ليتبادل معها الأدوار ويتركها تتولى القيادة (عندك حق المطب اللي كلته مُرعِب)
+
اتخذت مكانها خلف المقود تضحك قائلة (احنا ربنا نجدنا والله) .. بينما هو ركب بجوارها قائلاً (أنا بسوق كويس جداً .. الطريق هو اللي وحش)
+
أدارت المُحرك استعداداً للإنطلاق مجدداً قائلة بمزاح (أربط حزام الأمان يا يوسف الله يسترك وبلاش كدب عايزين نوصل على خير) ... ضحك على دعابتها الطريفة ثم فرد المقعد قليلاً بعد أن ربط حزام السلامة وفتح النافذة قليلاً مستنداً بظهره للخلف والهواء المُحمل بغبار الطريق يضرب صفحة وجهه وفي غضون دقائق غفا رغماً عنه من فرط التفكير .. مخذول خذلان يوسف بآلام يعقوب الذي أضناه الفراق والجُب قلبه وما من قافلة تمر ولا عزيز يسند عليه خيبته .. أما هي فكانت توزع نظراتها بين الطريق وبينه .. مُشفقة عليه من تلك الرحلة الطويلة .. المُنهكة وتخاف أن تتساقط أكتافه قبل الوصول وكل مابوسعها أن تحمل معه بعضاً من تعبه وتكون له الضوء ذات عتم ولسان حالها يلهج بالدعاء اللهم رب الضالة ومُعطيها رد إليه ضالته..
+
**************
+
لا مجد أرقى من مجد أن تُحَب المرأة حباً صوفياً .. رائقاً .. حينها تتحول إلى معجزة ثامنة محفوظة كالشعر في تراث الشعوب .. مقروءة بجميع لغات العالم وتصبح بين ليلة وضحاها مصنوعة من شهقةِ دهشة الحضور الأول والنظرة الأولى ونغزة القلب الأولى .. استيقظت مريم وفرحة الدنيا تملأها كاملة وباقة الورد هدية صُلحها تنام بين أحضانها كالطفل .. تحسست السِوار بأطراف أناملها تردد الكلمة المنقوشة عليه بهمس رقيق (كأنك شيخ وأنا مُريدك.. وعمري سِبحة بين إيدك) ثم ابتسمت ابتسامة جميلة عندما لاحت ذكرى البارحة كطيف ملائكي بمخيلتها .. وبعد دقائق من الهُيام والشرود الواله نهضت برفق لتتجهز وتذهب إلى عملها .. وأثناء سيرها الهادئ بين محتويات غرفتها انتبهت لصوت مربيتها الحنون تلقي تحية الصباح بهدوء (صباح الخير ياحبيبتي)
+
ردت عليها مريم مبتسمة بإشراق (صباح النور يا دادا)
+
أمسكت صباح بكفها قائلة (طمنيني عملتِ إيه امبارح)
+
أرجعت مريم خصلة من شعرها خلف أذنها قائلة (الحمدلله كان يوم لطيف .. اتعرفت على زمايلي وحاولت أتأقلم معاهم)
+
لمحت صباح السِوار الفضي المُزين لمعصمها فابتسمت قائلة (واضح إن البشمهندس ذوقه حلو أوي)
+
لم تفهم تلميحها متسائلة (قصدك إيه؟)
+
أجابتها صباح ضاحكة (الإسورة ماشاء الله تحفة .. عقبال مايلبسك دبلته يارب)..تضرجت وجنتيها بحمرة الخجل ولم ترد بينما تابعت صباح بنبرة حانية (تعالي بقا عشان صبوحة حبيبتك تختار لك فستانك ونروح نفطر سوا قبل ما عمك فهمي ييجي)
+
تحدثت مريم بتوتر (ريان هايوصلني)
+
سحبتها صباح لتجلس على طرف الفراش وجلست بجوارها تحتوي كفيها الصغيرين بين راحتيها قائلة بفطرة أم تخشى على طفلتها من نسمة الهواء (بصي يا مريم أنا مقدرة حب ريان ليكِ وعارفة إنه شاب كويس ومحترم طالما أستاذة وسيلة وثقت فيه واستأمنته عليكِ لكن مايصحش تروحي وتيجي معاه في عربيته .. الحب حلو أوي بس سُمعتك في المقام الأول يابنتي والدار ماقصرتش معاكِ وأظن فهمي أخويا هو اللي مربيكِ يعني مفيش منه خوف ولا قلق)
