اخر الروايات

رواية شهادة قيد الفصل الرابع والعشرين 24 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الفصل الرابع والعشرين 24 بقلم دودو محمد 

شهادة قيد"24

"الفصل الرابع وعشرون"

بدأت ذات تراجع جميع الصفقات التي تمت في فترة مرضها، حيث انقطعت عن الحضور وحُرمت من متابعة تفاصيل عملها. شعرت بأن الأمور تسير دونها، مما زاد من قلقها حول ما يجري في الشركة. لفت انتباهها مجموعة من الصفقات المتتالية خلال فترة زمنية قصيرة جدًا، مما جعلها تتساءل عن طبيعة ما يجري في الكواليس، خاصة وأنها كانت غير قادرة على استيعاب أي تطورات جديدة. على الرغم من ذلك، بدت بقية الصفقات طبيعية تمامًا كما كانت، مما زاد من حيرتها. جمعت ملفات هذه الصفقات التي بدت لها مشبوهة، نهضت من على مقعدها، وتحركت باتجاه الباب بغية اكتشاف الحقيقة. وعندما فتحته، انتفضت مكانها عندما وجدت مهران يقف أمامها بجسده العريض، الذي كان يشكل عائقًا وجدار حماية في الوقت ذاته. تراجعت إلى الوراء واستجمعت قواها، فقد كانت تعي أنه لا يتهاون في مساعيه لحمايتها، فابتلعت ريقها بصعوبة وتكلمت بتلعثم:
"أ أ أنت بتعمل أيه ه ه هنا."
رفع أحد حاجبيه إلى الأعلى، كأنه في حالة استغراب، وتكلم بتساءل:
"أنتي اللي رايحة فين كده إن شاء الله؟"
زفرت بضيق وقالت بنفاذ صبر:
"والله! وأنت هتفضل لازقلي كده بقى؟ أنا كده مش هعرف أشوف شغلي، على فكرة."
ضغط على أسنانه بغضب، ثم قال بهدوء حذر:
"مترديش على سؤالي بسؤال يا ذات، رايحة فين كده؟"
أجابته بضيق، مشيرة إلى مكتب عمها:
"رايحة المكتب عند عمو سليم. فيه حاجه مهمة عايزه أعرفها منه."
أومأ برأسه بمعنى الموافقة وابتعد عن طريقها حتى تخرج من مكتبها متجهةً إلى مكتب عمها سليم. نظرت إليه بضيق، ثم تحركت من أمامه، وأثناء سيرها، لاحظت أنه تابعها بعينيه، كأنما يخشى عليها من أي خطر يحيط بها. وقفت أمام باب عمها، ثم التفت إليه وعقدت ذراعيها على صدرها، وسألته بتساؤل:
"نعم؟ حضرتك رايح فين كده إن شاء الله؟"
أجابها بعدم اهتمام:
"داخل معاكي جوه."
رفعت حاجبيها إلى الأعلى حيث بدت متفاجئة، ثم قالت بنفاذ صبر:
"تدخل فين! أنت فيه حاجه في دماغك؟ أنا هتكلم مع عمي في حاجه تخص الشغل، أيه دخلك أنت؟"
أمسك ذراعها بغضب وفتح الباب دون أن يطرق عليه، مما أضفى على الموقف نوعًا من التوتر. نظرت له بصدمة وسألت:
"والله العظيم أنت ما طبيعي، فيه حد يدخل على حد كده؟"
ابتسم لها بعدم اهتمام وقال باستفزاز:
"ملكيش فيه، عمك راضي بأي حاجه أعملها."
حرك سليم رأسه بأنزعاج، قائلاً:
"من ساعة ما دخلتوا الشركة وأنتم عمالين شبه القط والفار. أنتو أيه حصلكم بس؟ ربنا يهديكم."
نظرت ذات بضيق إلى مهران، ثم عادت لتنظر إلى عمها وسألته:
"سيبك منه دلوقتي وفهمني أية طبيعة الصفقات دي بالظبط؟"
نظر سليم إلى مهران بتوتر، وأخذ من يدها الملفات بيد مرتعشة، وكأنما كان يتعامل مع قنبلة موقوتة. نظر إليهم رغم علمه التام بالمحتوى المتواجد بهم، وقال بصوت مرتعش:
"د د دي الشركة الأسترالية يا بنتي، اتعاقدنا معاهم في فترة تعبك."
نظرت له بعدم فهم، وسألت باستغراب:
"شركة أيه دي؟ وأيه عدد الصفقات دي كلها في الفترة القصيرة دي، الموضوع ده فيه حاجه مش طبيعية، أنا عايزة أشوف العقد اللي بينا."
