رواية متاهتنا الفصل التاسع 9
الفصل التاسع: أدوار الدمية!
عند السادسة صباحا رفعت أندريا جفنيها بصعوبة ما إن شعرت بلمسات لطيفة على وجهها، كأن شخصا ما يستمتع بمداعبة وجنتيها، تحركت بنعومة و أمعنت النظر في وجه ألكسندروس القريب، ثم وثبت مبتعدة عنه بوجوم.
2
-لم أكن أنوي لمسك، لكنك لم تستيقظي بمجرد النداء!
+
شملته بنظرة مدققة، كان يرتدي بدلة عنبرية اللون، فوق قميص أبيض و بدون ربطة كالعادة، كان جميلا جدا! خطا نحو الباب و تابع بسخرية جرحتها:
+
-في كل الأحوال كنتُ تواقا للمسك أمس بعدما خدرني سحرك، لكنني و لحسن الحظ نجوت في اللحظة المناسبة!
6
أرادت أندريا أن تنشب أظافرها في رأسه الجذاب، أو أن تلوي وجهه الوسيم بصفعة قوية، لكنها تجاوزته نحو الحمام و صفقت الباب بعنف، لتسمع قهقهته و صفقه لباب الغرفة هو الآخر!
1
سيطرت على رعشة يديها، و لاحظت أنها نامت في فستان الزفاف، فخلعته بسرعة متخلصة من ذكريات أليمة عالقة في ماساته، كيف خُدعت بكلماته المعسولة؟ كان يمثل دور المحب طوال الزفاف، و لا بد أنه استمتع بشكلها السخيف و هي تتلقى منه مداعبات كاذبة و عناقات مزيفة!
3
ملأت الحوض بالمياه الساخنة و غطست داخلها متذكرة عروس طروادة التي حكت عنها أغنيس، و العبارة المقدسة التي رددتها: ”يا إسكاماندرا... خذ عذريتي!“، ماذا كانت تتوقع من هذا الزواج الذي بُني على التهديد؟ أن يأخذ ألكسندروس عذريتها و يغدق عليها بالحب مثلا؟ إنه أبعد شيء عنه!
+
ضربت المياه بيدها ساخطة، يجب أن تكون قوية لتتحمل هذه الرابطة، و لتواجهه بالبرود ذاته، يمكنها أن تزدريه أيضا، يمكنها أن تتجاهله ربما، و يمكنها أن تدفن حبها له، لأن إظهار مشاعرها العميقة نحوه سيزيد من مهانتها أمامه.
5
لفت نفسها في منشفة لم تغطي الكثير من جسمها، و خرجت إلى غرفة النوم باحثة عن شيء ترتديه، تذكرت الحقائب التي وضعتها في سيارة ألكسندروس، لا بد أنها لا تزال هناك، زمت شفتيها و هجمت على الممر تطرق الأبواب و تفتحها واحدا تلو الآخر، يبدو أن الخدم لم يحضروا هذا الصباح كذلك، تضخم غيظها، و نزلت السلالم مسرعة، لتجد صاحب البدلة العنبرية يجلس بسلام على أريكة سوداء مطالعا جريدة.
+
خبَّت الأرضية بقدميها الصغيرتين مستعرة، فتركت خلفها آثارا طفيفة، سرق وقوفها فوق رأسه نظره من جريدة الأخبار و سجنه لوقت طويل، كانت أندريا تهزُّ ساقها اليسرى بتوتر، و تسند نفسها بيدها اليمنى على ظهر الأريكة، شعرها المبلل يهطل سيولا على جلدها الأبيض، مما جعل بشرتها الناعمة تلمع كالفضة!
2
تحركت عينا ألكسندروس فوق كل تفاصيلها، لكنه لم يُبدِ شيئا من المشاعر، كأنه كان خالٍ منها تماما، علق بلؤم:
+
-تحاولين إغوائي بعدما فشلت غزوة أمس!
+
لوت شفتيها ممتعضة و ردت:
+
-هذا آخر ما أريده، ما يهمني الآن هو ثيابي!
