اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم عائشة حسين 



                                    

الثالث والعشرون


+



‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}


2



***********

نظرت من الأعلى فرأت الكثير من الصغار يتوافدون للمنزل في جماعات مبتهجين، كرمشت وجهها متعجبة قبل أن ترمي نظراتها من جديد مُراقبة، رأته يقف مُحييّا الصغار بسعادة وابتسامة تضاهي نور الشمس، يحتضنهم بمودة ويربت على ظهورهم بحنو، يمسح على رأس صغيرهم ويربت على كتف كبيرهم، يوزع العصائر والحلوى، وفي المقدمة يمنحهم ضحكاته الرائقة الجميلة والمحبة الخالصة، رقصت الابتسامة فوق ثغرها بعدما أصابتها عدوى البهجة، ضحكت كأنها حاضرة حين رأته يشد خصلات أحدهم موبخًا بمرح واعدًا له بحلقهم والصغار حوله يضحكون ويقفزون متسابقين دون ترتيب لعناقه ومشاكسته، ونيل أكبر قدر من حنانه، فيحمل البعض على كتفيه ويطوّح آخرين في الهواء تاركًا ضحكته خلفية للبهجة. 

تشعر أحيانًا أن آل الحفناوي قسّموا فيما بينهم الرقة وسماحة النفس والمحبة، اختصوا بالرحمة دونا عن غيرهم، واستأثروا بالحنان طامعين فيه، كلهم دون استثناء أناس طيبون أفئدتهم كأفئدة الطير حتى هذا الذي يدّعي الصلابة ويتغنى بالانتقام له قلبًا عطوفًا محبًا لا يبخل به على أحد يوزع الحب كما يوزع الحلوى ، حتى أنها لا تعرف لما تزوجها إن كانت تعيش في ترف من الراحة والمودة، ربما لتنقم على أبيها أكثر وتتغلغل كراهيته في قلبها، أو لتعرف أن في الحياة من يمنح الحب دون طلب أو سبب، وفي دنيانا قلوبًا جُبلت على الحب ولا تعرف سواه.. عادت بنظراتها إليه مراقبة بمتعة خاصة، تُسقط عليهم ابتسامتها كالورود، تراقب قافزة مشاركةً لهم الحماس متمنية لو استطاعت الهبوط والاندماج بينهم وأخذ قطعة صغيرة من المودة والدفء... رأته ينتقل بهم لحديقة المنزل فركضت للناحية الأخرى  وتابعته... أجلسهم في صفين متوازيين حول فراش طويل نظيف ولامع مصفوف عليه أطباق كثيرة وقدور واسعة مملوءة بشتى أنواع الطعام وألذه... ثم بدأ في توزيع الطعام حسب رغبات كل واحد منهم، يسأله أولًا وهو يمسح على رأسه بحنان ثم يبدأ في منحه ما يريد بوفرة وبعدها ينتقل لغيره. 

صفقت بحماس متمنية لو حظيت بالسعادة مثله، رأت  طاهر خلفها فهللت «إيه دا يا طاهر»انبهارًا وإعجابًا

فابتسم طاهر وجاورها مراقبًا وهو يحكي بشجن «رؤوف بيعملها شهريًا بيجمع عيال النجع ويوكلهم ويلعب معاهم لأخر اليوم» 

سألته بدهشة وهي لا تقدر على رفع نظراتها من عليهم  «وعادي الناس بتوافق؟» 

أجابها بابتسامة وهو يراقب أخيه بنظرة لامعة مُحبة «أيوة طبعًا كل الناس هنا الكبير والصغير بيحبوا أخوي وخالي ويحترموهم ويقدروهم» 

صرّحت بإعجابها «واوووو بجد ياريتني أقدر أنزل وأساعده» 

التفت لها طاهر مشجعًا «وليه ياريت؟  انزلي وساعدي مش هيرفض بالعكس» 

سألته متحيرة في قرارها «بجد؟» 

أجابها بابتسامة رائقة مواصلًا تشجيعها «أيوة جربي مش هتخسري» 

صفقت بكفيها متحمسة نشيطة قبل أن تركض للحجرة قائلة «هظبط حجابي علشان ميخافوش وانزل» 

أوقفها قائلًا بمحبة «محدش هيشوفه ولا هيخاف جلبك متشاف  قبله» 

تراجعت مترددة قبل أن تترك الظاهر منه ولا تخبأه كعادتها بلفة محكمة.. ركضت للأسفل متحمسة قلبها يقفز سابقًا خطواتها، تجاهلت الموجودين وخرجت لوجهتها متمنية وراغبة وداعية بالقبول، وقفت جواره  منحنية مثله بجذعها تعرض بعينين ممتلئتين بالرجاء «رؤوف ممكن أساعدك»

رفع نظراته من على الصغير ومنحها لها باستفسار فتوسلته برقة «هعمل الي تقول عليه ومش هضايقك بس خليني أساعد بليز» 

انتصب متظاهرًا بالحيرة يمنحها الموافقة في نظرة شغوفة ويشوش أفكارها بملامح مُفكرة منغلقة لا تمنح ردًا أو حفنة من رضا، سألته بنظرة تتردد ما بين الصغار ووجهه بحماس«إيه» قال بمراوغة ومكر «بس أنا مبحبش حد يساعدني لو خدتي بالك أمي وعمتي وآيات محدش طلع» 

نظرت للصغار نظرة ملتهمة قبل أن ترجوه برقة وقفزة متوهجة بالحماس « علشان خاطري مش هعمل حاجة تزعلك خالص» 

وارب باب مشاعره بابتسامة زادتها فرحة ، ثم فتح لها باب خزائنه بنصف ضحكة جعلتها تقفز كما الصغار «موافق صح» 

أشار لها بجدية تخفي الكثير خلفها «يلا عالصف التاني» 

ركضت متحركة معه بنفس خطواته وكلما رفعت نظراتها وجدت نظراته في انتظارها فابتسمت حماسًا وتوردت خجلًا، سبقته عمدًا هاربةً من نظراته وابتسامته التي تُلقىَ في نهر قلبها كالورد، رفعت رأسها ونادته مُغيظة له بطفولية «يا متر سبقتك» ثم ضحكت ضحكتها الجذابة الشقية ختامًا، فابتسم بصمت وهز رأسه بالموافقة ولو كان يُسمح له بالرد لمنحها قبلة... انتهيا فأشار لها لتقترب وتجلس في نهاية المائدة جواره، جلست جواره واضعة بينهما صغيرًا، ابتسم متفهمًا ومراعيًا رغبتها ثم قال «كُلي واديني الأجر» 

شاكسته قائلة بمزاح «يمكن محبش تاخده يا متر وتدخل الجنة على قفايا» 

ابتسم قائلًا بنظرة ماكرة تحصد وتجني من ملامحها ما يُصنع به أكسيرًا للحب «لاه أنا بفضل الله هدخلها دنيا وآخرة يا هندسة وأنتِ معايا»

رفعت حاجبها مستفسرة «معاك ليه؟» 

أدار رأسه مراوغًا «لاه عادي مش ساعدتيني يبجالك نص الأجر» 

غرفت له في طبقه مستفسرة بابتسامة رائقة «دا بالنسبة للآخرة طيب والدنيا؟» 

منحها ملعقة  قائلًا بجدية كاذبة وهو يكتم ابتسامته «ادعيلي بفكر في الموضوع دِه وبإذن الله نلاجي إجابة إحنا الاتنين وطريقة  تخلي الدنيا جنة» 

دست الطعام بفمها قائلة بلا مبالاة وضحكة قصيرة «ماشي يارب تلاقي علشان كفاية دخلت النار في الدنيا مرة» 

تذكر كلمات ورد الصغيرة له يومًا حين همست له «فوسط النار هتلاجي جنتك على الأرض» حك ذقنه واعدًا لها بثقة وهو يتابعها ويراقب تناولها للطعام بنهم «مفيش نار تانية بإذن الله دخلتيها مرة عشان تدخلي بعدها الجنتين معايا يا هندسة» 

هزت رأسها لاهية لا تبالى بالتفسير ولا تهتم بالمغزى ثم شجعته بمرح «كُل والله الأكل تحفة» 

تناول القليل ثم نهض قائلًا موجهًا الصغار «يلا يا شباب نلمّ بسرعة ونلعب» 

