رواية خذلان الماضي كامله وحصريه بقلم دودو محمد
خذلان الماضي"1
"الجزء الاول"
وقفت بالمطار تنظر أمامها والدموع تنهمر على وجنتيها، تعبيرات القهر والانكسار تؤرق ملامحها، وكأن الثقل الذي تحمله في قلبها أثقل بألف مرة مما كانت تتخيل. تململ الحزن العميق داخل جوارحها، وكأن كل ذكرى مريرة ترتبط بماضيها تخنق أنفاسها. لقد اشتاقت كثيراً إلى وطنها، إلى رائحة الأرض التي عاشت عليها وتفاصيل الحياة اليومية التي اعتادت عليها. وبالذاكرة تطرقت إلى ذلك اليوم البعيد حين ارتدت فستانها الأبيض، وقد غمرتها السعادة البالغة وكأنها كانت تجري في حلم جميل لن ينتهي. لقد تزوجت رجل أعمال مشهور، كما تروي القصص، الرجل الذي كان يعيد تعريف النجاح في عيون الكثيرين، وكانت تعرفه عن طريق إحدى شركاته حيث كانت تعمل في قسم الحسابات. في تلك الفترة، اعتقدت أنها تمتلك العالم بأسره، وكل شيء كان يبدو كأنه بقعة ساطعة من الأمل. لكنها لم تتوقع، في خضم الوعود والتطلعات، أن يكون ذلك بداية النهاية لمشاعرها وأحلامها.فجأة، انتبهت إلى صوت هتاف يأتي من الخارج، صوت مدوي ولكن مفعم بالحيوية؛ كانت تارة من ذكريات الماضي وتارة أخرى آتية من واقعها الحالي. بسرعة، مسحت عبراتها بأناملها الرقيقة، ورسمت ابتسامة حزينة على وجهها، ابتسامة استطاعت أن تخفي ما وراءها من ألم. تقدمت نحو مصدر الصوت، وفي لحظة شعرت بالأمان حين ارتمت بين أحضان ذلك الشخص الذي لطالما كان ملاذها، وتشبثت به بقوة، وكأنها تخشى أن تفقده كما فقدت أشياء أخرى كثيرة، قائلة بصوت مختنق: "وحشتني أوي يا قلب أختك. بابا وماما عاملين إيه؟ ومراتك الواطيه مجاتش ليه معاك؟"
عجزت عن إخفاء تأجج المشاعر، فقد كانت التوترات العائلية والأحداث المتلاحقة داهمتها برؤوسها، ولكن في تلك اللحظة، كانت تكتفي فقط بوجود شخص تحبه بجانبها، ليعيد لها بعضاً من الأمل المفقود.ابتسم لها بسعادة، وربت على ظهرها بلطف، قائلاً رامي بصوت حنون:
"يا بت، ابلعي ريقك شويّة. انتي لسه رغايه زي ما انتي. عموماً، يا ستي، مي مراتى حامل في أول شهور ليها، والدكتور مانع عنها الحركة علشان بتاخد مثبتات. هي كانت هتموت وتيجي معايا، بس أنا مرضتش. وماما وبابا مستنين وصولك بفارغ الصبر!"
ابتعدت عن حضنه وأشرقت الابتسامة في عينيها، وبدا عليها الإحساس بالراحة. قالت برقة:
"ياااااه يا رامي، حضنك كان واحشني أوي. ومبروك يا سيدى هبقى عمتو الحرباية لتاني مره!”
تعالت ضحكاته، وهو يبتسم برضا:
"ده ياسين هيموت ويشوفك. مصدعنا كل شويّة، بيقول: هي فين عمتو راما ليه مش بتيجي عندنا...
ثم أضاف وهو يهز رأسه:
"اسأله كتير أوي عنك، مش بتنتهى، أمشي يلا."
تنهدت بوجع، ولكن ابتسامتها بقيت على وجهها، ثم تحركوا نحو الخارج. صعدوا إلى سيارة الأجرة، ثم نظر رامي إليها بتساؤل، سائلاً:
"صح، فين جوزك، مجاش معاكي ليه؟"
كانت أسئلته تحمل بين طياتها قلقًا عائليًا.أغلقت عينيها بألم، واحتبست أنفاسها لبعض الوقت، ثم أجابت بصوت مختنق:
"أنا أطلقت، يا رامي. ودي كانت واحدة من أصعب القرارات اللي اضطررت أخدها."
