اخر الروايات

رواية حصنك الغائب الجزء الثاني الفصل الستون 60 بقلم دفنا عمر

رواية حصنك الغائب الجزء الثاني الفصل الستون 60 بقلم دفنا عمر


                                    

حصنك الغائب ٢ الفصل الستون

بقلم دفنا عمر

----------------


+



الركض إليكِ گ طفل افترق عن كف والدته

ليس عيبًا..

البكاء على صدرك  بأنين مسموع وأنا رجل رشيد

ليس ضعفًا..

أتيتك حبيبتي فهيا أسكبي على صدري لآليء شموسك حتى لو متُ حرقًا..

فمهما اهتز شراع قاربنا بعاصفة ابتعادك

سأظل قريبا ولكِ حصنًا..

______


+



لم يروقها قط ما حدث فضلا عن أنها تفاجأت به، توقعت خصام عدة أيام بينهما ثم تهدأ عاصفة الغضب، لكن مغادرة المسكينة بهذا الشكل أغضبها..ولن تصمت.. ستلوم قراره القاسي هذا.. 

صعدت إليه لتخبره بعدم رضاها لينفطر قلبها إشفاقًا فور ولوجها إليه وإبصار إطراقته الحزينة وهو يجلس على فراش زوجته يتحسسه براحة يده بحنين ناضح من مقلتيه..ثم وجدته يلتقط وسادتها وينظر لها ببؤس. فدنت متألمة لحاله: 

‏_ لما انت زعلان كده لفراقها ليه يا ابني سبتها تمشي..

‏همس بخفوت وعيناه لا تحيد عن الوسادة:  عشان اعاقب نفسي ببعدها يا ماما..أنا عاهدت نفسي احميها من اي حاجة.. 

_ ‏طب وانت اذيتها في ايه ياحبيبي بس؟

‏_ أذيتها بضعفي لما وافقتها تكمل شغل..بلقيس مش بس مراتي يا أمي دي بنتي اللي لما تصمم على حاجة هتأذيها وانا شايفها غلط لازم أرفض.. وأنا وافقت وعرضتها للخطر بضعفي.. 

‏ثم. رفع بصره لوالدته:  عشان كده بعاقب نفسي بحرماني منها..وكل مرة اضعف أعرف إن دي هتكون النتيجة. 

لم تتحمل جلده القاسي هذا على نفسه، اقتربت تضم رأسه لصدرها رابتة عليه بحنان وهي تغمغم: رفقًا بنفسك يا ابني، محدش فينا معصوم من الغلط..طبيعي تاخد قرار وتكتشف انه غلط، ده مش معناه ان هي أو انت تتعاقبوا..

بالعكس كان لازم تحتويها أكتر.. انت فاكر يعني هي كمان ما خافتش علي اللي في بطنها؟ كل الحكاية انها فرحانة باللي حققته في شغلها مع ابوها.. حاولت توازن بين رغبتها وصحتها.. غلطت.. نقوم نعلق المشانق؟ طبعا لأ.. أنت اتسرعت يا ظافر.. 

ثم تنهدت مستطردة: على كل حال مادام خلاص مشيت استني يومين لحد ما تهدى وتروح تجيبها، وفرصة أمها تشبع منها شوية.. طبيعي بعد ما تعرف اللي حصل هتتجنن عليها..ولثمت رأسه قبل مغادرتها قائلة: 

‏ربنا يصلح ما بينكم يا حبيبي. 


+



تركته وظل على سكونه فوق فراشها يتحسسه.. 

كأنه يرسم تفاصيلها لتتجسد لمرآة عينه. 

بصر شيئا خلف وسادتها، مد يده والتقطه ليجده

رابطة شعرها المطاطية..تشممها بعمق مغمض العين يتخيل وجهها الحزين وهي تغادر..للعجب لم تبكي.. لم تتوسله لتبقي..ظل محياها جامدة وهي تجمع أشيائها بهدوء وصمت الموتى كأنها توقعت قراره القاسي واستعدت له.. 

لكن رغم إسدال قناعها الزجاجي البارد على وجهها الشاحب لمح غضب حدقتيها مشتعل گ غروب برتقالي يغلفه احمرار حزين يخاف ألا تشرق شمسه مرة أخرى..لم تكن عيناها تلمع كما عهدها..

ذبحته حالتها الكئيبة وهي تغادر. 

قلبه يحرضه كي يذهب ليعيدها بين ذراعيه..

‏لكن عقله يحذره من عواقب الرجوع.. 

‏إن لم يرسخ الآن قواعد حياتهما معا كما يراها

‏لن تكون تلك زوبعتهما الأخيرة.. 


+




                

عاد بظهره واستلقى على فراشها محتضنا وسادتها بقوة ودون أن يشعر غفى سابحًا بأحلامه حيث تكون هي.. 

تنتظره..

تبسط ذراعيها وتستقبله مبتسمة..

تهمس بأذنيه أنها تحبه

فيقابلها بعاصفة شوق مجنونة صاخبة

گ دقات قلبه الثائر بين جنباته..

يتوسلها ألا تهجره حتى لو كانت تحقق رغبته. 

كاذب لو قال لها ابتعدي. 

فلقلبه حديث أخر لم تسمعه بعد.. 

_____________


+



لم تُفرغ حقيبتها بعد تحدجها بشرود. 

وطيف أمل يغريها بعودته. 

ربما أتى وأخذها معه. 

حتما سيأتي..لن يتحمل فراقها

فليعاقبها وهي غافية على صدره

ألم يعدها بهذا يومًا؟

هل يخلف وعده؟ 

هي لا تنكر حماقتها وتتقبل لومه مهما قسى. 

لكن يكفي أنها تأنس بأنفاسه.. 

تشم عبقه لتطمئن أنها مازالت داخل حصنه..

اغرورقت عيناها وهي تختبر قسوته للمرة الأولي. و

تجول بصرها في أرجاء غرفتها

نهضت تقترب من خزانتها

أشرعتها والتقطت معطفه ملتسمة بمرارة

كأنها تنبأت أنها ستحتاجه هنا فأحضرته.. 

تدثرت به وضمت طرفيه كما كانت تفعل

أخذت قنينة عطره من داخل المعطف وأغرقت جسدها 

ثم أحضرت دفتره الذي تملكه هي الآن.. 

قرأت كل حرف كتبه لها وهو بعيد

هنا سطور شوقه الملتهب

يليها سطور عشقه الدافيء

شعرت بالبرد بغتة رغم أن معطفه يدثرها بقوة

لكنه لم يحميها من تلك الرجفة الغريبة

لم يقيها برد حنينها إليه

لم يرفع عنها أذى رداء الحزن وملمسه الخشن فوق روحها الناعمة.. أفقد المعطف ميزته وقدراته في نفسها؟ 

أمانه مفقود گ وجوده حولها

حبال الخوف تكبلها دون رحمة

تنطر حولها برعب حقيقي باحثة عنه

ألم يأتي؟ 


+



بدأت العبرات تنهمر بغزارة

تبكي ولا يسمعها أحد

تزيد بضم أطراف معطفه عليها

تعود وتنثر عليها عطره من جديد

تسعل وتسعل

كادت تختنق

ثم هدأت ونظرت جوارها

ها هو هناك قد جاء إليها

يمدد جسده ويلوح لها أن تقترب لتسكن بين ذراعيه

ابتسمت گ الطفلة ومسحت دموعها

ودنت تسكن صدره وارتخت يدها عن معطفه

لم تعد بحاجة إليه الآن

حبيبها هنا..

يضمها

يصنع لها جديلة بأنامله الحانية.. 

يهمس بأذنيها أنه أسف.. 

ثم يُسبل جفنيها برفق لترتخي وتنام علي صدره

بدأت أنفاسها تنتظم ونامت مشبعة بوهم وجوده.. 

لكنه لم يكن معها..! 

_____________


+



_ خايفة عليها أوي يا عاصم.. مارضيتش تخليني افضي شنطتها وطلبت مني اسيبها لوحدها.. 

_سيبيها يا دره تختلي بنفسها شوية أكيد بتستوعب موقف جوزها

_ بس ظافر كان قاسي عليها اوي..

تنهد قائلا: قسي على روحه أكتر.. لو شوفتيه وهو بيبص عليها وهي ماشية كان صعب عليكي.. ظافر بيعاقب نفسه عشان سمحلها ترجع شغلها..

