اخر الروايات

رواية بعدسة مكسورة الفصل السابع 7 بقلم ميرنا ناصر

رواية بعدسة مكسورة الفصل السابع 7 بقلم ميرنا ناصر



"مرّ أسبوع بنفس الكلام، نفس التوتر، نفس الجمل اللي بنعيدها من غير ما نسمعها فعلًا.
ولا حاجة اتغيّرت… إحنا كنا بنتصرف كأننا تمام، بس الحقيقة؟ إحنا كنا بنغرق ببطء.
لحد اليوم ده.
اليوم اللي عمري ما هنساه، ولا هو هينساه.
رجعت، ملك.
رجعت برجليها اللي باعت الأرض اللي ماشية عليها،
رجعت بوشّها اللي مشوّه ذاكرتي،
اللي فِضلت شايلة ملامحه في صورة مقطوعة مرمية في درج مكتبه.
كنت خارجة من المطبخ، شايلة كوباية شاي…وارجع أكمل رسالتي في غرفتي.
بس صوت تيّام شدّني.
كان عالي، مش زعيق… لا.
كان زفرة غضب مخنوق،صوت حدّ بيغرق… وبيقاوم الغرق بإيده المربوطة في الجبس.
قربت من باب الصالون، لقيته مفتوح نص فتحة…
لمحتها.
ملك.
واقفة قصاده، سابته سنين،ورجعت كأنها كانت في مشوار وخلص.
تيّام كان واقف بصعوبة، وصوته بيترعش:
= إنتِ جاية دلوقتي؟
دلوقتي؟ بعد كل حاجة؟
بعد ما طعنتيني فـ ضهري وسِبتيني؟
بعتي وقبضتي التمن؟
جاية بعد ما سلمتيني ليهم وغدرتي، خونتي،
جاية تعتذري؟
ولا جاية توريني قد إيه إنتِ قوية، وقد إيه أنا ضعيف؟
انتِ شيطانة...شيطانة كلمة قليلة عليكي.
أنا...أنا مصدوم من بجاحتك...وانتِ جاية برجليك للي كنتي بتقدميه للقتـ ـل؟
ملك ردّت بصوت واطي، بس لسه متحكمة، كأنها بتختار كل كلمة بالسُستة:
= كنت تعبانة… مضغوطة… مخي كان مشوش
صغطوا عليا.. وهددوني … أنا آسفة.
هو اتحرك فجأة، بعصبيته المعهودة،
برجله االي لينا شهر وأكتر بنحاول...يمشي عليها.
أول ما وقف من الكرسي عليها كنت حاسة إني مبسوطة...طايرة.
لكن فجأة ، سقط بكل قوته، سقطة قوية وكأنها قنـ بـلة..على الرغم من إنها نص وقعة،جسمه بدأ يتشنج، وجهه بيصفر،
نفسه بيتقطع،
ورقبته ناشفة والعرق بيجري كأنه في سباق.
أنا كنت متسمّرة.
بس أول ما شفت عنيه…، عنيه اللي دايمًا شديدة، دلوقتي بتدوّخ من الوجع جريت.
_ ثروت!! ثروت تعالى بسرعة!!
ملك لسه واقفة.
ما بتتحركش.
ما بتفهمش.
بتتفرّج.
زي يوم ما مشيت، كانت بردو بتتفرّج.
أنا نزلت على الأرض جنب تيّام،
امسكه من هدومه، كنت مركزه مع وشّه اللي شاحب،
بهمسله:
_ ركّز معايا… خُد نَفَس…
أنا معاااك… ثروت جاي حالًا، هتعدّي ، سامعني؟!
"إيده كانت بتتهز،
رجله تخشبت، لا تحجرت.
وصدره بيرتج، كأنه بينهار قدامي وأنا مش لاقية حاجة أعملها غير إني أفضل جنبه.
دخل ثروت، بسرعة البرق،
بالإبرة، المهدأ وبكل حاجة هنحاول ننقذه بيها.
وأنا؟
قلبي بيخبط لدرجة حسيت إني أنا اللي هغيب عن الوعي.
وسط الزحمة دي، ملك نطقت.
بصوت هامس، سخيف، لا له طعم ولا معنى:
= آسفة… مش كنت أقصد ده.
ولقيتني بقول من غير ما أبص ناحيتها حتى:
_ اخرجي برا...اخرجي بـــــــــــره.
سكتت.
وما كنتش محتاجة أعيدها.
سمعت صوت كعبها وهي ماشية… الكعب اللي زمان كنت بحسده.
الدقيقة اللي بعدها كانت أطول من العمر،
تيّام أخيرًا بدأ ياخد نَفَسه… النوبة هديت،
بس هو، ما كانش هو.