شعرت بضغط عاطفي يكاد يكسرها، لكنها تماسكت طوال تلك اللحظات.جحظت عيناه بصدمة، ثم قال بعدم تصديق:
"أطلقتي!! ازاي ده؟ إيه حصل وصلكم لطلاق، وحصل إمتى ده؟!"
عكست ملامح وجهها مخاوف كبيرة وأسئلة لم تخطر لها في بالها.تنهدت بحزن، ثم قالت:
"تعال نروح البيت، وأنا هحكيلكم كل حاجة.”
محاولة لإضفاء بعض الأمل على الموقف الثقيل.نظر إليها شقيقها بشفقة، فهو يعلم كم أحبته راما بصدق، وكيف كانت السعادة تتجلى في عينيها عندما تقدم لها وتزوجها. لم يستطع التفكير في أي شيء عدا أن يشد على يدها. أمسك بيدها، مبتسماً لها بحب، وتحركت بهم السيارة نحو المنزل، حيث كانت هطول الأمطار يحيط بهم بدهشة وعواطف مختلطة في قلوبهم.
..........................................................
وصلوا البيت ورحب بيها الجميع وسعدوا بعودتها مرة أخرى إلى أحضانهم. علموا بخبر انفصالها وبدأت تقص عليهم تفاصيل ما حدث معها بالخارج.
فلاش باااااك...
انتهت راما من تسوقها بسعادة، فقد اقتنت أشياءً كثيرة. أمسكت صندوقًا صغيرًا يحتوي على ساعة يد ذات ماركة عالمية، ونظرت إليها بابتسامة تشع فرحًا. كان بإمكانها أن تتخيل لحظة رؤية زوجها والدهشة ترتسم على وجهه عند تلقيه تلك الهدية المميزة. وقفت السيارة أسفل إحدى أكبر الشركات بالخارج، وهبطت منها بعد أن فتح لها السائق الباب. أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت بتوجس يعتصر قلبها، ثم قالت بصوت هامس:
"اجمدي يا راما، أكيد مش هيزعق ليكي المرادي، أنك جايه ليه الشركة لما أفاجئة بهدية عيد ميلاده."
تحركت باتجاه الباب وصعدت المصعد الكهربائي، حيث ضغطت على الزر ومرت ثوانٍ قليلة لكن شعرت وكأنها دهور، حتى وصل الطابق الذي يتواجد فيه مكتب زوجها. ابتسمت بسعادة، ولكن شعورها سرعان ما انقلب إلى قلق عندما فتحت باب المكتب لتجد زوجها فى أحضانه فتاة أخرى تتدفق إلى وجهها مشاعر الحزن والخيبة. سقط الصندوق من يدها، وانهمرت دموعها بغزارة، وتكلمت من بين شهقاتها:
"أ... أنتوا بتعملوا إيه؟ ليه؟ أ... أنا قصرت معاك في إيه علشان تخونني؟ وفين في مكتبك مع السكرتيرة؟ علشان كده كنت كل ما اجيلك الشركه تزعقلى وتحذرنى أن مقربش من هنا تانى؟"
نهض زوجها سريعًا من مقعده، مشيحًا بنظره إلى السكرتيرة حتى تخرج وتغلق الباب خلفها. اقترب منها بغضب، وقد صك على أسنانه بغيظ، وكان قلبه يعاني من صراع داخلي بين مشاعره تجاهها والنار التي أشعلها خيانته، وقال:
"أنتي إيه جابك هنا؟ أنا مش مليون مرة أقولك رجلك متخطّيش المكان ده؟"
هدرت راما بغضب، وقالت من بين شهقاتها:
"مش عايزني أجي هنا علشان تعرف تخوني براحتك صح؟"
أمسك ذراعها بغضب، وبصوت عميق يكاد يخرج عن السيطرة، قال:
"حاجة متخصكيش، مدام مش مقصر معاكي في حاجة يبقى ملكيش دعوة باللي أنا بعمله!"