+
أطرقت مريم برأسها قائلة بتهذيب اعتادته عندما تنصحها مُربيتها الحبيبة قائلة (عندك حق يادادا .. كلامك كله صح)
+
أحاطت صباح كتفها بذراعها طابعة قبلة عميقة فوق خصلاتها (إنتِ غالية وراسك طول عمرها مرفوعة وما اقبلش أبداً إن حد يمِسّك بكلمة.. بس لازم ياقلب أمك تتقي شر الشبهات ولما يبقى خطيبك رسمي ساعتها يكون فيه كلام تاني غير كده كل شئ بحساب وله حدود)
+
_ (حاضر والله أنا مقتنعة برأيك وهاكلمه أعرفه إني هاروح وهاجي مع عمو فهمي)
+
= (ربنا يريح قلبك ياضنايا ويوقف لك ولاد الحلال)
+
ابتعدت مريم عنها برفق تسألها بمرح (هاتلبسيني إيه انهاردة؟)
+
أجابتها صباح بحنو بالغ (هو الورد يلبس غير الورد؟)
+
ضحكت مريم قائلة (ماشي ياستي افضلي دلعيني كده على طول)
+
ساعدتها صباح في النهوض لتتجه إلى خزانتها تدللها كالمعتاد (الحلو يدلع على حِلّه يا نور عيني) .. وأثناء حالتهما اللطيفة تلك خرجت ريهام من الحمام المُلحق بالغرفة تلف شعرها بالمنشفة قائلة بنشاط (صباح الخير يا كتاكيت .. بتصوصووا فإيه عالصبح كده؟)
+
بادرت صباح بإجابتها قائلة (بنختار فستان مريومة اللي هاتروح بيه الشغل)
+
أزالت ريهام المنشفة عن رأسها قائلة بمزاح (اخلصي ياصبوحة احنا مش رايحين خطوبة ابن رئيس النادي .. ده شغل يا ماما)
+
قذفتها صباح بالوسادة قائلة بحنق (ماهو عشان شغل لازم تروح وهي لابسة كويس .. وياريت انتِ كمان تلبسي فستان بدل الچينز والتيشيرت اللي متأبدة فيهم زي غفير الدار كده)
+
شرعت ريهام في ارتداء ملابسها تضحك قائلة (فيه كابتن چيم تروح شغلها بفستان؟ .. دي تبقى جُرسة بحناجل ياصباح .. ربنا يسترها علينا وعلى ولايانا)
+
قالت مريم لصباح ضاحكة (يلا يادادا شوفي هاتلبسيني إيه وسيبك من أم سيد اللي بتجري على أكل عيشها دي)
+
جلست ريهام لترتدي حذائها الرياضي قائلة بمشاكسة (بسرعة يا صباح لاحسن النحنوحة هاتتأخر عالحُب)
+
_(شايفة قلة الرباية يا دادا).. قالتها مريم باستنكار فخبطت صباح كفيها ببعضهما قائلة (اصطبحنا واصطبح المُلك لله)
+
اقتربت ريهام منهما تقبلهما واحدة تلو الأخرى قائلة (بذمتكم تقدروا تستغنوا عن رخامتي؟)
+
جاوبتها صباح بحنان (لا طبعاً وتعيشي وترخمي علينا) بينما تحدثت مريم بودٍ حقيقي (ربنا يديم عليكِ ضحكتك ومايحرمنا منك أبداً ياحبيبتي) ..
+
تراجعت ريهام بضع خطوات للخلف ثم حملت حقيبة الظهر خاصتها قائلة (حاولي تجهزي بسرعة يامريم وأنا هانزل اطمن عالولاد على ماتخلصي) .. وبالفعل اتجهت خارج الغرفة تاركة المجال لصباح حتى تساعدها في ارتداء ملابسها .. الأمر يسير عليها وتستطيع حلّه بمفردها لكنها تثق في ذوق مُربيتها وتفرح كثيراً عندما تصف لها إطلالتها .. واختيارها وقع اليوم على فستان أبيض منقوش بزهور الأقحوان المُبهجة .. طويل الأكمام .. مُتسع باعتدال ويصل إلى كاحليها .. تاركة خصلاتها تنساب خلفها كستارة مُخملية فبدت مثل حورية مغزولة من القُطن والياقوت .. وبعد عناء ومحاولات مُستميتة في الإقناع وافق ريان أن تذهب إلى عملها بسيارة العم فهمي على وعدٍ باللقاء في آخر اليوم ..
