رواية شهادة قيد الفصل الثامن 8 بقلم دودو محمد
"شهادة قيد"8
"الفصل الثامن"
فى صباح اليوم التالى، استيقظت ذات وهى تشعر بألم شديد برأسها، كالمعتاد من الليالي التي باتت تعاني فيها من التفكير العميق والقلق الذي يزاحم أفكارها. كانت تشعر وكأن مخها يموج بجزر من الطاقة السلبية، مما جعلها تشعر وكأنها تستيقظ فى دائرة لا نهائية من الآلام. اعتدلت على فراشها، مضغوطةً برأسها بيدها، عسى أن يخف الألم قليلاً، لكن دون جدوى. زفرت بضيق، ثم نهضت بصعوبة وكأن جسدها يقاوم كل حركة. اتجهت إلى المرحاض، حيث كانت تحاول البحث عن بعض السلام لحظات تنفيس الألم. نزعت ملابسها و ألقتها على الأرض بلا مبالاة، وجلست داخل حوض الاستحمام، محاطةً برائحة الصابون المنعشه، محاولةً تهدئة عضلاتها المشدودة والتي كانت تجيب عن ضغوط داخلها. أرغمت رأسها على الرجوع للخلف، تتذكر أحداث الأمس، لكن ذلك لم يفعل سوى إرباك أفكارها، حيث أعادت حالة الارتباك والضغط والانفعالات التي كانت تعيشها. وفى تلك الأثناء، سمعت صوت مهران بالخارج، صوت صارم مكون من عدة نبرات جعل قلبها ينبض بشكل أسرع. استقامت سريعًا، ارتدت برنس الاستحمام، الذي كان يضرب على جسدها بشكل فضفاض، وخرجت إليه وكأنها تخفي مشاعرها خلف قناع من الثقة، قائلةً بعدم اهتمام:
"صباح الخير يا مهران باشا، أوضي منورة بوجودك فيها".
رفع أحد حاجبيها ألى الأعلى باستنكار، وتكلم بعدم فهم:
"ده أيه الموف اون السريع ده!! مش لسه من كام ساعة كنتي بتع..."
تدخلت سريعا، مقاطعةً إياه بكبرياء، تلك الكبر الذي يحمى قلبها الضعيف:
"مش ذات الزويدي اللى تضعف، ممكن بس الشرب خلي مشاعري تضعف شويه، بس انا لسه زي ما انا".
شعرت بقلق مهران تجاه وضعها، ولكنها كانت مصممة على عدم إظهار أي ضعف. جلست على الأريكة، وضعت قدمها فوق الأخرى مما كشف ساقيها بشكل مبالغ فيه، كأنها تحاول استعادة السيطرة على توازنها. نظر مهران إلى جسدها، وازدرد ريقه بصعوبة، والكلمات خرجت متقطعة:
"ا ا انا ك ك كنت جاى اقولك ا ا ان حضرت الفطار علشان نلحق نروح المصحه".
ابتسمت بتكبر، مستمتعةً بتلك اللحظة التي تملك فيها زمام الأمر، وقالت بصوت هادئ متعمده أنه يتسلل إلى أعماقه:
"بس أنا قولتلك مش هروح، دى حياتي أنا، وانا حره فيها".
ثم نهضت من الأريكة واقتربت منه حتى التصقت به، وهمست بصوت أوشك على أن يكون مغويًا:
"لو بتعمل كده علشان عايز تبعدني عنك، يبقى مافيش مشكلة، انا ممكن اشوف شقة تانية بعيد عن هنا واستغنى عن خدماتك ويبقى كده حليت ليك مشكلتك معايا".
كانت تحدق في عينيه، وكأنها تتحدى إرادته، تلعب بالنار وهي تدرك تمامًا المخاطر التي قد تنجم عن تلك الأفعال.
أحاط مهران خصرها بذراعيه، ناظراً في عينيها بحماس مضطرب، بينما كان صوته يحمل قوة مكتومة، تثور بداخلها مشاعر مختلطة من الرعب والشغف:
"لو انتي بترجعي في كلامك عادي، أنا بقى الكلمة اللى بقولها مبرجعش فيها نهائي، والمشوار اللى ببدأ فيه بكمل اللى بدأته غصب عن الكل".
ثم انسلخت شفتيه نحوها في قبلة ساحقة، كأنه يحاول بأكثر مما ينبغي أن يهدئ تلك النار التي أشعلتها بطلتها الجريئة. كان فعل القُبلة شغفًا، مزيجًا من القوة والحنان وكأنه يهدد بفقدان السيطرة على نفسه في تلك اللحظة الفريدة.
اتسعت عينا ذات بصدمه، وكأنها لم تتوقع تلك القفزة الجريئة من مهران، محاولةً الدفع به بعيداً، لكنها لم تقوَ على ذلك، ففارق القوة بينهما أكبر بكثير مما تخيلت. رغم دقات قلبها التى أعلنت عن شغف غير معهود، إلا أنها تمسكت أيضًا بالغضب الذي توجّه نحو تصرفاته. بدأت يد مهران تُظهر جرأة غير معتادة على جسدها، ملامسةً بطريقة تثير القلق وتثير شجاعتها في نفس الوقت، مما دفعها للكُزة نحو بطنه كما لو كانت تحاول أن تعيد الأمور إلى نصابها.
ابتعد مهران عنها بأنفاس متلاحقة، وعلامات الصدمة تعلو وجهه كأنه استفاق من حلم مفزع دون أن يدرك تمامًا لماذا تصرف بتلك الطريقة. ابتلع ريقه بصعوبة، وأرجع يده على رأسه بندم صارخ، قائلاً:
"ذ ذ ذات أنا آسف، م م مش عارف أنا إزاي عملت كده. حاولت كتير أتحكم في نفسي، لكن غصب عني انفلتت مني زمام الأمور لما شفت منظرك بالشكل المهلك ده. حاولي تساعديني، يا ذات، بلااااش المنظر ده، أنا راجل، وربى يعلم أنا بجاهد نفسي إزاي علشان متهورش وبالذات بعد كلامك الجرئ وحركاتك الجرئية اللى بتزود معاناتي في الصراع الداخلي بين رغبتي فيكي وبين أخلاقي وديني".
نظرت له بغضب شديد، وكأن قلبها قد انفجر، وقالت:
"انت قليل الأدب ووقح. للأسف طلعت زيك زي أي راجل، شهواني ومعندكش مبدأ. اطلع برة لو سمحت".
كان صوتها له صدى مفعم بالاستياء، يعبر عن خيبة أملها في ما اعتقدت أنه شخصية مختلفة، وفي تلك اللحظة، أدركت أن الانجذاب قد يصاحبه الكثير من الفوضى، وهو ما لم تكن مستعدة لاستقباله.
