رواية متاهتنا الفصل الخامس 5
الفصل الخامس: فنجان للرجل المناسب!
أمضى ألكسندروس ليلته تلك في شقة له بأثينا، و في الصباح التالي جهز نفسه بعناية، و اتجه بطائرته إلى بيت إحدى قريبات أمه في قبرص، و زف لها خبر عزمه على الزواج، مقررا أن تكون هي الشخصية المبجلة التي ستطلب له يد عروسه، إذ يحرص اليونانيون على السير في الزواج وفق ما تقتضيه التقاليد المأثورة.
1
كانت كونستانس أوناسيس عجوزا طاعنة في السن، لكن سنواتها التسعين لم تحد من جمالها الذي ظل يطل من بين التجاعيد، و ميزها عن الكل زيها الكلاسيكي الأرجواني المتوج بقبعة عريضة الحواف، كما رافق ألكسندروس صديقُه الجراح نيكولا ستافروس.
4
ارتدت أندريا ثوبا زهريا طويلا ناعما، فبدت كقرنفلة زهرية نابضة بالجمال و الحياة، تركت شعرها الداكن يتدلى من فوق كتفيها بحرية، و اكتفت برفع خصلتين منه بمشبكين رفيعين ذهبيين يلائمان المجوهرات اللازوردية التي زينت أذنيها و جيدها.
دخلت عليها أغنيس فجأة حاملة باقة كبيرة من القرنفل الزهري، خفق قلبها عند رؤيتها، كان ألكس يهديها في الصبا قرنفلة زهرية بقلب ذهبي معبرا بها عن حبه، هل يعقل أنه أرسل لها تلك الباقة؟ هل لا يزال يذكر زهرتها المفضلة؟
5
-جاء الساعي بهذه الباقة منذ لحظات، أظن أن هناك بطاقة ترافقها.
+
خبا السرور في عيني أندريا حين وجدت البطاقة بين الزهور و فتحتها: ”إلى نجمتي الجميلة، اليوم أشعر أنك بحاجة للحب، و القرنفل الزهري يمنحه بفيض!“. طوت أندريا البطاقة حائرة، و تأملت الباقة بحزن، ليت هذه الباقة كانت مهداة من ألكسندروس! لكنها كالعادة قادمة من رجل مجهول لا تعرف عنه شيئا.
8
-أغنيس!
+
-نعم سيدتي.
+
-في المرة القادمة حين يأتي هذا الرجل الغامض إلى الفيلا أعلميني على الفور.
+
-لكنه لا يأتي أبدا سيدتي، كل باقاته و هداياه تصل مع ساعي البريد.
+
استغربت أندريا ذلك، لماذا يصر هذا الرجل على البقاء في الظل، إنه لا يتصرف كمعجب عادي بأغانيها، في العادة يرسل لها المعجبون هدايا و رسائل طويلة تطالعها أندريا بسعادة، لكن بطاقات هذا المعجب المختصرة تثير اهتمامها، و باقاته المنتقاة بعناية تحيرها، قبل يومين طلب منها أن تبتسم في وجه مشاكلها، و اليوم انتقى الزهرة التي تعبر عن الحاجة للحب، و أندريا كذلك فعلا! إنها في خضم تمثيلية الخطوبة الكاذبة بحاجة للحب... للحب الحقيقي!
10
أعلنت أغنيس أن العريس وصل، ارتبكت أندريا ناسية أمر المعجب الغامض، لتفكر بجدية في ما ينتظرها بعد قليل، دخلت أمها متفقدة شكلها النهائي، احتضنتها بفخر و خرجت مسرعة حتى لا تذرف مزيدا من الدموع و تدفعها هي الأخرى للبكاء، و ما لبثت أن اقتحمت الغرفة فيليبا ابنة نايومي و بافلوس التي كانت حتى هذا الصباح في مزرعة عمها بضواحي أثينا، غير أنها غيرت برنامجها و حضرت على جناح السرعة مقررة عدم تفويت المناسبة المستحيلة!