+
*************
+
في النادي /
+
دخلت مريم القاعة برفقة ريهام التي لم تتركها إلا بعدما اطمأنت عليها وتأكدت من وجود زميلتها اللطيفة (جميلة) .. جلست الأخيرة بجوارها تتجاذب معها أطراف الحديث فلاحظت السوار المُزين لمعصمها قائلة بمرح (إسورتك حلوة زيك يامريم)
+
ابتسمت مريم قائلة بخجل (شكراً حبيبتي كلك ذوق)
+
تفحصته جميلة بانبهار لجمال شكله وتصميمه ثم قالت (الكلام المكتوب عليها تحفة .. واضح إن خطيبك بيموت فيكِ)
+
تلمسته مريم بأطراف أناملها وكأنها تتذوق الحروف المنقوشة فوقه قائلة بابتسامة عذبة (وانا كمان بحبه أوي)
+
بادلتها جميلة ابتسامتها بأخرى حالمة (ربنا يجمع بينكم على خير إن شاء الله) .. وأثناء جلستهما الهادئة تلك قاطعهما دخول باقي الفريق .. اتخذوا مواضعهم خلف آلاتهم استعداداً لبدء التدريب لكن شادي لم يحيد بأنظاره عنها .. يلتهم تفاصيلها ويأكلها أكلاً وهي تجلس كالعصفورة خلف البيانو وفستانها الأقحواني يزيدها فتنة.. يكاد يجزم أنها أجمل من أي جميلة رآها في حياته وضمها لطابور نسائه أصبح واجب قومي سيبذل قصارى جهده لتلبية جنونه الشهرياري .. أما هي فكانت تتجنبه قدر المستطاع بل تتجنب جميع الشباب حفاظاً على العهد الذي قطعته لريان ولنفسها أولاً مما أثار غيظه .. قطع شروده السافر صوت صديقه علي يسأله هامساً (مالك ياشادي .. وشك جايب ألوان كده ليه؟)
+
أجابه صاكاً أسنانه بحنق (مش شايف البت الجديدة دي واخدة جنب مني إزاي؟)
+
رمقه علي باحتقار لتصرفاته الخالية من التهذيب قائلاً (هي واخدة جنب مننا كلنا ومابتتكلمش غير مع البنات)
+
تحدث شادي بثقة زائدة في رجولته (حلو أوي أنا بحب النوع الصعب ده بيبقى له طعم مختلف)
+
زفر علي قائلاً بغضب وصوت خفيض (يابني آدم احترم نفسك البنت مؤدبة جداً وفحالها)
+
ابتسم شادي بطريقة غامضة قائلاً (ماتقلقش أنا هاتسلى شوية وهاحاول اسيبها بنت بنوت) ثم غمز له بوقاحة مُتابعاً (مع إني مش ضامن نفسي الصراحة)
+
فغر علي فاهه بصدمة لم يستطع إخفائها قائلاً (يانهار إسود.. إنت ماعندكش ضمير خالص؟....) ... قاطعه شادي بلامبالاة (بقولك إيه طلع نفسك منها ومالكش دعوة)
+
رد عليه صديقه بتوعد (ماشي يادنچوان بس اعمل حسابك لو عكيت جامد هابيعك)
+
ضحك شادي بعدم إكتراث (طول عمرك ندل ياصاحبي)
+
**************
+
على صعيد آخر/
+
أنهى ريان أعماله سريعاً بفارغ من الصبر المُرّ ليذهب إليها بعدما وافق على مضض أن يصحبها ذلك المدعو بـ (العم فهمي) لعملها .. ورغم ضيقه واستصعابه للأمر إلا أنه كان يعطيها الحق بعض الشئ .. هو يعلم جيداً السبب وراء إصرارها على إعفائه من مهمة توصيلها أو الخروج معه دون حساب ولذلك قرر أخذ خطوة مهمة في علاقتهما أو بالأصح تنفيذ وعد قطعه لجده الحبيب بأن يعرّفه عليها .. وبعد وقت ليس بقليل وصل أمام النادي بسيارته ثم توقف لينتظر موعد خروجها ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى لمحها تسير برفقة ريهام كنهر من الفيروز يهدر السرور في عروقه بعذوبة .. تصلبت أنظاره العاشقة عليها.. إنها خُرافية الحُسن .. فُستانها المُزين بزهور الأقحوان .. تسريحة شعرها التي تخلق للحب رائحة وعِطر شذاه يمتد طولاً وعرضاً بين أروقة قلبه .. ملامحها المنقوشة كأسطر كوفية على جدار روحه .. قوامها المحفور في جوف يده .. جميعها وبعضها .. كُلّها وأجزاءها قبسٌ من نور عينيه .. لم يستطع البقاء ساكناً لثانية إضافية فترجل من السيارة متجهاً نحوها ليأخذها معه رغماً عن أنف الجائز والمفروض .. وأثناء وقفتها الهادئة بجوار صديقتها تفاجأت بكفه يمسك بخاصتها وصوته الحنون يصل لمسامعها موجهاً حديثه لريهام (ممكن آخد مريم مشوار مهم؟)
+
نظرت ريهام لساعة يدها قائلة برجاء (ريان .. مش عايزة مشاكل .. انت عارف ماما وسيلة)
+
رد عليها رافعاً حاجبه لأعلى باستنكار (توكلي على الله يا ريهام ولو حد سألك عليها قولي لهم إنها معايا .. أنا مابخافش من حد)
+