تسابق الصغار في العمل بحماس وهمةً عالية حتى انهوا كل شيء ونظفوا المكان وافترشوه من جديد قالتها وهي تتحرك بنشاط بين الصغار «اقعد يا متر هجيب أنا المشروبات» جلس وتحلق الصغار حوله فتناولت هي توزيع العصائر والحلوى بسعادة، سأله واحدًا «مين دي يا عم رؤوف؟» رفع نظراته إليها وأجابه ممازحًا «دي الجنة والنار لما يجتمعوا يا عمي» 

ضحك الصغير وصمت ببلاهة حتى وصلت إليه وسألته «هتشرب إيه؟» 

أجابها وهو يسحبها لتجاوره بعدما أفسح لها مكان «بعدين اجعدي خلاص الي عايزينه هيجوموا هما يجيبوه» 

ترددت قليلًا قبل أن تمتثل وتجلس جواره دون حاجز من الصغار، هتف أحدهم «مش هننشد يا عم؟» 

هز رأسه قائلًا بسعادة «لاه هننشد طبعًا يلا» 

وبدأ في الغناء والإنشاد بطرب والأطفال يتمايلون مصدرين اللحن بأفواههم وصقفاتهم المنظمة في تناغم مرددين ببهجة وهي تصفق متعجبة ومنبهرة بهذا الجمال وذلك السحر.. 

بعد الانتهاء ودعهم رؤوف بلطف ومحبة بعدما منح كل واحد منهم هدية صغيرة. 

أغلق الباب خلفهم واستدار ليجدها أمامه تفرد كفها «وأنا فين هديتي؟  أنا بحب الحاجات دي أووي» 

نظر للطاولة خلفها بيأس ثم أخرج جيبي بنطاله وقلّب شفتيه قائلًا بيأس «مفيش» 

أعادت كفها بخيبة قائلة بغيظ «يبقى حرب يا متر» 

ضحك باستمتاع فاستدارات عائدة للمنزل وهو خلفها يغمغم «حرب وفيها غزل يا مُرحب خسران من جبل ما أدخلها»  

استقبلهما طاهر بتهليل واضح «يا أهلا نورتوا» 

تخطته غزل ساحبة له من كفه خلفها وهي تقول «يلا تعالى عيزاك وبطل أفورة» 

راقبهما رؤوف بنظراته الصقرية الحادة حتى اختفيا وجلس هو جوار والدته التي ربتت على كتفه قائلة «كل شهر وأنت طيب يا حبيبي» 

أجابها وهو يسترخي بتعب «وأنتِ طيبة يا حبيبتي» 

همست والدته بإبتسامة «اليوم كان حلو صُح؟» 

أجابها متذكرًا أحداثه ومشاركة غزل له بهمة وحماس «جوي يا أما» 

ربتت على كتفه هامسةً بإعجاب «غزل الله أكبر عليها خفيفة ونغشة بتحب تساعد فكل حاجة» 

أكد بهزة رأس مُعلقًا بإعجاب رافق تنهيدة خرجت محملة من القلب بالأشواق «بتحب الأطفال كانت بتروح الدار» 

ضحكت نجاة قائلة بفطنة «زيك يعني» 

نهض متثائبًا بكسل «هجوم استحمى وأغير خلجاتي وأروح لقاسم» 

منحته ابتسامة ودودة وتشجيع لطيف «وماله روح يا ولدي طلّ عليهم» 

قال معاتبًا نفسه «مجصر معاه جوي الأيام دي يا أما بجيت بال هِنا وبال هناك» 

ضحكت قائلة «الأول كان جلبك كله هناك تاجي من مصر وترجع منشوفاكش وإن جيت تجعد كربان ورايح جاي دلوك جلبك اتجسم نصين نص هناك ونص هنا» 

أومأ بحرج مؤكدًا تفسيرها فدعت بتضرع سعيدة لأجله «ربنا يلم شملك يا ولدي وتتجمع مع حبايبك» 

«آمين» قالها وانحنى ملثمًا كفها بحنو وتقدير قبل أن يصعد للأعلى. 

******

خرجت ممسكةً بكوب نسكافية تتأمل ما حولها بصمت 

فرأته قادمًا من بعيد، عرفته فورًا وقفزت مناديةً بسعادة «عبود»تابعته بنظراتها حتى اقترب ودقاتها تعلو مع كل خطوة يخطوها تجاه بيتهم. 

 اقترب من باب المنزل وطرق بعصاه الغليظة، فتركت كل شيء وهبطت راكضة حتى وصلت إلى البوابة الخاصة بالمندرة الكبيرة المنعزلة، فتحت الباب وخرجت متسائلة بلهفة «عبود؟» 

مرة واحدة رأته من النافذة يسير جوار قاسم فاحتفظت بهيئته في خزائن ذاكرتها. 

ضحك مؤكدًا لها  ببشاشة  «الغريبة؟» 

دق قلبها بعنف مستشعرة حلاوة اللقب في القلب والروح، قبل أن تلتقط أنفاسها وتمد له كفها في مصافحة ودعوة«تعالى» 

نظر لكفها بتردد فهمست متوسلة بدموع طفرت من عينيها «تعالى شوية؟» 

منحها كفه الخشنة المتسخة فاحتوتها غير مهتمة أو مبالية إن اتسخت مثله بل ضمتها بحنو وسحبته للداخل وهي تمسح دموعها بكفها الآخر، أجلسته وجلست جواره في صمتٍ وقدسية، تلتقط دموعها المنهمرة بظاهر كفها وهي تنظر إليه متقلبة الحال ما بين الشوق الكبير والندم لانجرافها خلفه   رق قلبه وحنّ فهمس بأبوّة يعرف بسريرته النقية متى يحيط بها مُحبيه ومتى يمنعها «بتبكي ليه يا بتي؟» 

غمرها حنانه كما نظرته الوديعة الحزينة فانفجرت باكية في رثاءٍ وكرب،تشكو له البعد وحيرتها، الشوق وسطوته والقريب الذي يخطو أول خطواته في قلبها، الآن تعرف لما لقبوها بالغريبة. 

 اقترب في حنو يمسح على رأسها مطيبًا الجراح بكلماته الودودة «خلي جلبك يتلفّت مش عينيكِ هتلاجي الي بتدوري عليه» 

تغاضت متجاهلة مانحة له ابتسامة رائعة تعويضًا عن حزنها الذي قدمته في مقابلتهم الأولى واعتذارًا عن سوء ترحابها به،وزعت الندم من نظراتها لوجهه، فابتسم لها بودّ قبل أن يجلس قائلًا «جعان يا غريبة فين نايبي زي العيال» 

تعجبت لمعرفته بما حدث لكنها وقفت قائلة بحماس «حالًا هجبلك كل الأكل» 

بعد قليل كان تتسلل له بصينية مصفوف فوقها شتى أنواع الطعام، وبعض الحلوى والعصائر، وضعتها أرضًا ونهضت قائلة وهي تشير لحوض مياه في نهاية المندرة «تعالى يلا إغسل إيدك» 

نهض بعدما نزع خرجه القماشي وركن عصاه، اتجه معها للصنبور ففتحته له وشجعته بحنوٍ ولطف وابتسامة زادتها حُسنًا«اغسل إيدك ووشك» فعل ذاكرًا الله فابتسمت وسحبت منشفة من جوارها منتظرة انتهائه، أغلق الصنبور فمنحته المنشفة ليجفف وجهه فقال وهو ينظر إليها بنظرة ثاقبة «جلبك كريم كيف يدك، وكرمه ميتردش» ابتسمت بصمت وأشارت له «يلا علشان تاكل» 

بالأعلى رأى كوبًا فوق حافة السور نظر حوله باحثًا عنها فلم يجدها في محيطه، أعاد الكوب للمطبخ وهبط، بحث عنها ولم يجدها فأخرج هاتفه قبل أن يهاتف طاهر جذبت انتباهه الأصوات الراكضة من المندرة قطب مندهشًا قبل أن يعيد الهاتف لجيبه ويدخل ليرى ويستطلع الخبر، رآها تجلس أمام عبود وبينهما صينية الطعام، هو يأكل بنهم وهي تنظر إليه بحنو وتقرّب منه الأصناف مشجعةً ومحمسةً،ابتسم متأملًا لها بغرام مستغلًا انشغالها ليأخذ حريته لكن عبود كشف وجوده  حين رفع رأسه والتقت النظرات مما جعله يحمحم مستفسرًا بحدة كاذبة وتعجب مفتعل «إيه الي بيحصل هنا» 