تكلم هو بضيق، محاولاً تفسير مشاعره:
"لا يا ذات، أنا مش شهوانى وزى ما قولتلك، ربنا يعلم أنا بجاهد نفسي إزاي، علشان مندفعش زى دلوقتى. بس انتي اللى بتوصليني لكده، مهما كان، أنا ررراجل. مش محتاجة توضيح يا ذات، قبل ما تزعلي من ردة فعلي، شوفي نفسك الأول. فيه واحدة تخرج بمنظرها ده ومع راجل غريب في شقة لوحدهم، فيه واحدة كل شوية تقرب بالشكل المبالغ فيه ده، وحركات إيديها اللى بتعرف طريقها بحركاتها المثيره. راجل تانى كان يستغل أفعالك دى من زمان وعمل معاك كل حاجة وقت ما بتبقى سكرانة ومش حاسة بنفسك. اللى فى الوقت ده بيزيدك جرأة وآثارة، بس أنا بجاهد نفسي علشان ما أنجرفش وراه كلام شيطاني. أنا مش بدافع عن نفسي بسبب اللى حصل دلوقتي، لأن أنا فعلاً غلطان أن مقدرتش أتحكم في نفسي أكتر من كده، بس برضه انتي عليكي عامل كبير. أنا برة، البسي هدومك وتعالى علشان نفطر وننزل".
أنهى كلامه وخرج مسرعًا من أمامها، مغلقًا الباب خلفه بإحكام كأنه يحاول قفل كل مشاعر الارتباك التي تصارعت داخله. حركت ذات يدها على شفتيها، وارتسمت ابتسامة عابرة عليهما، رغم عاصفة الغضب التي كانت تهز مشاعرها. ذلك القبلة، رغم بساطتها، أعطتها دافعًا للحياة، جعلتها تشعر بنبض جديد ينبعث داخلها، كما لو كانت تلك اللحظة هي بداية لشيء أكبر. تنهدت بمشاعر متضاربة أشعلتها القبلة داخلها، وفتح القلب والأفق لها، ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها وبدأت ترتدي بسرعة، تضع في اعتبارها كيفية ترك الانطباع الصحيح.
ثوانٍ معدودة، أنهت استعداداتها، وخرجت من الغرفة لتجد مهران يجلس على مقعده أمام طاولة الطعام، وقد بدا مشغول الفكر، كأن الفوضى الداخلية لا تزال تراوده. أخذت نفساً عميقاً، وخرجت بهدوء، وتحركت باتجاهه، وجلست أمامه لتبدأ تناول الطعام بصمت. ظل مهران يتابعها بشعور من الإحراج، وأيضًا بتساؤل عن كيفية تصرفها في تلك اللحظة. تنحنح برجوليه، وتكلم بتلعثم:
"ذ ذ ذات، عايزك تنسي اللى حصل من شويه، ونرجع نتعامل مع بعض عادي زي الأول، ممكن؟".
وضعت الطعام بفمها، واكتفت بإيماءة خفيفة برأسها بالموافقة. زفر مهران بضيق، وبدأ يتناول طعامه بصمت. كانت اللحظات تمر ببطء، وكأن الوقت قد توقف بينهما، بينما يختلط الصمت بالشعور بالتوتر. بعد فترة، انتهوا وجمعوا أطباقهم، فنهض مهران من مقعده، قائلاً:
"لو شبعتى، يلا بينا علشان منتأخرش. أنا كلمة دكتور صديق ليا هناك، وهو مستنينا دلوقتي في مكتبه".
كانت نبرة صوته تحمل مزيجًا من القلق والثقة، وكأنما يحاول تهدئة مخاوفها.
استقامت بوقفتها، وتكلمت بصوت مختنق ممزوج بالقلق:
"علشان خاطري، بلاش موضوع المصحة دى يا مهران، انت كده بتسلمهم الشركة وكل حاجة زي ما هما عايزين".
كادت الكلمات أن تخرج منها كصرخة استغاثة، فقد كانت تخشى إن فقدت سيطرتها على الشركة، ستفقد جزءًا من هويتها.
حرك رأسه بالرفض، قائلاً بنبرة هادئة ولكنه حازم:
"بالعكس يا ذات، الخطوة دى مهمة جداً. صدقيني، لو فضلتي كده، كل حاجة هتخسريها، حتى نفسك. إنما لو اتعالجتي، هتقدري تحافظي على نفسك، وعلى شركتك، وعلى كل حاجة. أنا معاكي، ومش هسيبك. هبقى في ضهرك طول الوقت".
لمحت في عينيه التفاني والإخلاص، وهي تشعر بحاجة ملحة للثقة فيه.
شعرت بصدق كلامه، وأومأت برأسها بالموافقة، قائلة بنبرة ملؤها الشك:
"ماشي، أنا هثق فيك يا مهران، بس إياك تسيب إيدي في نص الطريق وتمشي".
كان هذا رغبة منها في التأكيد، وفي الوقت ذاته، كان كشفًا عن مخاوفها العميقة.
ابتسم على كلماتها، وقال بثقة مفعمة بالإيجابية:
"مش مهران الشرنوبي اللى يخلى بوعده وينسحب. يلا نمشي".
هذا الوعد كان بالنسبة لها كالسند الذي تحتاجه لتجاوز الصعوبات.
ظلت تنظر إليه بإعجاب، فابتسامته أضافت لها بريقًا خاصًا، كأنه يضيء طريقها المظلم. دربها المجروح بدأ يتلاشى تحت سحر تلك اللحظة، وشعرت بتوترها المتزايد فجأة، فتنحنحت قليلًا وحركت نفسها بسرعة على سبيل الخروج من أمامه. عندما هبطوا إلى الأسفل، صعدوا إلى السيارة حيث أمر السائق والحرس بالبقاء في مكانهم. انطلق هو وهي بمفردهم، في عالم خاص بعيد عن كل شيء. كان ذلك كأنه بداية جديدة، حيث تحمل المجهول بين طياته الأمل والتحديات التي ستقويهما معًا.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس يزيد على التخت، غارقاً في أفكاره، يتأمل كيف يمكنه استرجاع ذاته المفقودة، فهو لا يستطيع تحمل فقدان ملايين من الجهد والتعب بهذه السهولة. فجأة، انتبه لصوت والدته وهي تتحدث باندهاش:
"فيه أيه يا ابنى، بتفكر فى ايه وسرحان كده؟".
شعور التوتر اجتاحه، فتَحَرك بعصبية في مكانه، وأجاب بتلعثم:
"ها م م مافيش، كنتى عايزه حاجه؟".
جلست بجواره، مملوءة بكراهيتها وغضبها، وسألت بحدة:
"عملت ايه في اللى قولته ليك عن مقصوفة الرقبة دي؟".
اعتدل في جلسته، والمشاعر الغاضبة تتأجج داخله مثل بركان قارب على الانفجار. تجاذبت ذكرياته معه، وتذكّر كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد الأليم. أجاب بصوت مرتفع، مفعماً بالإحباط:
"دي بت فج**، كلمتها و قالتلي إنها فعلاً في حضنه. أنا مش هسيبها، متقلقيش، هرجع كل حاجة".
ردت عليه بغضب قائلة:
"ما قولتلك سيبها عليا، أنا هشوف حد يعمل اللى قولتلك عليه".
نظرة خائبة اجتاحت عينيه وهو يحرك رأسه بسرعة، تاركاً الانطباع بأن الأمر أكبر مما يبدو، ثم أضاف بتحذير:
"قولتلك لا، يا ماما، أنا اللى هنفذ، إياكي تعملي حاجة من ورايا يا ماما".
كان صوتها يتحدث بمرارة، تعبر عن استيائها الذي تجلى من خلال كل كلمة:
"شكلك مش هتتصرف، وكله هيروح من تحت أيدينا. كل اللى عندها ده بفضل أبوك، هو اللى مسك الشركة، تعب فيها وكبرها لحد ما وصلت لللى هى فيه، وفى الآخر عايزة تاخد كل حاجة على الجاهز وتروح تديها لزفت ده، على جثتي!".