+
-يا إلهي! سيفقد ألكسندروس صوابه حين يراك أندريا.
+
صفرت فيليبا بانبهار، فعلقت الأخرى بقلق:
+
-ألا تبالغين؟
+
-ثقي بي، تبدين مذهلة!
+
كانت فيليبا شقراء كأمها تماما، مراهقة طائشة بلغت الثامنة عشر من عمرها مؤخرا و لا تنوي أن تكبر، تذكرت أندريا أنها كبرت في وقت مبكر جدا على عكس أختها الصغيرة، حدث ذلك اول مرة حين تخلت عنها نايومي في السادسة من عمرها، و كبرت أكثر و صقلها الألم حين تخلى عنها ألكسندروس بعد سنة، ثم شاخت أعماقها بموت والدها! فكرت في حياة أختها فيليبا الهادئة التي قضتها بين الدراسة و التجوال في كنف والدين التزما برباط الزواج، الفرق في حياتيهما كان كفرق الأرض عن السماء، حياة فيليبا ناعمة و حلوة كما يجب أن تكون حياة أية شابة في عمرها، أما هي فلم تذق سوى الخذلان و المرارة، حتى عندما رممت نايومي علاقتها بها و استعادتها عقب موت دونالد، لم تكن من ذلك النوع الذي يبرز حنان الأمومة، كانت نايومي تمنح ما تملكه من عاطفة و رعاية لفيليبا، معتقدة أن أندريا كبرت على تلك الأشياء، أو ربما أندريا هي من جعلتها تعتقد ذلك بتباعدها و قوة شخصيتها الجلية!
سوَّى بافلوس ربطة عنقه الزرقاء، و وقف إلى جانب نايومي مستقبلا الضيوف، و لم تفته النظرة الساخرة التي خصه بها ألكسندروس، فكاد يغص في ريقه و هو يرحب به كإله إغريقي نزل من السماء!
تخلصت كونستانس من قبعتها الرصينة فلمع شعرها الفضي بشدة، و مضت تجيب أسئلة نايومي الكثيرة بصدر رحب. بدا نيكولا ستافروس الجراح مسرورا بوجوده هناك، الرفقة طيبة و أثاث البيت يبعث على الراحة، همس مازحا في أذن ألكسندروس و قد لاحظ عليه مسحة من الترقب:
+
-لا بد أنها ساحرة حتى تجعلك متلهفا لرؤيتها بهذا الشكل!
+
كان ألكسندروس سيكيل لصديقه ردا مناسبا، لكنه أمسك لسانه ما إن سمع طقطقة كعب مقتربة، التفت صوب الصوت و فقد التركيز على ما حوله... ما عدا تلك المرأة التي وصلت و هي في ثوب كأنه منسوج من زهور الربيع الزاهية!
+
ابتسمت نايومي لجمال ابنتها البكر، بينما ابتعد نيكولا ليستقر على أريكة أخرى، و عيناه منبهرتان بالعروس التي تستحق أن يعشقها المرء إلى الأبد! ثم مضى يعدد الفروق الواضحة بينها و بين أمها و أختها.
+
تلقت أندريا قبلة لطيفة من ألكسندروس، و راحت تتفرس به، كم يبدو جذابا في بدلته الرمادية و قميصه الحريري الأسود، لم يكن يضع ربطة عنق، فأبرز ذلك النقص كمالا من نوع خاص في مظهره، ملاحظة جلده الأسمر المكسو بشعيرات طفيفة جعلتها تفتح فمها الجاف بحثا عن الهواء! تناول يديها و راح يمطرها بنظرات مفتونة، كم يجيد التمثيل! و كم يسهل عليه الادعاء! تقبلت منه بحزن باقة القرنفل الأبيض راسمة ابتسامة ممزقة و تمتمت بشكر خفيض مبتعدة ناحية المطبخ، هناك تمسكت بالطاولة محاولة الثبات، لقد نسي ألكسندروس زهرتها المفضلة... القرنفل الزهري!