_ وانا مش بقول ان بنتي مش غلطانة في عنادها.. بس برضو كان يعاتبها ويحذرها وخلاص..الدوخة دي ممكن تحصلها في أي مكان.. يعني لو حصل في بيتها كان برضو لامها بالشكل ده؟ 

هز رأسه نافيا: انتي مش فاهمة حاجة يا دره..أكيد مش المشكلة انها داخت.. الموضوع له أبعاد تانية.. لو في بيتها وده حصل عادي وهتلاقي اللي يلحقها ده غير انها هتكون في أمان.. لكن اللي جنن جوز بنتك ان ده حصل و هي مع عميل..وطبعا خوفه مع غيرته اشتغلوا في دماغه وهو بيفترض إن الراجل كان يقدر يستغل الموقف وبلقيس مش دارية بحاجة.. فهمتي.. 

بدأت تستوعب ما لمح له وهي تتمتم:  أنت قصدك إن… 


+




        


          


                

_ بالظبط زي ما فهمتي..وبعدين ساعات بيبقي جوانا طاقة غضب مكتومة لو انفجرت هتدمر كل حاجة.. ظافر بيحميها من غضبه.. وفي نفس الوقت محتاج يهدى ويخليها تفهم ان عنادها كان غلط..بلقيس لازم تتعلم تطيعه.. مش تضغط عليه بسلاح الخصام عشان يرضخ لرغبتها.. هو ده اللي بنتنا عملته معاه..الولد كره ضعفه وبيحمل نفسه ذنب إن بنتنا كانت هتفقد ابنها يا دره.. 

دبت برعب على صدرها:  ألف بعد الشر عليها وعليه.. 

_ الشر كان قريب منها فوق ماتتخلي.. 


+



صمتت برهة تتمالك أعصابها ثم عادت تجادل:  

_ بس برغم اللي قولته شايفة إن ظافر كان قاسي في رد فعله..في كاميرات يا عاصم، أكيد محدش غبي عشان يجازف ويعمل حماقة زي دي.. 

_ الشيطان كان هينصب له فخ الشهوة يا دره.. ظافر اتجنن اما العميل شالها رغم انه كان بيلحقها قبل ماتقع..صدقيني كل ده كان ممكن مايحصلش لو بلقيس ماصممتش تنزل تشتغل وهي في بداية حملها.. 

_ بس هو اللي وافق

_ بضغط من بنتك مش بمزاجه.. 

_ انت معاه ولا مع بنتنا؟

_ أنا مع الأصول والحق.. لازم تتعلم ان العناد والخصام عشان تجبره على تنفيذ رغباتها بعد كده مش حل..لازم تنضج شوية.. لازم…. 


+



قاطعه رنين الباب..ذهب يتفقد الطارق 

لتتسع حدقتاه بدهشة خبئت تدريجيا ليحل محلها ابتسامة هادئة وواثقة وقد صدق حدسه وهو يطالع من يقف أمامه هاتفا بقوة من يطالب بحقه: 


+



فين بلقيس؟


+



لتصيح دره بلهفة بعد أن رآته وقلبها يرقص سعادة: 

مراتك في أوضتها يا ظافر اطلعلها.. 

_______________


+



التهم الدرج صعودا إليها وقلبه يسبقه حيث تكون. 

عبر لغرفتها مقتحما بفعل اللهفة دون طرقًا على بابها

كأنه يرفض أن يوصد عليها شيء سوى ذراعيه هو.. 


+



تآوه مؤنبا ذاته وهو يبصر حالتها.. 

ألهذه الدرجة قسى عليها؟

كيف يتركها تبحث عنه في معطفه البارد وزخات عطره؟

عطره الذي زكم أنفه فور ولوجه إليها من غزارته في الهواء

وميض حنين وحنان لمع بمقلتيه وهو يقترب منها

أدار جسدها له وغمسها في ضلوعه هامسا: 

مقدرتش ابعد أكتر من كده.. 

ثم لثم شفتيها الشاحبة:  سامحيني.. 


+



كانت غافية لا تعي وجوده لكنها ابتسمت. 

كأنها تبصره هناك بحدود عالمها الوهمي وهي نائمة. 

لم تعلم ان وجوده معها صار واقعًا ملموس.. 

عانقها بقوة ودس وجهها في عنقه وتناثرت خيوط شعرها الطويل الكثيف حولهما..فتخللته أصابعه ثم لثمه بقبلة مفعمة بشوقه..ها قد عاد إليها.. 

لن يتركها تتلمس أمانه من معطف بارد وهو حي يُرزق

شدد ضمته عليها ثم أرتخت أجفانه رغما عنه.. 

الآن سيغفو مطمئنًا مادامت تسكن صدره..

أنفاسها الدافئة تلفحه ويسمع خافقها الحبيب جوار قلبه.. 

__________


+



يراقب ابتسامتها وهي مضجعة جواره، فتسائل: 

طبعا مبسوطة من وقت ما جه جوز بنتك

_ أكيد وقلبي مزقطط وحاساه هينط مني ويرقص..بلقيس متعلقة بجوزها تعلق مرضي ومجرد مابيبعد عنها بتوه.. انت مش شوفت كانت عاملة ازاي؟ بس تفتكر هي اتصلت به عشان كده جالها؟

_ معتقدش، أنا راهنت انه مش هيقدر يبعد عنها.. هو كمان متعلق بيها..يلا أهي زوبعة وعدت بينهم الحمد لله، بكره ياخد مراته في إيده وربنا يهدي سرهم.. 

_ نفسي تفضل معايا يومين اراعيها وادلعها شوية.. 

_ والله وأنا.. بس بلاش نطلب ده المرة دي.. لما ترجع بيتها يومين أنا هقوله يجيبها.. 

أعتدلت بحماس وقالت:  طب اخلي " ذكية " تحضرلهم عشا وتطلعه فوق؟ البنت ما أكلتش من وقت ما جت.. 


+




        

          


                

فكر لحظات قبل قوله:  ماشي بس خليها تخبط على الباب مرتين وتسيب صنية العشا في الأرض وتنزل.. وظافر هيفتح ياخدها ويقفل تاني..خلي الراجل ياخد راحته مع مراته.. أكيد هيتكلموا ويتعاتبوا.. 


+



نهضت وهي تهتف:  ماشي.. هقوم اعملهم كمان عصير فريش بأيدي..


+



شاغبها قبل أن تختفي:  طب افتكري جوزك الغلبان بعصير بدون سكر.. 


+



أشارت لإحدي عينيها بحنان ملبية:  من عيني.. 


+



ابتسم براحة وقد هدأ قلقه واطمئن علي ابنته بپد حضور زوجها، داعيا ألا يعكر صفو حياتهما مرة أخري.. 

____________


+



طرقت غرفتها ثم اقتحمتها سريعا صائحة: 

_ ماما.. يا ماما الحقي! 

_ في ايه يا إيلاف خضتيني

_روحت اطمن علي آبيه واقول يرجع بلي لقيت مش في أوضته.. 

ابتسمت والدتها بنظرة غامضة تعجبت لها الأخري بتساؤل: مبتسمة كده ليه يا ماما.. بقولك اخويا مش في أوضته وقربنا علي الفجر.. 

أشارت لها لتقترب، ثم ضمتها وهي تهتف: 

_ أخوكي مقدرش يقاوم بعد مراته..

_ يعني ايه؟ قصدك انه راح يجيب بلي؟

_ بالظبط..

هللت بفرحة:  بجد؟ يعني ممكن يجوا دلوقت؟ ثم غمغمت:  لا مش معقول أكيد آبيه هيبات عند عمو عاصم وهايجي الصبح..مش مهم.. أهمحاحة انها هيتصالحوا..


+



ثم استطردت بنظرة شاردة: ماتتصوريش ازاي اتصدمت يا ماما لما لقيت بلقيس ماشية حزينة مابتتكلمش، بس عيونها بتقول كلام كتير، شوفت عتابها لأخويا..وحسيت بحزنه وهو. بيبص عليها بعد ما اختفت من قصاده.. كأنه تايه..طلع جناحه بملامح كلها بؤس.. قطع قلبي عليه وعليها..