نهض بغضب، معلناً بجرأة:
"أوعدك مش هيحصل. الشركة والفلوس هتبقى بتاعتنا، وبعد كده هاخد منها اللى عايزه، و هرميها لكلاب السكك يتسلوا بيها".
نظرت بفخر إلى ابنها، وبتفاؤل أكدت:
"وأنا واثقة أن ابني راجل، وقد كلمته، قوم يلا يا حبيبي علشان تفطر".
أنهت كلامها وخرجت من الغرفة، تاركةً إياه في ضياع أفكاره وتشتت ذهنه. نظر إلى المكان الذي خرجت منه، وتفجر الغضب من صدره كبركان يستعد للثوران:
"أنا منتظر اللحظة اللى هتبقى تحت إيدي، وساعتها بس هعرفها مين يزيد الزويدي، وإزاي تبقى عليا واحد معقد زى".
أنهى كلامه، وهو مصمماً على تحدي كل ما سمر في عقله من شكوك، تاركاً الغرفة، وهبط إلى الأسفل، عازماً على مواجهة ما ينتظره بإرادة قوية وتصميم لا يتزعزع.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
وصلت ذات إلى المصحة مع مهران، وكانت تعاني من توتر وخوف شديد، وكأن كل مشاعر القلق والحيرة قد تجسمت في تلك اللحظة. شعرت بثقل اللحظة يطحن قلبها، فامسكت بيد مهران بشدة وتوسلت إليه بحنو:
"بلاش، علشان خاطري يا مهران. صدقني، أنا مش مستعدة دلوقتي للخطوة دي. خلينا نروح، وأنا أوعدك أن هبعد عن الطريق ده، ارجوك."
كانت تمزج بين الرجاء والخوف، وكأن الأمل في الهروب من هذه اللحظة يراودها، بينما كل شيء حولها كان يصرخ بالواقعية التي لا مهرب منها.
ربت مهران على يدها بحنان، وتكلم بنبرة هادئة، محاولاً أخذها من دائرة القلق:
"مش هينفع يا ذات. الدكتور مستني جوا، وأنا واثق إنه هيساعدك كويس قوي، وهيعالجك من التعاطي. هترجعي أحسن من الأول، بس ادينا فرصة ناخد أول خطوة، وبعد كده كل حاجة هتبقى سهلة، وأنا جنبك."
طمأنتها كلمات مهران، لكن نظراتها كانت مليئة بالتوجس، كما لو كانت تختبر قرارها في خضم عواصف داخلية.
نظرت له بحزن شديد، وهي تستشعر ثقل القرار الذي أمامها، وأومأت برأسها بالموافقة، غير أن الحيرة لا تزال ترتسم على ملامح وجهها. تحركوا معاً إلى الداخل بخطوات مرتعشة، وقلوبهم مليئة بالمشاعر المتضاربة، حتى وصلوا أمام باب مكتب الطبيب. نظر لها بحب، وكأنما يريد أن يمنحها القوة والدعم في أخطر لحظات حياتها، ثم طرق على الباب ودلفوا إلى الداخل حيث وقف الطبيب بابتسامة ودودة، قائلاً بترحيب:
"مهران باشا، نورت مكتبي يا صاحبي!"
اقترب منه مهران وصفحه بترحاب قائلاً بابتسامة عريضة، لكن في قلبه قلق يخفيه:
"دكتور شريف، واحشتني يا راجل! فينك وفين أيامك؟"
شعرت ذات بأن وجود مهران بجانبها يمنحها بعض الأمان، وكأن حضوره كان درعاً يحميها من مخاوفها.
تحدث الطبيب موضحاً:
"موجود والله، بس شغل المصحة أخد كل وقتي تقريباً. مستقر هنا، لأن الشغل ده عايز تواصل أربع وعشرين ساعة."
بينما كان الطبيب يتحدث، تقدمت ذات خطوة للأمام، محاولًا استجماع شجاعتها في مواجهة مستقبلاً غير مؤكد.
أومأ مهران برأسه بتفهم وقال:
"ربنا يقويك يا صاحبي، ويديم وقفتك جنب الناس اللي محتاجينك."
تلك الكلمات كانت تواسيه، فهو يعلم جيداً حجم التحديات التي يواجهها الطبيب في هذه المهنة النبيلة.
نظر الطبيب إلى ذات، وتكلم بتساؤل:
"هي دي الحالة اللي كلمتني عليها في التليفون؟"
وقد ارتسمت على وجهه علامات الاهتمام والاحتواء، عندما لمح تلك الفتاة الصغيرة التي تخفي عواصفها خلف عينيها.
ابتسم مهران بحب، وأومأ برأسه مؤكداً:
"أيوه، هي ذات. عايزك بقى تهتم بيها كويس قوي وتخرج السم دي من جسمها نهائي." تلك الكلمات كانت أشبه بجرعة من الأمل، حاولت ذات أن تستشعرها بعمق.
أظهر الطبيب ترحاباً، وتحدث بنبرة هادئة:
"منورة يا آنسة ذات، تعالي، اتفضلي اقعدي." كان صوته يملك نبرة تعكس الاحتواء والثقة، مما ساعد في تخفيف حدة خوفها.
اقتربت منهم بخطوات مترددة، وابتسمت له بتوتر، قائلة بصوت مرتبك:
"ش ش شكراً، أ أ أنا عايزة أعرف ا ا المفروض يحصل إيه دلوقتي؟"
كانت كلماتها تفيض بالقلق، ومن ورائها رغبة ملحة في إيجاد الطريق الصحيح للشفاء. اقتربت من عتبة الأمل، لكنها كانت لا تزال تشعر بالخوف من المجهول القادم.
أجابها الطبيب بنبرة هادئة، موضحاً:
"ولا حاجة، هنبدأ في الأول بتخديرك علشان مش هتستحملي أعراض الانسحاب الأولية. وبعد كده، لما تقل النسبة في الدم ونتأكد إنك هتقدري تستحملي الأعراض، هنسيبك فايقة وتكملي باقي رحلة العلاج. وده يعتمد على شطارتك وقوة تحملك. كل ما كانت إرادتك قوية، كل ما ساعدينا نخلص العلاج بدري."
نظرت إلى مهران بضعف، وسألته:
"هتفضل جنبي؟"
صوتها كان مليئاً بالقلق، كما لو أن وجوده كان الأمل الوحيد في قاع ظلمات مخاوفها. كان عجزها عن تخيل اللحظة القادمة يتسلل إلى قلبها، واحتياجها له كجسر لعبور هذه الرحلة المؤلمة أصبح طاغياً.
تحدث الطبيب سريعاً موضحاً:
"لا طبعاً، ممنوع وجوده هنا. أي زيارة ليكي ممنوعة في الأول، بعد كده هيبقى مسموح ليه إنه يزورك. ومش بس كده، لازم تركزي على نفسك في الفترة دي، عشان تتجاوبي مع العلاج بشكل كويس. حان الوقت دلوقتي تكوني بطلة قصتك!"
ظل نظرها معلقاً على مهران، وهي تقول بتوسل:
"خليك جنبي، بترجاك يا مهران، أنا خايفة."
كانت الكلمة الأخير في جملتها تحمل كل وزن الكون، مما جعل قلبه يتألم. عرفت في تلك اللحظة أنها تحملت عواقب الخيارات السيئة، لكنها كانت بحاجة إلى أن تتعامل مع تلك المعركة في سلام.
