اخر الروايات

رواية عروس ديابلو الفصل الخامس 5

رواية عروس ديابلو الفصل الخامس 5



عانقت أجنحة الظلام قرص البدر المكتمل، أغرقت غلالة ضوئه الوجوه، و انعكست صورته المشعة على صفحة البحيرة الراكدة التي راحت مياهها تداعب حواشي الرمال اللامعة في هدأةٍ و دعة. كانت قد نُصبت خيمة خاصة هناك لأشراف القوم، ينافسُ قماشها المُحاك بالأفليج'¹' حِلكة الليل في سحَرِه'²'، و تعبقُ بين زواياه رائحة البخور القوية، يوضعُ حجرُ الجيت'³' في الكوانين عادة قبل بداية الإحتفال بساعة، و كلما حركه الفتى أيون مع قطع الجمر و احتكَّ بها... أطلق العنان لعطره الخاص، و أرسله إلى الأنوف لتثمل به. النسوة المتزوجات تسربلن بوُشُحِ الديكلو'⁴' الذهبية الخاصة و لففن أوساطهن و سيقانهن بتنانير قاتمة و ها هن يجلسن متجاورات يلوحن بالمراوح الحريرية المحفوفة بريش النعام في انتظار تمتيع أنظارهن بمسرَّات الحفل، فيما تميزت تنانير الفتيات الصغيرات بالألوان المشرقة الجذابة.

2


────────────────────────

+


¹•الأفليج: هو مفرد الشرائط التي تصنع منها الخيمة، و تنسج من وبر الإبل و الغنم.

3


²•السَحَر: الساعة الأشدُّ ظلمة في الليل و هي التي تسبق ساعة الفجر.

7


³•الجيت: حجرٌ كريمٌ أسودٌ يلمع بكثرة إحتكاكه، و يطلق رائحة عطِرة إذا ما تعرض للحرارة، و قد صُنعت منه أول قلادة و إرتدتها الملكة فيكتوريا مع الملابس السوداء بعد وفاة زوجها.

5
"تفاخر ستانكا بكذبة أنك ستتغيبُ عنا الليلة!".

1


برقت عينا ديابلو و هو يثبتهما فقط على ذات الشعر الفضي مردفا:

+


"لا تصدِّق أمرين، لغوُ ستانكا... و هجرُ ديابلو لحفلات الغجر!".

28


انزلق بصره من جبين الشقراء الملفوف بمنديل أحمر تتدلى من طرفيه المعقودين عند نهاية عنقها عملات ذهبية صغيرة مجلجلة... إلى عينيها الوامضتين بلمعة أشد زرقة من البحيرة ساعة الظهيرة... ثم إلى أرنبة أنفها التي استرخت فوقها حافة الوشاح الذي يخفي ما تبقى من ملامحها الفذة، لينزلق أكثر إلى خصلات شعرها الطويلة التي التوت أطرافها و اكتسبت طابعًا غجريًّا مثيرًا... و منها إلى البلوزة و التنورة ذاتا اللون الأبيض المطرَّزتان بنقوش غامضة لا يفهمها سوى الغجر!

+


أعاد غواريل رأسه لمحله معاينا وجه ستانكا، فتمايلت أقراط الذهب التي تتدلى من أذنيه، و لعله كان الوحيد الذي يضع مثل تلك الأقراط في قبائل الغجر كلها، ثم أجلى حنجرته، و هتف بصوته الأجش:

+


"فليبدأ العرض!".

8


كانت لونا قد لبت نداء سوليداد، و جاورتها في خيمة واسعة للنسوة و صغارهن تقابل خيمة الزعيم الشرفية، فالنساء هنا يفُقن رجال القبيلة تعدادًا، و يحظين بمكانة خاصة، فلا يخالطن إلا أزواجهن أو ما لهن من آباء و أشقاء، و كان ذلك النسق المحافظ محببا للونا و مخالفا لما كانت تشهده في مدريد و غيرها من المدن الإسبانية المتحضرة!