+



تنهدت والدتها وقالت: ياما بيحصل بين الراجل ومراته يا إيلاف..الدنيا مش كلها حب وهزار ودلع..وأكيد هما الاتنين هيطلع بدرس يفيدهم بعد الزوبعة دي..ربنا يهديهم لبعض ويصلح حالهم.. 


+



_ اللهم امين.. الآذان بدأ هروح اتوضى والبس أسدالي واجيلك نصلي سوا

_ ماشي ياحبيبتي، أنا متوضية وهستناكي. 


+



تابعت ابتعادها ثم همست لذاتها بخفوت: 

ربنا يهديك ويبعد عنك الشيطان يا ابني انت ومراتك، ويقومها بالسلامة يارب.. 

_______


+



وصل سمعه طرقتين على باب الغرفة فانتبه من نومته القصيرة ليبصر وجهها النائم بوداعة على صدره..رفع عن جبينها خصلات شعر متناثرة وقبله برقة ثم نهض بحرص وفتح الباب ليجد صينية كبيرة مغطاه بقماشة بيضاء، لم يصعب عليه تخمين ما تحويه، شعر حقا بالجوع ينخر معدته وتذكر أنه لم يتناول طعام منذ أمس ومؤكد زوجته مثله..أدخل الصينية ووضعها جانبا، فوجيء ببلقيس تفتح عيناها لتبصره..لوهلة بدت تكذبت بصرها المذهول لوجوده والتفتت تنظر حولها بشك كأنها تتذكر أين هي..وحدقتاه ترصدها بحنان وإشفاق كبير عليها..گأنها طفلة ضائعة تعود تطالعه بذات الدهشة واافرحة معًا..وما أن ايتوعبت اته هنا حتي عصفت عيناها بموجة عتاب كأنها تشكوا هوانها عليه..تآوه بقوة داخله.. ليتها تدري أن هو من عُوقب بهذا الفراق القصير وإن كان على القلب يساوي ضهرًا وليست مجرد ساعات ليل معدودة..فراقها كان اختباره الأول أنها 

تمتلك به حتى أنفاسه..لاحظ انهمار دموعها الغالية فوق خديها فأسرع يضمها أليه ليتلقف صدره لآليء عيناها وهو يهمس بأسف خافت وقبلاته تُنثر على سائر وجهها ليدعم أعتداره وحزنه لما صار..زادت وتيرة بكائها فتركها تُفرغ شحنة ضيقها دون أن كلمة ثم رفع محياها ليتأمله ويتشربه هامسا:  لازم تعرفي إني بخرج من سيطرة نفسي لما بخاف أو اغير عليكي.. وأنا عشت الاتنين في نفس الموقف، بس رغم كده أنا بوعدك اتحكم في غضبي بعد كده ومخليش الأمور توصل لده.. لكن انتي كمان تعاهديني ما تلعبيش تاني بسلاح الخصام عشان تضغطي عليا انفذلك حاجة..أنا اعرف مصلحتك أكتر منك لأني بحبك، لو رفضت ليكي طلب معناه اني شايف اللي عيونك الحلوة مش قادرة تشوفه.. اتفقنا؟


+




        

          


                

انقشعت غمامة العتاب والحزن وحل محلها الرضا بمقلتيها وكافأته بابتسامة وإيماءة رقيقة من رأسها.. فعاد يغمسها بضلوعه وهو يقول:  يعني خلاص مش زعلانة

قالت برقة ووجهها يتمسح في صدره گ القطة:

لأ خلاص مش زعلانة. 

ثم هتفت سريعا وقد أشرقت شمسيها ببريق الحياة والمرح كما كانت معه: بس ليا في ذمتك خمس طلبات لازم تنفذهم. 

ضيق حدقتاه:  ده كده استغلال.. 

لثمت ذقنه وتدللت:  أيوة بستغلك. 

ابتسمت عيناه وتمتم: شبيك لبيك، ايه هي طلباتك؟

_ أول حاجة توافق افضل مع ماما وبابا أسبوع لأن وحشوني أوي وانت كمان تفضل معايا.. 


+



رفع حاجبيه:  ده كده نصب، دول طلبين على فكرة! 

_ تؤ.. ده طلب واحد بس من شقين ياحبيبي

_ شقين؟ ولو اني كنت حابب نرجع بيتنا بس مش هرد طلبك، هتصل بس بماما واعرفها

_ سيب طنط هدي عليا انا اللي هكلمها.. 

_ ماشي، والطلب التاني؟

_ بما اني طول خصامنا كنت مكتئبة وما دوقتش الشيكولاتة اللي بعشقها.. عوضني واعملي حاجة بأيدك بس مش تورتة.. ايه هي معرفش المهم اشوفها انبهر.. 

لثم خدها مع قوله:  انتي طيبة اوي وبنت ناس والله

ضحكت لتطرب قلبه بضحكتها واستطردت:  كده فاضلي في ذمتك تلات طلبات واجب عليك تحققهم وقت ما احب.. وأنا هخليهم لوقت العوزة. 

_ ده انتي طلعتي لئيمة

_ كده يا ظاظا؟ مش لسه كنت بتقول عليا بنت ناس؟

_ بنت ناس بس برضو لئيمة.. 

ثم تنهد وعانقها:  عموما أي وقت اللي تطلبيه هعمله لكن ليه حق الرفض لو لقيت ان طلبك في أذية.. متفقين؟ 


+



ربتت علي صدره:  متفقين.. 

نهض والتقط صينية الطعام قائلا:  طب يلا بقي ناكل لقمة سوا.. أنا هموت من الجوع وعارف انك ما أكلتيش زيي. 


+



وراح يطعمها بيديه وأنظارها مصوبة عليه فتذكرت يوم أن فتت لها قطعة اللحم وهي تزوره للمرة الأولى في مطعمه ومعها كوبون فوزها في السحب ..وكيف كانت لا تهتم بمذاق الطعام بقدر ان تطمئن لوجوده أمامها.. تماما گ حالها الآن..لا يهمها شيء في العالم إلا عودته إليها.. لم تهون عليه..رمم شرخ قسوته فتلاشى من روحها بسحر كأنه لم يكن..فاجأته بقبله على خده..فابتسم ولثمها أيضًا وواصل إطعامها بنفسه حتى امتلأت معدتهما وخلدا للنوم متلاحمين گ قلوبهما التي عادت تعزف ذات اللحن ثانيا..

لحن الوصال..!

------------

انحني ملثما كفيها:  وحشتيني يا أمي..كده برضو تغيبي عن بيتك ده كله وتنسينا؟

ربتت علي رأسه بحنان:  وأنت واختك وحشتوني أكتر يا حبيبي..وغيابي مش بإيدي..أنت عارف ظروف اختك الكبيرة بعد الحادث اللي صابها.. كان لازم افضل معاها شوية لحد ما اطمن. 


+



جاء حديثه غير مكترث وهو يتجاهل السؤال عن شقيقته: المهم انك خلاص رجعتي بيتك يا أمي، أنا كنت هتجنن عليكي..( ثم عاد يضمها إليه) وحشني حضنك..  


+



انتعشت روجها لدلاله وهي تبتسم له: ربنا مايحرمني منك انت واخوات ياحبيبي.. أخبار مراتك ايه؟

_ الحمد لله يا ماما.. كنت هجيبها لولا نبهتيني انك عايزانا أنا وغدير في موضوع خاص ومهم..بس بإذن الله هجيبها أخر الأسبوع وهفضي "الويك إند" معاكي. 

_آبيه حبيبي وحشتني أوي.. 


+




        

          


                

استدار للصغيرة "ضي" وتلقفها بعناق:  حبيبة اخوكي وحشتيني عاملة ايه..ثم جعلها تدور حول نفسها مع قوله:  هو انتي احلويتي في الشهرين دول ولا أنا بيتهيئلي؟

قهقهت لإطراءه:  ممكن يا آبيه.. وحشتني خالص أنت وأختي غدير.. هي جاية امتى؟


+



_ أختك جت خلاص يا ضي العين.. 


+



هرولت على شقيقتها التي وضعت حقيبة سفر صغيرة: أختي دودو وحشتيني موت..

_ يابكاشة لو وحشتك كنتي رجعتي انتي وماما البيت بسرعة عشان نزوركم.. 