نظر مهران إلى الطبيب، وقال بنبرة هادئة: "شريف، سيبنا لوحدينا شوية."
كان صوته يخرج من قلبه، مفعمًا بالحب والحنان. أراد أن يحميها من أي شيء قد يؤذيها، حتى لو كان هذا يعني مغادرة الآخر. كان كل ما يرغب فيه هو أن تدرك أنها ليست وحدها في هذا العالم.
أومأ الطبيب برأسه موافقاً، وتحرك إلى الخارج تاركاً إياهما في الغرفة. كانت الغرفة صغيرة لكنها مريحة، وكل شيء فيها كان يلعب دوره في خلق جو من الأمان حتى لو كان مؤقتاً. دقات قلبها كانت أعلى من أي وقت مضى، لكن وجود مهران كان يخفف بعض آلامها.
اقترب مهران من ذات، وأمسك بوجهها بين يديه، ونظر في عينيها قائلاً بنبرة مملوءة بالصدق:
"ذات، أنا متأكد إنك قوية وقدها. شخصيتك اللي أنا شايفها من أول لحظة اتقابلنا فيها، قوية وهتقدري تتخطي الصعب كله. أنا جنبك وهفضل جنبك، ومش هسمح لأي حد يأذيكي. هفضل هنا وقت ما تحتاجيني، هتلاقيني قدامك على طول، بس أوعديني إنك هتساعدينا وإنك هتتعالجي بسرعة وترجعي أحسن من الأول."
أومأت رأسها بالطاعة، وسمحت لدموعها بأن تنهمر، وتكلمت بصوت ضعيف:
"أنا نفسي أخف وأرجع احسن من الأول. نفسي أكون زي أي بنت طبيعية في سني، بس خايفة أوى. خايفة مقدرش أستحمل اللي هيحصلي، خايفة أتوجع أوى يا مهران."
الشجاعة كانت داخلها، لكن الخوف كان يتغلغل في أعماق روحها، مما جعله أمرًا مبينًا أنها تحتاج إلى دعم، والآن، أكثر من أي وقت مضى، كانت تحتاج إلى الأمل.
مسح مهران عبراتها بأنامله برفق، ومال إليها بحنو، حيث قبّل وجنتها برقة وكأنما يحاول تخفيف ثقل العالم من على كاهلها، ثم تحدث بصوت هامس بجوار أذنيها، مفعمًا بالكلمات الدافئة:
"مش ذات الزويدي اللي تخاف. إنتي أقوى من كده، أقوى مما تتخيلي، وأنا متأكد إنك هترجعي أحسن من الأول. وساعتها بس هنقدر أنا وإنتي نوقف في وش أي حد عايز ياخد منك حاجة مش بتاعته، يلا بقى وريني الضحكة الحلوة، فين ذات الشقيه؟ أنا كده هزعل أوي."
أنهى كلامه بغمز كمداعبة، وكأنما يفتح باب الأمل في قلبها المرهق. كانت لحظات من التواصل الوجداني تعكس عمق العلاقة بينهما، وكأن العالم من حولهم قد توقف للحظة، تاركًا لهم جزءًا من السكون ليتشاركوا فيه أحلامهم المعلقة.
ابتسمت له بحب خالص، عكست ابتسامتها كل مشاعر الأمل والحب التي كانت تتوق لشعورها تجاهه، وارتمت في أحضانه بشغف، وتمسكت به لتستمد منه قوتها ودفء حضنه الذي كان ملاذًا لها. تعالت دقات قلبها وكادت أن تخرج من صدريها، شعرت بأنه يشكل لها أمانها وملاذها، وأنه يمثل الضوء في نفقها المظلم.
أحس مهران بسكونها داخل أحضانه، فضمها أكثر، وربت عليها بحنان كالأم التي تواسي طفلها، وتحدث بنبرة هادئة لكن حاسمة:
"أنا لو عليا كنت سيبتك كده على طول، لكن للأسف لازم نبدأ العلاج من دلوقتي."
لهذا، أطلق هتافًا للطبيب، وبالفعل أتى الطبيب ومعه الممرضون، الذين كانوا يحملون العديد من الأدوات الطبية التي تمثل بداية جديدة. نظرت ذات إلى الأعلى بعينيها المملوءتين بالدموع، وامتلأت عيناها بالأمل المختلط بالخوف. استقبلها مهران بابتسامة حنونة، مقبلاً رأسها مودعاً إياها، كأنه يشحنها بجرعة إضافية من الحب والثقة، بينما أخذها الممرضون وتحركوا بها إلى الخارج. كلما ابتعدت عنه، شعر بروحه تنتزع من جسده، وكأنما فقد جزءًا من كيانه. ظلت معلقه نظرها عليه حتى اختفى من أمام عينيها، وكأنما ترغب في ترك بصمة على ذاكرته قبل أن يبتعد.
نظر مهران إلى الطبيب، وقال برجاء بوضوح:
"خلي بالك منها يا شريف، حاول متخليهاش تحس بوجع."
جلس الطبيب على مقعده، ونظر إلى مهران بنظرات ذات معنى، قائلاً بمرح، محاولًا تخفيف التوتر:
"هو إيه الموضوع؟ مهران باشا، طب ومحدش سمي عليه ولا إيه؟"
جلس مهران على المقعد المقابل له، وقال بنبرة هادئة لكن تحمل عمق مشاعر صادقة:
"إنت عارفني يا صاحبي. مليش في السكة دي. بس كل الموضوع إن البنت صعبانة عليا، ظروفها صعبة، وعيونها على طول بتستغيث بيا."
تعالت ضحكات شريف، وتحدث بصعوبة بسبب شدة الضحك:
"هتفضل انت زي ما انت. عمرك ما هتتغير. أتنازل مرة واحدة في حياتك واعترف بمشاعرك اللي واضحة في عيونك يا ابني. بصراحة، واضح أوي إنك واقع على بوزك في البت. عموماً، متقلقش عليها، هي هنا في أمان، ومش هتحس بأي وجع، لأنها هتكون متخدرة أربع وعشرين ساعة."
رد عليه مهران بعدم فهم واضح:
"طيب وهتاكل إزاي وهي هتكون متخدرة على طول؟!"
ابتسم له شريف، وأجابه بنفاذ صبر: "هنعوضها بالمحلول على طول. وأتفضل بقى خليني أبدأ شغلي معاها."
أومأ مهران برأسه موافقاً، وقال برجاء واضح في عينيه:
"شريف، رجاء شخصي، خلي بالك منها، ولو احتاجت أي حاجة، اتصل بيا، هتلاقيني عندكم على طول. أنا عارف إن الظروف صعبة، بس هي محتاجة الدعم، أنا عايز أشوف الابتسامة ترجع لوشها."
نهض مهران من مقعده، دافعا إياه بمزاح، قائلاً بنفاذ صبر:
"ما كفاية بقى يا عم النحنوح ده! إيه فقع المرارة ده، وكل ده وتقول إنها صعبانة عليك، مش أكتر؟ اقطع دراعي من لغلوغه أن الموضوع ده هيبقى فيه بيبي في الآخر."
ابتسم مهران على كلمات صديقه، وتوجّه إلى الخارج، مغادراً المكان بقلب موجوع على فراق تفاصيل كانت تعني له الكثير. الفراق والقلق كانا موجودين لكن الأمل كان ساطع في الأفق.
