رواية متاهتنا كامله وحصريه
الفصل الأول: بطاقة لتبتسم!
تقلبت أندريا في نومها بقلق، إنها ترى نفس الحلم للمرة الثالثة، قدماها تسوقانها داخل متاهة غريبة، و رجل مجهول يتناول يدها و يهرب بها بعيدا... إلى فسحة من النور الغامر، ثم يغرقها بين ذراعيه في عناق ناعم. تعرق جسدها، و تململت في فراشها تلوي رأسها يمينا فيسارا، و استيقظت فجأة لتقفز جالسة على ركبتيها بأنفاس مقطوعة، كان شعورا غريبا أن تنساق بذلك الانصياع التام مع رجل لا تعرفه، بحثت في الغرفة عن أشياء مألوفة، تعودت عيناها التائهتان على حقيقة أنها ليست في تلك المتاهة، إنها في بيتها بأثينا، لكنها لا زالت ترتعش من طيف ذلك الغريب، و لم تجد صوتها بعد لتنادي الخادمة.
17
أغرقتها موجة الحر التي راحت تلفها في سيول من العرق، نجحت أخيرا في بلوغ المنضدة الجانبية و لمس الجرس الموصول بغرفة الخادمة. انطلق رنين مكتوم في مكان ما من الطابق الأرضي، ليليه ارتطام أقدام مسرعة على الدرج و في الرواق. اقتحمت الغرفة بعد ذلك شابة سمراء قلقة الملامح قائلة بشحوب:
1
-آنسة هيل! هل هناك خطب؟
+
تأملت الخادمة أغنيس الغرفة و صاحبتها بحيرة، فلم تجد ما يثير القلق سوى سيدة شابة خائرة الجسد زائغة العينين تحاول تهدئة خفقات قلبها. دنت من سيدتها مخاطبة باهتمام:
+
-أنت لا تلمسين هذا الجرس إلا عند الضرورة!
1
تمالكت السيدة المذعورة نفسها، لم تجد القوة لتصف ما رأته في حلمها للخادمة، لكنها عثرت على صوت باهت يخرج من حلقها معلنا:
+
-لا شيء، أعتقد أنني رأيت كابوسا، عودي إلى النوم عزيزتي أغنيس، أنا آسفة!
8
ابتسمت أغنيس بلطف، و أقنعت سيدتها أن تفكر في أشياء تجذب نحوها أحلاما جميلة. أخذت هذه الأخيرة تراقب ظل الخادمة و هي تبتعد و تغلق الباب، ثم تكورت تحت لحافها مجددا تفكر بحزن أن الأحلام الجميلة لم تعد من نصيبها!
2
عانت أندريا من مطبات خلال الأشهر المنصرمة جعلت حياتها تعيسة، الشهرة التي تمتعت بها لسنوات كمغنية إنجليزية باتت على وشك التبخر، و شركة الإنتاج الموسيقية التي أنشأتها مع صديقها اليوناني أنتوني كوركيس فشلت و ها هي ذي تغلق أبوابها و تفلس، و لن يمضي وقت طويل قبل أن ترى بيتها و كل أغراضها تباع في المزاد العلني غصبا عنها!
5
رفعت مدينة أثينا الغافية وجهها نحو السماء طاردة سكون الليل، نفضت الشوارع نفسها من غبار الظلام، و استلقى كل شبر يوناني هناك تحت سطوة الشمس باستكانة! ألقت أندريا نظرة سريعة إلى ساعتها مدركة أن سُهد الليلة الماضية جعلها تتأخر ساعة كاملة عن موعد استفاقتها المعهود، لقد أفرطت في التفكير، و أجهدت عقلها بشكل جعلها تبدو شاحبة على الفطور أيضا. تأملتها أمها باستغراب و قالت بينما تتصفح جريدة أخبار اليوم:
4
-تبدين في حال مزرية عزيزتي!
+
-لم أنم جيدا.
+
كان ذلك ما تلفظت به أندريا ملتقطة فنجان قهوتها، فعلقت نايومي بشيء من التحذير:
+
-حاذري السهر! إنه يذبل جمال المرأة.
7
كأن أندريا ستلتفت لجمالها و هي مطالبة بدفع مبالغ طائلة لجموع من الدائنين و المستثمرين في شركتها! قضمت قطعة خبز محمصة بعنف مفكرة في مخرج ما من ذلك المأزق، حينها علقت نايومي للمرة الثالثة بلهجة مهمتة:
+
-قالت أغنيس أن بافلوس طلب منك مقابلته خارج الفيلا اليوم!
+
هزت أندريا رأسها متذكرة مخابرة زوج أمها لها أمس، فانبرت نايومي تستفسر و هي تقلب صفحة أخرى من الجريدة التي بدت مضجرة:
+
-لم يعد للفيلا كما تعود بعد كل سفر! ألم ينوّه عن السبب في هذا اللقاء خارجا؟
+
عجزت أندريا عن تخمين سبب معين، فلزوج أمها أطواره الغريبة، إنه صاحب المليارات و المفاجآت! يدير بافلوس باباندريو عددا لا بأس به من سفن الشحن، اقتحم المجال مؤخرا بسفينة واحدة، ليصبح في ظرف قصير مليارديرا ناجحا بشكل صادم.
8
قطعت أغنيس سيل تلك الأفكار بدخولها على المرأتين حاملة باقة ورد جميلة، و أعلنت قائلة:
+
-هذه لك آنسة هيل.