قالت بتلقائية:  محنا كنا قاعدين عند أختي رودي.. ياريت جيتوا لينا هناك كنتم هتبسطوا اوي لما تشوفوا رحمة..أكيد هتحبوها أوي زيي! 


+



تبادلت مع الجميع نظرة متحفظة، ثم توجه إليها شقيقها معانقا ومرحبا بقدومها وقد مضت فترة كبيرة لم يلتقوا..

_ وحشتيني ياحبيبتي، من وقت ما اتجوزتي في محافظة تانية ومش بنتقابل غير نادر.. 

_ معلش ياحبيبي هعمل ايه، وانت كمان غرقان في الدكتوراه بتاعتك الله يعينك

_ غصب عني انتي عارفة طريقي طويل عشان اقدر اثبت نفسي وكل اما أدرس أكتر بوصل للي بتمناه في مجالي.. 

_ عارفة والله وفخورة بيك وبدعي ربنا يوفقك يا نابغة عصرك.. 


+



قهقهة لمدحها المرح گ عادتها ثم تركته ودنت تقبل يد والدتهما قائلة:  حمد الله علي السلامة يا ماما (واحتضنتها بقوة) وحشتيني فوق ما تتصوري يا أمي..

_ وانتي كمان يا نور عيني، طمنيني عليكي انتي وجوزك

_ بخير والله وبيسلم عليكي..

_ الله يسلمه من كل شر..

_علي فكرة أنا هفضل معاكي أنا وشادي أسبوع بحالوا، أقنعته يوافق عشان اشبع منك بعد غيابك ده كله.. 

_ كتر ألف خيره انه سمحلك..طب هو فين مش جه معاكي؟

_ أيوة طبعا ووصلني هنا وقال هيرجعلي بالليل بس متأخر شوية..وباعتلكم كلكم السلام

_ الله يسلمه ويشرف أي وقت ده بيته.. 


+



صمتت برهة تتأمل وجوههما التي نضح منها الحيرة منتظرين إعلان ما لديها ، فقالت للصغيرة: ضي، سيبيني شوية مع اخواتك ياحبيبتي عشان عايزاهم في موضوع.. 

أطاعتها: حاضر يا ماما، هروح أتصل بأبلة رودي اسلم عليها لحد ما تخلصوا.. 


+



تَلَبَّدَ وجه غدير بعبوس ومسحة غيرة وهي تلاحظ تعلق ضي بشقيقتهم الجاحدة كما تسميها..كيف أصبحت تنافسها في قلب أختها وهي لا تستحق محبتها؟ بينما تكدر وجه أخيها بضيق وود لو صرخ محرمًا على الصغيرة مجرد ذكر أسمها اللعين.. 


+



لم يخفي عن عين الأم ونظرتها الثاقبة بريق النفور في عين الأول والغيرة من الثانية..تعلم أن معركتها صعبة لكن لا مناص من خوضها، مهما كان صلابة جدار صدهما وعنادهما لن تيأس بتحطيم هذا الجدار وصنع جسر يجمع أولادها بشقيقتهم الكبري..وتدعوا الله ألا يأتي أجلها إلا بعد أن تحصد وحدتهم مرة أخري.. وقتها ستفارق الحياة راضية مرضية. 


+



نظفت حنجرتها هاتفة: أنا عارفة انكم أذكية كفاية ومتوقعين أنا عايزاكم في ايه.. 

أسرع بقوله: أتمني ما يكونش اللي في بالي يا ماما..كده هتضيعي وقتك معانا على الفاضي. 


+




        

          


                

رمقته بنظرة غامضة ثم قالت: وقتي كده كده ضايع يا ابني، أهي أيام أو أسابيع أو حتى شهور فاضلة من عمري.. بعدها مش هكون موجودة ولا تسمعوا مني حرف واحد.. 


+



انقبض قلبيهما ودنوا منها معانقين وقال الأول معاتبا: ده كلام يتقال يا أمي، بعد الشر عنك.. 

بينما صاحت الأخري:  ربنا يطولنا في عمرك ويبارك في صحتك يا ماما.. عشان خاطري بلاش تقولي كده تاني.. 


+



اشفقت عليهما من الفزع فابتسمت قائلة: متخافوش يا حبايبي، ربنا عالم باللي بتمناه.. وواصلت: 

يلا اقعدوا قدامي واسمعوا هقول ايه.. ومحدش فيكم يقاطعني لحد ما اخلص كلامي..


+



عادت تتبادل غدير النظرات مع أخيها ثم جلسا ليسمعا ما تريده..نفخت صدرها بالهواء وزفرته وهي تتجول بمحياهما قبل أن تفيض بما لديها:


+



كتير كنت باستعرض شريط حياتي واحاول افهم أنا غلطت في ايه عشان اختكم الكبيرة تبقى بعيدة كده عننا وعني أنا بالأخص..هل أجرمت لما فكرت اتجوز بعد طلاقي من ابوها؟ أنا كنت لسه في عز شبابي ومن حقي اعيش عمري مع واحد تاني..هل منطقي كان أناني لما فكرت في نفسي ونسيت ان عندي بنت؟ هل هونت بعدها ومسؤليتي ناحيتها وقلت ما ابوها موجود وهيشيل حملها معايا.. هل من جوايا عاندته لما هو اتجوز واتجوزت انا كمان عشان اثبتله اني مرغوبة وأخدت احسن وأغني منه؟ 


+



الإجابة وقتها كانت اني مغلطش..واني مارست حقي الطبيعي زي أي ست قدامها العمر تعيش وتجرب.. 

بس بعد السنين ما عدت رجعت تاني أسأل نفسي الأسئلة دي..لقيت الإجابة جوايا اتغيرت.. أيوة كنت أنانية وقاسية.. مش لأني اتجوزت لأن ده شرع ربنا..بس لأني مقدرتش افهم بنتي واحس بيها واقربها مني ومنكم..لقيتها بتبعد سبتها تبعد من غير ما احاول اعرف السبب وبقول لضميري عشان اريحه " أبوها موجود.. مش حارمها من حاجة.. مش ناقصها حاجة.. الفلوس تحت رجليها بالكوم وهي اللي بتدلع.. ناقصها ايه؟ ولادي صغيرين ومحتاجيني أكتر منها.. هي قاسية وبتكرهني وهما حنيين عليا"..وفاتت السنين والفجوة بينها وبينا عمالة تكبر لحد ما انفصلت وبقيت في عالم لوحدها بعيدة حتي عن أبوها ومحدش فينا كان رقيب حقيقي عليها.. كل واحد فينا اتلهي في حياته، وفضلنا مش فاهمين وبنقول دي بتدلع..فكانت النتيجة إنها كرهتنا أكتر.. 


+



صمتت تمحي دمعة ندم انهمرت وهي تعاود البوح: بس اكتشفت بعد كده حاجات كتير ماكنتش اعرفها، ظلمناها أنا وابوها لما سبناها وحيدة وركزنا في حياتنا.. رودي اختكم كانت محتاجانا كلنا حتى انتم..كان عندها أسبابها اللي تخليها تبعد وانا بالذات كان لازم افهم بنتي فيها ايه..كان في إشارات كتير بتحذرني ان ورى جفائها ونفورها حاجة كبيرة وأسباب مش هينة.. 


+



_ أسباب ايه؟؟؟


+



قالها بجمود مواصلا:  أسباب ايه يا أمي اللي تخليها تبعد كده عننا أو تعاملنا بالطريقة الفظة دي كأننا أعداء مش اخوات من أم واحدة؟ أنا لسه فاكر واحنا صغيرين كنا بنحبها وبنعاملها كويس وهي كانت دايما تظهر جفائها وكرهها لينا لدرجة انها مرة حاولت تأذي غدير وتوقعها من فوق السطح وهما بيلعبوا لولا أنا لحقتها قبل ما تعمل كده.. ثم شمر عن ساعديه وهو يصيح بنبرة غاضبة:  فاكرة الحرق ده يا أمي؟ فاكرة حصل ازاي؟ كانت عايزة تزق أبويا في فحم الشوي المتجمر وتشوه وشه لولا انا برضو لحقتها ووقعتها علي الأرض فقامت تزقتني بغل وإيدي جت جوه الفحم واتحرقت..ومواقف كتير لا تعد ولا تحصي، تاريخها كله معانا أسود مليان بالحقد والقسوة..وختمته معايا انا بالذات برسالة سخيفة على تليفوتي بعد موت بابا وهي بتضحك وتقولي انها بتحتفل انه…. 