تعالت دقات قلبه بقلق، ونظر إلى مهران كأنه يستنجد به. وبالفعل، استجاب له مهران، قائلاً:
"مش دول اللي أنا حضرت حفلة التوقيع أثناء ما كانت ذات تعبانة؟"
تنهد سليم بارتياح وقال بتأكيد:
"أيوه هما يا ابني، ووقتها أنت مسيبتش لا كبيرة ولا صغيرة إلا ما سألت عنها."
أومأ برأسه مؤكدًا على كلامه قائلاً:
"أيوه، وانا وقتها تأكدت من كلامهم كله واطمأنيت أنهم شركة موثوق منها."
كانت تتابع كلام مهران بسعادة، فقد كان بهذه الطريقة يعتني بها داخل وخارج المنزل، يهتم بكل كبيرة وصغيرة تخصها، وشعرت بقدره على حمايتها. نظرت له بنظرة امتنان وشكر غامرة. أما هو، فقد ابتسم عندما تأكد أنها في الواقع صدقت كذبتهم، ونظر إلى عمها لطمانته، فأعطاه نظرة شكر على مساعدته له. تكلمت ذات باقتناع، وقالت بنبرة هادئة:
"تمام، مدام أنتم اتأكدت كويس منهم، يبقى خلاص، ممكن علشان بقالى فترة كبيرة بعيدة عن الشغل، الموضوع جالى بشك."
تنهد سليم بارتياح، وقال بابتسامة هادئة:
"ارتحي انتي يا بنتي، متشغليش بالك بحاجة. مهران مسبناش لحظة واحدة من وقت ما أنتي بعيدة عن الشركة، وبيهتم بكل كبيرة وصغيرة."
أبتسمت بسعادة، وأومأت برأسها بتفاهم، وقالت:
"م م ماشي، هروح أنا أكمل شغلي بقى."
أومأ العم برأسه لها، فخرجت ذات وعادت إلى مكتبها تتابع عملها، لكن ذهنها كان مشغولاً بالتفكير فيما سمعته وعما يجري خلف الكواليس. تابع مهران ذات حتى اختفت من أمام عينيه، ثم نظر إلى سليم بضيق، وقال:
"هو أزاي الملفات دي وقعت تحت أيد ذات؟ احنا كده بنعرضها للخطر، لأنها لو شكت ولو واحد في المية في الموضوع ده، هتدور وراه لحد ما تعرف الحقيقة. وطبعًا مش محتاج أقولك لو عرفت الحقيقة ايه اللى هيحصل؟"
أومأ سليم رأسه بتفهم، وقال:
"عندك حق، الغلطة دي عندي أنا، لأن متوقعتش أن ذات هتنزل الشركة من النهارده."
زفر بضيق وقال بقلق:
"عايزين نخلص من الحكاية دي في أسرع وقت، كل ثانية بتعدي ذات بتتعرض للخطر."
أنهى كلامه وخرج من عند سليم متجهًا إلى مكتب ذات. فتح الباب ووقف مصدومًا عندما رأى ذات تنوي شرب القهوة. ركض سريعًا واختطفها من يدها، فشعرت بالصدمة والارتباك. نظرت له بصدمة، وغضبت قائلة:
"أنت اتجننت؟ أيه اللي عملته ده؟"
ضغط على أسنانه بغضب، وتكلم بتحذير: "حسك عينيك تشربي أي حاجه بره البيت، إلا لو أنا اللي جبتها ليكي، علشان هكون أنا اللي عملها ليكي بأيدي."
رفعت عينيها بملل وتكلمت بنفاذ صبر:
"ممكن بلاش طريقة خوفك الأوفر دي، أنا في شركتي مش في الشارع."
ابتسم بتهكم وقال بسخرية:
"أممم...ده على أساس كل اللي هنا من بقيت أهلك. بلاش طيبة وهبل، أبوس أيدك."
نظرت له بحزن وتكلمت بصوت منكسر:
"والله مش ذنبي الطيبة، وأنا شايفة الناس كلها كويسه."
تألم قلبه من هيئتها الحزينة، واقترب منها وجلس أمامها على سطح المكتب، وكأنما يحاول التعويض عن الفجوة التي أحدثتها الأحداث الأخيرة، وقال بنبرة هادئة:
"دي حاجة حلوة فيكي يا ذات، بس للأسف متنفعش في زمنا ده. أديكي شوفتي بنفسك الحيتان اللي عايشين وسطهم، واللي حصلك بسببهم. أنا خايف عليكي يا ذات وعايز أحميكي من الدنيا بحالها."
