رواية قيود الماضي كاملة وحصرية بقلم شروق مصطفي
الفصل الاول
ها هو الجحيم يعود لي من جديد... استيقظت على كابوس لم أتوقعه، لكنه لم يكن حلماً هذه المرة، بل حقيقة مفزعة وجدت نفسي فيها دون سابق إنذار.
مرت السنوات، حتى ذلك اليوم المشؤوم، حين كنت أتسوق لأجل المنزل. حظي العاثر قادني إلى لقائه مجددًا. رأيته قبل أن يراني، فحاولت الفرار، لكن عبثًا... لمحني، وكأن العناية الإلهية ألقت به أمامي عن عمد. نظراته كانت مشحونة بالدهشة والفرح المختلط بالذهول، كأنه وجد كنزًا كان يبحث عنه طويلًا. حدق في وجهي، ثم انزلقت عيناه إلى يدي، ليرى الخاتم الذي يزين إصبعي. تغير صوته حين سألني بصوت خفيض لكنه مثقل بالحزن:
"اتجوزتي؟ ومبسوطة معاه؟"
تجمدت الكلمات في حلقي، وأردت أن أهرب، لكن خوفي منه شلّني للحظات. أخيرًا، هززت رأسي إيجابًا، اعتذرت سريعًا، ثم استدرت ومضيت. لا... لم أمشِ، بل ركضت بكل ما أوتيت من قوة، خشيت أن يتبعني، تجنبت طريقي المعتاد، عبرت أزقة متعددة حتى فقدت أثري، ثم دخلت منزلي مرهقة، مرتعشة.
فوجئ زوجي بحالي، رأى الاضطراب في وجهي وأنفاسي اللاهثة، فسألني بقلق، لكنني لم أشأ إخافته، فاختلقت كذبة واهية:
"كان هناك كلب... وأنت تعلم كم أخاف منهم، ركضت، فركض ورائي."
بقلم شروق مصطفى
ضحك ليطمئنني، ثم مازحني قليلًا قبل أن يغادر إلى عمله، أما أنا، فدخلت غرفتي محاوِلةً تهدئة نفسي، لكن كيف يمكنني ذلك؟ الذكريات عادت تنهشني من جديد، وجوه، وأصوات، ولمسات ترفض أن تُنسى.
لم يكن انفصالنا هينًا، بل كان أشبه بمعركة لا تُحسم. لم يكن يرى أن البُعد خيارٌ مطروح، بل رفضه رفضًا قاطعًا، حتى كدت أصدق أن الهروب منه مستحيل. لوقت طويل، كنت أشعر به حولي، أراه في كوابيسي، أسمع همساته في أذني وهو يقول:
"مستحيل أسيبك... إنتِ ليا أنا وبس."
ظننتها أوهامًا، ظننتها مجرد تهيؤات... حتى تلك الليلة.
لم يكن كابوسًا، ولم يكن مجرد جاثوم كما كنت أخدع نفسي. استيقظت على حركة غريبة، فتحت عيني نصف فتحة، وهناك... في الظلام، وقفت صورته أمامي، لا ظلًا ولا طيفًا، بل هو، واقفًا، يحدق بي كما كان يفعل دومًا.
في تلك الليلة، أخذ والدي شبكتي منه، لكنني حصلت على شيء آخر مقابلها... خوفًا لم يبرح صدري حتى الآن.
شعرت بالذعر يزحف إلى أعماقي، وكأنني على حافة الموت. حاولت أن أهدئ أنفاسي المرتجفة، وعقلي يعمل بجنون... كيف تمكن من الدخول إلى المنزل والكل نائم؟ صحيح أنه ضابط، لكن كيف فعلها؟ كيف اخترق أمان المكان بهذه السهولة؟
ارتجف جسدي بعنف عندما شعرت بيديه تحيطان بوجهي، كأنهما قيد من نار. همس بصوت خافت، لكنه كان يحمل نبرة امتلاك مرعبة، وكأنه شعر أنني مستيقظة:
"أنتِ سيبتيني، لكن أنا ماسبتِكش... وهفضل معاكي لحد ما تيجي بيتي. أنتِ ليا أنا، فاهمة يا حرم نزار قاسم؟ أهربي مني دلوقتي براحتِك، لكن وقت ما تبقي في بيتي، مفيش هروب... أنتِ سجينتي للأبد."
ثم غادر، تاركًا خلفه بصمته على وجهي، تاركًا قلبي ينبض بذعر لم أشعر به من قبل. شعرت أنني كنت على وشك الموت، لكنه لم يقتلني... فقط ترك رسالة محفورة في روحي قبل أن يختفي.
ومنذ ذلك اليوم، لم يظهر مرة أخرى... حتى الآن.
اليوم، رأيته لأول مرة منذ ذلك الحادث. لم يكن مجرد ظهور عابر، بل نظراته كانت مزيجًا من المكر، الخبث، والسخرية. نظرة شخص يعرف أنه لا يزال يملك السيطرة، حتى لو أنكر الآخرون ذلك.