+
سكتت ملتفتة نحو باب المنزل و تابعت:
+
-لا تزال حقائبي بالسيارة، و لا أظن أنك تتوقع مني مرافقتك إلى خيوس هكذا!
+
مشطها بنظرة مغرية و ساخرة، و عقب ببرود:
+
-لا حاجة لك بالحقائب الآن، إن بحثت جيدا في الغرفة ستجدين ما يلزمك لهذا اليوم.
+
أطبقت أسنانها على بعضها بقسوة، و رفعت في وجهه إصبعها محذرة:
+
-لن تحركني كما يحلو لك، أنا زوجتك و لست عبدة عندك!
+
في حركة لم تحسب لها أندريا حسابا، التقط ألكسندروس يدها و سحبها إلى حضنه بعنف، وجدت نفسها مستلقية في حجره مثل ليلة أمس، لكن عيناه بدتا ضحلتان هذه المرة و نظراته حادة و عضلات جسده القوية تنطق بالقسوة بدل الرقة، زمجر في وجهها قائلا:
+
-ألست عبدتي؟ أنت دميتي الجميلة، اشتريتك أتذكرين؟ أنفقت ثروة كبيرة في سبيل الوصول إليكِ، لذا مارسي أدوارك بلباقة و خضوع و إلا...
11
لم تكن بحاجة لسماع بقية الكلام، تذكرت ورطة بافلوس و مصير أمها، فزفرت باستسلام، أفلتها ألكسندروس و دفعها بهدوء لتقف، فكادت تقع المنشفة التي تستر جسدها لولا أنه أمسكها، و لفها حولها بإحكام، ثم خاطبها كما لو كانت طفلة سيئة الطباع:
2
-ارتدي ثيابك بسرعة، و جففي هذا الشعر المبلل قبل أن تصابي بالزكام، أنا بانتظارك في السيارة!
لاحظت أن الغضب في لهجته قد اختفى، لكن غضبها هي لم ينته، أدارت له ظهرها و تسلقت السلالم بحزن، إنها لا تعرف كيف ستتعامل مع رجل مثله. في الغرفة دققت النظر، فلمحت على طرف من السرير ثوبا حريريا أبيضا، صندلا صيفيا جميلا، و حقيبة يد صغيرة بنفس اللون، تماما كلون الفراش، لهذا السبب لم تلاحظ تلك الأشياء.
+
عثرت على مجفف في خزانة الحمام، فحولت شعرها الداكن الطويل من خصلات مبللة ملتصقة بجلدها، إلى أمواج حريرية كثيفة. بدا الثوب الأبيض عليها رائعا، ارتدت مجددا مجوهرات الزفاف الماسية الرقيقة موقنة أن بعض الخضوع لإرادة ألكسندروس مطلوب الآن، إنها مضطرة لكسب رضاه مؤقتا حتى تجد حلا ما يخلص بافلوس من السجن.
+
أرادت إحياء وجهها الشاحب بتزيينه، لكن مستحضرات التجميل خاصتها أيضا داخل إحدى حقائبها، فتخلت عن الفكرة، و تركت الغرفة أخيرا.
كان ألكسندروس داخل السيارة غارقا في تأمل هاتفه، انتبه أنها قادمة نحوه، فحدق بها لبرهة، حتى و هي دون مساحيق التجميل تبدو جميلة جدا، أشاح عنها بسرعة حين فتحت الباب و انضمت إليه، ثم انطلق دون أن ينبس أي منهما بكلمة واحدة.
+
ظنت أندريا أنه سيتجه مباشرة إلى المطار، لكنه فاجأها حين ركن السيارة أمام مطعم هادئ قائلا:
+
-أرجح أنك تتضورين جوعا!
+
وضع النادل قائمتين أمامهما، التقطت أندريا إحداهما تطالعها مدركة كم هي جائعة بالفعل، كانت أمعاؤها تتقلص و تتمدد في بطنها بشدة، ابتسمت حين لمحت الحلوى اليونانية المفضلة لديها... فطيرة الكاسترد! و قبل أن تصرِّح لألكسندروس بطلبها، عاد النادل حاملا تلك الحلوى بالذات، و قال:
+
-تفضلي آنسة هيل!