««««««««««««»»»»»»»»
"الفصل الثامن"
فى صباح اليوم التالى، استيقظت ذات وهى تشعر بألم شديد برأسها، كالمعتاد من الليالي التي باتت تعاني فيها من التفكير العميق والقلق الذي يزاحم أفكارها. كانت تشعر وكأن مخها يموج بجزر من الطاقة السلبية، مما جعلها تشعر وكأنها تستيقظ فى دائرة لا نهائية من الآلام. اعتدلت على فراشها، مضغوطةً برأسها بيدها، عسى أن يخف الألم قليلاً، لكن دون جدوى. زفرت بضيق، ثم نهضت بصعوبة وكأن جسدها يقاوم كل حركة. اتجهت إلى المرحاض، حيث كانت تحاول البحث عن بعض السلام لحظات تنفيس الألم. نزعت ملابسها و ألقتها على الأرض بلا مبالاة، وجلست داخل حوض الاستحمام، محاطةً برائحة الصابون المنعشه، محاولةً تهدئة عضلاتها المشدودة والتي كانت تجيب عن ضغوط داخلها. أرغمت رأسها على الرجوع للخلف، تتذكر أحداث الأمس، لكن ذلك لم يفعل سوى إرباك أفكارها، حيث أعادت حالة الارتباك والضغط والانفعالات التي كانت تعيشها. وفى تلك الأثناء، سمعت صوت مهران بالخارج، صوت صارم مكون من عدة نبرات جعل قلبها ينبض بشكل أسرع. استقامت سريعًا، ارتدت برنس الاستحمام، الذي كان يضرب على جسدها بشكل فضفاض، وخرجت إليه وكأنها تخفي مشاعرها خلف قناع من الثقة، قائلةً بعدم اهتمام:
"صباح الخير يا مهران باشا، أوضي منورة بوجودك فيها".
رفع أحد حاجبيها ألى الأعلى باستنكار، وتكلم بعدم فهم:
"ده أيه الموف اون السريع ده!! مش لسه من كام ساعة كنتي بتع..."
تدخلت سريعا، مقاطعةً إياه بكبرياء، تلك الكبر الذي يحمى قلبها الضعيف:
"مش ذات الزويدي اللى تضعف، ممكن بس الشرب خلي مشاعري تضعف شويه، بس انا لسه زي ما انا".
شعرت بقلق مهران تجاه وضعها، ولكنها كانت مصممة على عدم إظهار أي ضعف. جلست على الأريكة، وضعت قدمها فوق الأخرى مما كشف ساقيها بشكل مبالغ فيه، كأنها تحاول استعادة السيطرة على توازنها. نظر مهران إلى جسدها، وازدرد ريقه بصعوبة، والكلمات خرجت متقطعة:
"ا ا انا ك ك كنت جاى اقولك ا ا ان حضرت الفطار علشان نلحق نروح المصحه".
ابتسمت بتكبر، مستمتعةً بتلك اللحظة التي تملك فيها زمام الأمر، وقالت بصوت هادئ متعمده أنه يتسلل إلى أعماقه:
"بس أنا قولتلك مش هروح، دى حياتي أنا، وانا حره فيها".
ثم نهضت من الأريكة واقتربت منه حتى التصقت به، وهمست بصوت أوشك على أن يكون مغويًا:
"لو بتعمل كده علشان عايز تبعدني عنك، يبقى مافيش مشكلة، انا ممكن اشوف شقة تانية بعيد عن هنا واستغنى عن خدماتك ويبقى كده حليت ليك مشكلتك معايا".
كانت تحدق في عينيه، وكأنها تتحدى إرادته، تلعب بالنار وهي تدرك تمامًا المخاطر التي قد تنجم عن تلك الأفعال.
أحاط مهران خصرها بذراعيه، ناظراً في عينيها بحماس مضطرب، بينما كان صوته يحمل قوة مكتومة، تثور بداخلها مشاعر مختلطة من الرعب والشغف:
"لو انتي بترجعي في كلامك عادي، أنا بقى الكلمة اللى بقولها مبرجعش فيها نهائي، والمشوار اللى ببدأ فيه بكمل اللى بدأته غصب عن الكل".
ثم انسلخت شفتيه نحوها في قبلة ساحقة، كأنه يحاول بأكثر مما ينبغي أن يهدئ تلك النار التي أشعلتها بطلتها الجريئة. كان فعل القُبلة شغفًا، مزيجًا من القوة والحنان وكأنه يهدد بفقدان السيطرة على نفسه في تلك اللحظة الفريدة.
اتسعت عينا ذات بصدمه، وكأنها لم تتوقع تلك القفزة الجريئة من مهران، محاولةً الدفع به بعيداً، لكنها لم تقوَ على ذلك، ففارق القوة بينهما أكبر بكثير مما تخيلت. رغم دقات قلبها التى أعلنت عن شغف غير معهود، إلا أنها تمسكت أيضًا بالغضب الذي توجّه نحو تصرفاته. بدأت يد مهران تُظهر جرأة غير معتادة على جسدها، ملامسةً بطريقة تثير القلق وتثير شجاعتها في نفس الوقت، مما دفعها للكُزة نحو بطنه كما لو كانت تحاول أن تعيد الأمور إلى نصابها.
ابتعد مهران عنها بأنفاس متلاحقة، وعلامات الصدمة تعلو وجهه كأنه استفاق من حلم مفزع دون أن يدرك تمامًا لماذا تصرف بتلك الطريقة. ابتلع ريقه بصعوبة، وأرجع يده على رأسه بندم صارخ، قائلاً:
"ذ ذ ذات أنا آسف، م م مش عارف أنا إزاي عملت كده. حاولت كتير أتحكم في نفسي، لكن غصب عني انفلتت مني زمام الأمور لما شفت منظرك بالشكل المهلك ده. حاولي تساعديني، يا ذات، بلااااش المنظر ده، أنا راجل، وربى يعلم أنا بجاهد نفسي إزاي علشان متهورش وبالذات بعد كلامك الجرئ وحركاتك الجرئية اللى بتزود معاناتي في الصراع الداخلي بين رغبتي فيكي وبين أخلاقي وديني".
نظرت له بغضب شديد، وكأن قلبها قد انفجر، وقالت:
"انت قليل الأدب ووقح. للأسف طلعت زيك زي أي راجل، شهواني ومعندكش مبدأ. اطلع برة لو سمحت".
كان صوتها له صدى مفعم بالاستياء، يعبر عن خيبة أملها في ما اعتقدت أنه شخصية مختلفة، وفي تلك اللحظة، أدركت أن الانجذاب قد يصاحبه الكثير من الفوضى، وهو ما لم تكن مستعدة لاستقباله.
تكلم هو بضيق، محاولاً تفسير مشاعره:
"لا يا ذات، أنا مش شهوانى وزى ما قولتلك، ربنا يعلم أنا بجاهد نفسي إزاي، علشان مندفعش زى دلوقتى. بس انتي اللى بتوصليني لكده، مهما كان، أنا ررراجل. مش محتاجة توضيح يا ذات، قبل ما تزعلي من ردة فعلي، شوفي نفسك الأول. فيه واحدة تخرج بمنظرها ده ومع راجل غريب في شقة لوحدهم، فيه واحدة كل شوية تقرب بالشكل المبالغ فيه ده، وحركات إيديها اللى بتعرف طريقها بحركاتها المثيره. راجل تانى كان يستغل أفعالك دى من زمان وعمل معاك كل حاجة وقت ما بتبقى سكرانة ومش حاسة بنفسك. اللى فى الوقت ده بيزيدك جرأة وآثارة، بس أنا بجاهد نفسي علشان ما أنجرفش وراه كلام شيطاني. أنا مش بدافع عن نفسي بسبب اللى حصل دلوقتي، لأن أنا فعلاً غلطان أن مقدرتش أتحكم في نفسي أكتر من كده، بس برضه انتي عليكي عامل كبير. أنا برة، البسي هدومك وتعالى علشان نفطر وننزل".