4
حدقت أندريا بغير دهشة في الورود الزهرية المتفتحة، ككل يوم تصل باقة مشابهة من رجل مجهول، لكن هذه المرة لمحت بين رؤوس الورد بطاقة صغيرة، التقطتها أندريا بفضول و فتحتها لتقرأ كلمة واحدة: ”ابتسمي!“.
10
-ماذا؟ هل هو نفسه المعجب الجبان؟!
+
أتت لهجة نايومي باردة، فعبست أندريا مجيبة بهدوء:
+
-أمي، لا أحب طريقتك المهينة في وصف المعجبين! أعتقد أنه شخص لطيف يريد فقط إسعاد نجمة ستسقط من عليائها عاجلا أم آجلا.
2
انصرفت نايومي عن ملاحقة أخبار الجريدة، و قد ارتفع أحد حاجبيها في حركة توتر، و تساءلت بخوف واضح:
+
-ماذا تقصدين؟
+
أدركت أندريا أن لسانها زل بما لا يجب الإفصاح عنه تحت أي ظرف، نايومي لا تعرف شيئا عن أوضاعها المتدهورة، و من الأفضل أن تبقى كذلك. تنحنحت مدعية المرح و علقت ببرود مصطنع:
1
-لا أقصد شيئا، أعني... أن كل نجم مقدر له يوما ما أن يسقط.
+
ابتلعت نايومي الطعم بنجاح، فابتسمت بارتياح، و عادت لجريدتها ضاحكة بلا هم:
+
-أنت من النجوم التي لن تقع أبدا عزيزتي! خلقتِ لتلمعي في السماء أبد الآبدين!
6
نظرت أندريا نحو أمها بعطف، إنهما لا تتشابهان أبدا، نايومي شقراء ناعمة و رشيقة محدودة الطول، بعينين خضراوين حادتين، و شفاه رقيقة، أما هي فقد ورثت طولها الجلي و شعرها الداكن و عينيها البنيتين عن والدها.
كان دونالد هيل رجل أعمال إنجليزي ناجح، تزوج من نايومي في لندن، ثم سافرا إلى اليونان، أين استقرا في جزيرة خيوس لينشئ فرعا لشركته هناك، لكن الأمر لم ينجح، و ما لبث أن خسر كل شيء، و انتهى الأمر بنايومي تطلقه و تتزوج بشخص أكثر منه نجاحا... و هو ليس إلا اليوناني بافلوس باباندريو!
تمزقت أندريا لذلك الطلاق، أمها هجرتها، و تركتها في خيوس مع والدها المحطم، و الشيء الوحيد الذي طمأن أندريا و رسم السرور على وجهها أيام الطفولة هو حب دونالد لها، و وجود شخص يُدعى ألكسندروس ليفانوس في حياتها، ألكسندروس! فكرت أن عمرا مضى منذ أن رأت وجهه الأسمر الجميل، و وجدت نفسها تحاول تخيل ملامحه الآن، لا ريب أنه تغير بعد عشرين سنة! و لم تمنع ابتسامة طفيفة من ملامسة شفتيها حالما تذكرت حين كانا طفلين بريئين يلهوان في طرقات خيوس الهادئة، و ينامان جنبا إلى جنب تحت شجرة زيتون معمرة، غير أن ابتسامتها تجمدت و تشققت لتتساقط و تختفي وسط فم مزموم من الغيظ، كيف نسيت للحظة أن ألكسندروس نفسه كسر قلبها و تخلى عن حبهما العذري البريء؟
8
رمت نايومي الجريدة الأولى بسأم، و تناولت أخرى متأففة، إلا أنها شهقت على نحو مفاجئ و هي تصطدم بخبر قنبلة على الصفحة الأولى، تمتمت بذهول:
1
-لا أصدق!
+
-ماذا هناك؟
+
-قُطب الشحن عاد إلى الوطن، و ينوي منافسة مليارديرات اليونان بشراسة على ما يبدو!
1
قُطب الشحن! كانت أندريا على عكس أمها، لا تملك ذرة اهتمام واحدة تجاه أخبار الساسة و رجال الأعمال و التجارة، عقلها و روحها مملوكان للفن و حسب! اضطرت أن تحدق في أمها ببلاهة مستفهمة من يكون قُطب الشحن هذا؟! فأردفت نايومي:
+
-إنه مؤسس شركة ليفانوس اليونانية للشحن، و يهيمن على التجارة البحرية في البحر الأبيض المتوسط، يدير أساطيله منذ زمن عن بعد، لكن يبدو أنه سيتولى ذلك عن قرب من الآن فصاعدا!
3
أمسكت كلامها قليلا ثم لمعت عيناها مستطردة و هي ترشق ابنتها بنظرة مبطنة:
+
-قُطب الشحن العظيم ليس إلا حبيب شجرة الزيتون القديم!
7
اصفرَّ وجه أندريا، لم تكن بحاجة لسماع اسم الشخص المشار إليه، لكن نايومي أضافت بسخرية:
+
-ألكسندروس ليفانوس!
4
يا لسخرية الأقدار! لقد فكرت فيه للتو... فقفز إلى حياتها بالفعل! كلا، إنه بعيد عنها، و سيبقى كذلك، ترك ألكسندروس اليونان منذ عشرين سنة ليعيش البحبوحة الذي أرادها مع صديق أمه الأمريكي، و عودته الآن لن تغير شيئا من واقع عداوتهما!
وثبت أندريا باضطراب معلنة نهاية ذلك الحوار الذي أسقط الأسى في أعماقها أكثر من ذي قبل، و أسرعت بالخروج تاركة لأمها كلمات مهزوزة:
6
-وداعا! لا أريد أن أدع زوجك المصون ينتظر.
+
نهاية الفصل الأول.
+