زفرت ريهام بنفاذ صبر (ماتتأخروش)
+
حث ريان مريم على التحرك أمامه قائلاً وهو يوليها ظهرها (براحتنا على فكرة) .. ثم اتجه بها نحو سيارته تاركاً إياها ترغي وتزبد من استفزازه المُتعمد .. الشئ الوحيد الذي يشفع له أنها واثقة في حبه القوي لمريم وتعلم جيداً مدى خوفه عليها لذا تركته يتصرف بحرية وستتولى هي التبرير للسيدة وسيلة .. أما عنها فكانت خَجِلة كخفقة الضوء في حضن الفجر .. وَجِلة مثل غيمة مُلقاة على بساط بريقٍ .. ترش الليل موسيقى وتطرز عباءة المساء بنجوم ابتسامتها الحُلوة .. اتخذت مقعدها بجواره في صمت هادئ بينما هو ظل يتأملها بعينين متوهجتين كالياقوت ثم قال بصوت يقطُر حباً (سبحان الله يامريم .. البصة فوشك بالدنيا وما عليها)
+
ردت عليه مبتسمة بحياء من غزله الصريح (مش بتبالغ شوية؟)
+
أمسك كفها يضعه فوق موضع نبضه وكأنه يعانقه قائلاً (مفيش كلمة فاللغة قادرة توصفك صح .. إنتِ أجمل من أي وصف) .. لم تستطع الرد عليه فعندما يتحدث عن عشقه ينعقد لسانها فمن أين ستأتي بكلمة واحدة تضاهي جمال كلماته فتابع هو ضاحكاً بخفة (الحاجة الوحيدة اللي مصبراني على عدم ردك إن وشك بيحمر من الكسوف)
+
سألته بعدم فهم (تقصد إيه؟)
+
أدار مُحرك السيارة قائلاً (يعني كلامي بيأثر فيكِ والبعيدة مش جِبلة لا سمح الله)
+
قوّست شفتيها لأسفل كالأطفال قائلة ببراءة (مابعرفش أرد من كتر مابحس إن كلامك كبير عليا)
+
داعب وجنتها بأطراف أنامله قائلاً بمزاح (ياروح قلبي عالطعامة)
+
حاولت تغيير مسار الحديث متسائلة بفضول (احنا رايحين فين؟)
+
أجابها بابتسامة مُشرقة (عند جدي وجدتي .. أهم وأعز ناس فحياتي وعايزهم يشاركوني فرحتي بيكِ)
+
تفاجئت مريم كثيراً متسائلة بعدم تصديق (بجد ياريان؟)
+
رفع كفها نحو شفتيه يقبل ظاهره مؤكداً بنبرة والهة (بجد ياعيون ريان) ... لاحظ التوتر البادي على ملامحها فسألها بتوجس (انتِ قلقانة ليه كده؟)
+
ردت عليه وهي تفرك أصابعها (خايفة ما يتقبلوش ظروفي)
+
أحس ريان بألم العالم كله يتجمع بهيئة غصة مُسننة عبأت جوفه بطعم مُرّ كالصبّار فحديثها عن ظروفها بهذا الشكل المُوجع يمزق نياط قلبه محاولاً طمأنتها (جدي عارف كل حاجة وهو اللي شجعني أصارحك بمشاعري .. وبعدين مالها ظروفك ياست البنات؟ .. ناقصك إيه عشان تخافِ من عدم قبول الناس ليكِ؟ .. تتحرق الدنيا كلها ومالمحش الكسرة اللي فصوتك دي تاني أبداً) ...
+
تحدثت مريم بخوف لم تستطع مداراته (بس دول أهلك وقبولهم ليا هايفرق في علاقتنا....)... قاطعها بصرامة ممزوجة بالعتاب (مفيش حاجة هاتفرق في علاقتنا غيري أنا وإنتِ .. حبنا لينا ورأي الناس للناس أياً كانوا مين .. فاهمة يامريم؟.. أياً كانوا مين) .. تنهدت مريم بعمق وكأنها تزيح ثقلاً جاثماً فوق صدرها ولم تجد رداً مناسباً سوى الصمت والتسليم بالأمر الواقع بينما هو جذبها ليسند رأسها على كتفه متابعاً الطريق .. لا يفكر في شئ سوى حبه لها الذي يكبر كالطفل ويزداد جمالاً يوماً تلو الآخر .. كيف تريد منه أن يفسر للعالم ويبرر ما لا يُفَسر ولا يُبَرر؟ .. ومن أين سيجد مفردات يصفها بها؟ .. إنها روحه والروح تعجز اللغة أمامها عن الوصف .. وبعد وقت ليس بقليل وصل بسيارته إلى بيت جده .. توقف لدقائق قبل الدخول لعلّ روعها يهدأ فالموقف ليس بتلك الصعوبة .. يعلم جيداً أن ذويه سيقعون في حبها مثلما وقع من النظرة الأولى ولا داعي أبداً لكل هذا القلق .. أمسك كفها ليساعدها على الترجل معه وجده بارداً كالثلج فاحتواه بين راحتيه ليمدها بالدفأ قائلاً بلطف (إهدي ياحبيبتي .. جدو وتيتا طيبين أوي والله) .. أومأت برأسها إيجاباً دون حديث محاولة استجماع شتات نفسها فتابع مبتسماً (بتثقي فيا؟) .. أجابته بإيماءة صامتة فأضاف بمزاح (يبقى ترفعي راسك وتقابليهم وانتِ منشكحة كده) ... إبتسمت مريم رغم مايعتريها من مشاعر متضاربة بينما هو حثها على النزول من السيارة استعداداً لتلك المُقابلة الغير محسوبة ..