بص للسقف، بعينين فاضية،
وقال بصوت شبه الهمس:
= اطلعوا بره..كلكم
" دي كانت أخر جملة سمعتها منه، عدّت ساعة...
بس ما كانتش ساعة على ساعة الحيط.
كانت سنة في إحساسنا.
تيّام ما اتكلّمش،ما اتحرّكش،
بس جسمه كان بيهتز... مش رعشة برد، لا.
دي كانت رجّات خوف.
كان باصص للسقف، عنيه مفتوحة، بس... مفيش نظرة.
زي طفل اتسحب من جُواه، واترمى جُوه كهف مظلم.
وأنا؟ أنا كنت قاعدة جنبه،
بس مش قادرة أوصل له.
يا ربّ... أنا مش عارفة أعمل إيه.
قُمت، وقلبي بحاول أجره معايا ،
وفتحت الباب بكل قوتي:
_ "دكتور هاشم، لو سمحت... أنا محتاجة حضرتك تتدخل.
مش قادرة أرجّعه لوحدي.
هاشم كان واقف برّه، عامل نفسه بيكلّم حدّ ع التليفون،
بصّلي بنص عين، وقال ببرود قاتل:
=لو اتدخلت...
تبقي إنتِ متكمليش معاه تاني.
ودي حالة ماينفعش كل يوم حدّ يجرّب فيها
" إيه؟!
أنا ما اشتغلش معاه تاني؟!
بعد كل اللي اتبنى بينّا؟
بعد ما بقى يسمعني؟
بعد ما بقى يستجيب للخطة العلاجية؟
دا النهاردة وقف، ووقف اللحظة اللي كانت بستناها جسمه استجاب لعلاجي.
كان والده سليم طلع...
شافنا.
شاف وشي، وشاف وش هاشم،
وسمع الجملة وقال له بكل جراءة :
=لو اتدخلت... هي ما تمسكش الحالة تاني.
سليم وقف لحظة، بصّ لهاشم،
وصوته طلع، هزّ البيت:
=انت قلت إيه؟!
"سليم عزّام، اللي دايمًا هادي،طلع منه نبرة خبطت الحيط.
هاشم حاول يتكلم، بس سليم كان أسرع:
=سليم بيه، أنا بتكلّم عن ضبط الخطة العلاجية، مش أكتر...
=خطة إيه اللي إنت بتحكي عنها؟!
دي بنت أنقذته من الموت النفسي!
ودي أول مرة ينهار فيها من ساعة ما جات!
ومش بسببها... بسبب اللي انتوا سبتوها تدخل له!
مين سمح لها بالدخول أصلًا؟
البنت دي تخلّت عنه وسابته في محنته...
دي من بعد الحادثة مشفناش وشها وهو اتأثر!
ثم بصّ لهاشم بحدة قاتلة:
=دكتور هاشم، لو فتحت فمك بكلمة زيادة...
هتخرج من البيت دا، ومن الملف دا، ومن المستشفى نفسها!
" هاشم اتجمّد، وأنا؟ كنت عاوزة أعيط... بس مفيش وقت للدموع.
رجعت جري عليه...كان لسه باصص للسقف، بس الرعشة بقت أهدى شوية."
_ تيّام...إنت معايا؟ اسمع صوتي...
دي أنا، نورين.
"ما ردش."
_ فاكر عم سعيد... الورد اللي زرعناه سوا؟!
فاكر بيت الجنينة؟ التمرينات؟ الأسئلة؟
فاكر الشاي بالنعناع؟!
"بس هو كان جوّه كهف تاني.
كأنه سافر مكان بعيد...
عقله مش هنا، جسمه موجود بس مش ساكن فيه.
هو دخل في حالة اسمها...
(انفصال عن الواقع - Derealization)
بس اللي كنت شايفاه قدامي كان صدمة نفسية مكتملة.
عنيه بتزوغ،نفسه مش منتظم، عضلات وشه متشنجة،
ورجله اللي دايمًا بتتألم... كانت متقلصة، متحجرة، كأنها بتتصلب فجأة.
لبست الجلوفز بسرعة، وضغطت على رجله...
لو حصل أي حاجة، أنا مش ضامنة هيمشي تاني ولا لأ.
ضغطت بإيدي التانية زي ما بتقول الكتب لما الجسم بيهرب من الواقع،
وطلبت ثروت يضغط على إيده بنفس الهدوء،
ثم اتكلمت:
_ ركّز معايا، تيام..ركز ..بص ليّرجّع جسمك هنا، رجّع عقلك هنا،أنا معاك…سامعني....
تيام.
ماحدش هيأذيك تاني وانت مشيت .
أنا شوفت رجلك.