دفعته بقوة بعيدًا عنها، وعيناها تتألقان بغضبٍ وفقد، وقالت:
"إزاي مليش دعوة؟ أنت جوزي يا أستاذ! لو كنت أنت اللي شوفتني في الوضع ده وقولتلك أنا حرة، كان هيبقى إيه شعورك دلوقتي؟"
صفعها على وجنتها بغضب، والليل الذي يحيط بهما يبدو كظلام يبتلع كل شيء، وقال:
"اخرسي! ده أنا كنت كسرت رقبتك! أنا راجل، أعمل اللي أنا عايزه! وبعدين، بلاش تعيشي عليا الدور، أنا عيشتك عيشة عمرك ما كنتي تحلمي بيها. عيشتك في فيلا، خليت عندك بدل العربية عشرة، بقى عندك حساب في البنك، أهلك بيوصلهم شهريّة كل أول شهر. اللي زيك يعيش ويحط جزمة في بؤقه ومينطقش، ولو عايزة تحافظي على مستواكي ده تعيشي، وأنتي ساكته، ملكيش أي دعوة باللي بعمله، فاهمة؟"
نظرت له بانكسار، وحقيقة ما حدث معها تجرح روحها، وقالت بغضب:
"تغور الفلوس، يغور المستوى اللي عايشة فيه! أنا عيشت معاك علشان بحبك، أنت مش بحب فلوسك، وعمرى ما هقبل أشوفك وانت بتخوني! طلقني!"
ابتسم لها باستحقار، وكأن انتصاره جاء على حساب كرامتها، وقال بتهكم:
"لا، صدقتك فعلاً إنك مش بتحبي فلوسي! انتي مفكرة نفسك إيه؟ أوعى تكوني فاكرة إنك واحدة وأنا هُموت عليكي! أنتي بالنسبالي كنتي مجرد نزوة. كنت هموت على جسمك. ولما لاقيتك رافضة تسلّمينى نفسك، اتجوزتك، امتع نفسي يومين تلاته، وبعدين كنت ناوي أرميكي رميّة الكلاب. على العموم، كويس إنها جات منك، أنتي طالق يا راما، طالق وبالتلاتة!"
ثم أخرج لها نقودًا وألقاها بوجهها، وكأنها بقايا ذكرياته، وقال باستحقار:
"خدي دول نهاية الخدمة، وكمان تذكرة رجوعك لمصر على حسابي! وكل الهدوم اللي أنتي اشترتيها بفلوسي خديها معاكي!"
نظرت إلى النقود باستحقار، وكأنها ورقة ممزقة تعكس اللامبالاة التي أحاطت بها، وتكلمت بصوت مختنق:
"خلي فلوسك معاك، مش محتاجة حاجة منك، احجزلي بس تذكرة رجوعي لمصر."
ثم تحركت إلى الخارج، وعادت إلى المنزل. أغلقت الباب خلفها، ودلفت غرفتها، وارتمت على السرير، وظلت تبكي بألم شديد حتى تقطعت أنفاسها. في النهاية، اعتدلت على السرير، تنظر أمامها بروح منكسرة وفاقدة للحياة. أوجعت تلك الذكريات قلبها ومضت بخيالها لتعود إلى اللحظات السعيدة التي كانت تملأ حياتها. نهضت بجسد متأرجح، أخذت الأشياء التي تخصها وضعتها في الحقيبة، وكأنها تتخلص من كل ما يعيد لها أوجاع الماضي. وفي هذه الأثناء، أعلن هاتفها عن وجود اتصال. أجابت بصوت حزين، وكأن العواطف تغلبت عليها، وقالت:"نعم."أتاها صوت رجولي يقول لها:
"تقدري تغوري كمان ساعة، حجزتلك الطيارة."
فقط وأغلق الخط في وجهها، تاركًا إياها في دوامة من المشاعر المضطربة.نظرت إلى الهاتف بدموع، وشاركت وحدة قلبها مع تلك اللحظة، ثم أخذت الحقيبة وغادرت الفيلا متجهة إلى المطار، حيث كانت تأمل أن تجد بداية جديدة بعيدًا عن آلام ماضيها.
..........................................................
باااااك...
أنهت كلامها وارتمت داخل أحضان زوجة أخيها مي، وتكلمت من بين شهقاتها، قائلة:
"ده مفكرني أن اتجوزته علشان فلوسه، بس ربنا يعلم أن أنا حبيته بجد، متوقعتش أن هو بالقذارة دي."
ربت مي على ظهرها بحنو، وتكلمت بنبرة هادئة تشبه نسمات الفجر:
"بطلي هبل وبلاش عياط، هو ميستهلش دمعه واحده من عيونك، أنا من الأول مكنتش مرتاحة ليه مغرور كده، وشايف نفسه، معرفش على أيه."
أضافت والدتها بحزن يملأ قلبها:
"طيب نخلي أبوكي يكلمه ويصلح ما بينكم مدام لسه بتحبيه."