+
اعتقدت أندريا أن النادل تعرف عليها كمغنية، و هو على جهل بزواجها، فصححت له بابتسامة باهتة:
+
-شكرا، أنا الآن السيدة ليفانوس.
+
احمر وجه النادل و اعتذر من الزوجين مردفا:
+
-آسف سيد ليفانوس، سيدتي... ترك أحدهم هذه البطاقة لك متمنيا أن تستمتعي بالحلوى!
+
تلاشت ابتسامة أندريا، بحثت في وجوه الرجال الجالسين على الطاولات الأخرى، فاستطرد النادل:
+
-لقد رحل! عفوا... ما هو طلبكما؟
2
اكتفى ألكسندروس بالقهوة، و أشعل سيجارة، و مضى يمتصها بشراهة متأملا وجه أندريا بحدة، رفضت طلب أي شيء، لكن نظرة زوجها قست محذرة، فتمتمت بعجز:
+
-حسنا... أريد قهوة أيضا!
+
انصرف النادل، ففتحت البطاقة، و قرأتها في سرها: ”لم ترتدي الفستان، لكن آمل أن تقبلي هذه الحلوى!“. ذهلت من معرفة هذا الشخص الغريب لتفاصيل كثيرة متعلقة بها! توترت و دفعت صحن الحلوى جانبا بقوة، فحذرها ألكسندروس من بين أسنانه:
+
-لا تتصرفي بفظاظة، إننا محط أنظار الجميع الآن!
+
نظرت حولها مدركة للمرة الأولى أن كل من في المطعم يتهامسون محدقين بهما. استطرد مداعبا يدها بابتسامة ساحرة:
+
-تناولي هذه الحلوى المقدمة بحب من معجبك العزيز! و لا تسببي لنا فضيحة.
+
تخضب وجهها، و هالها أن يبلغ بروده هذا الحد، قالت متلعثمة:
+
-كيف... تعرف بأمره؟
+
جاء النادل بالطلب، فأسقط ألكسندروس السكر في القهوة، و حرك المزيج ببطء أحرق أعصابها، ثم سرق رشفة من فنجانه، و أخذ مجة طويلة من سيجارته قبل أن يجيب على مهل:
+
-أنا أعرف الكثير يا أندريا، لكنني أجهل شيئا واحدا، و أحب أن ترضي فضولي قليلا!
1
سمر نظره على وجهها، و أردف بلهجة بدت لها خبيثة:
+
-لماذا ارتديتِ فستانا اختاره عدوك؟ لا بد أنك كسرت قلب هذا المعجب المسكين!
+
شعرت أنه قبض على عنقها بذلك السؤال، ستكون قمة الإذلال إن اكتشف ألكسندروس أنها لم تتوقف عن حبه، و أنها تأثرت بتفاصيل زواجهما المميزة، و أنها امتنت لذوقه الرفيع و معدنه الأصيل حين أهداها زي عرس من اختياره!
+
سألته أندريا بألم:
+
-ألا تملك مشاعرا أبدا؟
+
-لكِ أنتِ؟ كلا!
9
يبدو أن ألكسندروس متحجر من الداخل، فكرت في كلمات عدة تجرحه بها، إلا أنها ابتلعتها مع غصة حادة، و تنفست بعمق و هي تتناول من يده فنجان قهوتها محاولة أن تبتسم!
+
-هذا أفضل!
+
قال مستحسنا سيطرتها على انفعالاتها و تابع بهدوء:
+
-أنت جميلة جدا و لبقة حين تريدين، و هذا ما أطلبه منك.
+
-تقصد أنك تأمرني.
+
-تماما!
2
أجاب سخريتها بهدوء أكبر، و استأنف قوله مشيرا إلى الحلوى بمكر:
+
-لي الأمر و عليك الطاعة، و كتمرين لتحسين سلوكك مستقبلا... آمرك أن تنهي تناول هذه الحلوى كلها.
5
ذهب وجهها و جاء بألف لون، سيسرها أن تصفعه يوما ما على هذه القسوة الظالمة في حقها! انكمش فمها و قالت بحدة:
+
-من تظن نفسك؟
+
-زوجكِ!