كل ده كان ماضي… فات، عدى عليه أكتر من سنتين...
إنت هتمشي... هتقدر...هتعافر!.
هتكمل...هنكمل الخطة وهترجع.
" كان بيعيّط؟يمكن.
بس الدموع ما نزلتش.
الصوت بس... زي نحيب بين الأسنان.
فجأة، الباب اتفتح بقوة، ودخل دكتور هاشم.
بصّلي لحظة… وبصّ له.
قرب من تيّام بسرعة، نادى عليه، حاول يلمسه،
كأنّ اللمسة هترجّع الحياة لجسمه اللي بدأ ينسحب من هنا."
=تيّام… تيّام، إنت سامعني؟
بصلي، أنا دكتور هاشم… إنت آمن دلوقتي، محدّش هيأذيك.
"ولا ردّ.
ولا حتى رمشة رمش.
دكتور هاشم شدّ كتفه بإيده…جسمه اتشنج فجأة، ونَفَسُه ضرب بسرعة.
حرارته بدأت تعلى… الضغط نازل… ده مش طبيعي!"
دقايق، وكان باب الأوضة بيتفتح تاني…
دخل سليم بيه، خلف منه فارس أخوه، اللي لسه راجع من السفر، وشه متفزّع...وقال:
= هو في إيه؟!
فارس صوته كان بين رجفة الخوف وتوسل الإجابة.
=تيّام؟! يا ابني؟!
وبعده، دخلت عمته، وبصوتها العالي بدأت تعيّط:
_يا تيّام، يا قلب عمتك، هو ماله...حصل ايـه تاني..منك لله ياملك ؟!
"الأوضة فجأة تحولت لدوشة…
أصوات، خطوات، أسئلة، صدمة...
وأنا؟
كنت واقفة في الركن، حسّيت إني في غرفة عمليات…
بس الكارثة هنا مش في القلب… دي في الدماغ.
دكتور هاشم وقف في النص، رفع إيده كأنه بيطلب صمت."
=من فضلكم، سيبوني أشرح…
"الهدوء سقط ثقيلًا على المكان، كأنّه ضروري زي الأكسجين."
=الحالة دي اسمها Acute Dissociative Episode، أو نوبة انفصال حادّ.
المريض بيكون تحت تأثير صدمة نفسية عنيفة، بتفصله تمامًا عن الواقع، وعن نفسه.
حاليًا، هو غير قادر على التواصل… لا بالسمع،
ولا بالبصر،
ولا حتى بالإحساس.
أي محاولة للضغط عليه أو إجباره على التفاعل ممكن تسيب أثر دائم."
وقبل ما حد يردّ، زوّد:
_"الحل؟ إننا نسيبه في مساحة آمنة… نستنى.
لازم الوقت هو اللي يشتغل، مش إحنا."
أنا واقفة…وقلبي؟ بيتكسّر.
سليم بيه لف وشه ناحيتي، بصّ ليّ وعيونه دمعت.
كان تيام ثابت، عنيه فاضية،
إيده بتترعش،
وباصص للسقف كأنه بيعد نجوم مالهاش عدد ولا معنى.
ولا فَهْم في عنيه… ولاّ حتى ضل رمش.
جسمي بيتآكل من جوايا…وقلبي؟
واقف فـ نص معركة... ما بين علمي اللي بيقول "استني"،
وبين إحساسي اللي بيصرخ "الحقّيه".
مش سامعة بقيت الناس... صوتهم بقى بعيد،
أنا اتحركت وقتها مش بعقلي
أنا اتحركت بقلبي.
جريت ناحيته،ولبست الجلوفز للمرة التانية،
وقعدت قدامه.
وشّي ف وشّه،وهو مش هنا…بس أنا هنا.
وهجيبه… حتى لو قلبت الدنيا عليه.
مدّيت إيديا ومسكت وجهه...كان برودته وصلاني على رغم لبسي للجوانتي...حرارته مش ثابته بشكل مرعب
عنُيه شاخصة، فيهم خوف مكتوم،
كأن فيه صرخة ماتت جواه، ولسّه بتردّد فـ الفراغ.
قربت من ودنه، وهمست:
– هي خانتك…
هي اللي سلّمتك… فاكر؟
فاكر العربية اللي فراملها اتفكّت؟
هي السبب يا تيّام…
هي سابتك تموت وانت حي....لكن انت ربنا أراد ليك الحياة ليه تروح تاني وتبعد؟
أثبت لها إنك عايش، وأقوى..خلّي عدوك يخاف منك،ألف مرة.
ويعمل مليون حساب ليك
" ولاّ نفس.
ولاّ رفّ هدب.
ولاّ حتى رعشة رفض.