أنهى كلامه وخرج مسرعًا من أمامها، مغلقًا الباب خلفه بإحكام كأنه يحاول قفل كل مشاعر الارتباك التي تصارعت داخله. حركت ذات يدها على شفتيها، وارتسمت ابتسامة عابرة عليهما، رغم عاصفة الغضب التي كانت تهز مشاعرها. ذلك القبلة، رغم بساطتها، أعطتها دافعًا للحياة، جعلتها تشعر بنبض جديد ينبعث داخلها، كما لو كانت تلك اللحظة هي بداية لشيء أكبر. تنهدت بمشاعر متضاربة أشعلتها القبلة داخلها، وفتح القلب والأفق لها، ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها وبدأت ترتدي بسرعة، تضع في اعتبارها كيفية ترك الانطباع الصحيح.
ثوانٍ معدودة، أنهت استعداداتها، وخرجت من الغرفة لتجد مهران يجلس على مقعده أمام طاولة الطعام، وقد بدا مشغول الفكر، كأن الفوضى الداخلية لا تزال تراوده. أخذت نفساً عميقاً، وخرجت بهدوء، وتحركت باتجاهه، وجلست أمامه لتبدأ تناول الطعام بصمت. ظل مهران يتابعها بشعور من الإحراج، وأيضًا بتساؤل عن كيفية تصرفها في تلك اللحظة. تنحنح برجوليه، وتكلم بتلعثم:
"ذ ذ ذات، عايزك تنسي اللى حصل من شويه، ونرجع نتعامل مع بعض عادي زي الأول، ممكن؟".
وضعت الطعام بفمها، واكتفت بإيماءة خفيفة برأسها بالموافقة. زفر مهران بضيق، وبدأ يتناول طعامه بصمت. كانت اللحظات تمر ببطء، وكأن الوقت قد توقف بينهما، بينما يختلط الصمت بالشعور بالتوتر. بعد فترة، انتهوا وجمعوا أطباقهم، فنهض مهران من مقعده، قائلاً:
"لو شبعتى، يلا بينا علشان منتأخرش. أنا كلمة دكتور صديق ليا هناك، وهو مستنينا دلوقتي في مكتبه".
كانت نبرة صوته تحمل مزيجًا من القلق والثقة، وكأنما يحاول تهدئة مخاوفها.
استقامت بوقفتها، وتكلمت بصوت مختنق ممزوج بالقلق:
"علشان خاطري، بلاش موضوع المصحة دى يا مهران، انت كده بتسلمهم الشركة وكل حاجة زي ما هما عايزين".
كادت الكلمات أن تخرج منها كصرخة استغاثة، فقد كانت تخشى إن فقدت سيطرتها على الشركة، ستفقد جزءًا من هويتها.
حرك رأسه بالرفض، قائلاً بنبرة هادئة ولكنه حازم:
"بالعكس يا ذات، الخطوة دى مهمة جداً. صدقيني، لو فضلتي كده، كل حاجة هتخسريها، حتى نفسك. إنما لو اتعالجتي، هتقدري تحافظي على نفسك، وعلى شركتك، وعلى كل حاجة. أنا معاكي، ومش هسيبك. هبقى في ضهرك طول الوقت".
لمحت في عينيه التفاني والإخلاص، وهي تشعر بحاجة ملحة للثقة فيه.
شعرت بصدق كلامه، وأومأت برأسها بالموافقة، قائلة بنبرة ملؤها الشك:
"ماشي، أنا هثق فيك يا مهران، بس إياك تسيب إيدي في نص الطريق وتمشي".
كان هذا رغبة منها في التأكيد، وفي الوقت ذاته، كان كشفًا عن مخاوفها العميقة.
ابتسم على كلماتها، وقال بثقة مفعمة بالإيجابية:
"مش مهران الشرنوبي اللى يخلى بوعده وينسحب. يلا نمشي".
هذا الوعد كان بالنسبة لها كالسند الذي تحتاجه لتجاوز الصعوبات.
ظلت تنظر إليه بإعجاب، فابتسامته أضافت لها بريقًا خاصًا، كأنه يضيء طريقها المظلم. دربها المجروح بدأ يتلاشى تحت سحر تلك اللحظة، وشعرت بتوترها المتزايد فجأة، فتنحنحت قليلًا وحركت نفسها بسرعة على سبيل الخروج من أمامه. عندما هبطوا إلى الأسفل، صعدوا إلى السيارة حيث أمر السائق والحرس بالبقاء في مكانهم. انطلق هو وهي بمفردهم، في عالم خاص بعيد عن كل شيء. كان ذلك كأنه بداية جديدة، حيث تحمل المجهول بين طياته الأمل والتحديات التي ستقويهما معًا.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس يزيد على التخت، غارقاً في أفكاره، يتأمل كيف يمكنه استرجاع ذاته المفقودة، فهو لا يستطيع تحمل فقدان ملايين من الجهد والتعب بهذه السهولة. فجأة، انتبه لصوت والدته وهي تتحدث باندهاش:
"فيه أيه يا ابنى، بتفكر فى ايه وسرحان كده؟".
شعور التوتر اجتاحه، فتَحَرك بعصبية في مكانه، وأجاب بتلعثم:
"ها م م مافيش، كنتى عايزه حاجه؟".
جلست بجواره، مملوءة بكراهيتها وغضبها، وسألت بحدة:
"عملت ايه في اللى قولته ليك عن مقصوفة الرقبة دي؟".
اعتدل في جلسته، والمشاعر الغاضبة تتأجج داخله مثل بركان قارب على الانفجار. تجاذبت ذكرياته معه، وتذكّر كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد الأليم. أجاب بصوت مرتفع، مفعماً بالإحباط:
"دي بت فج**، كلمتها و قالتلي إنها فعلاً في حضنه. أنا مش هسيبها، متقلقيش، هرجع كل حاجة".
ردت عليه بغضب قائلة:
"ما قولتلك سيبها عليا، أنا هشوف حد يعمل اللى قولتلك عليه".
نظرة خائبة اجتاحت عينيه وهو يحرك رأسه بسرعة، تاركاً الانطباع بأن الأمر أكبر مما يبدو، ثم أضاف بتحذير:
"قولتلك لا، يا ماما، أنا اللى هنفذ، إياكي تعملي حاجة من ورايا يا ماما".
كان صوتها يتحدث بمرارة، تعبر عن استيائها الذي تجلى من خلال كل كلمة:
"شكلك مش هتتصرف، وكله هيروح من تحت أيدينا. كل اللى عندها ده بفضل أبوك، هو اللى مسك الشركة، تعب فيها وكبرها لحد ما وصلت لللى هى فيه، وفى الآخر عايزة تاخد كل حاجة على الجاهز وتروح تديها لزفت ده، على جثتي!".