+
*************
+
في منزل الجد زين/
+
نهاراً عادياً يمر على بيت الحاج زين الدين الذي كان يجلس في حديقته .. يتأمل مساحة الخُضرة أمامه بأعين يسيل منها الحنين لأصوات ارتحلت عنه ولم يعُد منها سوى بضعة ذكريات مُعلقة على شريط ندى يطفو وينزلق فوق ظهر غيمات بعيدة الأفق .. قطع شروده صوت جرس الباب الخارجي فنهض ليرى من الزائر وجد أحب الناس إلى قلبه يقف مبتسماً .. تهللت أساريره لرؤية حفيده الغالي .. فتح ذراعيه على وسعهما ليستقبله بالأحضان قائلاً (وحشتني ياحبيبي)
+
شدد ريان عناقه قائلاً باشتياق (وانت كمان وحشتني أوي) .. ثم ابتعد عنه برفق مُتابعاً بوجه بشوش (أنا مش جاي لوحدي المرة دي) ..
+
نظر له بتعابير متسائلة وقبل أن ينطق تنحى جانباً لتظهر مريم التي تقف خلفه مُطرقة برأسها وأناملها الرقيقة متشابكة بتهذيب وحياء .. تكاد تسمع نبضات خافقها من فرط الارتباك .. تسمر الجد مكانه وحدقتيه تهتزان بعدم تصديق وصوت يصرخ بداخله (يا إلٰهي هل الموتى يعودون إلى الحياة مجدداً؟.. أم خُرافة الأشباه الأربعين لم تكن محض خيال؟) .. إنها نسخة متطابقة الشكل والملامح لإبنته المُتوفاة .. خطفت قلبه من النظرة الأولى مثلما فعلت بحفيده .. لكن الخطفة تلك المرة خطفةِ أب احترق بفراق غاليته وفقدانها في ريعان شبابها واليوم يراها تقف على عتبة داره كحمامة بيضاء تحمل شمعداناً من الذهب .. تمالك رغبته في ضمها إليه بشق الأنفس قائلاً بصوت مرتجف (سبحان الخالق) .. بينما اتسعت ابتسامة ريان قائلاً بمزاح (مش قولتلك يازيزو الموضوع صعب؟)
+
بادله الجد ابتسامته بأخرى ودودة قائلاً (عندك حق) .. ثم دعاهم للدخول بترحيب كبير (ادخلوا ياولاد .. جدتكم هاتفرح أوي بمجيتكم دي) .. وبدون مقدمات أمسك بكف مريم قائلاً بحنان أبوي بالغ (خطوة عزيزة ياحبيبتي .. البيت بيتك .. آنستي ونورتي)
+
ردت عليه مريم بخجل (منور بوجودكم)
+
نظر الجد لحفيده قائلاً (ادخل شوف بطة ياريان وسيبني شوية مع ليل.. قصدي مريم) ... تمالك نفسه سريعاً قبل أن يخطئ في إسمها .. حتى لسانه لا يصدق أن الماثلة أمامه ليست إبنته .. تعجب ريان من حالته الساهمة فهو لم يره مأخوذاً هكذا من قبل لكنه أطاعه ليزف البشرى إلى جدته الحبيبة وتركهما متجهاً نحو خُلوة الصلاة الخاصة بها .. بينما جلس الجد زين في مكانه بالحديقة بعدما أجلس مريم بجواره قائلاً بهدوء (تبارك الخلّاق فيما خلق .. يازين ما اختار ريان)
+
ابتسمت مريم باستحياء قائلة (شكراً لذوق حضرتك)
+
لاحظ الجد توترها البادي على ملامحها وجلستها المُرتبكة قائلاً (ماتتكسفيش كده يامريم .. احنا أهلك وده بيتك .. كفاية إنك هاتبقي مرات الغالي وأم ولاده)
+
أحست مريم بسعادة غامرة فحديثه يعني أنه مُتقبلها بظروفها قائلة بهدوء (الصراحة أنا كنت خايفة من المقابلة دي) صمتت لثواني تبتلع غصتها المؤلمة ثم أردفت (ماكنتش عايزة أحط ريان في موقف مُحرج معاكم .. وعارفة إن علاقتنا صعبة لأننا مُختلفين بس والله ياجدو غصب عني .. قلبي مش بإيدي)
+