قربت أكتر…قلبي بيخبط ف ضلوعي،
ومع كل دقة، بأفتّح جوة قلبي ذكرى.
طلعت الجوابات اللي كنت شايلهم في جيبي من يومين.
متنيين من كتر ما قريتهم وبكيت…
بس كانوا لسه نضرة، لسه نضيفة.
لسّه بتحكي.
أكيد طالما فشلت في محاولة الصدمة العكسية..هنجح في حاجة تاني..استخدم حاسة اللمس وربط الجوابات.
الحوابات بتاعتي كانت لونها بنفسج وملمس الورق غريب...حتى ريحتها لافندر.
فتحت إيده بصعوبة،
ولزّقت الجوابات على جلده، كأنها لصقة حياة..وقولت:
– افتحهم…
دول اللي خلوك تعيش…
دول اللي كانوا صوتك وانت ساكت…
قُمت عشانهم قبل كده،
قوم تاني بقى، يا تيّام…"
"إيده بتتهز…
رعشة،
بس مش كفاية.
بصيت حواليّ…سليم بيعيّط،
فارس واقف متجمّد، والدكتور هاشم بيهز راسه بأسى،
كأنه بيكتب تقرير النهاية.
بس لأ… مش دلوقتي.
مش هسيبه دلوقتي.
قمت فجأة…حتى لو هجرب كل اللي درسته..كل حاجة هتيجي في دماغي
عيني وقعت على المكتبة الصغيرة اللي في الركن.
اللي عمرها ما شالت غير كتب ثقيلة…
بس كان فيها حاجة تانية…
الكاسيت.
اللي كان بيسمع فيه عزف الكمان.
نفس المقطوعة اللي قال لي زمان إنها بتخليه ينسى الألم... شوية...وذكر ليّ، أنه بيحب يسمعها
فتحته، ضغطت تشغيل.
الصوت طلع…
والوتر بدأ يصرخ في الهوا.
الكمان بيبكي،
زي قلب بينزف من غير جرح.
الصوت بيرتجف في الهوا، زي نَفَس راجع للحياة.
رجعت له بسرعة،
قعدت بجواره
وصوتي طالع من عمق ما أعرفش اسمه:
– أنا اللي كتبتلك!!
مش واحدة مجهولة…
أنا اللي كنت هناك، أول يوم المستشفى استقبلت حالتك.
أنا اللي شفتك بتقع وبتقوم،
وأنا اللي صرخت مكانك وانت ساكت!
قوم بقى… بالله عليك، قوم!.
صمت.
صوت النفس بس.وصوت الكمان…
وبين الاتنين…أنا قلبي بيصرخ.
وفجأة…
رمش.
رمش بعينه الشمال.
إيده اتحركت ببطء،زي الندى بينزلق على ورقة شجر صاحّية من نوم تقيل.
وصوته…طلع.
خافت، مهزوز، بس حيّ."
=إنتِ
"بدأ يحاول يحرك دراعه…
بس وقع لتحت، كأن جسمه ثقيل،
كأنّه بيجرّ نفسه من أعماق بئر مظلم.
مرهق، لكن فيه رعشة رجعت له… رعشة حياة.
الدكتور هاشم شدّ نَفَسه بسرعة، قال بترقب:
=استجابة عصبية! هو سامع! بيركّز! رجع وعيه اللحظي!"
وصوت سليم، بين شهقة مفاجأة، طلع مرتعش:
=يا بنتي… إنتِ عملتي معجزة!
بس أنا؟
ما سمعتش ولا واحد فيهم.
أنا كنت باصة له،وهو بيحاول يتنفس،
حلقه بيقبض على الهوى،
كأنه لسه بيتعلم ياخد أول نفس بعد الغرق.
وصوته؟ خرج همس، زي رياح ضعيفة بتلف فـ مكان مغلق.
=ليه؟
ليه كنتِ ساكتة؟..أنا مش..فاهم.
"سكتّ.
سكتّ كأن الكلام نفسه وجع، وكأن الصمت... أسهل وأمرّ.
قلبي اتقبض.
كأنّي كنت منتظرة أي حاجة غير السؤال ده…
كأنّي كنت مستعدة لكل المواجهات،
بس مش للّوم.
مش للّوم اللي طالع فـ أنفاسه المقطوعة.
وهمست، كأني بردد وعد بيني وبين نفسي:
– لأني كنت بخاف عليك…
مش بخاف منك، تيّام صدقني كنت بخاف عليك.
وكنت عارفة إنك هترجع لي، بس في وقتك انت…
" عنُيه لسه فاضية...
بس فـ نقطة صغيرة جواه بترجّ،
كأنّها أول موجة في بحر كان ميت."



الثامن من هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close