3


حاولت ضبط أنفاسها طيلة الجلوس، لا سيما كلما قفز بصرها نحو ديابلو و تأكدت أن عيناه لا تخليان سبيلها، و سرها أن سوليداد كانت تشغلها بالحديث اللطيف طوال الوقت، فتصف هذا، و تشير لتلك، و تطنب في تفسير بعض العادات الغجرية، و هكذا لا يتسنى لها الكثير من الوقت لتقلق من وجود ديابلو و تضيق ذرعًا بنظراته المتفحصة، و رغم ذلك، و رغم كل ما لمع حولها من ثياب و أغراض لا يمتلكها غيرهم من أقوام، فقد ظل لمعان عيني ذلك الرجل الذهبيتين العاكستين للنار شيئا طاغيًا يتسلل إليها رغمًا عنها!

+


في كاجوناس... ينطلق الإحتفال بعروض تشبه تلك التي تُقام على مسارح السيرك في المدن الكبرى، و ربما أجملها... و الأكثر إدهاشا للحاضرين... هو عرض الخناجر، إذ يتقدم شابٌّ وسط حلبة محفوفة بالأنظار، يُدعى "هانزي"، تحيط الخناجر زنار خصره الكستنائي، و تلمع أنصالها مثلما تلمع عيناه الخضراوان مناقضتين بشرته الداكنة، ينتزع أول خنجر و يمرر عليه أصابعه بسلاسة، و هو يدقق النظر إلى "ميريلا"، الفتاة رشيقة القد، التي تتحلى بلباسها الغجري، و تدور أمام عامود من الخشب الثقيل، و بين أصابع كلتي يديها، تدور مشاعل النار المتأججة.

3


أمسكت لونا أنفاسها حين ألقى هانزي أول خنجر نحو الفتاة، و ظنَّت أنه قد ينحرف عن مساره فيسبب لها أذى بالغًا، لكن العامود هو الذي أشهر صدره و تلقى عنها الطعنة، ثم تتالت الخناجر كالعاصفة، و تفادت ميريلا كل الطعنات بمهارة، أو لعله الرامي هو الذي تحلى ببصر حاد لا يخطئ الأهداف، هي لا تعرف، و رغم براعة الشابة و الشاب، إلا أن لونا لم تكفَّ قلقها طيلة العرض، حتى تحررت ضحكة سوليداد الهادئة مربتة على ركبة الشقراء:

+



        
          

                
"لا تتوتري، هانزي يعرف ما يفعله، و ميريلا تثق به أكثر مما تثق بنفسها!".

11


تمكنت لونا من الإبتسام خلف وشاحها حين انتهى عرض الخناجر و تعالى التصفيق و تبادل الشباب التصفير دلالة الإشادة بهما على حد سواء، غمز هانزي ميريلا، فأبرزت هذه أسنانها ضاحكة بغنج، و ضربت على صدره بكفها مشيحة وجهها في خجل عائدة لمجلسها، كأنها بذلك تهمس له: «كنتَ رائعًا!».

16


هزَّ غواريل رأسه مستحسنا ما شاهده، و لفت انتباهه اقتراب الراقصات اللاتي يمتعنَ أنظار الجميع بتمايلهن على الموسيقى الغجرية التي تحرك الصخر! مالا... فلوريكا... روزانا... نيلا... لالا... خوانيتا و اللائحة تطول لتشمل أجمل من اهتزت خصورهن على إرتعاشة الأوتار... و ضربت أقدامهن الحافية على وقع الطبول... و كان قلب لونا التي حافظت على جلوسها يتابع الإيقاع أكثر مما تتباعه الراقصات، و كما هو متوقع تفوقت مالا على الباقيات، و بدأن بالإنسحاب واحدة تلو الأخرى، رفع هانزي يدها ليعلنها الفائزة، و خاطب ديابلو هاتفًا:

6


"إرمِ إلى النار حفنة الرمال يا صديقي، مالا أشعلت المكان ككل مرة!".