انتفضت بقلق،تركت الطعام ووقفت مرتبكة وحائرة لم تحسب حساب لشيء حين فعلت ما فعلت ، اندفعت معصوبة العينين والبصيرة يقودها الشوق ويمسك بزمام أفكارها،عضت شفتيها بخوف باحثةً في زوايا عقلها عن حجة أو عذر لفعلتها لكنها لم تجد غير الشوق في قلبها مما جلب الدموع لعينيها والندم لصفحة وجهها، شوقها دفعها لأن تبحث عن ريحهم في عبود وتفعل كما كان يفعل حامد مُقلدة لكن بماذا ستجيبه الآن؟ 

هتف عبود وهو يدس الطعام بفمه «الغريبة جريبة ودليل طريج العمر يا واد الحفناوي، عرّفت التايه فين يخطي بجلبه » 

ابتسم رؤوف رغمًا عنه فتابع عبود «ابني بيتك فأرضها، أرضها كلها حب وخير هتطرح زهر العمر» 

لانت ملامحه وغشيه اللطف فابتسم بصبر، انشغلت بخوفها الخاص ولم تنتبه لحديثهما بل قطعته مبررة ودموعها تتساقط «خبّط وقال جعان عايز ياكل أنا آسفة لو دا غلط » 

رق قلبه لحالها فاقترب مهونًا محتويًا خوفها مقومًا ضعفها بتغاضيه وحنوه 

مانحًا صك الملكية «براحتك خير ما فعلتي البيت بيتك والرزق من الله ولله يا بشمهندسة» 

ابتسمت ممتنة لتفهمه وعدم تكرار السؤال وإلحاحه في المعرفة وتأويله الحنون لفعلتها الذي سرق من قلبها دقة بعثرت الباقي 

جلس جوار عبود قائلًا بجدية «هاتي ميه واعملي شاي» 

أطاعت في حماس وغادرت شاكرة الله على إنقاذها ولطفه بها ورحمته بقلبها من تأويل عظيم على نفسها وسوء ظن سيهلكها ويرمي بها في أتون الشك وظلم النفس  

همس رؤوف بعدما غادرت «عجبك كده؟» 

ضحك عبود قائلًا وهو يدس قطع اللحم بفمه «اتوحشتك فجيت أشوفك لجيتها على بابك سباجة بالخير جبلك» 

هز رأسه مبتسمًا فقال عبود بحنو «متطولش غيبتك عليها اجمع النصين فجلبها وازرع جنتك» 

ربت رؤوف على كتفه قائلًا بحنان «أنا اتوحشتك برضك جوي معلش انشغلت عنكم شوية» 

تجاهله عبود قائلًا بفطنة وهو ينظر لعينيه بنظرة ثاقبة «حلوة الغريبة راعيلها عينك عليها وعلى الي حواليها واعرة شياطين الإنس يا حامد » 

عبس رؤوف بحزن فطمأنه عبود « متخفش جلبها مركب نجاتها بس بيك مركبها الصغير ينجى من الطوفان ولكل واحد مننا طوفانه يا ولدي » 

دخلت ممسكة بما طلبه فصمت عبود وواصل الأكل، أشار لها رؤوف بحنو«اجعدي» 

جلست تاركة له مهمة إطعام عبود ومناولته الماء، تأملته متعجبة من حنوه ومشاكسته عبود بصوت خافت لا يصلها لكن ضحكات عبود كانت تصلها مؤكدة على طيبة قلبه، انتهى وأزاح الطعام حامدًا الله قائلًا وهو ينظر لعينيها بقوة «آسيا كانت مرت فرعون بس دخلت الجنة يا غريبة بنالها ربنا بيت في الجنة »هزت رأسها بفهم فتابع عبود وهو ينظر لرؤوف «وأنتِ اتبنالك بيت في جنة جلبه» 

أشار لصدر رؤوف الذي ارتبك وتشتت نظراته  لاعنًا له بخفوت، نهض عبود ناظرًا لرؤوف موصيًا «لما تاجي سميها آسيا» 

سحبه رؤوف بعفوية تجاه الحوض وهو يقول ببساطة «تعالى اغسل وشك ويدك عنيك هتوجعك من التراب دِه الي بتشيله على راسك، يا حزين مش مكفيك تمشي عليه » 

ساعده في غسل كفيه ووجهه ثم جففهم له وهو يقول ناسيًا التي تراقبه باندهاش «متمشيش دلوك خليك هوصلك بعد شوية» 

قال عبود وهو ينظر للأرائك «عايز أنام» 

سحبه رؤوف للداخل ثم وضع له وسادة وافترش له أريكة بدثار ثقيل؛ ليحمي ظهره من صلابتها «نام يلا» 

تمدد عبود منكمشًا، فدثره رؤوف بدثار خفيف تحت نظرات غزل شديدة الدهشة والعجب.. استدار لها قائلًا «يلا جومي على مكانك وخدي الصينية معاكي» 

نهضت تطالعه بنظرة غريبة وهي تستفسر «وأنتَ؟» 

أجابها بفظاظة «وأنتِ مالك بيا هجعد هنا» ضحك عبود موصيًا وهو مغمض العينين في سكينة مما جعلها تظنه هذيان لحالمٍ أصابته حمى الخيال  «بالهداوة يا حامد» 

استدار رؤوف مغمغمًا له في غيظ «حرقة أبو الي جابك اسكت» ابتسم عبود قبل أن يستدير معطيًا وجهه للحائط وظهره لرؤوف الذي صرفها بعصبية شغلتها عن التفكير «مش جولت يلا من هِنا» 

تأففت بإنزعاج ونظرة مزدجرة له قبل أن تحمل الصينية وتغادر، صعدت للأعلى وانتظرته لكنه تأخر كثيرًا فدخلت حجرتها وأغلقت عليها الباب مُرجحة أنه اختار صحبة آيات تلك الليلة. 

***

في اليوم التالي ظهرًا هبطت الدرج مفتشة عنهم حتى وجدتهم يتحلقون حول الطعام أرضًا، لمحها فدق قلبه وتوقف عن الطعام زاهدًا فاقدًا شهيته له بعدما رأى خيبتها وحزنها واستدارتها للعودة، راقبه والده باحثًا عن سبب انشغاله وتوقفه فرآها مثله، نادى عليها بشجاعة وبسالة ضاربًا بالاعتراضات عرض الحائط «غزل تعالي يا بتي» 

اعتذرت بلطفٍ وحرج «شكرًا يا عمو لما تخلصوا» 

أقسم بفطنة إجبارًا لها وللموجودين ليغلق المعترضين أفواههم ويتقبلوا وجودها صامتين«لاه تعالي والله لو ما جيتي ما أنا واكل» 

ترددت بحزن ناور الامتنان في نظراتها وطغى قبل أن تمتثل لطلبه وتتقدم على استحياء تحيطها نظرات رؤوف وتُفسح لها طريقًا جواره كما القلب، تعمّد عدنان الذي كان يجاوره أن يفسح لها بينهما لتنال حمايتهما ويتناولان الدفاع عنها إن احتاج الأمر، أرادها محصنة من الهمز واللمز وسخافة التعليقات، وأن تُرحم من مجاورة مَن لا يطيقها وقد يؤذيها دون قصد ويغلق شهيتها.. شعرت أنها بين عمودين من الرجال تظللها رحمة نجاة وعطفها من شمس الكراهية الحارقة، كما أنّ لطف عدنان ومزاحه كان درعًا صدّ عنها نظرات الحقد والغضب، صمت الجميع متقبلين راضخين، لم يجرؤ أحد على ترك الطعام.. جاءت جلستها مقابل طاهر الذي صمت محترمًا كبيريه واثقًا في حكمتهما في تصريف الأمور ومحتفظًا بمخالبه لوقتٍ آخر حتى لا تحزن والدته أكثر.. 