تحدث الجد زين بلهجة مُتعقلة رغم الألم الذي اختلج صدره تعاطفاً معها (الحب هو القضية الوحيدة اللي تستحق إن الإنسان يموت عشانها .. محطة بيقف القلب فيها ومابيقدرش يتحرك منها إلا مع اختياره) .. ثم تابع مُتنهداً بعمق (المشاعر أيديولوچية متكاملة .. ربك بيوزعها بقدر معين ولحكمة مفيش غيره يعلمها وده بقا بنسميه نصيب ولو كان نصيبك من الحياة إن ريان يحبك فيا بختك بيه)
+
أرجعت مريم خصلة شعرها دائمة التمرد خلف أذنها قائلة بحبور وكأنها إطمأنت (كلام حضرتك يطيب الخاطر أوي)
+
رد عليها بحكمته المُعتادة (مولانا التبريزي قال " الروحُ تعرف تِرحالها وأين تحط رِحالُها ..فالتمس لها القلب ليسكن إلى سكينتها واتبعها .. فحيثُما وجدتَ سَكِينةَ روحك أقِم .. فذاكَ موطِنُك" .. وريان روحه حطت رِحالها عندك وأنا مربيه وعارف إنه مستحيل يفرط فيكِ إلا بطلوع الروح)
+
_ (بِعد الشر عنه.. ربنا يحميه لشبابه)... قالتها مريم بخوف حقيقي فتابع الجد حديثه داعياً بصدق (ويحفظك ليه ياحبيبتي ويتم فرحتكم ببعض) .... وعلى جانبٍ آخر كان ريان يجلس مع جدته في زاوية الصلاة تعاتبه على تقصيره وغيبته الطويلة وهي تضمه إليها وتشم رائحته الطيبة (بقيت بتغيب كتير ياريان)
+
طبع ريان قُبلة عميقة فوق رأسها المُغطى بِخمار الصلاة قائلاً (حقك عليا .. أنا عارف إني مقصر بس غصب عني)
+
احتوت الجدة وجهه بين كفيها قائلة بحنو (أهم حاجة إنك بخير يانور عيني)
+
أهداها ريان ابتسامة جميلة قائلاً (عندي ليكِ مفاجأة حلوة) .. ثم سألها بشقاوته المُحببة لقلبها (مش انتِ نفسك تفرحي بيا وتشيلي ولادي؟)
+
_(ده يوم المنى ياحبيبي)
+
_ (حبيبك يابطة واقع لشوشته في واحدة زي القمر وبيموت فيها وجابها انهاردة عشان تشوفيها)
+
ابتهجت الجدة قائلة بأسارير مُنفرجة (بجد يا ريان؟)
+
أجابها ضاحكاً على ردة فعلها اللطيفة (آه والله وقاعدة مع جدو فالجنينة) .. صمت لثواني ثم أضاف بتوجس (بس فيه حاجة عايزك تعرفيها الأول)
+
سألته مستفهمة (حاجة ايه؟)
+
نظر ريان إليها بملامح يشوبها حزن خفي قائلاً (هي كفيفة وعايشة في دار رعاية)
+
تأثرت الجدة كثيراً بظروف مريم قائلة (ياضنايا يابنتي .. ربنا يشفيها ويرد لها نور عينيها)
+
ابتسم ريان بارتياح قائلاً (كنت عارف إنك مش هاتعترضي)
+
بادلته ابتسامته بأخرى مُعاتبة (ماحدش يملك في نفسه شئ .. كلنا خلق الله ولله بأبصارنا وأسماعنا وقلوبنا .. حتى النصيب رزق وانت رزقها وعوضها عن اللي اتحرمت منه)
+
شعر ريان بأن أبواب السماء انفتحت له بحديث جدته ورضائها وإيمانها القوي قائلاً بسعادة (أنا بحبها أوي وعمري ما اتمنيت حاجة من الدنيا غير إن ربنا يجمعني بيها في بيت واحد)
+
مسدت الجدة على شعره قائلة بفرحة لفرحته (يارب ياحبيبي ينولك كل مابتتمنى ويسعد قلبك وتشوف الهنا كله معاها)
+
رفع كفها عند فمه يقبل ظاهره داعياً (تسلميلي من كل شر وتعيشي لحد ماتربي ولادي زي ماربتيني) .. استقام في جلسته وهو يسندها لتنهض معه قائلاً (تعالي يلا عشان تشوفي العروسة وتقوليلي والله ياواد وعرفت تنقي)
+
ضحكت الجدة على دعابته قائلة وهي تتجه برفقته حيث يجلس الجد زين ومريم (انت كبرت إمتى عشان تتجوز؟.. ده انا كنت لسه امبارح بغيرلك ال...)