انتفضت مكانها، وحركت رأسها برفض شديد، وقالت بغضب يكسو صوتها:
"أوعي يا ماما تعملوا كده، بلاش نرخص نفسنا ليه، هو شايفنا أننا عايشين بفلوسه، وذلني بكلامه ده."
رد أبوها عليها بحنو وعطف، وتكلم بنبرة حزينة مؤثرة:
"لا عاش ولا كان اللي يذلك يا قلب أبوكي، حقك عليا أنا يا ضنايا."
نهضت سريعًا وجلست بجواره، وارتمت في حضنه وتمسكت به بقوة، وقالت:
"طول ما أنت في ضهري هفضل قوية وراسي مرفوع لفوق، ربنا يخليك ليا."
رد رامي عليها بغضب:
"يغور في داهيه، تشيلوا بكرة يجيلك سيد سيده."
نظرت له بدموع تحجب رؤيتها، وقالت بصوت مختنق:
"لا سيد سيده ولا سيد الناس، أنا خلاص جربت حظي مرة، ومستحيل أكررها تاني، أنا هعيش لوحدي أحسن مليون مرة من اتجوز واحد يكون عينه على جسمي وبس."
نظرت والدتها إليها بحزن، وقالت بصوت مفعم بالحنان:
"قومي يا بنتي ريحي جسمك في أوضك، وربك قادر يريح قلبك."
نهض ياسين ابن أخيها، وتمسك بها ببراءة، قائلاً:
"أنا هنام مع عمته راما."
حملته على ذراعها وقبلته بحب غامر، وقالت:
"قلب عمته أنت يا ياسين، يلا بينا يا بطل."
ثم نظرت لهم بابتسامة دافئة، قائلة:
"تصبحوا على خير."
تحركت إلى غرفتها، ونظرت إليها بشوق شديد، إذ أنزلت ابن أخيها وتحركت ببطء، ومررت أصابع يدها على المكتب الخاص بها، ثم أمسكت بلعبة خاصة بها. انهمرت دموعها عندما تذكرت حياتها السابقة، وكيف كانت فتاة مفعمة بالحيوية. جلست على السرير، وضعت يدها على وجهها، لكنها تفاجأت بسؤال ابن أخيها، وهو يقول لها:
"هو انتي ليه مش معاكي أطفال زي ماما وبابا يا عمته؟"
نظرت له بحزن يملأ عينيها، حيث تجددت في ذهنها ذكريات شهور زواجها القصيرة، حين وضعت آمالها وأحلامها ورغباتها الشخصية جانبًا. تذكرت تلك اللحظة التي أشترط فيها زوجها تأجيل الإنجاب، وهي التي كانت تعتقد أنه يريد أن يستمتع بفرحة العيش سويا. لم يكن الأمر مجرد قرار عابر، فقد كانت تحمل موانع الحمل بتلك النية، وابتسمت بوجع في قلبها، وقالت:
"علشان ربنا مرزقش عمته بطفل قمر زيك، وبعدين أنت ابن قلبي أول ما عيني شافت."
أدخل ياسين سعادتها المفقودة في تلك اللحظة، فاحتضنته ووضعته على السرير، وتمدت بجواره، كما لو كانت تتطلع للمشاركة في براعم الحياة والبراءة التي تملأ قلبه. كما لو أن عودتها للطفولة بين أحضانه قد تذكرها بجوانب من نفسها التي فقدتها. قالت:
"يلا بقى ننام علشان أنا تعبانه أوي من السفر."
رد عليها الطفل ببراءة، وقال بتساؤل:
"هو انتي هتسافري تاني يا عمته؟"
حركت رأسها بالرفض، وانتابها شعور من الراحة في وجوده، بينما كانت تشعر بشيء من الخوف من فكرة مغادرة المنزل مرة أخرى. قالت بنبرة مختنقة تعكس تداخل المشاعر:
"لا يا حبيبي، قاعده معاكم هنا على طول، ويلا بقى نام بلاش أسأله كتير."
أغلق الطفل عينيه، وبعد وقت ذهب في سبات عميق. عندما تأكدت أنه نام، نهضت من جواره، واتجهت إلى المرحاض، حيث أخذت حماماً دافئاً لتغسل عن نفسها تعب اليوم ومشاعرها المتناقضة. ثم خرجت، ارتدت ملابسها، وتمدت بجوار الطفل. ظلت تفكر فيما حدث لها حتى غلبها النعاس وذهبت في نوم عميق، في عالم من الأحلام التي تنسجها أفكارها وترتبط بأيام لم تكن تعرف فيها الألم، حيث كانت ترى الأمل في كل زاوية من زوايا حياتها.