ابتسم طاهر غامزًا لغزل التي أخفضت رأسها متهربة من نظراته وغمزاته، نقّلت نظراتها على الطعام الكثير لا تعرف بأي طبقٍ تبدأ ولا تملك الشجاعة لتتناول بأريحية، وضع رؤوف أمامها ما تحتاج إليه ويفضل أن تبدأ به، شكرته بنظرة ممتنة سريعة كالغزال الهارب من نظرات كالأسود تلاحقها، همست بفرحة متعرفة على الطبق الذي قربه منها متذكرة الصغير «طبيخ أُحمر» 

احتفظ بابتسامته داخله وواصل ما يفعل، كلما التقط شيئًا شاركها إياه واقتسمه معها، همست برقة وهي تميل ناحيته«رؤوف ممكن تقولي أنا باكل إيه، وتشرحلي بليز» 

نظر للجمع بقلق قبل أن يهمس «هِنا؟  لما ناكل ونطلع هجولك الي عايزة تعرفيه » ضمت شفتيها باستياء، ثم نظرت لطاهر متمنية لو جاورته هو وتحدثت معه، هو أكثر سلاسة من رؤوف، لاحظ رؤوف نظراتها لطاهر وتعمدها لفت انتباهه بمعلقتها

فسألها بحدة «مالك» 

أجابته برجاء وصوت ارتفع فسمعه الموجودين «ينفع أنقل مكاني جنب طاهر عايزة أقعد جنبه»

نظر الموجودين لهما ما بين شامت ومستاء ومتعجب

توقف عن تناول الطعام وقال بغضب مكتوم وهو ينظر لطاهر الذي جذبه ما يحدث أمامه وصمت في صبر وحرج « تعالى جنب أختك يا أستاذ طاهر مش راضية تاكل غير وأنت جارها أنا قايم» ضحك والده المراقب بصمت بينما نهض بعدها رؤوف تاركًا الطعام، كتمت والدته ابتسامتها وفعل طاهر الذي تحرك ليجاورها فورًا مُرحبًا، سألته«هو ماله؟» 

ضحك طاهر قائلًا ببساطة «مفيش أحرجتيه وشمتي فيه آيات وجدتي بس» 

عضت شفتيها نادمة على مضايقته وإزعاجه أمام الموجودين، نظرت لآيات فرأت شماتتها واضحة كما الجدة فحولت نظرها لنجاة معتذرة لكنها فاجأتها بضحكة وحل بسيط للمعضلة «كملي وكلك وأعمليله كوباية شاي من يدك الحلوة هيروج» 


+



          


                

ابتسمت غزل بخجل فشاكسها عدنان بمودة«وأنا زيه» 

ابتسمت ممتنة لدفئهما وتفهمهما ثم عادت لطاهر مستفسرة  «يلا قولي بناكل إيه فهمني» 

سألها طاهر بضحكة وهو يضع في طبقها قطع البط المحمرة «طلبتيني عشان كده؟» 

نهضت آيات حامدةً الله فتابعتها نظرات غزل بقلق وشك حتى اختفت

قالت بخيبة وعقل منشغل «برتاح في الكلام معاك يا طاهر غير رؤوف » 

أوضح طاهر بتفهم شديد وتوجيه لطيف ممزوج بمراعاته وحنوه «غزل روؤف كبيرنا وأتعوّد على حاجات معينة ومعتقدش هيرفضلك أي حاجة أنا عارف» 

أكدت قوله ببعض الحزن «بصراحة قالي مش هنا لما نخلص ونطلع شقتنا هفهمك »ابتسم طاهر وتابع الشرح لكنها فقدت شهيتها بعد قليل واستأذنت مغادرة، صعدت متمنية أن تراه لتعتذر، وقفت أمام شقة آيات مترددة ظنًا منها أنه غادر إليها، تنهدت متراجعة بخيبة وأكملت  صعودها، رأته يركض فوق جهاز السير خاصته فضحكت بعفوية جعلته يلتفت ناحيتها واضعًا استفساره في نظرة سبقت لسانه، اقتربت قائلة بنظرة لامعة بما يحمل الاستفسار والإقرار «أنت هنا؟» 

أجابها بسخرية فظة وهو ينظر أمامه «لاه هناك » 

تركته وغادرت للمطبخ تنفذ وصية نجاة بمحبة، صنعت  له كوب الشاي الذي يحبه وخرجت ممسكة به كراية بيضاء وعربون صلح، جلس لاهثًا فجلست أمامه متربعة تمنحه كوب الشاي المحلى بابتسامتها الرقيقة والمزين بأوراق النعناع واعتذارها الصادق«آسفة» 

تناوله منها شاكرًا وصمت فتابعت

  «قومت ليه من غير ما تكمل؟» 

أجابها وهو ينظر للبعيد «شبعت»

واجهته بلطف «زعلت ولا شبعت؟» 

نظر إليها طويلًا ثم أدار رأسه مراوغًا بتنهيدة «أنتِ إيه رأيك؟» 

ضمت شفتيها ثم فتحتهما ومازحته «رأيي لو منك وأحرجتني كدا مهما كان الي بينا كنت لبستك طبق الملوخية اللذيذ بتاع طنط نجاة» 

ابتسم بصمت فتابعت «آسفة يا متر مش هتتكرر خلاص ولا هنزل تاني أكل معاكم» 

أجابها بحزن «براحتك الي يريحك» 

تأففت قائلة بحزن مماثل «لو سمحت متزعلش مبحبش أزعل حد مني لو كنت قولتلي مكانش هيحصل كده» 

قال بحدة وغيظ منها «أنا مرفضتش على فكرة » وضعت كفها على كتفه تهدىء من انفعاله، وابتسامتها تمتص حزنه كقطعة الاسفنج«فعلا مرفضتش أنا الي مصبرتش واستعجلت آسفة ياجناب الأفوكاتو» تفاجيء بأول بادرة منها للمسه، والاقتراب منه، نظر لكفها قاطبًا فسحبتها بسرعة معتذرة بنظراتها ومتوردة بخجل من عفويتها ودهشته، نهضت واقفة في ارتباك واضح مستأذنة وغادرت غير منتظرةً لإجابته. 

*****

«في القاهرة» 

جلس يونس جوارها قائلًا من بين أسنانه «مين الحجة؟» 

كتمت فيروز ضحكاتها هامسةً «والله ما أعرف أنا متفاجئة زيي زيك» 

هتفت السيدة بامتعاض وهي ترمقه بنظرة متوجسة «أيوة كدا لما تحب تشوفها يبقا عندي أو عندها بس أنا معاكم» 

رسم يونس ابتسامة مجاملة وقال شاكرًا من بين أسنانه «فيكِ الخير يا حجة والله» 

ازدجرته بنظرة غاضبة وهي تؤكد معجبة بفكرتها «أيوة حكم شباب اليومين دول مش مضمونين تروح توقعها في الغلط وبعدها نقول الحقونا» 

كتمت فيروز ضحكاتها على هيئته فعنفها بنظرة غاضبة جعلتها تنكمش، ابتسم رجب وهو يرتشف من كوب العصير المُقدم له مما جعل يونس يضربه على كتفه ويسحبه منه قائلًا «متشربش ويلا جوم خلينا نمشي» 

تأفف رجب معاتبًا بحزن «سيبني أشربه الأول» لكن يونس عنفه بغلظة ضايقت فيروز واستنكرتها عليه «لاه جوم» 

رحل رجب مغمغمًا بضيق فهمست فيروز ليونس لائمة له «ليه كدا يا بشمهندس سيبه ليه المعاملة دي؟» 

رمقها بنظرة حانقة قبل أن يكلمها بفظاظته «ملكيش دعوة» 

مطت شفتيها في ضيق وأدارت رأسها بعيدًا بصمت فهمس وهو ينظر بعيدًا «رجب عنده سكر وضغط ودهون عالكبد» 

أدارت له رأسها متفاجئة فتابع وهو لا ينظر إليها «لو سبته لنفسه هيموت.. لو غفلت عنه شوية مبياخدش العلاج وبيهمل ولا متابعتش أكله بيلخبط ويعك ويجعدله يومين في المستشفى» 

فغرت فمها متعجبة ومندهشة لا تصدق ما سمعته للتو منه ولا اهتمامه برجب، قالت بتأثر «طيب ومراته بتمشي ليه وتسيبه» 