+


قبض ديابلو بالفعل على كمشة الرمال أسفله، فهو لم يكن ينوي التخلف على تلك العادة التي يعتز بها الغجر، إنه معجبٌ برقص مالا، و يشهد لها بمهاراتها في ذلك، و يلاحظ في كل مرة حركة جديدة تضيفها لتستميله إليها، و يرى أن لزاما عليه الإعتراف بجمال رقصها كما تنتظر، لكنه لا يخطط أبدا لتجاوز ذلك، مالا تنتظر الكثير، و هو رجلٌ شحيحٌ في هذا الخصوص، إنه يحتفظ بالغزل لامرأة تجعله يعدد أنفاسه لمجرد التفكير فيها، انقبض شيء ما بداخله، و تعرق بشدة، لكنه تجاوز ذلك، و تحقق من لمعة شعر تلك الشقراء التي راحت عيناها تمشطانه أيضا، كان ديابلو في تلك المناسبة متشحا بالسواد، يخفي صدره و عضلات ذراعيه المصقولة تحت قميص من الكتان الأسود الفضفاض، و ينسق مع بنطالاً مشابها، ضيقا نوعا كبناطيل الفرسان! يبرز قلائده الفضية معتزًّا بلمعانها الجميل، و تتناقل أصابعه ذلك الخنجر المميز الذي يلازمه على الدوام، و يعقد حول رأسه الرباط الغجري الأصيل، لحد اللحظة تواجه لونا صعوبة بالغة في تصديق ذلك، حسنا ذوقه في الثياب و الكحل في عينيه و تفاصيل كثيرة أوحت أنه يشبه الغجر و يحظى بسحرهم، لكنها لم تتوقع و لو بنسبة ضئيلة أن يكون من قبيلة أمها، من غجر كاجوناس! كاد ديابلو يلقي الرمال في النار، عندما هتفت مالا تستميح الزعيم في طلب غريب لا سابق له:

1


"لن تحترق الرمال إعجابا بي حتى تنضم الشعلة الجديدة لدائرة النار و ترقص على شرف حبيبنا، لقد سمعتُ أنها تدعي احتراف الرقص أفضل مني!".

42


هكذا ذكرت مالا لونا بالنزال المتفق عليه بينهما، و على هذا النحو نادتها: "الشعلة الجديدة" و هي تشير نحوها و تدعوها على مسمع الجميع لتنافسها، و كم استفز ذلك لونا، فكأنما صرخت بها ساخرة: "مرحى للدخيلة بيننا، ٱرقصي كقرد السيرك و سنجزيكِ العطاء!". ربما ابتأست بسبب المكر و التعالي في لهجة مالا، و قد يكون الغرور الطافح على وجه ديابلو لاسترخائه التام كسلطان ألعن بالنسبة لها، لكنها لم تسمح لنفسها بالتقهقر، و رأت أن اللحظة حانت لتثبت للحاضرين أنها ليست مجرد سائحة غريبة جاء بها الفضول لأرضهم، سيرون أن الرقص ليس مجرد حركات رخيصة لاستمالة الرجال و اشباع شهوات أبصارهم، الرقص فطرة بالنسبة لها، حياة تُعاش، إنه لسان روحها، و رابطة قوية تشد وثاقها بذكرى أمها الراحلة!

2



        
          

                
"سأرقص لكن ليس على شرف أحد من الحاضرين!".

45


جحظت عينا غواريل، فقد أخبرته سوليداد أنها حررت الشقراء لقاء ثمن باهظ، و هذا لا يعدو كونها الآن ملكًا للقبيلة، و لا حق لها في رفض الرقص على شرف من يريدون! كاد أيون يغص بريقه، و اهتز أنف مالا استياء، و أوشك ستانكا ينفجر ضحكا، حتى سوليداد لم تتوقع تلك الصراحة الجريئة من لونا، فالكل ملزم باحترام الزعيم و حبيب الغجر هنا، خاصة النساء، أما ديابلو نفسه، فقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، و جابت نظراته لمعة خاصة لم يفهمها أحد، و تابعت لونا بكبرياء غير مكترثة لأحد:

6


"أقدر حفاوة الجميع بي، و مع احترامي البالغ لأشراف القبيلة..."