+
-وثيقة الزواج لا تمنحك الحق في إصدار أوامر كهذه!
+
-اوه حقا؟ لكن الوثائق الأخرى تخولني ذلك!
4
ابتلعت أندريا صوتها، أشار ألكسندروس إلى الحلوى مرة أخرى، فباشرت تناولها بسرعة، آنذاك اتكأ على ظهر الكرسي و تشدق بابتسامته الجذابة معلقا:
+
-فتاة طيبة! تزداد فتنتك حين تكونين مطيعة، ربما أنت بحاجة فقط لحفظ أدوار الزوجة.
+
-تقصد أدوار الدمية!
+
هز رأسه ضاحكا حين تداركت سخريتها و تابعت تقطيع الفطيرة و التهامها بخفة، و علق:
1
-كما قلت، إنك بحاجة لتحفظي تعليماتي، ترافقينني إلى بعض لقاءاتي المهمة، و تستقبلين ضيوفي، و تتصرفين كزوجة متى أتوقع منك ذلك، أما بخصوص من يراسلك و يهديك أشياء سخيفة، فأنا لا أهتم أبدا، شرط أن تحترمي رباطنا، و تخلصي لي ما دمت زوجكِ!
2
أشياء سخيفة؟ ذلك الرجل المجهول يهديها تفاصيلا ترمز لها، و تشبهها! إنه يعرفها و يحترمها على الأقل! فقدت أندريا رباطة جأشها جراء حدة الكلمات التي يلقيها لسان زوجها، و أنهت الحلوى و القهوة بصعوبة بالغة، تنفست الصعداء حين تركا طاولتهما و همَّا بالخروج، لكن عاصفة صحفية هاجمتهما أمام المطعم.
2
-أندريا هيل، هل صحيح أنك اعتزلت الغناء؟
+
-سيد ليفانوس، هل خبر زواجك من الفنانة هيل صحيح؟
+
-أندريا! أندريا! رجاءً أجيبي! هل تزوجتِ من السيد ليفانوس خوفا من الإفلاس؟
+
-هل انتهى أمر شركة ”هيل آند كوركيس“؟
+
-ما خلفية هذا الزواج سيد ليفانوس؟
+
-أندريا هيل!
+
-آنسة هيل!
+
هزتها تلك الأسئلة التي قفزت إليها من العدم، هاجمها الصداع، و اغرورقت عيناها بالدموع، أين ذهبت قوة شخصيتها المعهودة؟ توالت على رأسها المصائب المادية، ثم الزواج من أكثر رجل متحجر، و الآن تتعرض لهذا الهجوم القاسي! لِمَ لا تحترم الصحافة مشاعر الناس؟ ألا يملك الفنان خصوصية كغيره؟!
1
أبعد ألكسندروس الجموع عنها، حماها بذراعه محتضنا كتفيها كبطل، و سمعته يعلن بفخر طابعا قبلة على رأسها:
+
-الآنسة هيل أصبحت منذ أمس زوجتي، السيدة أندريا ليفانوس، و زواجنا حقيقي مئة بالمئة! لذا هذا وقت المباركات، و ليس وقت توجيه أسئلة عن الإفلاس و غيره!
3
أتى صوت ألكسندروس قويا معبرا و حازما، جعل الألسن الحشرية تسكن داخل أفواهها، و الأجساد تبتعد مفسحة المجال أمامهما لبلوغ السيارة. عجزت أندريا عن الكلام أو الحركة، و تركت نفسها تنساق مع زوجها مصدومة، أجلسها مكانها و أغلق بابها مسرعا بخطوات واسعة إلى الطرف الآخر.
+
وصلا إلى المطار أخيرا، و في غضون دقائق أصبحا في الجو معانقين الصمت. قبع ألكسندروس بجانبها كجماد، و لم تعرف أندريا كيف تحكمت بدموعها طوال الطريق إلى خيوس، راحت تراقب كتلة البحر الزرقاء تحتها بشرود، و هي تتساءل كيف ستكون حياتها على تلك الجزيرة مع ألكسندروس في قلب هذا الزواج المأساوي؟!
+
نهاية الفصل التاسع.
+