أجابها يونس دون مرح وبجدية وهو يتابع السيدة التي تحوم حولهم بمضرب «بتيجي كل شهرين والحجيجة مبحبش  تجعد عشان غلاسة السكان وبرودهم، بيخلوها تساعدهم، رجب ليه شغل محدد بيعمله وخلاص بس في ناس باردة مبتفهمش وأنا مش دايمًا موجود ورجب ومراته طيبين وبيساعدوا أي حد وأنا معيزهاش تتهان» 

نظراتها المنبهرة صفقت له بإعجاب عوضًا عن كفيها وهي تسمع منه وتعرف جانبًا جديد من شخصيته.. لاحظ ذلك فرفع حاجبه وقال بغطرسة لا تليق بسواه ليمحي ما يراه بنظراتها «هما عشان يخدموني أنا بس» ثم عدل ياقته وتابع بغرور «أمي موصياه عليا وبتبعتهم مخصوص لمساعدتي أنا بس» 

هزت رأسها ضاحكة بلا فائدة فضحك مثلها ونظراته تطارد السيدة التي تلف حولهما بمضرب «حاسس إني فملعب وهي شيفاني كورة وفجأة هلاجي دماغي طايرة مع المضرب» 

قهقهت فيروز عاليًا مما جعل العجوز تميل ناحيته من الخلف وتسأله «ولاا أوعى تكون بتقولها  كلام ميصحش» 

تبرأ قائلًا وهو يرفع رأسه ونظراته إليها «وحياتك يا حجة و لا يصح» 

سألته من جديد «أوعى تكون بتقولها كلام قبيح» 

أعاد يونس رأسه ناظرًا لفيروز التي تضحك بهيستيريا عليه، ثم أعاد رأسه للعجوز قائلًا  بابتسامة مصطنعة «جبيح كمان » تابع بمرح «مش جولتلك المرة الي فاتت إني مش متربي؟» 

هزت السيدة رأسها بابتسامة من يستعد للإفتراس فهز رأسه وقال «طيب أنا بأكد المعلومة وبضيف عليها أبجا كلب واستاهل اتدبح وأتعمل حواوشي هوهو لو جيتلها تاني» 

نهض يونس منتفضًا سحب الأوراق التي جاء من أجلها وتحرّك قائلًا «مش جاي تاني هبعتلك رجب لو في ورج هيتمضي حاسس المرة الجاية هطلع المسيح  الدجال» 

نظرت إليه السيدة بإمتعاض بينما انفجرت فيروز في الضحك، ودعته العجوز بنظرة متوعدة «يلا جتكم نيلة شباب مايص» 

ثم توجهت لفيروز بمضربها قائلة «ما بس يا مسهوكة» 

قهقهت فيروز مرة أخرى فقالت السيدة بحدة «قومي قطعي البطاطس واتعلمي حاجة تنفعك» 

هزت فيروز رأسها وجلست متربعة أمامة طبلية صغيرة وهي لا تعرف من أين خرجت لها تلك السيدة العجوز وما هذا المكان الذي حجزها فيه رؤوف الحفناوي. 

***

في مساء اليوم التالي 

خرجت من حجرتها على صوته المرتفع، نظرت حولها مستكشفة مكان وجوده قبل أن تخرج إليه وتسير خلفه وهو يتحرك بعصبية واضعًا كفه الأيسر بخصره والآخر غارسًا له بخصلاته «تمام.. ماشي فمندرتنا معنديش مانع مش هضربه ماشي» 

قطع طريقه مستديرًا فاصطدم بجسدها، ابتعدت متأوهة تلومه«آه مش تكمل الطريق» 

سألها بضيق «أنتِ ورايا ليه؟» 

أجابته ببساطة وعفوية وهي تجلس متربعة أمامه وهي تشرح له بمرح«وراك بقالي خمس دقايق رايحة جايه رايحة جاية ؟» 

أشرقت ابتسامته برؤيتها  واقترب يسألها «وورايا بتعملي إيه» 

ضمت شفتيها بصمت قبل أن تخبره بإنزعاج «صوتك عالي معرفتش أعمل حاجة بسببه والموضوع الي بتتتكلم فيه خطف اهتمامي وأفكاري» 

جلس أمامها مستفسرًا بصبر «وبعدين» 

حمحمت بخجل قبل أن تقترح بمرح «أقولك رأيي وتاخد بيه؟» 

أغمض عينه اليسرى مقلّبًا كلماتها في ذهنه قبل أن يفتحها موافقًا «جولي وأشوف لو عجبني معنديش مشكلة خالص بالعكس هشكرك» 

أسندت ذقنها بأناملها ومالت قليلًا قائلة « بص مش معاك ففكرة الجواز يا متر يعني  الواد قليل أدب وعاكسها وضايقها وشهّر بيها دا معناه أخلاقه زفت ولما أنت تحكم عليه يتجوزها هيطلع غيظه فيها وممكن يأذيها دا غير البنت هتتجبر تتجوزه وهي ممكن متكونش عيزاه فليه نظلمها» 

هز رأسه بصمت وتفكير عميق فسألته باهتمام «ها إيه رأيك؟» 

نظر لعينيها قليلًا قبل أن ينهض ويسير قائلًا بغطرسة «كلام كويس ومنطقي .. 

نهضت نافضة كفيها من ذرات التراب العالقة به وسارت خلفه مقاطعة له في عتاب «بلاش غرور وقول إن كلامي عجبك ورأيي هو الصح» 

استدار ينظر إليها بجمود قبل  ان يتظاهر باللامبالاة وعدم الاقتناع «بس مقتنعتش بيه الي بجوله أنا هو الي يمشي احتفظي بعد كده بأفكارك لنفسك ومترميش ودانك معايا كتير» 

ركلت ما وجدته أمامها صائحة بعصبية وغيظ «أنت مش معقول والله ماشي في المكان مسمع البلد كلها وعامل فيها شيخ قبيلة وتقولي راميه وداني...» 

رفع رأسه بكبرياء كاتمًا ضحكاته على هيئتها متجاهلًا توبيخها ببرود جعلها تقترب صارخة في وجهه «أنا كنت طالعه أقولك أنت قاعد هنا ليه وقارفني بحكاياتك ما تنزل أدوش مراتك يا بني آدم» 

اقترب منها مُحذرًا في غضب كاذب «مش بت كد علبة الكبريت تجولي أجعد فين ومجعدش فين وأعمل إيه ومعملش إيه؟» 

فغرت فمها مندهشة من التشبيه غاضبة منه ومستنكرة «علبة كبريت» 

كتم ضحكته مؤكدًا بهزة رأسه «أيوة» 

أغمضت عينيها ملتقطة نفس طويل قبل أن تصرخ في وجهه ضاربة الأرض بقدميها في غيظ وقلة حيلة «أنت.... 

غادرت لحجرتها بخطوات واسعة فهتف «كملي يا علبة الكبريت أنا أيه واغلطي عشان أربطك في النخلة الي جدام البيت» 

توقفت لاعنة له واستدارات قائلة بتحدي وثبات «أنت بارد وكلامك مستفز وانزل لمراتك وريحني» 

ركض ناحيتها فركضت لحجرتها وأغلقت خلفها، وقف يطرق صائحًا «ماشي يا متربية يا مؤدبة» 

هتفت بغرور «غصب عنك» 

ضرب الباب بقبضته «لما شجاعة وعاملة سبع رجالة افتحي الباب» 

قالت ضاحكة وهي تنزع حجابها وتلقي به «لا» 

بعد قليل كانت يفتح الباب بهدوء ويقف مستندًا بمرفقه على مقبض الباب قائلًا «عيدي كده جولتي إيه؟» 

انتفضت مُلقية بهاتفها، شاهقة بفزع من مفاجئته غير المتوقعة، وقفت فوق الفِراش متسائلة «أنت فتحت ازاي؟» 

أجابها وهو يقترب من الفراش  «تساهيل ربك» 

سألته ونظراتها تتحرك مراقبة له «طيب إيه؟» 

سألها بابتسامة هادئة منتشية وهو يراقب قفزاتها «كنتي بتجولي إيه؟» 

أجابته بوداعة وهي تزيح خصلاتها بكفها «ولا حاجه كنت بقول إنك طيب جدًا وبتسليني بصوتك العالي ومواضيعك اللطيفة وإن إنت صح أنا رأيي دا ارميه فسلة الزبالة» 

قهقه قائلًا «أمال أنا سمعت بارد ومستفز وانزل لمراتك ليه؟» 