+




        

          


                

احتقن وجهه من الغضب ولم يكمل، لتنتقل نظرة المقت لغدير وهي تستطرد بعد أخيها: أخويا عنده حق في كل كلمة يا ماما،  طول عمر رودي بتكرهنا وكل مرة تشوفنا كانت بتحاول تأذينا بأي طريقة.. دي إنسانة سودة من جوة ومريضة نفسية وشرها مالوش حدود.. أنا بكرهها ومستحيل اعتبرها اختي..


+



اغرورقت مقلتيها بآسى وهي تبصر هذا البغض بأحداقهما..ماذا تقول وكيف تبرر لهما أسباب ما صدر من رودي..هل تشوه صورة أبيهم وتقول أنه السبب في تدمير نفسيتها وكرهها له ولهم؟ هل تقول أن هي الأخري عانت سرًا من طباعه بعد ما علمت من جوالاته الحرام في بلاط النساء ما شق قلبها نصفين وجعل علاقتهما قبل وفاته شبه منقطعة گ زوجين؟ ماذا تقول وكيف تذيب جبال الكره والغل داخلها دون فضح ما مضي؟ 


+



دني منها ثم جثي علي ركبتيه بعد أن بصر البؤس بوجهها الحبيب وقال برفق:  يعز عليا ارفضلك أمر أو طلب يا أمي.. بس انتي عارفة ان مش هينفع.. خلاص انتي عملتي اللي عليكي معانا.. ولا أنا ولا غدير هنغير قرارنا..وياريت تبعديها عن أختنا ضي البريئة اللي ما تعرفش سوادها.. خليها في حالها.. أهي اتجوزت وخلفت ومش محتاجة حد فينا حتي انتي..دي مش بتلجألك غير في المصلحة.. مرة لما حبت تتجوز وترسم نفسها قصاد عريسها وتبين إنها بني آدمة.. ومرة لما جوزها طردها من بيته.. ودلوقت بعد الحادث اللي حصلها..دي مابتحبش غير نفسها وبس. 


+



_ احنا بس اللي بنحبك يا ماما.. 


+



قالتها غدير وهي تجثو أمامها هي الأخرى مواصلة:  محدش بيحبك زينا.. رودي دي بتحب نفسها وبس زي ما قال اخويا.. اشمعني دلوقت رجعت تظهر في حياتنا؟ عايزة مننا ايه بعد ما عاشت سنين بعيدة..لسه عايزة تفسد حياتنا؟ عايزة تاخدك مننا وتخليكي تغضبي علينا وتحبيها هي؟ أوعي تسمحي ليها بكده يا ماما.. أحنا أحق بيكي منها.. هي طول عمرها بنت عاقة ومش بارة بيكي..فجأة بقيت إنسانة كويسة وعايزانا نقرب منها؟ 


+



قالت وهي تبكي توسلا: عشان خاطري بلاش تظلموها اختكم مش زى ما انتم فاهمين.. أدوها فرصة وقربوا منها وريحوا قلبي المفطور على فرقتكم وانتوا ولاد بطن واحدة..


+



عز عليه توسلها فلثم كفيها وقال برجاء: 

أرجوكي انتي يا أمي ماتوجعيش قلبنا وتضغطي علينا..صدقيني أحنا كده مرتاحين وهي بعيد.. أنا مش هنسي كرهها لابويا ولا هقدر أعذرها..وماينفعش دلوقت تزرعي بنا الحب وأرض قلوبنا بور.. عمر ما هتنبت علاقة حقيقية..ممكن نطاوعك عشان نريحك بس هنكون بنكدب..هنمثل اننا اخوات بس جوانا مافيش غير الكره.. سيبي كل حاجة زي ما هي وماتنبشيش في الماضي.. 


+



عجزت عن وصال جدالهما مكبلة بكتمان ما لو فاضت به لهما لقلب الموازين بنفوسيهما..ستسقط صورة أبيهما من أعينهما وهذا ما لا تريده..أثرت الصمت منتظرة عون الله في تلك الأزمة.. هو وحده القادر علي جمع شتات أولادها من جديد.. لا تعرف كيف.. لكنها تثق بقدرته جل جلاله. 

-----------

_ وحشتيني اوي انت ورحمة يا أبلة رودي 

ابتسمت بحنان وهي تحادثها عبر الهاتف: وانتي كمان يا ضي، رحمة بتدور عليكي في كل مكان لعبتم فيه. 

_ وانا هتجنن عشان اجي تاني.. طب ماتيجي انتي أنهاردة عندنا مع عمو رائد؟ حتى اخواتي هنا وأكيد هيفرحوا أما يشوفوكم.. 


+




        

          


                

ندت عنها ابتسامة ساخرة ومريرة من براءة تلك الصغيرة.. أي فرحة تضمها بصحبة أولاد منصور؟ 

إن كان حبها لضي رغم انها أيضا نطفته..يعتبر معجزة! فالمعجزاه ليست سخية هكذا لتحدث معها مرتين.. 

_ ايه رأيك يا أبلة هتيجي؟ 


+



عادت من شرودها لتجيب: مش هينفع حبيبتي، عموما في اقرب وقت ماما هتجيبك..

_ خسارة..ثم صاحت بحماس:  طب توعديني يا أبلة في عيد ميلادي السنة دي تيجي انتي وعمو رحمة؟ أخويا بيعملي حفلة كل سنة.. والمرة دي هكون فرحانة أكتر بوجودكم معايا بالذات رحمة حبيبتي.. 


+



تنهدت وأمنيات الصغيرة تصطدم داخلها بصخور الجفاء والكره بينهم..تاريخها معهم لا يبشر بتحقيق مثل هذه الأماني.. لن تجتمع معهم حتى يواري جسدها الثرى.. هما رائحته العفنة وامتداد نسله خاصتًا أبنه الأكبر، شبيه ملامحه المقيتة.. 


+



_ رحمة بتعيط هروح اشوفها، بعدين هكلمك يا ضي. 


+



هكذا تهربت منها وأنهت المكالمة، واستدارت تنظر في المرآة..زاحت وشاحها عن موضع حروقها وتأملتها بشخوص..سبحت ذاكرتها بيوم بعيد عندما كانت صغيرة..حينها نظمت والدتها وجبة شواء في الحديقة..  وقفت لحظتها تتأمل من بعيد جمر الفحم الذي انعكس لونه الأحمر قدرًا على وجه منصور زوجها فجعله يظهر لعيناها الصغيرة گ شيطان رجيم.. خُيل لها ساعتها أن رأسه انبثقت منها قرون سوداء لتكتمل في مخيلتها هيئته المخيفة.. لا تدري كيف تدفقت بعروقها جرآة وهي وتجازف مقتربة من ظهره محاولة دفعة نحو الجمر عله يحترق ويتألم..لكن اللعين أخيها حال بينها وبين ما أرادت وهو يحمي أبيه بدفعها بعيدا، لتنهض وتدفعه بغل فيرتطم ذراعه بالجمر ويحترق ويصرخ..لم تنسي حينها صفعة منصور القوية التي نترت جسدها الهزيل بعيدا لتسقط على الأرض بقوة..للعجب لم تبكي حينها.. فقط اشتعلت عيناها بالمقت له أكثر ثم خافت من نظرة التوعد التي رمقها بها.. كأنه يخبرها أنه…… .


+



أخفت تيماء وجهها بكفيها كأنها تحتمي من ذكراه..لتفيق على صوت دلوف رائد إليها قائلا: جاهزة حبيبتي؟ عايزين نخرج بدري شوية عشان مانرجعش بالليل متأخر برحمة.. وبعدين أنا جعت جدا.. 


+



اقتربت في محاولة أخيرة لإثناءه عن الخروج:  مابلاش نخرج يا رائد.. وانا هعملك أحلى أكل بإيديا بس مش عايزة اخرج والله.. 