+


و مضت بعد إيماءة خفيفة نحو الزعيم تضيف بتحدي فهمه ديابلو جيدا:

+


"...لكنني لست جارية حبيبكم كي أرقص فقط للترفيه عنه، رقصتي لن تكون أكثر من إثبات لنفسي هنا، و إذا كان حبيب هذه الأرض يقدس الرقص و يراه كما سيتحق أن يُرى... فحريٌّ به أن يرمي نحو الشعلة الجديدة رجاءً لأكشف عن مهارتي... لأن الرمال ستحترق بكل الأحوال تحت قدمي!".

88


ذهل كل من لامست أذنيه تلك الكلمات، و عقد غواريل حاجبيه مستاءً من هذه المرأة التي تطالب حبيبهم بالرجاء على الملأ، حسب علمه... ديابلو رجل لا يترجى رجلاً مثله... فكيف بامرأة؟ إنه يفهم أنها سائحة من المدينة، لكن في رأيه على الأغراب أن يبدوا تقديرًا للغجر على أرضهم!

2


تعالت قهقهة ستانكا من هناك و علق كالمخمور:

+


"ديابلو العظيم يرجو راقصةً... لتهز خصرها على شرفه؟ أظنها دعابة الدهر!".

22


أدرك ديابلو أنها محاولة فاشلة من جانب ستانكا للهزء به، فالجميع يدرك أن ديابلو مرغوبٌ من سائر النساء؛ و لا يضاجعهن بالقوة كما يفعل هو! و هل اكترث صاحب السعادة لقوله؟ قطعا لا! كل ما ناب ستانكا من ديابلو كان اللامبالاة الصرفة، كأنها ذبابة وضيعة حركت جناحها قرب أذنه... و ليس لسان بشر الذي تحرك للتو!

4


تلوَّت قسمات غواريل امتعاضا من أطوار ذلك الأهوج، إنه يخجل من رابطة الدم التي تجمعهما، فالجميع في القبيلة و حول تلك المنطقة يدرك أن ستانكا إبن أخ الزعيم الراحل "هارمان دي ميندوزا"، للزعيم الغجري الأسبق الذي عُرِفَ دائما بشخصيته القوية و نظرته الصافية للحياة، لولا منيته المبكرة لإستمر إلى اليوم زعيمًا للقبيلة أفضل منه، لكن شاءت الأقدار أن يموت بطريقة بشعة، آلمت أفراد القبيلة، و بسبب حبهم لهارمان، من الصعب جدا طرد ستانكا من القبيلة لأنه إبنه كما يتذكرون دوما، و كما قال الأقدمون... النار تخلِّفُ الرَّماد! و لا عجب أن تكون خِلفةُ الأشراف أحيانا مُشينة هكذا، إبن هارمان اللعين هذا... لا يتورَّعُ عن تمني موت عمه اليوم قبل غد ليتزعم القبيلة بدلاً منه، لكن غواريل لا يستسيغ تخيل ذلك حتى، و لا يرى شخصًا آخر أجدر بعده بالزعامة من ديابلو! تنهد غواريل ببطء حتى لا يشد الإنتباه إليه، و أشاح واجمًا، النظرُ في وجه ستانكا جعله يشمئز، و أنهك أنفاسه أكثر، فانبرى يتحرى أي شيء آخر حتى لا تحيا أوجاعه، و يصبح هناك داعٍ لاصطحابه إلى فراش الراحة من جديد، من يدري... كم ستطول وعكته الصحية التي مُنِّيَ بها مؤخرًا؟

2



        
          

                
توقع الحاضرون أن تبدأ مشادة أخرى بين الرجلين، لكن ديابلو تابع استصغاره لستانكا في صمت، و الرد الحاسم أتى من جهة غير متوقعة... على لسان لونا:

+


"إنه حبيبكم لا حبيبي أنا، لذا... لا شيء يجبرني على هز خصري من أجله، الليلة... و تحت هذا القمر المكتمل... سأرقص فقط على شرف كاجوناس!".