هزت كتفيها قائلة بدلال وهي تحرك أهدابها ببراءة«معرفش يا متر» 

سحب عصا مكنسة من جوار الخزانة واقترب قائلًا «أنا سمعت صح يا هندسة وأحب أجولك معلومة عني للزمن مبسبش حقي خالص لازم أخده بيدي ووقتي عشان لو اتأخر باخده الطاق طاقين» 

قفزت ناحية الهاتف مهددة «هكلم طاهر والله» 

قهقه من جديد قائلًا«تبجا فرصة تضربوا أنتو الاتنين يا مرحب» 

ضرب الفِراش بالعصا فعادت قافزة فوقه بعدما تناولت الهاتف محاولة الاتصال بطاهر، لكنه قفز مستغلًا انشغالها وأمسك بها، توسلته «اهدأ يا متر هصوت والله أو أقولك مش هكلم طاهر خلاص» 

طاردها بإصرار «كلمي طاهر وخليه يجيني» 

ابتعدت عنه قليلًا مهاتفة طاهر بأنفاس مرتجفة «طاهر تعالى فوق بسرعة» 

أنهت الاتصال وقالت «اهو جاي» 

ركض طاهر للأعلى بسرعة قلقًا من نبرتها نادى بتصفيق قوي فنادته وهي تنظر لعيني رؤوف بقلق «تعالى يا طاهر» 

دخل طاهر مفتشًا بنظراته مناديًا بأدب حتى وجدهما في مطاردة، رؤوف بعصاه وهي منكمشة أمامه مذعورة «في إيه؟» 

اتجه رؤوف ناحيته وأمسكه من ملابسه قائلًا «اختك بعتالك تضربني وبتهددني بيك» 

كتم طاهر ضحكاته وقال بسخرية «أضربه يا مفترية» 

قالت برأس مرفوعة متحدية «أيوة» 

ضحك طاهر ضاربًا كفًا بكف وهو يقول «يا حبيبة أخوكي ده بيفطر ضرب ويتغدى ضرب ويتعشى ضرب، ده ضارب نص البلد شرق وغرب» نظر إليها رؤوف بتحدي وغطرسة متوعدًا لها

فصرخت مستنكرة «يعني إيه؟» 

أجابها طاهر بضحكة «ريحي أمورك مش عايز أنزل ألاجيكي متعلجة في النخلة أصل أخويا من هواياته المفضلة ربط الناس في النخل» 

ترك رؤوف ملابسه وصفعه على عنقه مثنيًا عليه «جدع يا طاهر» 

سأله طاهر وهو يضع كفه على صدره مُرحبًا بالثناء «حبيبي يا متر» 

صرخت فيهما بغيظ «ماشي يا طاهر» 

أشار له رؤوف «يلا أنت يا طاهر وخد الباب فايدك» 

توسلته غير مصدقة وهي ترى الجدية والعزم في نظرات رؤوف «طاهر متمشيش» 

نظر طاهر لرؤوف مستعطفًا «ضرب ميعلّمش يا رؤوف مش هوصيك» 

أكدّ رؤوف بجدية «عيب يا طاهر دي لعبتي» 

صاحت فزعة «أنتم مجانين صح» 

هتف رؤوف بمرح «سجل يا طاهر مجانين دي فيها عشر ضربات على رجلها» 

قهقه طاهر وغادر مُغلقًا الباب خلفه، بينما تقدم رؤوف قائلًا بمرح شديد «سمعي يلا جدتي صوت علقة العشا» 

قفزت فوق الفِراش وتنقلت فوقه وهو يطاردها بعصاه الطويلة حتى تعرقلت وسقطت فتلقفها بين ذراعيه تاركًا العصا محيطًا خصرها متشبثًا بتلك الفرصة، حملها قليلًا وتحرك بها بعيدًا عن الفِراش فهمست بوداعة كاذبة وهي تسبل أهدابها برقة مبالغ بها «خلاص يا متر سوري مش هتتكرر» 

اقترب أكثر وهمس بأنفاس متسارعة «لاه أنا عايزها تتكرر، كل حاجة معاكي عايزها تتكرر مرة واتنين» 

انتقل إليها تأثره، لثمت أنفاسه وجهها فأغمضت عينيها بخجل قبل أن تستعيد وعيها وتفيقه بضربها بطنه بركبتها وهي تهتف بتشفي وندم كاذب «يا متر بقا» 

أبعدها عنه متألمًا فركضت للخارج هاربة وهي تقول بضحكتها الجذابة «مبتتعلمش من أخطاءك بتموت فتكرارها» 

تركها ترحل وعاد لحجرته اليوم تملكته  وسيطرت عليه مشاعر غريبة، مذاق قربها كان فريدًا وممتعًا لم يشعر به من قبل، انجذب بطريقة لم يعهدها بنفسه وانصهر كيانه في حرارة أنفاسه، اقترب حد التمادي أكثر، كان ثملًا لم يفق إلا على صحوتها هي، حامدًا الله أنه لم يقترب أكثر.

بعد مرور مدة خرجت من الحجرة منزعجة بشدة، تهرش في جسدها بتذمر طفولي وسخط، راقبها من فوق كرسيه الهزاز مستفسرًا ونظراته تتحرك معها «في إيه خيلتيني» 

أجابته بامتعاض وهي تجلس بالقرب منه «الناموس بيعاملني أسوأ من جدتك» 

أطبق شفتيه مانعًا ابتسامته من الظهور ثم أجابها وهو يقلّب الأوراق التي بيده «معلش» 

هرشت بقوة في ذراعيها ببكاء مستغيث «آه بجد دا كلاب مش ناموس بتبهدل» 

أجابها ببرود متظاهرًا بالإنشغال في أوراقه «معلش» 

اندفعت صارخة بغيظ منه «إيه معلش  دي» ترك الأوراق ونزع نظارته رامقًا لها بنظرة استفسار باردة، فقالت من بين أسنانها وهي تتأمل ملابسه « أنت مش حاسس ولا إيه بجد هو مبيقربلكش؟» 

ابتسامة مستفزة رسمها على ثغره وهو يخبرها ببرود «لا الناموس مبيقرصش مؤمن» 

شهقت متفاجئة برده قبل أن تصرخ بعصبية شديدة «نعم!  أنت بتهزر؟» 

كتم ضحكته وأجابها بهدوء مستفز «لاه بتكلم جد» 

وقفت أمامه صارخة وهي تسحب الأوراق من بين كفيه؛ لتحصل على انتباهه الكامل «وأنا يعني إيه؟» 

مال بجزعه ناحيتها قائلًا «خلاص الناموسة الي تاجي ناحيتك اسأليها ليه أنا مش هو »

أعاد ظهره باسترخاء وشبك أنامله قائلًا« بس لو مكانه هعمل كده برضك» 

تطاير الشرر من عينيها في ضيق وغضب من قوله الذي فسرته عكس ما قصد «طبيعي هستنى منك إيه تبوسني مثلا» 

أخفض رأسه وهرش رقبته مُفكرًا قبل أن يرفع رأسه مجددًا ويبتسم قائلًا «استني مني كل حاجة يا هندسة أنا كريم وأهو كله بثوابه» 

ضربت الأرض بقدميها صارخة فيه بوجنتين محمرتين «قصدك إيه؟»ثم واصلت بسخرية وتهكم

« ما أنا عارفة أنت لو اتكلمت بصراحة تتحرق» قهقه وهو ينهض من فوق كرسيه، جذبها وأجلسها مكانه ثم مال ناحيتها مستندًا بكفيه على حافتي الكرسي «مجصدش حاجة دايما بتفسري غلط» 

رفعت ذراعيها كدرع حماية أمام وجهها وانكمشت مستفسرة بتوتر أصابها بالتلعثم وهي تراه بهذا القرب منها تتقابل أنفاسها وتتقاتل  «ماشي بس ابعد» 

مرّت نظراته على وجهها بطيئة قبل أن يهمس وعيناه تركن عند ثغرها «اجعدي مكاني الناموس مش هيجربلك وعايز أجولك أوضتي كمان مفيهاش ناموس بيقرص تحبي تبيتي فيها؟» 

ركلت ذعرها وهاجمته بشراسة «أنت قليل الأدب» 

ابتعد ضارًبا كفًا بكف في يأسٍ كاذب، ثم عاتبها وهو يحرك رأسه بأسف ٍ وإحباط «كنت هبدل معاكي الأوضة وأرحمك أبجى جليل الأدب صُح والله خيرًا تعمل شرً تلجى» 

كورت شفتيها مُحرجة من سوء ظنها وسوء فهمها فابتسم مشفقًا عليها لكنه تابع  «معارفش مال دماغك يا هندسة تفسيراتها غريبة» 

انتفضت واقفة تصرخ فيه بغيظ «قصدك إيه؟» 

دس كفيه في جيبي بنطاله القصير وتحرّك ناحية حجرته مُجيبًا ببرود «ولا حاجة أنتِ الي مخك تخين» 

شهقت مصدومة من قوله وتوبيخه الواضح فصرخت بقوة لاعنة مما جعله يغلق الباب مقهقهًا، توعدته بالرد قبل أن تدخل حجرتها وتغلق خلفها بغضب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

في اليوم التالي قبل أذان المغرب جلست فوق السلّم في الجزء الفاصل ما بين شقة آيات و المؤدي للسطح. 