+
قاطعها ريان مازحاً (لا الله يكرمك بلاش جو الفضايح العائلية ده .. ماتضيعيش برستيچي قدامها)
+
خبطته بخفة على كتفه قائلة بحنق طفولي (إكبر عليا ياولا كمان .. إكبر ما انا ماعرفتش أربي) .. وأثناء خروجهما إلى الحديقة وبمجرد ما وقعت أنظارها على مريم أحست بالدوار يلف رأسها وكأنها تلقت ضربة قوية بعصا غليظة جعلتها ترتد خلفاً بعدم إتزان وأنينها المُحترق ينهش ضلوعها (ليلى! .. إبنتي! .. متى عُدتِ من سفرك الأبدي؟.. ولماذا قالوا عنكِ أنكِ فارقتِ الحياة؟) .. لحظة واحدة كانت كفيلة بتجديد أوجاع الماضي التي لم تبارح مكانها .. سنوات حُفِرَت بيد الألم وإقتلاعها من عصب القلب شيئاً مستحيلاً .. ما اختبرته تلك العجوز الطيبة من ابتلاء وغصة فقدان لم يكُ نقشاً على وجه ماء والشبه بين مريم وفقيدتها مُلفت للأعمى قبل البصير .. لكنها جاهدت ألا ينتبه حفيدها لِمِ يعتريها حتى لا تُفسد فرحته .. اقتربت منها بخطوات مترنحة .. تُقدِم ساق وتؤخر الأخرى وأعين الجد زين الحزينة تراقب رد فعلها.. أخرجها من بئر أفكارها العميق صوت ريان قائلاً (هي دي مريم يا بطة)
+
أمسكتها الجدة من كتفيها برفق لتنهض ثم احتضنتها سريعاً دون حديث ولم تستطع منع نفسها من البكاء.. بينما حاول الجد زين تدارك الأمر حتى لايثير الريبة في نفس ريان موجهاً الحديث له بمرح مُصطنع (أنا عارف إنها مش هاتبطل عياط من فرحتها بيكم)
+
نظرت الجدة نحو زوجها قائلة بصوت مرتعش (ماقدرتش أمسك نفسي ياحاج)
+
بادلها الجد نظرتها بأخرى مُحذرة أن تتماسك قليلاً يقول بنبرة ذات مغزى (شوفتي عروسة ريان وجمالها يابطة .. إبننا عرف يختار)
+
أعادت الجدة فاطمة عينيها الغائمتين نحو مريم قائلة بابتسامة واهنة (تبارك الله .. زي البدر المنور )
+
ردت مريم عليها بخجل (ربنا يبارك في حضرِتك)
+
احتضنتها الجدة مرة أخرى قائلة (ويكتب لكم الخير كله يابنتي ويجمع مابينكم عن قريب إن شاء الله)
+
_ (يلا يابطوط حضري للولاد حاجة حلوة من إيدك عشان يتغدوا معانا) .. قالها الجد زين مبتسماً بينما أجابت مريم سريعاً (بلاش نتعبها معانا ياجدو وكمان عشان ما اتأخرش بره الدار)
+
ربتت الجدة على وجنتها الرقيقة قائلة (مفيش تعب ياحبيبتي الأكل جاهز يادوب هانحضر السفرة .. ولا مش عايزة تدوقي أكل بطة؟)
+
قاطعهما ريان ممازحاً جدته يحثها على التحرك نحو المطبخ ليساعدها (سيبك منها يابطوط هي مش عارفة مصلحتها) .. وبالفعل لم يستغرق الوقت سوى بضع دقائق قليلة والتف الجميع حول المائدة .. لم تُنكر مريم شعور الأُلفة الذي احتدم بين دواخلها وهي جالسة وسطهم وكأنها فرد أصيل من تلك العائلة .. أما عن ريان فكان في قمة سعادته فأول حُلم من أحلامه تحقق .. أن تكون مليحته بجواره في أكثر الأماكن التي يحبها بل وتشاركه الحديث والطعام مع أقرب الناس إليه .. ران على الجميع صمتاً هادئاً يتخلله صوت احتكاك معدن الملاعق بخزف الأطباق .. قطعه ريان وهو يحيط جانب وجه مريم بكفه ويمد الأخرى بقطعة من الدجاج ليطعمها إياها قائلاً (افتحي بوقك).. أطاعته بحرج شديد لكنه لم يكترث لهمهماتها المُعترضة وأطعمها جميع مافي طبقها وكأنها طفلته قائلاً بلطافة (لازم تتغذي كويس .. انتِ داخلة على جواز)
+
همست له بوجنتين مُحمرتين (أنا أكلت كتير أوي)
+
تدخلت الجدة موجهة حديثها إلى مريم بفطرة أمومية (بألف هنا على قلبك ياحبيبتي) .. بينما قاطعهم الجد زين مبتسماً لريان بسعادة (إيه رأيك بعد الأكل تجيب القانون ونقعد فالجنينة نفتكر أيام زمان؟) ..
+
تهلل ريان كثيراً قائلاً بأسارير مُبتهجة (شكلك هاتحتفل بينا يازيزو)
+
ضحك الجد قائلاً (هو فيه مناسبة أحلى من كده عشان نحتفل بيها؟.. وبعدين أنا عايز اسمع صوت مريم)
+
ابتسمت مريم قائلة (ده شرف كبير ليا ياجدو والله) .. بينما سألتها الجدة بترقب (انتِ بتغني يامريم؟)
+
أجابتها مريم بتهذيب (أنا درست فالمعهد العالي للموسيقى وبَعَلِّم الولاد العزف عالبيانو وبغني فالحفلات الرسمية للدار).. ثم أكملت مبتسمة (يعني بيقولوا صوتي حلو) .. صفعة أخرى تلقتها العجوز المكلومة جعلت من ثباتها هُلاماً ..وإن كان الشكل مُتطابق صدفةً .. فماذا عن تشابه الصفات الوراثية؟ .. ليلى رحمها الله ورثت الصوت العذب من والدها .. فمن أين ورثت مريم تلك الصفة؟ .. الأمر غريب ومُعقَد ويحتاج لجبال من الصبر ولولا نظرات الجد زين التي تتوسل لها ألا تنهار أمامهم لعبأت الدنيا صُراخ بإسم غاليتها المْتوفاة ....