31


«و على شرف أمي»... هكذا همست في سرها لامسة سلسال إيزميرالدا الفضي المترنح على صدرها.

+


"ماذا تنتظر إذن لترجوها يا حبيبنا المبجَّل؟".

4


تدخل ستانكا ثانية، و تابعت سوليداد ذلك الحوار الملغم بصدر قلق، غير أن ديابلو وضع حدًّا لصمته، و فاجأت كلماته أفراد القبيلة إلى حد بعيد:

+


"إذا كانت الأرض ترجو قمرها ليطلُع و يخفف عنها ثقل الظلمات، فديابلو لا يمانع أن يرجو شعلةً كي تحرق رمال أرضه!".

95


بهت ستانكا و عضَّ أنملته غيظا، و غلى الدم في قلب مالا، و كالت رفيقتها خوانيتا نظرة حاقدة للشقراء، فيما أضاف ديابلو يرنو بعينيه للزعيم ضامنًا تأييده:

+


"نحن نقدِّسُ كاجوناس... و سنقدِّسُ من ترقص على شرفها!".

25


أومأ غواريل معلقا وفق منطقه الخاص:

+


"أظنها ستكون هدية رائعة لك إن أجادت الرقص و حركتك من مكانك!".

17


اهتز قلب لونا بمربضه، بل صال و جال بين ضلوعها إثر ذلك، أدركت أن من الصعب الثبات أمام كلمات ديابلو المغازلة، لكنها ثبتت و توازنت، و ذكرت نفسها أنه مجرد زير نساء صلف، يريد فقط تمتيع عينيه، و لا يجد في رقص الغجريات سوى ترفًا بصريا له و لغيره من رجال القبيلة، لكنه صعقها حين أضاف مشددا لهجته نحو ستانكا و عيناه العسليتان تحترقان:

1


"لكن وجود الأرواح الشريرة حولنا يجعل القدسية مستحيلة هنا! أنا واثقٌ أن لا أحد يريد فلسفتكَ في الإحتفال... ستانكا!".

35


تبادل ديابلو نظرة خاطفة مع سوليداد، ثم لمح غواريل يهز رأسه، و يصرفه بطرف يده باستحقار، فلملم ستانكا بعضه متذمرًا، و لم يخجل من لعنهم جميعا قبل أن يزحف بعيدًا عن مجلسهم الموقر مترنحا بعدما أسرف في احتساء الخمر!

+


عندها ابتسم ديابلو باسترخاء، و ثبت عينيه مجددا على وجه لونا الموشح، قبل أن يشير للعازفين مستطردًا:

+


"الآلات الغجرية و عازفوها الآن تحت أمرك... أرجو أن ترقصي بقلب غجري!".

18


رغم كل مقت شعرت به نحوه، غير أنها سُحِرت بتلك العبارة الأخيرة، و وثقت أنها ستفعل، فالرقص يتجاوز المادية بالنسبة لها، إنه شيء روحيٌّ بامتياز، لعل هذا الرجل يجهل أنها غجرية الدماء، لكنه سيعرف أي الراقصات هي الآن، ليس لأنه يستحق أن يشاهد فنها، و ليس لأنه حبيب الغجر، و لا لأنه ترجاها كما ابتغت أيضا، بل لأنها تريد أن تثبت له وجود امرأة في هذا الكون... لا تنبهر به... و لا تنحني أمام سحره... و لا تزحف إلى ذراعيه... و إن رامت الرقص... فإنها ترقص لنفسها و لأحلامها فقط!