نظرت له بحب وأومأت برأسها بالطاعة، وقالت بصوت هادئ:
"حاضر، بس بلاش تخنقها عليا أوي. بلاش تحسسني أن سذاجة أوي كده."
ابتسم على كلماتها، وقال بموافقة:
"ماشي، بس أوعديني أنك مش هتاكلي ولا تشربي أي حاجة من بره، حتى لو من عمك نفسه."
أومأت برأسها، وقالت:
"أوعدك."
نظر إليها نظرة مطولة، وكأنما يحاول استرجاع كل لحظة بينهما، وقال بنبرة همسة:
"تعرفي إنك بتبقي حلوة أوي وأنتي هادية ومطيعة."
نظرت له بخجل، وقالت:
"ش ش شكرا."
تنهد بهم وتكلم بصوت مختنق:
"أستفادي أيه دلوقتي لم بعدتي عني، وأطلقتي؟ مش كان زمانك في حضني دلوقتي، واحشتيني أوي يا ذات. في ليلة واحدة بس عيشتها بعيدة عنك، حاسس إن روحي بتنسحب مني."
نظرت إلى الاتجاه الاخر، وتكلمت بصوت مختنق:
"أنا كده مرتاحه أكتر، مما بقي تسيبني أشوف شغلي."
استقام بجسده وتحرك أتجاه الباب، وهو يجر خيبة الأمل، ولكنه دائماً ما يحاول أن يكون الأقوى. وقف مرة أخرى واستدار لها، وقال بصوت مختنق:
"خليكي عايشة في الشقة فوق زي ما أنتي مع مهرة، وأنا هعيش مع شريف في شقتك بدل ما لسه هتنقلوا حاجاتكم."
أنهى حديثه ونظر إليها نظرة مطولة، كأنما يحاول أن يحفظ ملامح وجهها قبل أن يبتعد، ثم خرج من عندها وأغلق الباب خلفه بحزن شديد، مما أضاف ثقلًا إضافيًا إلى قلبه. نظرت إلى أثره بدموع، وشعرت بوخزة في قلبها، كأنما فقدت شيئًا ثمينًا. تنهدت بحزن وبدأت تتابع عملها، لكن عقلها مشغول بالتفكير في مهران وما يخبئه المستقبل لهما معًا.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
استفاق شريف على صوت طرقات قوية على الباب، فركض بسرعة وفتح الباب، مظهراً قلقه الشديد وهو يتطلع إلى مهرة. بلهجة متسائلة، قال:
"فيه أيه يا مهرة بتخبطي كده ليه؟".
تكلمت بصعوبة، وخوف شديد يملأ عينيها، وقالت:
"ف ف فار دخل من شباك الحمام، أنا خايفة أوي يا شريف."
تنهد بشدة وتحدث بنبرة نفاذ صبر:
"كل اللي انتي عاملاه ده علشان فار؟ أنا قطعت الخلف بسبب الخضه دي منك لله."
نظرت له بغضب وضيق، وردت بصوت مختنق:
"يا سلام، وانت شايف إن وجود فار في الشقة دي حاجة طبيعية وما تخوفش؟"
شعر بالندم على طريقة كلامه، فرد بسرعة:
"لا، أنا مقصدش كده، بس أتخضيت لأني كنت نايم وصحيت على صوت خبطك على الباب."
شعرت بضيق آخر، فقالت:
"تمام، أنا آسفة لو أزعجتك، عن إذنك."
ثم انطلقت بسرعة من أمامه.نظر إلى أثرها في صدمة، ورَكَضَ وراءها لكنه تفاجأ بها تجلس على الدرج، تتصاعد أنفاسها بين بكاء وشهقات. تنهد بضيق وجلس بجوارها، سائلاً:
"ممكن أفهم أنتي بتعيطي ليه دلوقتي؟"
تحدثت بصعوبة من بين بكاءها:
"علشان خايفة أطلع الشقة وهي فيها الفار، ومش عارفة أعمل إيه؟"
ابتسم لكلماتها، وبلطف قال:
"طيب، ممكن تبطلي عياط وأنا هساعدك."
أومأت برأسها موافقة، ومسحت دموعها بظهر يدها كالأطفال. نظر إليها بحب، لكنه سرعان ما تنبه لحاله، فوقف قائلاً بتوتر:
"أدخلي الشقة، وأقفلي الباب عليكي، وأنا هطلع أشوف الفار اللي فوق ده."