+
_ (احنا هانطلع نستناكم بره فالجنينة).. قالها الجد زين وهو ينهض ممسكاً بكف مريم وعينيه لا تحيد عن وجه زوجته مُرتعش الملامح يرجوها بحق الله أن تثبت .. وبعد دقائق قليلة كانوا يجلسون جميعاً مُلتفين حول آلة القانون العتيقة كدروايش مُستجيرين بمملكة الإيقاع وبساتين النعناع .. وجه الجد سؤالاً لمريم بوجهه البشوش (تعرفي تواشيح الشيخ نور الدين خورشيد؟)
+
أجابته مريم بحماس (آه طبعاً وحافظة ليه حاجات كتير)
+
بدء الجد يلاعب أوتار آلته بأنامله اللؤلؤية قائلاً (يبقى نسمعهم "أدِرْ ذِكْرَ" جوهرة أغانيه) .. ثم صدح صوته الرِقرَاق ينشد واحدة من أجمل القصائد الصوفية التي رَصِف بيوتها العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي وأنشدها المُوشِح القدير نور الدين خورشيد /
+
أدِرْ ذِكْرَ مَن أهْوى ولو بمَلامِ
+
فإنّ أحاديثَ الحَبيبِ مُدامي
+
ليَشْهَدَ سَمْعِي مَن أُحبُّ وإن نأى
+
بطَيفِ مَلامٍ لا بطَيفِ مَنام
+
كأنّ عَذولي بالوِصالِ مُبَشّرِي
+
وإن كنتُ لم أطمَعْ بِرَدّ سلام
+
بِرُوحيَ مَن أفنيتُ روحي بِحُبِها
+
فحانَ حِمامي قبلَ يومِ حِمامِي..
+
أنهى الجد الموّال الإفتتاحي للأنشودة ثم تولت مريم التكملة فخرجت النغمات من حنجرتها كحوامل الزهر وماء الياسمين شَاديةُ /
+
طاب لي خلع عذاري
+
في هوى البدر التمام
+
بـافتقاري و انكساري
+
أرتجي نــيل الـمـرام
+
يـا عـذولـي لا تَلُمني
+
ما على العاشق ملام
+
ادنُ منّي و اروِ عنّي
+
أنـا في العشـق إمــام....
+
حالةٌ صافية من التجلي والإنخطاف خلقها صوت مريم وهي مُندمجة في الإنشاد وكأن على رأسها فراشات وسرب حمام .. والجميع صامتين في حضرة المليحة .. مُنصتين لكلمات تطرزها بحنجرتها كثوبٌ بديع غمسته في الشمس وأضاءت به دروب أقفرت منذ زمن بعيد .. إنتهت من وصلتها ليبدء الجد وصلة شجية أخرى مُرنماً /
+
نظري إلى وجه الحبيب نعيم
+
وفــراق من أهـــوى عليّ عظيــم
+
يا زارع الريحــان حـول خـيـامـنـا
+
لا تزرع الريحان لست مقيم .....
+
قام بتغيير مقام النهاوند على أوتار الآلة بشكل سريع مما جعل مريم تدرك بدء الوصلة الجديدة لكن تلك المرة سينشدوها سوياً ليشكلا ثنائياً فريداً يبدع سابحاً في أفقاً من العقيق وحرير أقحوان فُستانها /
+
طالما أشكو غرامى يا نور الوجود
+
وأنادي يا تِهامى يا مَعدن الجود
+
مُنيتى أقصى مَرامي أحظى بالشهود
+
وأرى باب السلام يا زاكي الجدود .....
+
استكملا الأنشودة مُصفقين بأكفهما وكأنهما قاما بالغناء معاً آلاف المرات بسعادة وانتشاء /
+
الله الله الله الله الله
+
صَفَت النظرة طابت الحضرة
+
جاءت البُشرى ياعيني من أهل الله
+
قاموا سُكارى لذي البِشارة
+
جعلوا عِمارة ياعيني شكراً لله
+
حتى قد ظن من ليس مِنَّا
+
أنا جُنّنا ياعيني فى ذكر الله
+
هنيئاً لنا ثم بشرانا
+
إن كان لنا ياعيني حباً في الله
+
صَفَت النظرة طابت الحضرة
+
جاءت البشرى ياعيني من أهل الله
+
جاءت البشرى ياعيني من أهل الله ....
+
سكت الجد لتكمل مريم /
إن جبرتم كسر قلبي...
+
ثم سكتت مريم ليكمل الجد /
أنتمُ أهل الزمام...
+
وأكملا المقطع التالي بصوتين مُتحدين /
أو وصلتم يا حبايب
هكذا شأن الكرام..
+
تركها الجد تغني الجملة القادمة مُنفردة مجدداً /
قالت أقمار الدياجي ...
+
لينفرد هو تلك المرة مُضيفاً /
قُل لأرباب الغرام ...
+
واتحدا ثانيةً مُرددين نهاية الأنشودة /
كل من يهوى نبينا
في أمان و سلام
+
************
+
إلى اللقاء مع الفصل السابع عشر
+