صرخت في هاتفها غاضبة وحانقة من أفعالها «حكتيله يا صفوة؟  مش هتبطلي الطريقة دي وأي حد يضغط عليكي تتكلمي مفيش زفت اعتذار»

هتفت صفوة بأسف حقيقي «معرفتش يا غزل والله»

سألتها غزل من بين أسنانها بغيظ «وإيه كمان؟»

أجابتها صفوة «لمياء سألت عليكي وقولتلها اتجوزتي رؤوف»

صرخت فيها غزل بنقمة «ربنا يسامحك يا شيخة هتقول إيه دلوقت عليا، حرام عليكي يا صفوة أنا غلطانة إني أصلا عرّفتك رقمي وكلمتك أتطمن عليكي» 

اعتذرت صفوة بندم «معلش يا غزل متزعليش» أنهت غزل الاتصال قائلة «اقفلي خلاص» 

زفرت مستغفرة فجاء طاهر وجلس جوارها مستفسرًا بحنو «مالك يا هندسة مين مزعلك أجطملك رجبته» 

أجابته بزفرة حارة يملؤها الاستسلام «صفوة الغبية» 

سألها باهتمام «مالها»

انتبهت للتو وقالت متجاهلة سؤاله«بقولك إيه مش راجع القاهرة» 

غمز لها طاهر مشاكسًا «إيه زهجتي مني ولا إيه الحكاية؟» 

استنكرت وهي تضربه على كتفه «إيه البصة دي يا طاهر» 

قهقه طاهر قائلًا «ما احنا متفقين هجعد معاكي» 

ابتسمت قائلة «لا خلاص سافر يا حبيبي شوف حياتك وبالمرة شوف صفوة واتقرّب منها» 

عبس في رفض فضربته مرة أخرى مستفسرة «إيه؟» 

أجابها وهو يحك فروته «مش عارف بس صفوة مش طيقاني أصلا» 

ضحكت موضحة بلطف «لا أبدًا هي بس جبانة شوية وانطوائية وطيبة خالص علشان كدا عيزاك تتقرب منها يا طاهر وتاخد بالك منها علشان أنا خايفة عليها والله أووي» 

هز كتفه قائلًا برفض وعبوس لم يترك ملامحه «لاه مش عايز» 

ضربته بقوة رافضة قوله آمرة له بغلظة «مش بمزاجك يا أفندي وبعدين قولي مش بتشتغل مع أخوك فمكتبه ليه» 

أجابها بضيق «برضو مش عايز» 

شدت خصلاته رافضة قوله «مفيش مش عايز الناس بتتمنى تشتغل مع أخوك» 

صحح لها من بين ضحكاته «اسمه رؤوف مش أخويا» 

واصلت بضجر «أنا أقول الي أحبه مش عاجبني جو لن أعيش في جلباب أخي بتاعك ده» 

قهقه طاهر عاليًا فتركت خصلاته وقرصت خده قائلة من بين أسنانها «أخوك محامي شاطر اتعلم منه واشتغل معاه يا طاهر حلو إن يبقالك ضهر وسند وحد صبور وعنده استعداد يفهمك ويعلمك ومش بس كده يتمنالك النجاح» 

تركت خده وواصلت نصحه بحنو «حبيبي دا رزق من ربنا والرزق ميتقالوش لا ناخده ونحمد ربنا» 

لثم طاهر كفها شاكرًا واعدًا لها بالتفكير في الأمر «والله أنتِ الي حبيبتي» 

سحبت كفها ورفعت رأسها قائلة بغرور وكبرياء «عارفة ومتقدرش تستغنى عني» 

ضحك طاهر قائلًا بعدما سمع حمحمة أخية وقد أعلن عن وجوده واقترابه بتلك الفعلة «بعد حبيبي دي مفيش حضن بجا » 

سمعه رؤوف فصرخ فيه وهو يقف أمامهما «يسد بيت أبوك ايه الي بيحصل هنا ده» 

كتم طاهر ضحكته وأجابه بهدوء «إيه يا أخوي مفيش حاجة» 

صرخ فيه رؤوف وهو يسحبه من خصلاته «سمعت حاجات وحبيبي وحضن» 

وقفت متحدية تهتف بغضب «في إيه يا عم أنت هو أنت قافشنا ما تبطل شغل بوليس الآداب ده» 

هتف رؤوف من بين أسنانه بنظرة متوعدة «على شقتك يلا بدل ما أرميكي أنتِ وهو من فوق » 

فغرت فمها ذاهلة مما قاله« هي حصلت؟ أنت دايس فأي جرايم وخلاص » 

هدر بغضب «امشي من جدامي» 

تأوه طاهر مستغيثًا وهو يصرفها متوسلًا «اطلعي هيجلع شعري فايده» 

أمسكت بطاهر وسحبته منه متحدية بعناد وقوة «سيبه متمسكهوش زي الخروف كده» 

صاح طاهر بغضب «خروف إيه يا هبابة أنتِ» 

ضربه رؤوف رافضًا توبيخها، بينما تجاهلت هي إنزعاج طاهر وكررت بتحدي «سيبه بقا حرام راسه هتوجعه» 

اقتربت وانحشرت بينهما فتركه رؤوف فورًا وهو ينظر إليها بتحدي، هبط طاهر بسرعة لاعنًا لهما، وقبل أن تغادر بثقة وغرور كان يحتجزها هي هامسًا بانتصار«مين هيخلصك أنتِ» 

مالت ناحيته مقتربة حد التلامس وهمست بما لم توضحه له ليسمعه ثم نظرت لعينيه صارخة  «يا آيات... آيات» 

خرجت آيات على صوتها العالي من شقتها القريبة منهما ونظرت للأعلى  مستفسرة «في حاجة يا غزل» 

نظرت غزل لعينيه قائلة «المتر عايزك» 

تبادلا النظرات المتحدية قبل أن تزيح ذراعه من على خصرها وتصعد للأعلى تاركةً رؤوف في مواجهة آيات يعاني من استفساراتها وإلحاحها في المعرفة. 

بعدما تخلّص من آيات هبط مقتحمًا حجرة طاهر الذي انتفض مستفسرًا بقلق «في حاجة يا أخوي» 

ابتسم قائلًا وهو يرفع كميه  في استعداد وتهيئة للهجوم «ولاه حاجة حلفت طلاق ما هرتاح وأغير هدومي غير وأنا مديك الحضن يا طاهر يا واكل أبوك إن شاء الله» 

اتسعت نظرات طاهر بدهشة ممتزجة بضحكته المتقطعة وسؤاله المبتور بالخوف«رؤوف» 

اقترب رؤوف منه بهدوء قائلًا بابتسامة متشفية «جول آمين الأول ياض» 

غمغم طاهر لاعنًا في سره «آمين» 

ابتسم رؤوف قائلًا وهو يأخذ برأسه «حبيبي يارب» 

****

في المساء هبطت باحثة عن أحد بعدما ملّت البقاء وحدها ومحادثة ورودها التي لا تجيب وتختزن الألم داخل أوراقها فتموت وتذبل من ثقل ما تحملها إياه، باحت لهم بالكثير الذي أماتهم فقررت أن تكتم داخلها ولا تدع شقاؤها يتسرب لورودها الجميلة، فلتذبل هي لا ضرر وتموت يومًا بعد يوم لا مشكلة لكن ورودها تظل متباهية بنضارتها  وجمالها تمنحها الأمل كلما ذبل في روحها... سيطر الصمت على المكان كسحابات سوداء، فبدا موحشًا وهو فارغ فقررت أن تستغل الفرصة وتكتشف المنزل، جذبها صوته العالي فأدارت رأسها باحثة عن المصدر، رعدة سرت في جسدها حين صاح بقوة غاشمة بُحّ بعدها صوته وثأرت منه أحباله على توريطها، تقدمت ناحية الباب المؤدي للمندرة رامية السمع 

دون حاجة لذلك فصوته يزلزل النفوس ويهزم السكون مُصدعًا جدران الثبات.. 