شملها بنظرة ثاقبة ثم اقترب ولثم باطن يدها قائلا: 

أكيد أكلك هيكون افضل بس لازم تغيري جو يا رودي.. انتي تقريبا مش بتخرجي ابدًا.. حتى رحمة محبوسة وبعد ما "ضي" مشيت بقيت بتعيط طول الوقت وعصبية..خلينا كلنا نغير جو في مكان كويس، كام ساعة وهنرجع البيت.. 


+



أومأت له برضوخ كي لا تضايقه مدركة انه يحاول دمجها بين الناس مرة أخري بعد أن طالت عزلتها النفسية بعد الحادث..ولأجله فقط ستحاول أن تعود كما كانت. 

________


+



راحت تطعم صغيرتها بما يناسبها، ثم تلقت منه قطعة لحم لاكتها بفمها وهي تبتسم له سعيدة بهذا الحنان الذي يغدقه عليها.. وسمعته يهتف:  حلو أوي المطعم ده..

_ فعلا جميل. 

_ بذمتك مش كده غيرتي جو؟ ورحمة شكلها مبسوط اوي.. ثم حدث صغيرته برقة:  مش كده يا روح بابا؟


+




        

          


                

ابتسمت له الصغيرة مطلقة همهمة غير واضحة، فقالت تيماء وهي تطالعها بحنان:  بتقولك شكرا يا بابي.. 


+



مضغ بعض الطعام ثم قال:  مامتك عاملة ايه؟ اطمنتي عليها هي واختك؟

_ ضي هي اللي اتصلت، ثم ترددت وهي تقول: أخواتها كانوا هناك مع ماما..


+



لم يغفل عن نسب أشقائها لضي دونها..متفهم نفورها منهم..ومازال وعده مقطوعا لذاته انه سيجمعها بهم بعد أن تنتهي العملية وتتزن حالتها النفسية أكثر.. لتتقبل محاولته وما يخطط فعله لترميم علاقتهم المشروخة..


+



_ كويس.. أكيد اشتاقوا لوالدتك..غيابها شهرين عن عنيهم مش قليل.. 

أومأت دون أن تكترث برد وراحت تطعم الصغيرة، وقالت: 

أكدت مع الدكتور "عز" معاد العملية في القاهرة؟ 

_ حسب دورنا في جدول الطبيب معادنا بعد أسبوع، هننزل القاهرة قبلها بيوم..

تنهدت قائلة:  يارب تنجح وارجع زي ما كنت

_ هترجعي افضل بإذن الله.. تفائلي حبيبتي. 


+



رمقته بامتنان، فكلما شد من أزرها شعرت بسعادة جمة لما يمنحها من دعم وقوة فتنسي كل ما يحزنها.. العالم كله بكفة ورائد وحده بأخري.. بل لن ينصفه في نظرها ميزان مهما بلغ عدله..


+



انقضت أمسيتهم گ أجمل ما يكون وقد تسرب إليها بعض السلام النفسي حقا بتلك النزهة القصيرة مع أسرتها الصغيرة..وعادوا للبيت والطفلة غافية.. فتوجه بها رائد لفراشها وأرقدها مدثرا إياها جيدا ثم انضم لزوجته وأسكنها بين ذراعيه باحتواء حاني لتغفو هي الأخري گ طقس صار لها إدمان..ضمته هذه ليست مجرد عناق حميمي لجسديهما..بل هو شفرة أمانها وراحتها.. قرب أنفاسه ونبضات قلبه التي تطرق ظهرها گ تعويذة تقيها شر كوابيس المظلمة تتراكم في عقلها الباطن..تسبح بغفوتها كأنها تعلو بساط ريح يحملها لمدينة أحلامها الوردية بين ذراعيه.. 


+



أما هو له معها طقوس أخري لا تتغير منذ أن عادا معًا كيان واحد.. ينتظر نومها العميق ليكشف عن حروقها ثم يلثم موضع ما يطاله منها برقة حريصا ألا تشعر به.. مراعيا اشمئزازها من ذاتها حين يفعل.. لا تصدق أنه لا ينفر من ندوبها هذه.. لكن قريبا ستصدق حين تختفي تلك الندبات وتعود بمرآة عيناها جميلة.. أما في مرايا عينه لا ينقصها شيء على الأطلاق..

أي شيء..!

__________


+



ظلت تتمتم سرا بذكر الله ختاما للصلاة ثم نهضت مع قوله:  حرمًا ياعبير.. 

_ جمعًا ان شاء الله يا محمد

_ أمال فين مهند؟ مش المفروض انه معانا عشان زمزم تعبانة مش قادرة تراعيه؟

تنهدت وهي تدنوا لتتمدد جواره:  صممت تاخدوا الليلة.. بتقول عايزاه ينام في حضنها


+



لاحظ وجهها المُثقل بالهموم وهي تشخص ببصرها بعيدا عنه بصمت فقال:  مالك ياعبير..شايلة هم الدنيا فوق دماغك ليه؟

_  خايفة أوي على بنتي.. المرة دي هتولد قيصري، والبنت نفسيتها تعبانة وقالتلي كلام غريب خوفني عليها..وطول الوقت حاضنة ابنها مش مخلياه يبعد عنها خالص..ثم عادت تنظر له دامعة:  قلبي واكلني عليها يامحمد.. 


+




        

          


                

ربت على كتفها بحنان:  صلي على النبي كده وبلاش تشاؤم.. هي أول ست هتولد قيصري؟ دي بقيت موضة الايام دي.. فينهم من أمهاتنا زمان اللي كانوا يولودوا طبيعي ويقوموا على حيلهم في يوميها..الخوف ده عادي انتي بس ادعي ربك يقومها بالسلامة ويقر عنينا بتؤامها.. 


+



_ بدعي والله ربنا عالم. 

_ هي معاد ولادتها في المستشفى بعد بكرة الضهر صح؟

_ لا الساعة سبعة الصبح لازم نكون هناك.. كان نفسي تبات اليومين دول معايا بس جوزها مارضيش. 

_ مالهاش لازمة..جوزها مراعيها متقلقيش ..وكويس إن محمود جه امبارح وهيحضر الولادة معانا.. 

_ أه ياحبيبي خايف على اخته.. رغم انه لسه بيقول يا هادي في شغله بعد الافتتاح بس صمم يجي ويطمن عليها.. 

_ امال ايه مش اخته الوحيدة.. ربنا يبارك فيهم..عقبال ما نجوزوا هو كمان ونفرح بعيالوا.. 

_ هانت.. بيقول قريب هيفاتح ظافر عشان يكتب كتابه علي إيلاف لأنها خلصت امتحاناتها وبعدها مجرد ماتجهز شقتهم هيتجوز..

_ ربنا ييسر حالهم..يلا بقي حاولي تنامي شوية.. 

_ حاسة اني مش هعرف انام

_ لأ هتنامي.. 

ثم أجبرها ان تستلقي جواره وأخذ رأسها علي صدره فابتسمت ووجها يختبيء به هامسة: عمرنا جري بسرعة وبقينا جدود يامحمد.. بس لسه زي ما انت حنين وبتحس بيا لما بضايق وازعل.. 


+



_ مش عشرة عمري؟ وبعدين العمر محدش بيوقفه المهم رحلتنا فيه تكون طيبة ونبتغي مرضاة الله ويحفظ ولادنا.. 

_ عندك حق.. 

صمتت قليلا بشرود ثم عادت تقول:  بس تعرف ان عابد فيه كتير منك يامحمد؟ ابتديت الاحظ ده اوي الايام دي.. بس هستغرب ليه ماهو ابن اخوك يعني دمك و…… 


+



وصلها صوت شخيره فتعجبت من سرعة نومه ثم هزت رأسها بهمهمة خافتة:  نفسي اعرف ازاي بتنام بالسرعة دي..( وزفرت بتنهيدة)  يارب احفظ بنتي وأقومها بالسلامة وطمني عليها هي وتؤامها.. 

__________


+



ليلة الولادة! 


+



_ خلاص يا زمزم حضرتي شنطة البيبي؟ 

_ اه الحمد لله ياعابد.. 

_ طيب تعالي بقى ارتاحي ونامي لأن معاد الولادة هيكون بدري.. 

_ طب فين ابني؟ 

_ مع ماما هتبيته معاها

_ معلش ياعابد انا عايزاه يبات في حضني. 

_ ياحبيبتي انتي خلاص علي أخرك.. مهند ممكن يخبطك بدون قصد وتتعبي زي ما حصل الاسبوع اللي فات. 