أومأت برأسها بهدوء وهبطت إلى الأسفل تحت نظرات شريف العاشقة، ودلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها.أما هو، فصعد إلى الأعلى وبدأ رحلة البحث عن الفأر، يتجول في الغرف حتى دخل غرفة ذات. وأثناء بحثه، اكتشف كيساً يحتوي على مسحوق أبيض. وبخبرته كطبيب، علم نوع هذا المسحوق على الفور، فجلس بصدمة على المقعد وهو ينظر إلى ما في يده محدثا نفسه.
"معقول، رجعت ذات إلى التعاطي مرة أخرى؟ كيف يكون ذلك وهي جاءت بنتيجة سالبة في آخر فحص لها؟"
أسئلة كثيرة دارت في ذهنه، لكن الإجابة ظلت بعيدة. فجأة، ظهر الفأر أمامه، فقام بقتله على الفور، وبدأ يُرتب المكان جيدًا. هبط إلى الأسفل، محتفظًا بهذا المسحوق في جيب بنطاله.طرق على الباب، وتحدث بصوت هامس:
"أفتحي يا مهرة، أنا شريف."
انتظر ثوانٍ معدودة، ثم فتحت له، ونظرت إليه بقلق، سائلاً:
"ع عملت أيه؟"
تكلم بنبرة هادئة:
"موته خلاص، وشيلته، ونطفت مكانه، وقفلت شباك الحمام كويس علشان مافيش حاجة تدخل منه تاني."
ابتسمت له بسعادة، وقالت بشكر:
"شكرًا يا شريف، مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه؟"
أوما برأسه لها بابتسامة، وكلامه مختنق:
"يلا، أطلعي الشقة، وأقفلي الباب كويس عليكي."
نظرت له باستغراب، وشعرت بشيء غريب فيه على غير العادة، إذ تساءلت بقلق:
"شريف، أنت فيه حاجة ضيقتك؟"
نظر إليها باستغراب، منذ متى وأمره يهمها؟ شعر بسعادة غامرة، وتحدث بصوت عاشق:
"إنتي بجد يهمك أمري وعايزة تطمني عليا يا مهرة؟"
شعرت بالخجل من تصريحها المفاجئ، ونظرت إلى الأرض بتوتر، ثم قالت بتلعثم:
"ها...ا ا أصل مكانش ده حالك من شوية...حاسه أنك نازل من فوق مضايق."
تنهد بضيق، وأومأ برأسه بالتأكيد:
"أيوة يا مهرة، نزلت من فوق مضايق، حصل حاجة، وخايف من نتيجتها، لأن لو طلع شكي صح، حياة حد غالي علينا هتنتهي. ولو ده حصل، أخوكي مهران هيدمر، أو ممكن يحصل الشخص ده كمان."
كانت كلمات شريف تتردد في عقلها مثل صدى جرس في الفضاء، حاصرتها بموجة من القلق. نظرت له بعدم فهم، وسألت:
"أنت بتقول إيه؟ أنا مش فاهمة حاجة من اللي بتقولها. كل اللي قدرت أفهمه، أن حياة أبيه مهران في خطر."
زفر بضيق وتحدث بصوت مختنق:
"متشغليش بالك بحاجة يا مهرة، إن شاء الله خير. أطلعي يلا الشقة."
لكنّها حركت رأسها بالرفض، وأمضت بيد شريف برجاء:
"علشان خاطري، فهميني فيه أيه يا شريف."
ارتجف جسده عند لمسة يديها، وما زاد الموقف توتراً عندما هتفت بأسمه وحلفته بخاطرها اقترب بيدها من شفتيه، وقبلها بحب، متحدثًا بنبرة عاشقة:
"خاطرك غالي أوي عندي يا مهرة، بس صدقيني، مش هينفع أقولك حاجة دلوقتي، لكن أوعدك، لما أتأكد من الموضوع وأعالجه، هقولك كل حاجة."
لم تستطع سماع كلمة واحدة بعد اعترافه الغير المباشر، وقبلته على يدها، مما أكد لها ما شعرت به. كان قلبها ينبض بسرعة، يدفعها للتفكير في جميع الاحتمالات التي قد تندلع بعد هذا الاجتماع العاطفي بينهما. أبعدت يدها بخجل، وقالت بتوتر:
"أ أ أنا طالعة عن إذنك."