نهض بغضب، معلناً بجرأة:
"أوعدك مش هيحصل. الشركة والفلوس هتبقى بتاعتنا، وبعد كده هاخد منها اللى عايزه، و هرميها لكلاب السكك يتسلوا بيها".
نظرت بفخر إلى ابنها، وبتفاؤل أكدت:
"وأنا واثقة أن ابني راجل، وقد كلمته، قوم يلا يا حبيبي علشان تفطر".
أنهت كلامها وخرجت من الغرفة، تاركةً إياه في ضياع أفكاره وتشتت ذهنه. نظر إلى المكان الذي خرجت منه، وتفجر الغضب من صدره كبركان يستعد للثوران:
"أنا منتظر اللحظة اللى هتبقى تحت إيدي، وساعتها بس هعرفها مين يزيد الزويدي، وإزاي تبقى عليا واحد معقد زى".
أنهى كلامه، وهو مصمماً على تحدي كل ما سمر في عقله من شكوك، تاركاً الغرفة، وهبط إلى الأسفل، عازماً على مواجهة ما ينتظره بإرادة قوية وتصميم لا يتزعزع.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
وصلت ذات إلى المصحة مع مهران، وكانت تعاني من توتر وخوف شديد، وكأن كل مشاعر القلق والحيرة قد تجسمت في تلك اللحظة. شعرت بثقل اللحظة يطحن قلبها، فامسكت بيد مهران بشدة وتوسلت إليه بحنو:
"بلاش، علشان خاطري يا مهران. صدقني، أنا مش مستعدة دلوقتي للخطوة دي. خلينا نروح، وأنا أوعدك أن هبعد عن الطريق ده، ارجوك."
كانت تمزج بين الرجاء والخوف، وكأن الأمل في الهروب من هذه اللحظة يراودها، بينما كل شيء حولها كان يصرخ بالواقعية التي لا مهرب منها.
ربت مهران على يدها بحنان، وتكلم بنبرة هادئة، محاولاً أخذها من دائرة القلق:
"مش هينفع يا ذات. الدكتور مستني جوا، وأنا واثق إنه هيساعدك كويس قوي، وهيعالجك من التعاطي. هترجعي أحسن من الأول، بس ادينا فرصة ناخد أول خطوة، وبعد كده كل حاجة هتبقى سهلة، وأنا جنبك."
طمأنتها كلمات مهران، لكن نظراتها كانت مليئة بالتوجس، كما لو كانت تختبر قرارها في خضم عواصف داخلية.
نظرت له بحزن شديد، وهي تستشعر ثقل القرار الذي أمامها، وأومأت برأسها بالموافقة، غير أن الحيرة لا تزال ترتسم على ملامح وجهها. تحركوا معاً إلى الداخل بخطوات مرتعشة، وقلوبهم مليئة بالمشاعر المتضاربة، حتى وصلوا أمام باب مكتب الطبيب. نظر لها بحب، وكأنما يريد أن يمنحها القوة والدعم في أخطر لحظات حياتها، ثم طرق على الباب ودلفوا إلى الداخل حيث وقف الطبيب بابتسامة ودودة، قائلاً بترحيب:
"مهران باشا، نورت مكتبي يا صاحبي!"
اقترب منه مهران وصفحه بترحاب قائلاً بابتسامة عريضة، لكن في قلبه قلق يخفيه:
"دكتور شريف، واحشتني يا راجل! فينك وفين أيامك؟"
شعرت ذات بأن وجود مهران بجانبها يمنحها بعض الأمان، وكأن حضوره كان درعاً يحميها من مخاوفها.
تحدث الطبيب موضحاً:
"موجود والله، بس شغل المصحة أخد كل وقتي تقريباً. مستقر هنا، لأن الشغل ده عايز تواصل أربع وعشرين ساعة."
بينما كان الطبيب يتحدث، تقدمت ذات خطوة للأمام، محاولًا استجماع شجاعتها في مواجهة مستقبلاً غير مؤكد.
أومأ مهران برأسه بتفهم وقال:
"ربنا يقويك يا صاحبي، ويديم وقفتك جنب الناس اللي محتاجينك."
تلك الكلمات كانت تواسيه، فهو يعلم جيداً حجم التحديات التي يواجهها الطبيب في هذه المهنة النبيلة.
نظر الطبيب إلى ذات، وتكلم بتساؤل:
"هي دي الحالة اللي كلمتني عليها في التليفون؟"
وقد ارتسمت على وجهه علامات الاهتمام والاحتواء، عندما لمح تلك الفتاة الصغيرة التي تخفي عواصفها خلف عينيها.
ابتسم مهران بحب، وأومأ برأسه مؤكداً:
"أيوه، هي ذات. عايزك بقى تهتم بيها كويس قوي وتخرج السم دي من جسمها نهائي." تلك الكلمات كانت أشبه بجرعة من الأمل، حاولت ذات أن تستشعرها بعمق.
أظهر الطبيب ترحاباً، وتحدث بنبرة هادئة:
"منورة يا آنسة ذات، تعالي، اتفضلي اقعدي." كان صوته يملك نبرة تعكس الاحتواء والثقة، مما ساعد في تخفيف حدة خوفها.
اقتربت منهم بخطوات مترددة، وابتسمت له بتوتر، قائلة بصوت مرتبك:
"ش ش شكراً، أ أ أنا عايزة أعرف ا ا المفروض يحصل إيه دلوقتي؟"
كانت كلماتها تفيض بالقلق، ومن ورائها رغبة ملحة في إيجاد الطريق الصحيح للشفاء. اقتربت من عتبة الأمل، لكنها كانت لا تزال تشعر بالخوف من المجهول القادم.
أجابها الطبيب بنبرة هادئة، موضحاً:
"ولا حاجة، هنبدأ في الأول بتخديرك علشان مش هتستحملي أعراض الانسحاب الأولية. وبعد كده، لما تقل النسبة في الدم ونتأكد إنك هتقدري تستحملي الأعراض، هنسيبك فايقة وتكملي باقي رحلة العلاج. وده يعتمد على شطارتك وقوة تحملك. كل ما كانت إرادتك قوية، كل ما ساعدينا نخلص العلاج بدري."
نظرت إلى مهران بضعف، وسألته:
"هتفضل جنبي؟"
صوتها كان مليئاً بالقلق، كما لو أن وجوده كان الأمل الوحيد في قاع ظلمات مخاوفها. كان عجزها عن تخيل اللحظة القادمة يتسلل إلى قلبها، واحتياجها له كجسر لعبور هذه الرحلة المؤلمة أصبح طاغياً.
تحدث الطبيب سريعاً موضحاً:
"لا طبعاً، ممنوع وجوده هنا. أي زيارة ليكي ممنوعة في الأول، بعد كده هيبقى مسموح ليه إنه يزورك. ومش بس كده، لازم تركزي على نفسك في الفترة دي، عشان تتجاوبي مع العلاج بشكل كويس. حان الوقت دلوقتي تكوني بطلة قصتك!"
ظل نظرها معلقاً على مهران، وهي تقول بتوسل:
"خليك جنبي، بترجاك يا مهران، أنا خايفة."
كانت الكلمة الأخير في جملتها تحمل كل وزن الكون، مما جعل قلبه يتألم. عرفت في تلك اللحظة أنها تحملت عواقب الخيارات السيئة، لكنها كانت بحاجة إلى أن تتعامل مع تلك المعركة في سلام.