+



        
          

                
دقَّت الصاجات'⁵' النحاسية بين أصابع بيرسود، و نقرت أيادي الشابين "شاندور" و "كاهيلو" على الطبول الهندية، و طفق "خوان دافينو" يغرق أنامله الرشيقة بين أوتار قيثارته و يدق بيده الأخرى على خشبها الأملس مضيفًا للإيقاع نكهة خاصة. دارت كلٌّ من الراقصتين حول بعضهما كأنهما في مبارزة جدية، و أطلقتا العنان لرعشات جسديهما، كان رقص مالا مبهرًا بحق، خصرها الأسمر المشدود بالزنار البني خُلِقَ ليواكِبَ رنات الأوتار و دقات الطبول و الصاجات، لكن حركات لونا المستجدة جذبت الأعين و أسرت القلوب، و جعلت الموسيقى هي التي تواكِبُ لغة جسدها، لتصبح الراقصة هي مصدر الإيقاع، و تغدو الآلات هي التي ترقص إثر سحرها. حاولت مالا التركيز على خطواتها المعهودة، لقد ترعرعت على هذه الأجواء، و عاشت غجرية مُذ رأت النور الأول في حياتها، إنها تحفظ تلك الموسيقى عن ظهر قلب، و تعرف كيف يفترض بغجرية أن تسرق القلوب، و لكن تبا لحظها العاثر، و تبا لهذه الراقصة الأجنبية التي سرقت منها الأضواء بكل سهولة، فما تؤديه الآن ليس مجرد رقصة غجرية ألِف أفراد القبيلة مشاهدتها، كانت لونا بارعة و ذكية كفاية لترد لها الصاع صاعين عقب محاولة التقليل من شأنها، فالمزج بين الرقص الغجري الحر... و الفلامنجو الإسباني الأصيل ليس هيِّنًا على الإطلاق! لونا رويز هي الأخرى ألفت الرقص الإسباني الكلاسيكي منذ نعومة أظافرها، و دربت نفسها طويلاً على رقصات لا تعرفها ٱنثى سواها، و هل هناك أجمل من جسد فاتن يرتجلُ الحركات من وحي اللحظة، و يتبع الموسيقى بقلبه قبل قدِّه؟ احتقن وجه مالا و عضت شفتها بمرارة و غيرة، و دون أن تنتبه لموضع قدميها، تعلق بصرها كالبقية بلونا، و ها هي ذي تتعثر لأول مرة خلال رقصاتها، و تجد نفسها تتوقف بخزي و تنسحب قِسرًا مخلية الجو للمنافسة التي تأكد فوزها قبل أن ينتهي العرض حتى! فيما تواصل تمايل لونا هنا و هناك، و اشتدَّت ضربات قدميها بالأرض، و لم تلاحظ أنها باتت وحيدة على حلبة الرقص، كقمر وحيد في السماء، ترفع بيد ناعمة جناح تنورتها و تدور بها شطر دائرة، لتضرب بقدمها الأرض مثيرة النقع، ثم تعيد الكرَّة مع الجناح الآخر، و تضرب مجددا و مجددا، و تصفق عند رأسها بكفيها هنا مرة... و هناك مرتين، قبل أن تبلغ الرقصة ذروتها، و تحمل مشاعل ميريلا و تدور بها دورة كاملة، فتنتفخ تنورتها، و تتصاعد مع أطرافها حبيبات الرمال و تدور معها في دوامة ذهبية، لتبدو تلك الرمال و كأنها حقا تحترق تحت قدميها، و انعكس ذلك الإحتراق على وجه ديابلو، فكانت عيناه الناعستان تتبعانها كيفما دارت و تحرَّكت، و خنجره الفضي لا يزال بين أصابعه، يغرزه في الأرض فيحفر به رمالها، كأنه يعبر بذلك عما تفعله هذه المرأة بأعماقه! و بدا عازف القيثارة خوان دافينو مأخوذًا بها... يحاول ملاحقة ضربات قدميها على الأرض بأوتاره الحائرة، و الآلة بين يديه ترتعش و تتسارع نغماتها كما يتسارع نبض لونا مع كل حركة، ثم أخذت كل نبضة بالتثاقل و الاتساع داخلها حين لمحت ديابلو يتحرك من مجلسه، واثق الخطوات، بتؤدة و بطء، دون أن تحيد نظراته عنها، دون أن يغفل أبسط تفصيل في ثنايا جسدها و فتنة رقصتها، تقدم نحوها، تاركًا خنجره مغروزًا بالرمال، تاركًا الحاضرين في حيرة من أمرهم، فأنَّى لحبيب الغجر أن يغادر مجلسه في منتصف العرض، و يرنو إلى راقصة ليتأمل سحرها عن كثب، و يدور معها في تلك الدوامة، كأنه يتوق ليحترق أيضا مع الرمال! فكَّرت لونا أن ديابلو سيحذو حذو الأعراف هنا، و يميط الوشاح الذي يخفي ملامحها، فتراجعت عنه و واصلت دورانها حوله دون أن تسمح له بالإقتراب و تنفيذ مراده، إلا أن مراد حبيب الغجر كان شيئًا لم يحدث من قبل. و رغم أن كاهيلو هتف بحماس يحثُّه على نزع وشاحها و امتلاكها: «إفعلها يا رجل!» لكن ديابلو ظل صامتًا، يدور معها محافظا على المسافة بينهما، يواكب خطواتها، كانت له مرونة الفهد الأسود، عيناه تلمعان كالذهب المصقول، و شفتاه تفتران بين حين و آخر عن بسمة مغرية، و بينما لونا تتأهب لتختتم الرقصة بآخر دورة، إلتقط هو قلائده الفضية المدلاة على صدره العريض، و بحركة خاطفة أدهشتها، دنا بخفة مخادعة و ألقاها حول عنقها الناصع، و لم تكتفِ تلك القلائد المضفورة بعضها بعضًا بتقييد جدائل لونا الشقراء مانعة النسيم من بعثرتها كيفما اتفق، بل قيدتها أيضا كامرأة، محولة إياها من ٱنثى حرَّة، إلى زوجة مملوكة لهذا الغجري الجريء، الذي قرر فجأة أن يناقض نفسه، و يكسر قواعده، و يختارها من بين الكل!