عدت إلى المنزل مسرعة، أغلقت الباب خلفي بإحكام، تسللت إلى فراشي، ولففت نفسي بالغطاء جيدًا. كنت أحاول تهدئة نفسي، إقناع روحي المذعورة بأن هذا مجرد لقاء عابر، وأن الليل سيمر بسلام حتى يعود زوجي من العمل.
لكن لم يكن هناك سلام...
لا أعرف كم من الوقت مر، ولا كيف استسلمت للنوم، لكنني فتحت عيني على واقع مرعب... لم أكن في بيتي، لم أكن في غرفتي، بل في مكان غريب، بارد، مجهول. ارتجف جسدي، وبدأت أفقد السيطرة على أنفاسي. كيف وصلت إلى هنا؟ آخر شيء أتذكره أنني كنت في سريري، داخل منزلي!
حاولت طرد أي أفكار مخيفة تتعلق بالمجنون الذي دار في رأسي فورًا، لكن الحقيقة كانت أقوى من أي محاولة إنكار. نهضت بسرعة، واندفعت نحو الباب، ضربته بكل قوتي، محاوِلة فتحه، لكنه كان مغلقًا بإحكام. شعرت بالاختناق، بدأت أصرخ بكل ما أوتيت من قوة:
مين هنا؟ أنا فين؟ افتحوا الباب!
دققت الباب بجنون، صراخي يهتز في المكان، حتى فُتح فجأة، ليظهر أمامي... كان واقفًا هناك، بابتسامته السمجة، وكأنه لم يفعل شيئًا. وكأنني لم أكن ضحية لاختطاف، بل ضيفة طال انتظارها. قال بصوت هادئ، لكنه يحمل سعادة خبيثة:
بقلم شروق مصطفى
"نورتي بيتك يا نوري... وأخيرًا وصلتي عرش قلبي اللي بجهزهولك من زمان. متخافيش، أنا عملت كل حاجة... اللي تتخيليه، واللي متتخيلهوش، عشان تيجي هنا."
نظرت إليه، والجنون يتراقص في عينيه، كأنه كان يحيك هذا اليوم منذ سنوات. شعرت أنني أفقد عقلي، فصرخت بكل قوتي، الدموع تنهمر بلا توقف، وبدأت أضربه في صدره بجنون:
"أنا متجوزة يا مجنون! انت خطفتني! ازاي؟ لازم أخرج من هنا حالًا، انت مريض، انت مجنون!"
حاولت أن أتجاوزه، أن أهرب، لكن جسده كان أكبر وأقوى من أن أتحداه. لم أشعر إلا بيديه القويتين ترفعانني عن الأرض، قبل أن يرميني على السرير بقوة، ثم زعق بصوت جعل المكان كله يهتز...
هنا، أدركت أن الهروب قد لا يكون خيارًا بعد الآن.
"اهدي بقى، مفيش هروب مني بعد كده. سبق وقلتلك إنك ليا أنا، محدش يقدر ياخدك مني، فاهمة؟ إياكي تجيبي سيرة الزفت اللي كنتي متجوزاه. منستش اللي عملتيه ولسه هحاسبك عليه. ياريت تبقي هادية كده، وتاخدي على بيتك الجديد بسرعة، وانسي الهروب نهائي، لأننا مش في مصر أصلاً."
خرج وأغلق الباب خلفه بقوة، بينما كنت لا أزال أصرخ. لا يمكن أن تكون هذه هي النهاية! أأعيش مع رجل غصبًا عني؟! في داخلي كانت هناك آلاف الأسئلة. كيف حدث هذا؟! وزوجي... زوجي بالتأكيد سيبحث عني، لن يتركني. حاولت إقناع نفسي بذلك.
في اليوم التالي، وجدته يفتح الباب ويقول بصوته المزعج: "اخرجي معايا نفطر سوا."
يا لبرود أعصابه! لم أُجبه، وكأنه لم يكن موجودًا. لم يصمت، بل أمسك بيدي وجذبني خلفه كأنني دابة تُساق. حاولت سحب يدي، لكنه كان يطبق عليها كما لو كانت يد شرطي يقبض على متهم في قسم الشرطة. أجلسني غصبًا عني، وكانت عيناي مشوشتين لا تكادان تبصران من كثرة الدموع. جلس إلى جانبي، وسمعت تنهيدة منه، يبدو أنه كان يراقبني بدقة. لم أكن أحتمل النظر إليه، لكنه قال:
"أعقلي كده عشان نفهم بعض، زي زمان. فاكرة؟ قبل ما تتجني وتبعدي عني؟ فترة الثلاث شهور هتقعدي فيهم هنا، ونتجوز على طول. فنساعد بعض، ماشي يا حبيبتي؟"
فجأة، وقفتُ وأمسكتُ كوبًا من الماء وألقيته في وجهه، لعلّه يستفيق ويدرك ما يقوله. صرخت بأعلى صوتي، فقدت أعصابي تمامًا، وبدأت أتحرك في أرجاء المكان أصرخ فيه بجنون حتى....
--يتبع
الثاني م نهنا