_ هاتوا يا عابد وماتوجعش قلبي مش هنام غير وابني في حضني.. 


+



قالتها ونبرتها تفيض بالضجر فصاح متفهما عصبيتها:  خلاص اهدي هروح اجيبه واجي.. 


+



تركها وغادر فاعتلت فراشها وهي تلهث ثم راحت تتحسس بطنها المنتفخ مغمغمة:  أنا فرحانة اوي ان ربنا هيرزقني بيكم.. انتوا نعمة كبيرة وبحبكم من قبل ما اشوفكم.. بوصيكم لو أمر ربنا نفذ أوعوا تنسوني.. أدعولي دايما.. وحبوا اخوكم مهند وخليكم ولاد صالحين.. انا عارفة انكم سامعين صوتي وحاسين بيا.. معرفش ليه مسيطر عليا الشعور ده..يمكن عشان ولادتي فيها مشاكل؟ ولا عشان الكابوس اللي شوفته من فترة؟.. الله أعلم بالمستخبي وانا راضية بكل حاجة..المهم سلامتكم. 


+




        

          


                

اقتحم غرفتها مع الصغير الذي هرول إليها فصاح عابد:  قولنا ايه يا هوندا؟ براحة عشان مش تخبط بطن ماما.. 

غمغم الصغير:  ماثي يا بابا.. 


+



ابتسمت وهي تتلقفه بين ذراعيها وتضمه بقوة قائلة:  روح ماما وقلب ماما.. وحشتني.. 

_ وانتي وحثتيني يا ماما

ضحكت بخفوت:  امتي لسانك ده هيتعدل وتنطق الشين صح..ده انت هتبقي قدوة للي جاي..قالتها وراحت تدسه بصدرها وتداعب شعره وتلثمه من حين لأخر..  


+



وقف بعيدا يراقبها وهي تحدثه وتعانقه كأنها تشبع من قربه..قبضة مبهمة تتملك قلبه خوفا عليها..شحوبها ازداد بقوة.. لم تعد تنام..وكلما فاق من نومه وجدها تتأمله بطريقة غريبة كأنها تتشرب تفاصيل وجهه وتخزنها بعقلها..ثم تخفي حزنها سريعا عنه لكن هيهات أن تخفي عنه شيئا..هل يمكن أن يحدث لها شيء معاذ الله؟ 

يموت لو حدث لها مكروه. 

الحياة تكون حرامًا عليه بعدها.. 

استغفر ربه من قسوة أفكاره الكئيبة داعيا من الله الخير والسلامة.. 


+



_عابد.. 


+



قاطع أفكاره ندائها، فاقترب وجلس جوارها..

دنت بجسدها ودست نفسها بصدره فقلدها الصغير وانغمس فيه هو الأخر، ابتسم وهو يرى كلا منهما يحتل جانبًا منه..حاصرهما بذراعه ولثم رأسيهما.. فهمست:  أنا أسفة يا بودي اتعصبت عليك.. ( أنا أثف بودي أعثبت عليك) 


+



ضحكا سويا علي تقليد الصغير لجملة زمزم بحروفه المقلوبة الشهية وربت عليهما مكتفيا بعناقهما.. فقالت زمزم:  لسه مش عايز تعرف ربنا رزقنا بايه؟ 

_ لأ.. أما تقومي بالسلامة هعرف.. 

رفعت وجهها إليه:  هتحضر معايا لحظة الولادة؟ 

أومأ لها:  أيوة.. وأول واحد هيشوف ابننا او بنتنا على حسب ما يجي بإذن الله.. 

ابتسمت له: مش هتضايق وهو طالع من بطني ماليان دم؟

_ اكيد لأ.. 


+



عادت لتحتل صدره ثم نظرت لطفلها:  مهند نام بسرعة.. 

رمقه بحنان وهو يداعب شعره الغزير: زي عوايده

حدجته بحب: بيحب ينام علي صدرك الحنين زيي.. 

طالعها بنظرة صامتة قرأتها جيدا..فارتفعت بجسدها قليلا مستندة على ظهر فراشها وأخذت رأسه واحتضنتها هامسة:  متخافش عليا ياحبيبي..ربك كريم..إن شاء الله مش هيفرقنا ابدا..لو ربنا قدر.. بكرة زي دلوقت هنكون بنبص على ابننا وبنقول الله أكبر ونحمده على سلامته. 

لثم عنقها وقال:  إن شاء الله.. 


+



راحت تعبث بشعره وبدأت أجفانه ترتخي رويدا حتى غط بنومه سريعا مثل طفلها، فابتسمت هامسة بخفوت شديد: بإذن الله بكرة هنبقى خمسة..وربنا مش هيفرقنا أبدا يا عابد..ده عشمي في الله. 


+



وقبلت جبهته قبلة طويلة ثم أغمضت عيناها لتسقط بغفوتها هي الأخرى.. لترتسم لوحة ثلاثتهم  گ أجمل ما يكون والصغير يستكين علي صدر عابد والأخير يعلو صدر حبيبته التي غفت وهي تضمهما معا.. 

____________

تشبثت بكف زوجها والطبيب يحضر جرعة العقار الذي سيخدر نصفها السفلي كي لا تشعر بالولادة وقالت:  عابد..أوعي تسبني.. 

قرب وجهه من محياها الشاحب وغمرها بنظرة حانية:  اسيبك واروح فين، متخافيش أنا معاكي..لحد ما نسمع صوت ابننا وناخده في حضننا ونرجع بيتنا بأمر الله. 


+




        

          


                

طافت على سائر وجهه بحب قبل أن تهمس: هتاخد بالك من ولادنا؟ 


+



افترض انها تقصد مهند ومن ستنجبه فقال: هنربيهم ونراعيهم سوا..بس اوعي تحبيهم أكتر مني..لعلمك أنا هغير عليكي حتى من ولادنا.. 

ابتسمت وحادت عيناها نحو هذا العازل الذي يفصلها عن رؤية ما يفعله فريق الأطباء..ترهبها فكرة أنهم يشقون بطنها نصفين..وتترقب بفارغ الصبر سماع صراخ صغارها..عادت تنظر لعابد الذي يرمقها بدوره وهو يهذب خصلات شعرها المتمردة ويعيدها داخل غطاء رأسها الطبي..وهمس لها:  تفتكري هنجيب ولد ولا بنت؟ 

حدجته بابتسامة غامضة:  أنت نفسك في ايه يا حبيبي؟

_ مش عارف.. محتار.. ساعات اقول ولد وبعدين افتكر ان عندنا مهند.. أرجع واقول بنوتة عشان تبقى دلوعة ابوها واخوها وأمها..أيًا كان يا زمزم المهم سلامتك انتي وبعدها أي حاجة خير من ربنا وهشكره عليها..


+



برقت عيناها إعجابا بقوله، وتنتظر بفارغ الصبر أن ترى وقع المفاجأة عليه حين يعلم أنه رزق بتؤام من الجنسين.. ولد وبنت..قالت له بغتة:  عابد هو ينفع تصور لحظة مانشوف البيبي فيديو؟ نفسي نسجل اللحظة دي لولادنا بعد كده.. 


+



أخرج هاتفه من جيبه وقال: بس كده؟ عيوني.. 


+



تسارعت دقات قلبها مع سماع صوت صراخ من سكن حشاها وأخيرا جاء الدنيا بقدرة الله وحفظه..بينما تسمرت عين عابد نحو العازل لتتجلى عليهما الممرضة وهي تحمل الصغير الملطخ بالدماء ثم وضعته فوق صدر زمزم گ رد فعل روتيني منها وهي تبتسم لهما فبكت الأخيرة وهي تحضنه وهتفت من بين بكائها:  عابد..شايف ابننا صغير ازاي؟ 


+



أنعقد لسانه واختنقت الكلمات بحلقه وهو يرمق رضيعه بفرحة لم يتذوق قلبه مثلها يوما ومنظر وليده الباكي على صدر والدته شديد الرقة والصغر لدرجة انه خاف أن يحمله فينزلق من بين يديه.. 


+



لتجحظ عيناه وتتسع عن أخرهما بغتة وهو يسمع صوت بكاء رضيع أخر..نظر بذهول تجاه العازل ليجد نفس الممرضة تحمل إليهم طفل جديد وهي تقول:  ألف مبروك.. ربنا رزقكم تؤام زي القمر ماشاء الله. 