أنهت كلامها، وركضت بسرعة إلى الأعلى، دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها، كأنها تخفي نفسها من عاصفة ستغزو كيانها، وتدمر جميع حصونها. كان شريف جالسًا في الأسفل، يفكر في الخطوات التالية التي كان سيتخذها، ومستشعرًا كم أن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا مما كان عليه.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
عند عاصم ونور

استيقظت نور من نومها، ونظرت بجوارها لتجد أن عاصم غير موجود. تنهدت بارتياح، وكأن عبئًا قد زال عنها، لأنها لم تره في بداية يومها. نهضت من فراشها واتجهت إلى المرحاض، وبعد ثوانٍ، خرجت مرتدية ملابسها، وهبطت إلى الأسفل حيث وجدت عاصم يجلس على رأس الطاولة، غارقًا في تصفح هاتفه، في انتظار نزولها. كان الأمر غريبًا بالنسبة لها، فقد اعتادت أن تبدأ يومها برؤية عاصم، لكن اليوم كان مختلفًا، وبدت وكأنها تبحث عن بعض الوقت لنفسها. زفرت بضيق، وابتسمت برفق عندما تحركت باتجاه الطاولة وجلست على المقعد. نطقت بنبرة مختنقة:
"صباح الخير."
وبدأت تتناول طعامها في صمت تام، مُحاطة بالأفكار التي تعصف برأسها والتي كانت تؤرقها منذ أيام. أزاح عاصم الهاتف من أمام عينه، ونظر إليها بدهشة. كانت هذه هي المرة الأولى التي تهبط فيها من الأعلى دون أن تقبله كما اعتادت، بل وكانت ملامح وجهها متجهمة بشكل ملحوظ، وكأن عالمها الداخلي كان يعكس توترها ونفورها. تحدث بهدوء حذر، متسائلًا:
"فين اللي متعود عليه منك كل يوم الصبح حتى لو زعلانين من بعض؟"
تكلمت بضيق، تحاول ابتلاع الطعام بفمها:
"عادي يا عاصم، مأخدش بالي."
طرق بيده على الطاولة بغضب، قائلاً:
"أنا عايز أفهم فيه أيه بالظبط؟ من أمبارح وأنتي على الحال ده. قولت هرمونات علشان الزفته اللي عليكي، بس دي مش جديده عليكي، ما أنتي على طول بتجيلك، وكان حضني هو ملجائك. إيه جد الشهر ده، فهميني؟"
نظرت إليه بكره، وتحدثت بغضب:
"أية مخنوقة وزهقانه. مش من حقي ولا لازم طول الوقت أكون الست الفرفوشة الرومانسية الحنونة اللي تحضن وتبوس وتدلع. أنا بشر، وبني آدم على فكرة زيكم. ما أنت فيه أوقات بتبقى مش طايق نفسك وتفضل تزعق على الفاضي والمليان، ولا هو حلال ليك وحرام ليا؟ دي عيشة تقرف."
أنهت كلامها، ونهضت من مقعدها، وخرجت إلى الحديقة الخاصة بالفيلا، حيث نسيم الصباح العليل وعبير الزهور لم يستطع أن ينعش روحها. أحمرت عينيه من شدة الغضب، وصاح بصوت غاضب:
"شكل العصفورة طلع ليها ريش ومحتاج يتقص ليها علشان متعرفش تهرب من عشها."
ابتسم بشر، ونهض من مقعده، واتجه نحوها بملامح غاضبة. دون سابق إنذار، أمسك بشعرها وجرّها خلفه، صعدا إلى غرفتهما، تحت صراخها من شدة الألم، كاد شعرها أن يقتلع في يده من قوة الجذب. أخيرًا، دفعها بقوة على الأرض، نظر إليها بتوعد، قائلاً:
"مدام سايقه العوق، يبقى الموضوع مش مجرد هرمونات شهرية أبداً. ده تمرد بعد ما نضفتك و خليتك تعيشي عيشة عمر ما أبوكي كان يحلم بيها. جايه وتعملي عليا واحدة دلوقتي. مش عاصم الدويري اللي تتحكم فيه مرررا مهما كانت غلاوتها عندي. وهعرفك حالا مقامك يا نوري."
أعقب كلامه بنزع حزامه الجلدي من بنطاله، رفع يده إلى الأعلى، نظر إليها بلا رحمة ولا شفقة، وانهال به على جسدها، تحت صراخها المتألمه المستنجدة، وكأن كل ضربة كانت تذكرها بأن العواطف ليست فقط هدوءًا وسلامًا، بل أيضًا صراعات وخيانات. كادت تفقد وعيها من شدة الألم، إلا أنه أمسك كوب الماء ودفعه بوجهها. وأكمل ما كان يفعله، مُخلفًا وراءه أثرًا لا يُمحى. وبعد وقت ليس بقليل، جلس على الأريكة، وأشعل سيجاره وهو ينظر إليها بعدم شفقة، قائلاً بأمر:
"قومي، أجهزي مزاجي فيكي دلوقتي."