................
"الجزء الاول"
وقفت بالمطار تنظر أمامها والدموع تنهمر على وجنتيها، تعبيرات القهر والانكسار تؤرق ملامحها، وكأن الثقل الذي تحمله في قلبها أثقل بألف مرة مما كانت تتخيل. تململ الحزن العميق داخل جوارحها، وكأن كل ذكرى مريرة ترتبط بماضيها تخنق أنفاسها. لقد اشتاقت كثيراً إلى وطنها، إلى رائحة الأرض التي عاشت عليها وتفاصيل الحياة اليومية التي اعتادت عليها. وبالذاكرة تطرقت إلى ذلك اليوم البعيد حين ارتدت فستانها الأبيض، وقد غمرتها السعادة البالغة وكأنها كانت تجري في حلم جميل لن ينتهي. لقد تزوجت رجل أعمال مشهور، كما تروي القصص، الرجل الذي كان يعيد تعريف النجاح في عيون الكثيرين، وكانت تعرفه عن طريق إحدى شركاته حيث كانت تعمل في قسم الحسابات. في تلك الفترة، اعتقدت أنها تمتلك العالم بأسره، وكل شيء كان يبدو كأنه بقعة ساطعة من الأمل. لكنها لم تتوقع، في خضم الوعود والتطلعات، أن يكون ذلك بداية النهاية لمشاعرها وأحلامها.فجأة، انتبهت إلى صوت هتاف يأتي من الخارج، صوت مدوي ولكن مفعم بالحيوية؛ كانت تارة من ذكريات الماضي وتارة أخرى آتية من واقعها الحالي. بسرعة، مسحت عبراتها بأناملها الرقيقة، ورسمت ابتسامة حزينة على وجهها، ابتسامة استطاعت أن تخفي ما وراءها من ألم. تقدمت نحو مصدر الصوت، وفي لحظة شعرت بالأمان حين ارتمت بين أحضان ذلك الشخص الذي لطالما كان ملاذها، وتشبثت به بقوة، وكأنها تخشى أن تفقده كما فقدت أشياء أخرى كثيرة، قائلة بصوت مختنق: "وحشتني أوي يا قلب أختك. بابا وماما عاملين إيه؟ ومراتك الواطيه مجاتش ليه معاك؟"
عجزت عن إخفاء تأجج المشاعر، فقد كانت التوترات العائلية والأحداث المتلاحقة داهمتها برؤوسها، ولكن في تلك اللحظة، كانت تكتفي فقط بوجود شخص تحبه بجانبها، ليعيد لها بعضاً من الأمل المفقود.ابتسم لها بسعادة، وربت على ظهرها بلطف، قائلاً رامي بصوت حنون:
"يا بت، ابلعي ريقك شويّة. انتي لسه رغايه زي ما انتي. عموماً، يا ستي، مي مراتى حامل في أول شهور ليها، والدكتور مانع عنها الحركة علشان بتاخد مثبتات. هي كانت هتموت وتيجي معايا، بس أنا مرضتش. وماما وبابا مستنين وصولك بفارغ الصبر!"
ابتعدت عن حضنه وأشرقت الابتسامة في عينيها، وبدا عليها الإحساس بالراحة. قالت برقة:
"ياااااه يا رامي، حضنك كان واحشني أوي. ومبروك يا سيدى هبقى عمتو الحرباية لتاني مره!”
تعالت ضحكاته، وهو يبتسم برضا:
"ده ياسين هيموت ويشوفك. مصدعنا كل شويّة، بيقول: هي فين عمتو راما ليه مش بتيجي عندنا...
ثم أضاف وهو يهز رأسه:
"اسأله كتير أوي عنك، مش بتنتهى، أمشي يلا."
تنهدت بوجع، ولكن ابتسامتها بقيت على وجهها، ثم تحركوا نحو الخارج. صعدوا إلى سيارة الأجرة، ثم نظر رامي إليها بتساؤل، سائلاً:
"صح، فين جوزك، مجاش معاكي ليه؟"
كانت أسئلته تحمل بين طياتها قلقًا عائليًا.أغلقت عينيها بألم، واحتبست أنفاسها لبعض الوقت، ثم أجابت بصوت مختنق:
"أنا أطلقت، يا رامي. ودي كانت واحدة من أصعب القرارات اللي اضطررت أخدها."