+



كاد الهاتف الذي يصور به ما حدث يسقط منه وهو يطالع تؤامه الباكي على صدر زمزم التي تبكي هي الأخرى قائلة:  أهلا بيكم ياحبايب ماما نورتم الدنيا كلها..

ثم نظرت نحوه تهنئه باكية : حمد الله على سلامة ولادنا ياحبيبي..شايف حلوين ازاي؟


+



صدمة المفاجأة تلجمه..زمزم أنجبت له تؤام؟ 

ترقرقت عينه وانهمرت دموعه بغزارة والفرحة تفقده السيطرة وهو يُنكس رأسه باكيًا

لتمد كفها سريعا تتلقف وجهه القريب مجففة عبراته وهي تحاول تهدئته: ربنا عطائه مالوش حدود وانت تستاهل. 


+



حاول أن يسيطر علي نفسه وراح يصور صغاره مغمغما: 

_ كنتي عارفة إن في بطنك تؤام؟؟؟


+



ابتسمت وشاكسته:  طبعا، ازاي مش هعرف يا ذكي.. 


+




        

          


                

لم يجاري مزحتها وعيناه تغمر صغاره بحب شديد، لتعود وتهمس له: 

أنت طيب اوي ياعابد عشان كده ربنا كرمك بيهم..حبتني واتقيت ربنا في ابني اليتيم وعاملته كأنه ابنك اللي من صلبك.. عمرك ماحسستني انه عبء عليك.. عشان كده ربنا رزقك بتؤام يملوا علينا حياتنا ويرسخوا جذور حبنا لبعض أكتر وأكتر..هنربيهم سوا.. هنفرح بيهم سوا.. هنسمع ضحكهم ونلعب معاهم سوا.. خلاص أنا مش لوحدي ولا انت لوحدك.. اسرتنا الصغيرة كبرت ولسه هتكبر.. أنا عايزة اجيب منك أطفال كتير.. العالم ده محتاج نسخ كتيرة منك ولو ان محدش هيكون زيك ابدا يا عابد.. 


+



دنى ولثم جبينها وتحررت منه دمعة فرح سقطت على وجهها..فابتسمت هامسة: دموعك غالية حتي لو كانت دموع فرح..يلا كلم ولادك يمكن لو سمعوا صوتك يبطلوا عياط.. 


+



خاف أن يلمسهم فتكون لمسته قاسية من كثرة ما يرى حجمهما صغير وهمس لهما: أهلا بيكم يا نور عيون بابا.. أنا فرحان بيكم لدرجة مش لاقي حاجة أقولها ولا أعبر عن سعادتي..بس اوعدكم لو ربنا طول في عمري هربيكم افضل تربية مع أخوكم مهند.. 


+



_ حمد لله على سلامة المدام يا سيد عابد..


+



قاطعهم تواصله مع الصغار صوت الطبيب الذي أشار الممرضة أن تأخذ الصغار واصل: دلوقتي الأطفال هيفحصهم طبيب متخصص عشان تطمنوا عليهم وهيفضلوا في الحضانة شوية..وبكرة تقدر تاخد المدام والولاد علي البيت بالسلامة.. وألف مبروك مرة تانية. 


+



راقب صغاره الذين غابوا مع الممرضة وقلبه يصاحبهما ثم عاد ينظر لزوجته قائلا:  حمد لله علي سلامتك يا زوما.. 

بدأ الوهن يصيب أجفانها وهي تغمغم:  الله يسلمك ياحبيبي.. روح بقي فرح عمو وبابا.. وماما.. وطنط.. و


+



وغابت بغفوة سريعا، فقبل جبهتها قبلة طويلة ثم خرج ليزف للجميع خبر تؤامه.. 

____________


+



بكاء الفرحة كان شعار الجميع حين علموا أن عابد وزمزم رُزقا بتؤام..ورغم معرفة عبير ومحمد وكريمة إلا أنهم انهاروا بكاءً من الفرحة كما عانق محمود زوج شقيقته وابن عمه بقوة وهو يبارك له ما جاءه بينما سجد أدهم في اتجاه "القبلة" شكرا لله على ما منح ولده الغالي.. لقد صار "جد" لتؤام.. ويالها من فرحة لا يستوعبها عقله وقلبه معًا..ظلت جبهته على الأرض ودموعه تسقط، فجثى عابد ليعانق أبيه ويهدئه ويبارك ويدعوا له بطيلة العمر ويربي أولاده معه.. ثم ذهب يخبر شقيقه يزيد بالخبر ليشاطره فرحته الأولي.

______


+



في إحدى المشافي المعروفة في القاهرة جاء رائد بزوجته مصطحبين معهم والدتها التي أصرت أن تكون معهم هي وضي فكانت فرصة ليترك رحمة مع الأخيرة في الفندق الذين أقاموا فيه مؤقتا موصدا الغرفة عليهم.. 


+



استودع زوجته عند الله وهي تغيب بغرفة العمليات لتُجري عمليتها الأولي لتجميل حروقها، مع فريق من الأطباء وكبيرهم وأمهرهم يعده بنتيجة مرضية، داعيا أن تكون النتيجة كذلك لها..بصر والدتها التي ترتل القرآن، 

وراح هو يسير بتوتر مجيئًا وإيابًا غير قادر على الجلوس ولسانه يردد  الدعاء.. 


+



وهناك حيث ترقد تيماء على فراش طبي غائبة عن الوعي كانت عين أحدهم ترمقها بشك كأنه يشبه عليها، وماسك التنفس الطبيعي يخفي معظم ملامحها مع غطاء الرأس الذي يبتلع رأسها..لم يتثنى له التأكد إن كان رآها قبلا أم لا..نظر سريعا لأسمها المدون أمامه "تيماء" فوجد الأسم غريب لم يألفه.. 


+



_ مركز معانا يا دكتور حازم؟


+



انتفض سريعا على صوت أستاذه قائلا:  أيوة يا دكتور عز كنت بتأكد إن المريضة غابت عن الوعي.. 

_ تمام..(ثم بدأ يوجه حديثه لباقي الفريق)  زي ما انتم شايفين دي حالة حرق خطيرة تصنف من الدرجة الثالثة.. واصلة لكل طبقات الجلد ومسببة تشوهات صبغيه بلون الفحم في معظم المناطق اللي طالها الحريق للأسف..العملية دي هتكون أول اختبار عملي ليكم، ركزوا كويس لأنها فرصة ممتازة هتفيدكم جدا في رسالة الدكتوراه..


+



ابدوا حماسهم واستعدادهم التام لتلقي وتعلم كل ما سيفعله استاذهم ومثلهم الأعلى..بينما رمق حازم الفتاة بنظرة أخيرة وشعور مبهم يصيبه كلما بصرها ثم انخرط مشاركًا ومتابعا كل التفاصيل بإهتمام بالغ كي يستفيد من تلك الفرصة التي أتته بترشيح مسبق من الطبيب المشرف على رسالته.. 

____________


+



مر الوقت عليه طويلا وهو ينتظر أن ينفرج ذاك الباب الموصد ويطمئن علي حالة زوجته..بينما تصلي والدتها بإحدي الغرف الجانبية وتدعوا لابنتها، وبعد لحظات لمح رائد خروج أحد الأطباء الصغار من فريق طبيبهم الأكبر، فهرول يسأله:  ايه الأخبار يا دكتور..العملية نجحت؟ مراتي بخير؟؟؟


+



أومأ له الطبيب مبتسما بهدوء:  اطمن، من حسن الحظ ان طبيب بارع زي دكتور "عز" هو اللي أشرف على العملية..عموما المدام بخير وهتطمن أكتر بعد ما تشوف النتيجة بنفسك..حمد الله علي السلامة. 


+



وابتعد عابرا أمام والدة تيماء التي ظهرت لتوها أمامه تنظر له وهي تصيح بذهول:  حازم؟؟؟؟؟


+



لتتسمر  قدم الأخير فور رؤيتها رامقا أياها بدهشة تفوق ما تنضح من عين السيدة.. وعين رائد تتنقل بينهما بريبة ولا يفهم ما يحدث..!

__________






الحادي والستون من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close