نظر مهران إلى الطبيب، وقال بنبرة هادئة: "شريف، سيبنا لوحدينا شوية."
كان صوته يخرج من قلبه، مفعمًا بالحب والحنان. أراد أن يحميها من أي شيء قد يؤذيها، حتى لو كان هذا يعني مغادرة الآخر. كان كل ما يرغب فيه هو أن تدرك أنها ليست وحدها في هذا العالم.
أومأ الطبيب برأسه موافقاً، وتحرك إلى الخارج تاركاً إياهما في الغرفة. كانت الغرفة صغيرة لكنها مريحة، وكل شيء فيها كان يلعب دوره في خلق جو من الأمان حتى لو كان مؤقتاً. دقات قلبها كانت أعلى من أي وقت مضى، لكن وجود مهران كان يخفف بعض آلامها.
اقترب مهران من ذات، وأمسك بوجهها بين يديه، ونظر في عينيها قائلاً بنبرة مملوءة بالصدق:
"ذات، أنا متأكد إنك قوية وقدها. شخصيتك اللي أنا شايفها من أول لحظة اتقابلنا فيها، قوية وهتقدري تتخطي الصعب كله. أنا جنبك وهفضل جنبك، ومش هسمح لأي حد يأذيكي. هفضل هنا وقت ما تحتاجيني، هتلاقيني قدامك على طول، بس أوعديني إنك هتساعدينا وإنك هتتعالجي بسرعة وترجعي أحسن من الأول."
أومأت رأسها بالطاعة، وسمحت لدموعها بأن تنهمر، وتكلمت بصوت ضعيف:
"أنا نفسي أخف وأرجع احسن من الأول. نفسي أكون زي أي بنت طبيعية في سني، بس خايفة أوى. خايفة مقدرش أستحمل اللي هيحصلي، خايفة أتوجع أوى يا مهران."
الشجاعة كانت داخلها، لكن الخوف كان يتغلغل في أعماق روحها، مما جعله أمرًا مبينًا أنها تحتاج إلى دعم، والآن، أكثر من أي وقت مضى، كانت تحتاج إلى الأمل.
مسح مهران عبراتها بأنامله برفق، ومال إليها بحنو، حيث قبّل وجنتها برقة وكأنما يحاول تخفيف ثقل العالم من على كاهلها، ثم تحدث بصوت هامس بجوار أذنيها، مفعمًا بالكلمات الدافئة:
"مش ذات الزويدي اللي تخاف. إنتي أقوى من كده، أقوى مما تتخيلي، وأنا متأكد إنك هترجعي أحسن من الأول. وساعتها بس هنقدر أنا وإنتي نوقف في وش أي حد عايز ياخد منك حاجة مش بتاعته، يلا بقى وريني الضحكة الحلوة، فين ذات الشقيه؟ أنا كده هزعل أوي."
أنهى كلامه بغمز كمداعبة، وكأنما يفتح باب الأمل في قلبها المرهق. كانت لحظات من التواصل الوجداني تعكس عمق العلاقة بينهما، وكأن العالم من حولهم قد توقف للحظة، تاركًا لهم جزءًا من السكون ليتشاركوا فيه أحلامهم المعلقة.
ابتسمت له بحب خالص، عكست ابتسامتها كل مشاعر الأمل والحب التي كانت تتوق لشعورها تجاهه، وارتمت في أحضانه بشغف، وتمسكت به لتستمد منه قوتها ودفء حضنه الذي كان ملاذًا لها. تعالت دقات قلبها وكادت أن تخرج من صدريها، شعرت بأنه يشكل لها أمانها وملاذها، وأنه يمثل الضوء في نفقها المظلم.
أحس مهران بسكونها داخل أحضانه، فضمها أكثر، وربت عليها بحنان كالأم التي تواسي طفلها، وتحدث بنبرة هادئة لكن حاسمة:
"أنا لو عليا كنت سيبتك كده على طول، لكن للأسف لازم نبدأ العلاج من دلوقتي."
لهذا، أطلق هتافًا للطبيب، وبالفعل أتى الطبيب ومعه الممرضون، الذين كانوا يحملون العديد من الأدوات الطبية التي تمثل بداية جديدة. نظرت ذات إلى الأعلى بعينيها المملوءتين بالدموع، وامتلأت عيناها بالأمل المختلط بالخوف. استقبلها مهران بابتسامة حنونة، مقبلاً رأسها مودعاً إياها، كأنه يشحنها بجرعة إضافية من الحب والثقة، بينما أخذها الممرضون وتحركوا بها إلى الخارج. كلما ابتعدت عنه، شعر بروحه تنتزع من جسده، وكأنما فقد جزءًا من كيانه. ظلت معلقه نظرها عليه حتى اختفى من أمام عينيها، وكأنما ترغب في ترك بصمة على ذاكرته قبل أن يبتعد.
نظر مهران إلى الطبيب، وقال برجاء بوضوح:
"خلي بالك منها يا شريف، حاول متخليهاش تحس بوجع."
جلس الطبيب على مقعده، ونظر إلى مهران بنظرات ذات معنى، قائلاً بمرح، محاولًا تخفيف التوتر:
"هو إيه الموضوع؟ مهران باشا، طب ومحدش سمي عليه ولا إيه؟"
جلس مهران على المقعد المقابل له، وقال بنبرة هادئة لكن تحمل عمق مشاعر صادقة:
"إنت عارفني يا صاحبي. مليش في السكة دي. بس كل الموضوع إن البنت صعبانة عليا، ظروفها صعبة، وعيونها على طول بتستغيث بيا."
تعالت ضحكات شريف، وتحدث بصعوبة بسبب شدة الضحك:
"هتفضل انت زي ما انت. عمرك ما هتتغير. أتنازل مرة واحدة في حياتك واعترف بمشاعرك اللي واضحة في عيونك يا ابني. بصراحة، واضح أوي إنك واقع على بوزك في البت. عموماً، متقلقش عليها، هي هنا في أمان، ومش هتحس بأي وجع، لأنها هتكون متخدرة أربع وعشرين ساعة."
رد عليه مهران بعدم فهم واضح:
"طيب وهتاكل إزاي وهي هتكون متخدرة على طول؟!"
ابتسم له شريف، وأجابه بنفاذ صبر: "هنعوضها بالمحلول على طول. وأتفضل بقى خليني أبدأ شغلي معاها."
أومأ مهران برأسه موافقاً، وقال برجاء واضح في عينيه:
"شريف، رجاء شخصي، خلي بالك منها، ولو احتاجت أي حاجة، اتصل بيا، هتلاقيني عندكم على طول. أنا عارف إن الظروف صعبة، بس هي محتاجة الدعم، أنا عايز أشوف الابتسامة ترجع لوشها."
نهض مهران من مقعده، دافعا إياه بمزاح، قائلاً بنفاذ صبر:
"ما كفاية بقى يا عم النحنوح ده! إيه فقع المرارة ده، وكل ده وتقول إنها صعبانة عليك، مش أكتر؟ اقطع دراعي من لغلوغه أن الموضوع ده هيبقى فيه بيبي في الآخر."
ابتسم مهران على كلمات صديقه، وتوجّه إلى الخارج، مغادراً المكان بقلب موجوع على فراق تفاصيل كانت تعني له الكثير. الفراق والقلق كانا موجودين لكن الأمل كان ساطع في الأفق.
««««««««««««»»»»»»»»