شعرت بضغط عاطفي يكاد يكسرها، لكنها تماسكت طوال تلك اللحظات.جحظت عيناه بصدمة، ثم قال بعدم تصديق:
"أطلقتي!! ازاي ده؟ إيه حصل وصلكم لطلاق، وحصل إمتى ده؟!"
عكست ملامح وجهها مخاوف كبيرة وأسئلة لم تخطر لها في بالها.تنهدت بحزن، ثم قالت:
"تعال نروح البيت، وأنا هحكيلكم كل حاجة.”
محاولة لإضفاء بعض الأمل على الموقف الثقيل.نظر إليها شقيقها بشفقة، فهو يعلم كم أحبته راما بصدق، وكيف كانت السعادة تتجلى في عينيها عندما تقدم لها وتزوجها. لم يستطع التفكير في أي شيء عدا أن يشد على يدها. أمسك بيدها، مبتسماً لها بحب، وتحركت بهم السيارة نحو المنزل، حيث كانت هطول الأمطار يحيط بهم بدهشة وعواطف مختلطة في قلوبهم.
..........................................................
وصلوا البيت ورحب بيها الجميع وسعدوا بعودتها مرة أخرى إلى أحضانهم. علموا بخبر انفصالها وبدأت تقص عليهم تفاصيل ما حدث معها بالخارج.
فلاش باااااك...
انتهت راما من تسوقها بسعادة، فقد اقتنت أشياءً كثيرة. أمسكت صندوقًا صغيرًا يحتوي على ساعة يد ذات ماركة عالمية، ونظرت إليها بابتسامة تشع فرحًا. كان بإمكانها أن تتخيل لحظة رؤية زوجها والدهشة ترتسم على وجهه عند تلقيه تلك الهدية المميزة. وقفت السيارة أسفل إحدى أكبر الشركات بالخارج، وهبطت منها بعد أن فتح لها السائق الباب. أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت بتوجس يعتصر قلبها، ثم قالت بصوت هامس:
"اجمدي يا راما، أكيد مش هيزعق ليكي المرادي، أنك جايه ليه الشركة لما أفاجئة بهدية عيد ميلاده."
تحركت باتجاه الباب وصعدت المصعد الكهربائي، حيث ضغطت على الزر ومرت ثوانٍ قليلة لكن شعرت وكأنها دهور، حتى وصل الطابق الذي يتواجد فيه مكتب زوجها. ابتسمت بسعادة، ولكن شعورها سرعان ما انقلب إلى قلق عندما فتحت باب المكتب لتجد زوجها فى أحضانه فتاة أخرى تتدفق إلى وجهها مشاعر الحزن والخيبة. سقط الصندوق من يدها، وانهمرت دموعها بغزارة، وتكلمت من بين شهقاتها:
"أ... أنتوا بتعملوا إيه؟ ليه؟ أ... أنا قصرت معاك في إيه علشان تخونني؟ وفين في مكتبك مع السكرتيرة؟ علشان كده كنت كل ما اجيلك الشركه تزعقلى وتحذرنى أن مقربش من هنا تانى؟"
نهض زوجها سريعًا من مقعده، مشيحًا بنظره إلى السكرتيرة حتى تخرج وتغلق الباب خلفها. اقترب منها بغضب، وقد صك على أسنانه بغيظ، وكان قلبه يعاني من صراع داخلي بين مشاعره تجاهها والنار التي أشعلها خيانته، وقال:
"أنتي إيه جابك هنا؟ أنا مش مليون مرة أقولك رجلك متخطّيش المكان ده؟"
هدرت راما بغضب، وقالت من بين شهقاتها:
"مش عايزني أجي هنا علشان تعرف تخوني براحتك صح؟"
أمسك ذراعها بغضب، وبصوت عميق يكاد يخرج عن السيطرة، قال:
"حاجة متخصكيش، مدام مش مقصر معاكي في حاجة يبقى ملكيش دعوة باللي أنا بعمله!"