تكلمت بصعوبة من شدة الألم، وقالت بترجي:
"حرام عليك، جسمي وجعني ومش قادرة اتحرك."
نهض من مقعده، واقترب منها بهدوء، ثم مال بجسده، ضاغطًا بيده على ذراعها الملون بالأزرق من شدة الضرب، وقال بتحذير:
"أنتي أول مرة تشوفي وشي التاني. نصيحة مني، حافظي على الوش الأول، علشان اللي عملته فيكي ده ميجيش حاجة جنب اللي ناوي اعمله فيكي لو متظبطيش ورجعتي زي الأول وأحسن."
أنهى كلامه ملتهم شفتيها بغضب شديد، وكأن كلماته كانت تهديدًا يصعب تجاهله. ظل على هذا الوضع حتى شعر بطعم الدماء يختلط بعبراتها، وكأنه يستمد قوتًه من ضعفها. ابتعد عنها، دافعًا إياها بقوة على الأرض، وقال بأمر:
"أنا عندي دلوقتي شغل مهم. هروح، وبليل لما أرجع ألاقيكي مجهزة نفسك ومستنياني."

انهى كلامه وخرج من الغرفة، تاركًا إياها في ظلام جحيمها اليومي. أما هي، بالكاد كانت تسمع همس كلماته، محاولة مقاومة الألم، لكنه كان أقوى من قدرتها على التحمل، مستسلمة لعالمها المظلم، فاقدة الوعي، وفي قلبها شعلة من الأمل خافت لكنها لم تنطفئ بعد.
«««««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
وصلت ساره إلى شقة مهره، ودلفت إلى الداخل، ولاحظت على الفور توترها الظاهر. كان الجو مشحونًا بالقلق، حيث كان كل واحد منهما يعرف تمامًا مدى أهمية اللحظة الحالية. نظرت إليها بشك، وابتسمت بحذر، ثم تكلمت بتساؤل:
"مهره، مهاميهو قولي يا حبيبتي اللي عندك أخلصي."
أمسكت مهرة بيد سارة بلطف وسارت بها إلى داخل غرفتها، نظرت لها بتوتر، وبدأت الكلمات تتدفق من شفتيها بصوت غير مستقر:
"النهاردة، شريف ق ق قالي إن خاطري غالي عنده... وكمان باس ايدي."
رفعت ساره إحدى حاجبيها في تعبير عن استغراب عميق وقالت:
"وايه كمان؟ أصلاً، إنتي أيه خلاكي تروحي عنده؟"
تنحنحت مهرة بتوتر، محاولة توضيح موقفها قائلة:
"ك ك كان فيه فار في الشقة ونزلتله."
تنهدت ساره بقلق، وتحدثت بنبرة هادئة تعكس خوفها:
"مهرة، حبيبتي، أنا مش معترضة على انك تحبي، بس لازم تعالجي مشاكلك الأول. الانجذاب والاحتياج والحب ما بيجتمعوش في وقت واحد. أنا خايفة عليكي. الفرحه اللي في عيونك دي قلقاني، اتأكدي الأول من مشاعرك، وبعد كده خليكي صريحة مع أخواتك، لأنهم هما عايزين مصلحتك. أكتر حد هيخاف عليكي هما أخواتك. انتي لو شوفتي نظرة القلق في عيون أخوكي ماهر، هتفهمي كلامي ده."

أومأت مهرة برأسها بتفهم، وردت بصوت مختنق:
"تعرفي أنا أصلاً حكيت لماهر عن موضوع عاصم ده، بس أن اللى حصل معايا ده حصل لصحبتي مش ليا انا. مع أن كنت متأكدة إنه فاهم كل حاجة، بس محبش يكسفني. أداني النصيحة، بس انا وقتها كنت عاميه وطرشه مسمعتش كلامه ومشيت وراه مشاعر كدابه. علشان كده، خايفة أتكلم معاه دلوقتي، ميثقش في كلامي، وابقى فى نظره واحده طايشه وبنجذب لاي راجل وخلاص. بس المرادي احساسي مختلف بجد! أنا بحب شريف يا سارة! ببقى فرحانة اوي وانا بتكلم معاه، بحس بالأمان طول ما هو موجود. بعتمد عليه في أي حاجة تخصني، شايفة إنسان كامل متكامل، و فيه كل المواصفات اللي أي بنت تتمناها."