7
اعترفت كونستانس ضمنا أن ابن قريبتها العزيز اختار عروسا مناسبة، و في المطبخ انطلق حوار ساخن حول مدى مناسبة العريس لأندريا:
+
-انسي الأمر فيليبا! إنها حركة عفا عليها الزمن.
+
-ما المانع؟ أنظري لخطيبك، جاء بقريبته و صديقه من أقاصي البلاد ليحافظ على تقليد قديم!
+
-هذا لأن والديه فارقا الحياة، و الثري الأمريكي الذي تبناه توفي مؤخرا كذلك!
+
وضعت أندريا الركوة على النار الهادئة و أضافت بعناد محركة مزيج البن و الماء:
+
-لا بد من تحقيق التوازن بين فريقي العريس و العروس، و كما ترين فيليبا، ها أنا ذي أعد القهوة التقليدية بنفسي كما تنص الأعراف!
4
لم تتخلى فيليبا عن موقفها الصبياني، و حاولت من جديد مع أختها صعبة المراس:
+
-إذن قومي بالأعراف على أكمل وجه، قليل من الملح و الفلفل في قهوة العريس يخبرنا إن كان ألكسندروس هو الرجل المناسب أم لا!
+
التفتت أندريا نحو أغنيس فلمحت على وجهها نظرة مشجعة، إنها يونانية بالطبع و تقدس تلك الممارسات بشدة، رفعت يديها مستسلمة و أسقطت بدل السكر ملعقة ملح في أحد الفناجين متسلية، حسنا، سيسرها أن تلعب على أعصاب ألكسندروس، لكنها ليست أكيدة من أنه لن يسكب الفنجان على رأسها بعد أول رشفة!
+
-إن شرب القهوة كلها فهذا يعني أنه يحبك و مستعد لتحمل كل شيء في سبيلك سيدتي!
+
قالت أغنيس ذلك و هي تضيف ملعقة أخرى من الملح، و تلتها رشة فلفل أسود كبيرة من يد فيليبا الشقية.
7
-هذا يكفي! ماذا لو أصابه مكروه؟
+
غمزت فيليبا الخادمة و علقت ضاحكة:
+
-أترين يا أغنيس؟ إنها ترتعد خوفا على حبيبها! سأسبقك عزيزتي، لا تتوتري! و لا تخلطي بين الفنجان المفخَّخ و غيره!
+
احمر وجه أندريا، و سكبت القهوة السمراء فوق ذلك الخليط بقلق! و صلَّت و هي في طريقها إلى الصالون أن تكون السماء إلى جانبها عندما تحل الكارثة مرددة: ”الفنجان الأول على اليمين... الفنجان الأول على اليمين!“.
3
حبست أنفاسها و هي تنحني فوق رأسه الجميل دافعة الصينية نحوه، فعلق بصره عند زوايا فمها المتباعدة في ابتسامة رائعة، رسمت أندريا تلك الابتسامة لتصرف انتباهه عن ملاحظة حُبيبات الفلفل السوداء التي علقت برغوة القهوة الذهبية، فنجحت في الاستئثار باهتمامه. التقط ألكسندروس الفنجان الصحيح، و سرق رشفة سريعة دون أن يبعد عينيه عنها، لاحظت أندريا اتساع عينيه الخطر و ارتفاع حاجبيه المنذر، فازدردت ريقها و انتظرت ثورانه، لكنه فاجأها بابتسامة متحاملة، شعر ألكسندروس بحلقه يحترق، و تركزت أزواج من الأنظار عليه، فأدار الفنجان جيدا محركا محتوياته، و في حركة غير متوقعة أفرغ القهوة اللاذعة في فمه و قلب الفنجان على صحنه ساخرا:
+
-يمكنكِ يا حبيبتي أن تقرئي الفنجان أيضا، أنا واثق أن رواسب البن و الملح و الفلفل ستخبركِ أنني الرجل الوحيد الذي يناسبك!