دفعته بقوة بعيدًا عنها، وعيناها تتألقان بغضبٍ وفقد، وقالت:
"إزاي مليش دعوة؟ أنت جوزي يا أستاذ! لو كنت أنت اللي شوفتني في الوضع ده وقولتلك أنا حرة، كان هيبقى إيه شعورك دلوقتي؟"
صفعها على وجنتها بغضب، والليل الذي يحيط بهما يبدو كظلام يبتلع كل شيء، وقال:
"اخرسي! ده أنا كنت كسرت رقبتك! أنا راجل، أعمل اللي أنا عايزه! وبعدين، بلاش تعيشي عليا الدور، أنا عيشتك عيشة عمرك ما كنتي تحلمي بيها. عيشتك في فيلا، خليت عندك بدل العربية عشرة، بقى عندك حساب في البنك، أهلك بيوصلهم شهريّة كل أول شهر. اللي زيك يعيش ويحط جزمة في بؤقه ومينطقش، ولو عايزة تحافظي على مستواكي ده تعيشي، وأنتي ساكته، ملكيش أي دعوة باللي بعمله، فاهمة؟"
نظرت له بانكسار، وحقيقة ما حدث معها تجرح روحها، وقالت بغضب:
"تغور الفلوس، يغور المستوى اللي عايشة فيه! أنا عيشت معاك علشان بحبك، أنت مش بحب فلوسك، وعمرى ما هقبل أشوفك وانت بتخوني! طلقني!"
ابتسم لها باستحقار، وكأن انتصاره جاء على حساب كرامتها، وقال بتهكم:
"لا، صدقتك فعلاً إنك مش بتحبي فلوسي! انتي مفكرة نفسك إيه؟ أوعى تكوني فاكرة إنك واحدة وأنا هُموت عليكي! أنتي بالنسبالي كنتي مجرد نزوة. كنت هموت على جسمك. ولما لاقيتك رافضة تسلّمينى نفسك، اتجوزتك، امتع نفسي يومين تلاته، وبعدين كنت ناوي أرميكي رميّة الكلاب. على العموم، كويس إنها جات منك، أنتي طالق يا راما، طالق وبالتلاتة!"
ثم أخرج لها نقودًا وألقاها بوجهها، وكأنها بقايا ذكرياته، وقال باستحقار:
"خدي دول نهاية الخدمة، وكمان تذكرة رجوعك لمصر على حسابي! وكل الهدوم اللي أنتي اشترتيها بفلوسي خديها معاكي!"
نظرت إلى النقود باستحقار، وكأنها ورقة ممزقة تعكس اللامبالاة التي أحاطت بها، وتكلمت بصوت مختنق:
"خلي فلوسك معاك، مش محتاجة حاجة منك، احجزلي بس تذكرة رجوعي لمصر."
ثم تحركت إلى الخارج، وعادت إلى المنزل. أغلقت الباب خلفها، ودلفت غرفتها، وارتمت على السرير، وظلت تبكي بألم شديد حتى تقطعت أنفاسها. في النهاية، اعتدلت على السرير، تنظر أمامها بروح منكسرة وفاقدة للحياة. أوجعت تلك الذكريات قلبها ومضت بخيالها لتعود إلى اللحظات السعيدة التي كانت تملأ حياتها. نهضت بجسد متأرجح، أخذت الأشياء التي تخصها وضعتها في الحقيبة، وكأنها تتخلص من كل ما يعيد لها أوجاع الماضي. وفي هذه الأثناء، أعلن هاتفها عن وجود اتصال. أجابت بصوت حزين، وكأن العواطف تغلبت عليها، وقالت:"نعم."أتاها صوت رجولي يقول لها:
"تقدري تغوري كمان ساعة، حجزتلك الطيارة."
فقط وأغلق الخط في وجهها، تاركًا إياها في دوامة من المشاعر المضطربة.نظرت إلى الهاتف بدموع، وشاركت وحدة قلبها مع تلك اللحظة، ثم أخذت الحقيبة وغادرت الفيلا متجهة إلى المطار، حيث كانت تأمل أن تجد بداية جديدة بعيدًا عن آلام ماضيها.
..........................................................
باااااك...
أنهت كلامها وارتمت داخل أحضان زوجة أخيها مي، وتكلمت من بين شهقاتها، قائلة:
"ده مفكرني أن اتجوزته علشان فلوسه، بس ربنا يعلم أن أنا حبيته بجد، متوقعتش أن هو بالقذارة دي."
ربت مي على ظهرها بحنو، وتكلمت بنبرة هادئة تشبه نسمات الفجر:
"بطلي هبل وبلاش عياط، هو ميستهلش دمعه واحده من عيونك، أنا من الأول مكنتش مرتاحة ليه مغرور كده، وشايف نفسه، معرفش على أيه."
أضافت والدتها بحزن يملأ قلبها:
"طيب نخلي أبوكي يكلمه ويصلح ما بينكم مدام لسه بتحبيه."
انتفضت مكانها، وحركت رأسها برفض شديد، وقالت بغضب يكسو صوتها:
"أوعي يا ماما تعملوا كده، بلاش نرخص نفسنا ليه، هو شايفنا أننا عايشين بفلوسه، وذلني بكلامه ده."