ابتسمت لها ساره بحب، وأجابت بسعادة:
"وأنا دلوقتي أتأكد إنك بتحبي شريف يا مهرة. ولو فتحتي قلبك لماهر، أخوكي هيقدر يفهمك، ويحس بمشاعرك الصادقة تجاه شريف."

نظرت مهرة لها بامتنان، وتحدثت بابتسامة شاكرة:
"بجد، شكراً لوجودك في حياتي يا سارة. مش عارفة لو مكنتيش معايا في حياتي كنت هعمل إيه. أنتي و نعمة الصديقة، ونعمة الأخت، وبجد مش هتمنى لأخويا ماهر واحدة أحسن منك. بحبك يا بت."
أنهت كلامها، واندمجت في حضن ساره، وتمسكت بها بشدة، وكأنها تبحث عن ملجأ يضمها من كل الأعباء التي تشعر بها. ربتت ساره على ظهرها بحنو، وقالت:
"إنتي مش مجرد صاحبة وخلاص. أنتي أنتيمي، وأختي، وامي، وكل ما ليا من أول لحظة أتقابلنا فيها في المدرسة. وأنا حسيت أنك مني، انك أنتي نصي التاني، ومن يومها، وانا إحساسي ده مخيبش ولا لحظة. ربنا يديمك في حياتي, أجمل أخت في الدنيا."
ابتعدت مهره عنها، لتحدثها بوقاحة:
"لا يا أما، ابعدي عني أحسن ما يدخل علينا ماهر، ويفهم حاجة غلط ويطير منك."
حركت ساره رأسها بنفاذ صبر، قائلة:
"أنا مني لله، علشان سيبت كل الناس وعرفت واحدة لسانها أطول منها."
تعالت ضحكاتهما بصوت عالي، فقالت مهرة بمزاح:
"اعمل إيه يا أختي، ما إنتي اللي بسكوته فى نفسك كدة، والصراحة الرقة دي بتموع النفس يا بنتي. خليكي جريئة كده واغتصبي أخويا."

صرخت سارة بوجهها باحمرار:
"بببس كفاية! الله يحرقك! أنا غلطانة أصلاً أن جيت، كان زماني في المحاضرة دلوقتي."
نظرت مهره بشك، وسألت بتريقه:
"بذمتك، أنتي جايه علشاني! يا بت، إنتي عينك بتصرخ باسمه. عموماً، متقلقيش، ساعة بالكتير، وهيكون هنا. بس للأسف، مش هيطلع هنا، هيدخل عند شريف علشان مهران قاعد دلوقتي تحت."

شعرت سارة بضيق، وسألت بتذمر:
"يعني مش هيطلع هنا خالص؟"
ابتسمت مهرة لها بمزاح، قائلة:
"ممكن يطلع هنا، في حالة واحدة بس... لو عرف إنك موجودة."
في تلك اللحظة، فاجأها هاتف ساره برقم غير معروف. نظرت إلى مهرة بتوتر وسألت:
"ده رقم مين ده؟"
أخذت مهرة الهاتف منها، ونظرت إلى الشاشة، ثم اتسعت عيناها في صدمة.
"ده رقم ماهر، أخويا."
احمرت وجنتها من شدة الخجل، وتحدثت بتلعثم:
"ا ا أخوكي! د د ده جاب رقمي منين؟"
تكلمت ساره بنفاذ صبر:
"انتي لسه هتستغربي؟ ردي بسرعة."
ضغطت على زر الاستجابة، وكلماتها خرجت بصعوبة:
"ا ا السلام عليكم."
رد عليه بابتسامة، قائلاً:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. مدام مقولتيش مين، يبقى أنتي عند مهرة، وهي اللي قالتلك إن ده رقمي."
ابتلعت ساره ريقها بتوتر، ثم قالت بتلعثم:
"ا ا ايوه، أنا عند مهره، خير يا أستاذ ماهر، فيه حاجة؟"
رد عليها بصوت هادئ قائلًا:
"عايز أتكلم معاكي كلمتين يا ساره. ممكن تنزلي وتعالي نقعد مع بعض في أي مكان عام نتكلم فيه براحتنا."
نظرت ساره إلى مهرة بتوتر، ثم أجابت بخجل:
"ها...ن ن نتقابل برّه، ا ا أنا مقدرش أعمل كده، آسفة جداً لحضرتك. حضرتك عندك بابا أو أخويا ممكن تطلب منهم حاجة زي كده. لو هما وافقوا، أنا معنديش مشكلة."