فتح الباب فجأة فوجدها أمامه بخوفها وحزنها وحنانها الذي يغمر ويجرف ويمحي آثار البؤس والشقاء في نفسه، التقت نظراتهما قبل أن يسألها بحدة «واجفة هِنا ليه؟» 

أجابته بارتباك وهي تحاصره بنظرة دافئة «صوتك كان عالي» 

ضم قبضته بقوة مسيطرًا على ألمه، عاصبًا صوت خيانتها بثباته، الألم ينتشر في دمائه الفائرة ويتنقل كالبرق في كفه وذراعه ورأسه، زاغت نظراته فهز رأسه واندفع قائلًا بصرامة «ماشي أنا طالع ومتجيش ورايا» 

خشيّ من الهزيمة أمامها، لن يتحمل نظرة شفقة بعينيها أو مساعدة باهتة مفتقرة لصدق مشاعرها، لن يتحمل رؤية صورته مشوهة في نظراتها أو ترى انكساره فتجلد نفسها بالبقاء معه وتدفع ما تبقى من العمر لسداد الدين وإحياء ما أماته والدها به،رأته يصعد راكضًا، تابعته حتى اختفى 

وقفت ثابتة حتى هداها تفكيرها لأن تلحق به، صعدت ملتهمة الدرجات بقلق ينتشر في النفس ولا يعفي عقلًا أو قلبًا من سطوته، يغمرها كلها ويدس الخوف في أركان نفسها كالقنابل المتفجرة.. وصلت فوجدته يتأوه تعبًا بجسد متشنج، ونظرات مذبوحة... كتمت شهقتها متفاجئة ومذعورة قبل أن تدخل بسرعة وتجلس على ركبتيها أمامه متسائلة «في إيه؟» 

أشاح لاعنًا يضم كفه ويشد ذراعه كالوتر، يخفي هزيمته وانكساره، نهض بجسد متثاقل يتخبط فيما حوله فتبعته عارضة مساعدتها «محتاج حاجة؟  أساعدك في حاجة» نظر لعينيها مفتشًا عن شفقة يجلد بها ذاته فلم يجد سوى حنانًا يفيض؛ ليغمر باقي العمر، تحرّك تجاه حجرته بعجز يضرب بفأسه فوق رأسه وساقيه، بقيت هي خارجها تراقب بحزن وانطفاء، متأهبة ومستعدة لأي مساعدة.. خرج خائبًا يطلب منها بهزيمة «العلاج نسيته فأوضتك هدخل أجيبه» 

يستأذنها في أشد حالاته عجزًا وهلاكًا يطلب موافقتها وهو يملك الحق في اقتحامها، اقتربت منه محافظة على الدموع بعينيها من التسلل حتى لا يفسرها بما يؤذيه ... هزت رأسها فركض بكل التعب والأمل، دفع الباب خلفه بقدمه بعدما دخل لا يريدها أن تراه ثانيةً، فتش عنه حتى وجده، دس واحدة بفمه وأطبق عليها وجلس منهكًا أسفل الفِراش، نظر حوله دون تمييز و برؤية مشوشة، دخلت الحجرة وجلست أمامه، أمسكت بعلبة الدواء قائلة «أنت كويس؟» 

هز رأسه برؤية غائمة، قبل أن ينهض متعكزًا بوعي مشوش ويترك الحجرة مُلقيًا بجسده فوق الأريكة بالصالة . مسحت دموعها المنهمرة وتبعته في أسى  ممسكةً بدثار خفيف ،تأملته فأغمض عينيه اللحظة هربًا، واحترمت مشاعره ودثرته هامسةً «لو احتجت حاجة اطلبها مني أنا هفضل جنبك» 

أكدت قولها بأن جلست أرضًا جوار الأريكة تبكي بصمت لا تتخيل ما تركه والدها وتلك البصمة التي طبعها في جسد هذا المسكين؛ لتذكره دائمًا. 

بعد قليل صعد عدنان، دخل بحذر فوجدها جالسة أرضًا وهو فوق الأريكة مغطى بعناية ابتسم بإشفاق قبل أن يهمس «نام؟» 

نهضت غزل من جلستها تخفي آثار حزنها وتأثرها، تلوّن محياها بابتسامة باهتة مُرحبة «اتفضل يا عمو» 

تحرك عدنان ناحية الجلسة تحت الظل وأغصان أشجارها الممتدة التي تلف المكان بخضار أوراقها، تبعته في صمت ثم جلست أمامه مستفسرة «حصل إيه تحت؟» 

سألها وهو يمسح نظارته «رؤوف تعب؟» 

أجابته بعدم فهم لما حدث «معرفش كان بيتألم وشادد دراعه وأخد علاج ونام» 

ابتسم قائلًا بحسرة «ورثه من الجديم يا بتي ماهو مش كل الورث فلوس وأطيان، هو ورث القديم لوحده بمرارته ووجعه» 

تألمت في حسرة مماثلة وتوجعت لأجله هامسةً «حصل إيه خلاه تعب؟» 

أجابها عدنان بلطف وهو يضع عويناته«كان في جعدة رجالة ومتفقين على حاجة خلاص وجوزك عارض فجأة والطرف التاني اتمسك ومسكوا فبعض» 

سألته بفطنة «موضوع البنت الي الولد شهّر بيها؟» 

رمقها عدنان بنظرة ثاقبة قبل أن يقول «أيوة هو حكالك» 

أجابته متذكرة شجارهما «لا سمعته بيتكلم وإنه هيجوزهاله» 

تنهد عدنان قائلًا بيأس «جوزك جه في الجعدة وجال ميتجوزهاش مش هيشارك فظلمها وحكم على الواد حكم تاني معجبش الواد وأبوه فشبطوا فحل الجواز جام جوزك الله يكرمه ضاربه» 

فغرت فمها مندهشة من فعله وعمله برأيها وإصراره عليه عكس ما أوهمها وما أوصله لها من مشاعر غرور وتعالي ورفض لرأيها واستهانة به. 

سألها عدنان بفطنة ونظرة ثاقبة«مالك؟» 

هزت رأسها هامسةً بصوت مبحوح «مفيش يا عمو» 

صمت عدنان منتظرًا له أن يفيق وصمتت هي مُفكرة حتى استيقظ ونهض من مكانه، خرج فوجدهما سويًا، أدارت رأسها فالتقت نظراتها قبل أن يهرب منها  لأول مرة...«تعالى يا رؤوف عايزك» 

قالها والده فابتلع ريقه متذكرًا ما حدث له ورؤيتها ضعفه وانكساره، أجاب بصوت فقد حيويته وبريق قوته «حاضر» 

نهضت من مكانها وسارت ناحيته وقفت أمامه قائلة «أعملك حاجة تشربها مع عمو؟» قال بجفاء متعمد وهو يواصل الهرب من نظراتها «لاه» 

مازحته محاولة إزاحة ما علق بنفسه توهمه بنسيانها وتجاهلها ما حدث «دا علشان عمو مرة يعني مش دايمًا» 

تحرك من أمامها قائلًا بصوت هامس وقلب مثقل بالظنون والإفتراضات«لاه شكرًا لا دلوك ولا بعدين » 

#انتهى

 "إن الحوائج لتُقضَى

‏بكثرة الصلاة على النبي ﷺ "♥️

وإنَّ القلبَ لَيَطِيب بڪثرةِ الصلاةِ على الحَبيبِ المُصطفَىٰ ..ﷺ'🌝🌙

اللَّهُــمَّ صَلِّ وَسَـــلِّمْ وَبَارِكْ على نَبِيِّنَـــا مُحمَّدﷺ〽️💌


+



الرابع والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close