رد أبوها عليها بحنو وعطف، وتكلم بنبرة حزينة مؤثرة:
"لا عاش ولا كان اللي يذلك يا قلب أبوكي، حقك عليا أنا يا ضنايا."
نهضت سريعًا وجلست بجواره، وارتمت في حضنه وتمسكت به بقوة، وقالت:
"طول ما أنت في ضهري هفضل قوية وراسي مرفوع لفوق، ربنا يخليك ليا."
رد رامي عليها بغضب:
"يغور في داهيه، تشيلوا بكرة يجيلك سيد سيده."
نظرت له بدموع تحجب رؤيتها، وقالت بصوت مختنق:
"لا سيد سيده ولا سيد الناس، أنا خلاص جربت حظي مرة، ومستحيل أكررها تاني، أنا هعيش لوحدي أحسن مليون مرة من اتجوز واحد يكون عينه على جسمي وبس."
نظرت والدتها إليها بحزن، وقالت بصوت مفعم بالحنان:
"قومي يا بنتي ريحي جسمك في أوضك، وربك قادر يريح قلبك."
نهض ياسين ابن أخيها، وتمسك بها ببراءة، قائلاً:
"أنا هنام مع عمته راما."
حملته على ذراعها وقبلته بحب غامر، وقالت:
"قلب عمته أنت يا ياسين، يلا بينا يا بطل."
ثم نظرت لهم بابتسامة دافئة، قائلة:
"تصبحوا على خير."
تحركت إلى غرفتها، ونظرت إليها بشوق شديد، إذ أنزلت ابن أخيها وتحركت ببطء، ومررت أصابع يدها على المكتب الخاص بها، ثم أمسكت بلعبة خاصة بها. انهمرت دموعها عندما تذكرت حياتها السابقة، وكيف كانت فتاة مفعمة بالحيوية. جلست على السرير، وضعت يدها على وجهها، لكنها تفاجأت بسؤال ابن أخيها، وهو يقول لها:
"هو انتي ليه مش معاكي أطفال زي ماما وبابا يا عمته؟"
نظرت له بحزن يملأ عينيها، حيث تجددت في ذهنها ذكريات شهور زواجها القصيرة، حين وضعت آمالها وأحلامها ورغباتها الشخصية جانبًا. تذكرت تلك اللحظة التي أشترط فيها زوجها تأجيل الإنجاب، وهي التي كانت تعتقد أنه يريد أن يستمتع بفرحة العيش سويا. لم يكن الأمر مجرد قرار عابر، فقد كانت تحمل موانع الحمل بتلك النية، وابتسمت بوجع في قلبها، وقالت:
"علشان ربنا مرزقش عمته بطفل قمر زيك، وبعدين أنت ابن قلبي أول ما عيني شافت."
أدخل ياسين سعادتها المفقودة في تلك اللحظة، فاحتضنته ووضعته على السرير، وتمدت بجواره، كما لو كانت تتطلع للمشاركة في براعم الحياة والبراءة التي تملأ قلبه. كما لو أن عودتها للطفولة بين أحضانه قد تذكرها بجوانب من نفسها التي فقدتها. قالت:
"يلا بقى ننام علشان أنا تعبانه أوي من السفر."
رد عليها الطفل ببراءة، وقال بتساؤل:
"هو انتي هتسافري تاني يا عمته؟"
حركت رأسها بالرفض، وانتابها شعور من الراحة في وجوده، بينما كانت تشعر بشيء من الخوف من فكرة مغادرة المنزل مرة أخرى. قالت بنبرة مختنقة تعكس تداخل المشاعر:
"لا يا حبيبي، قاعده معاكم هنا على طول، ويلا بقى نام بلاش أسأله كتير."
أغلق الطفل عينيه، وبعد وقت ذهب في سبات عميق. عندما تأكدت أنه نام، نهضت من جواره، واتجهت إلى المرحاض، حيث أخذت حماماً دافئاً لتغسل عن نفسها تعب اليوم ومشاعرها المتناقضة. ثم خرجت، ارتدت ملابسها، وتمدت بجوار الطفل. ظلت تفكر فيما حدث لها حتى غلبها النعاس وذهبت في نوم عميق، في عالم من الأحلام التي تنسجها أفكارها وترتبط بأيام لم تكن تعرف فيها الألم، حيث كانت ترى الأمل في كل زاوية من زوايا حياتها.
................