ظل صامتا لبعض الوقت، ثم سأل بتساؤل:"تتجوزيني يا ساره...؟"
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
وصل مهران بسيارته إلى أسفل العقار، ونظر في المرآة ليرى انعكاس ذات خلفه، ثم تنهد بشعور عميق من الألم. قال بتردد:
"اطلعي الشقة يا ذات، ومتفتحيش الباب لأي حد."
كانت كلماته ثقيلة على قلبه، فهو يعلم أن هذه اللحظة تعني المزيد من الفراق والكتمان. أومأت رأسها بالموافقة، وترجلت من السيارة، صاعدةً إلى الأعلى، بينما ظل هو يتابعها حتى اختفت تمامًا من أمام عينه. كان شعور الفراغ يزداد في صدره، وكأن العالم من حوله فقد لونه. وقف قليلاً للتأكد من عدم صعود أحد وراءها، ثم شغل السيارة. ولكن قبل أن يتحرك، رن هاتفه، وعندما نظر إليه وجد شريف يتصل. أجاب مهران قائلاً:
"أيوه يا شريف؟"
رد شريف بصوت مختنق،
"انت فين دلوقتي؟"
رد مهران باستغراب:
"أنا لسه واصل تحت في العربية، نزلت ذات وأنا هروح أشتري ليهم شوية حاجات لتلاجة."
كان يتحدث وكأنما يخفي عنه عبء ثقيل، تحدث شريف بسرعة، وبنبرة حزينة:
"أستنى، أنا نازل عايزك ضروري."
أغلق مهران الخط وجلس ينتظر وصول شريف. كان جسده في السيارة، لكن ذهنه كان مشغولاً بالأفكار والعواطف المتناقضة؛ هل سيكون قادراً على تخطي هذه الصعوبات؟
عند ذات، صعدت إلى الأعلى وفتحت لها مهره، بينما كانت ساره مغادرةً. ابتسمت لهما بمجاملة، ثم تحركت إلى غرفتها وزادت حيرة مهره. كانت تساءل في نفسها عن السبب وراء تصرفات ذات الغريبة، كأنها تحمل سراً كبيراً يثقل كاهلها. نظرت ساره إلى مهره باستغراب، وقالت:
"مالها دي؟ كأننا مش بني أدمين."
ابتسمت مهره، وأجابت، محاولاً تهدئة الوضع:
"دي ذات مرات أبيه مهران، أو بالأصح طليقته، وهي طيبة جدًا بس تلاقيها مخنوقة عشان اللي حصل بينها وبين أبيه."
أومات ساره برأسها بتفهم، وقالت:
"أنا همشي بقى، علشان اتأخرت."
قبل أن تغادر، تحدثت مهره سريعًا:
"ماشى، وبلاش هبل وفكري كويس في موضوع ماهر."
ابتسمت ساره لها ورحلت سريعًا إلى الأسفل، متجنبةً رؤية ماهر.
في تلك الأثناء، سمعت مهره هتاف ذات بصوت غاضب، فركضت سريعًا نحوها. سألتها بقلق:
"فيه إيه يا ذات بتصرخي كده ليه؟"
نظرت لها ذات بضيق، وسألت بتوتر:
"هو فيه حد دخل أوضي النهاردة؟"
ابتلعت مهره ريقها بتوتر، وحركت رأسها بالرفض، محاولةً إخفاء أمر دخول شريف في غيابهم. قالت،
"ل ل لا، محدش دخل أوضك خالص يا ذات."
ردت ذات بغضب شديد،
"كداااابه! حد دخل أوضي وفتش في حاجتي. قولي الحقيقة يا مهره، انتي اللي عملتي كده ولا حد تاني؟"
نظرت مهره إليها بعدم فهم، وتساءلت:
"قصدك ايه؟ مش فاهمه. محدش فتش في حاجتك يا ذات، فيه حاجة ضاعت منك ولا ايه؟"
ارجعت ذات شعرها إلى الوراء، وتحدثت بنفاذ صبر:
"مهررره، هاتي اللي أخديه من الدرج، ارجوكي."
غضبت مهره، وصاحت:
"مأخدتش حاجة من عندك، انتي بتقولي ايه؟ حاجة ايه دي اللي أخدها؟"
في تلك اللحظة، سمعوا صوت مهران وهو يصرخ بغضب:
"قصدك على ده يا ذات؟"
وأشر لها بكيس يحتوي على مسحوق أبيض. كان الكيس بمثابة الدليل القاطع، وقف الجميع في صمت يرون الحقيقة تتكشف أمامهم. نظرت ذات إلى يده بصدمة، ثم تحركت ببطء شديد، ووقفت أمامه، وقالت..


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close