31
انفجر الجميع ضحكا، و تجمدت أندريا تحت تأثير الذهول، كيف تحمل كل تلك الكمية من الملح و الفلفل في قهوة مُرَّة؟ إنها لن تتحمل ذرة واحدة من ذلك الخليط المجنون في طعامها و لو كان شهدًا مُصفَّى! قدمت القهوة للبقية ثم أشفقت عليه لسبب تجهله، نظرت إليه فإذا به يحدق فيها بتركيز! أجلت صوتها و سألته بقلق:
+
-هل... تريد بعض الماء؟
+
ابتسم في وجهها و رد بشكل ودي خدعها:
+
-كلا عزيزتي! سيكون لطفا منك لو ترشدينني إلى الحمام.
4
-بالطبع!
+
تمايلت أمامه بثوبها الجميل عبر رواق طويل، ثم توقفت لتشير إلى باب في النهاية، توقعت أن يتجاوزها نحوه شاكرا، غير أن ألكسندروس قبض على خصرها بحركة غادرة، و جرها إلى الحمام مغلقا الباب خلفهما.
2
-أفلتني!
+
-اصمتي!
+
-ماذا تريد مني؟
+
سألت بقلق، فأجاب مزمجرا:
+
-بدوت منذ قليل سعيدة بانتقامك الصغير! ماذا الآن؟ لِمَ تبدين كدجاحة خنوعة تُساق إلى المقصلة؟
تناول هاتفا من جيبه فاستنتجت بفطنتها ما الذي تعنيه تلك الحركة، سيبلغ عن بافلوس و يفسد كل شيء!
+
-توقف!
+
وضعت يديها على صدره و نظرت إليه بعينين واسعتين متوسلة، و تابعت برقة:
+
-أرجوك! لا تفعل!
+
نظر ألكسندروس إلى يديها الرقيقتين، فسحبتهما فورا، و استدارت لتفتح صنبور المياه و تبلل يديها، ثم عادت إليه و راحت تمرر القطرات المتساقطة من أصابعها بين شفتيه، هدأت نيران حلقه و شفتيه، لكن نيرانا أخرى اشتعلت داخله جراء ملامسة أناملها لفمه!
7
تمتمت معتذرة و هي تواصل عملها بلطف:
-أنا آسفة! ما كان يجب أن أصغي لفيليبا الطائشة، أصرت على أن العريس منذ القدم يثبت جدارته بتحمل ذلك السم!
+
أمسك ألكسندروس يديها و علَّق متأملا فمها بانشداه:
+
-إنه سمٌّ بالفعل!
+
ثم استطرد ساخرا و هو يرفعها بقبضتين قويتين و يجلسها فوق الحوض:
3
-أما بخصوص إثبات الجدارة، فأعتقد أن الأساليب كثيرة و النتيجة واحدة، أنت ملكي أندريا!
+
لف حولها ذراعيه، و غمد أصابعه بين خصلات شعرها موقعا عقابا قاسيا على فمها، كان عناقه عنيفا بقدر كلماته، و حين أدرك أنهما تأخرا، أبعد نفسه عنها بصعوبة، و أنزلها بهدوء مزيلا الفوضى التي نثرت شعرها الناعم في كل اتجاه، و سحبها معه دون أن يلتفت إلى المهانة التي اختبرتها، و السلام الذي شعرت به، جمع عناقه القسوة و اللذة! العقاب و المواساة! الانتقام و الرحمة! عذبتها تلك التناقضات، و فكرت أن ألكسندروس ليفانوس أكثر الرجال غرابة و سحرا أيضا!
6
نهاية الفصل الخامس.
+