168



        
          

                
───────────────────────

+


⁵•الصاجات: آلة موسيقي قديمة مصنوعة من النحاس، و لديها عدة أحجام مختلفة الإستعمال، و يعتبر الحجم الأصغر من ³سم إلى ⁶سم هو الذي تستخدمه الراقصات.

9



  

      ⁵•الصاجات: آلة موسيقي قديمة مصنوعة من النحاس، و لديها عدة أحجام مختلفة الإستعمال، و يعتبر الحجم الأصغر من ³سم إلى ⁶سم هو الذي تستخدمه الراقصات
  
    
        
    
    
      
        
        
      
    
   
  

14



  

    
    Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.
  

───────────────────────

+


توقفت الموسيقى، و ران الصمت الثقيل مخيما على محيط البحيرة، و اتسعت عينا الزعيم غواريل غير مصدق، و لم يكن الوحيد الذي وجد صعوبة في استيعاب الأمر، فقد ذهلت سوليداد، و حاولت أن تبرر مسلك ديابلو الذي تنزله منزلة الإبن عندها، هل يرجع ما قام به لجمال لونا الفريد أو لشيء آخر يخفيه؟! أما لونا نفسها فقد تسمرت بنقطة واحدة، و وقفت هناك متخشبة كوتد، تجاهد لتصدق أن ما حدث حقيقة لا تقبل الشك، كل ما أرادته من وراء هذه الرقصة أن تحفظ ماء وجهها أمام مالا المتعجرفة، و أن تكسر غرور ذلك الديابلو الذي يظن أن الراقصات يتهافتن كالفراشات حوله، و كم كانت معتدة بنفسها تحلق فخرًا فتكاد تبلغ السماء حين ترجاها بلطف لترقص على شرف أرض القبيلة، لكن ماذا حدث للتو؟ هل تحلم و حسب... أم أنه تزوجها بحق؟! امتدَّت يدها مرتجفة تتحسس سلاسل القلائد الفضية الثلاث، ملمسها بارد كبرودة إدراكها الذي أثلج عقلها حدَّ التجمد!

10


في غمرة الصمت المطبق، و صدمة لونا، تقدم ديابلو منها ملغيا المسافة التي كانت تفصلهما، و هتف ديابلو يعقب على كلام كاهيلو منذ قليل، و نظراته المثقلة بالإفتتان تسبق لسانه:

+


"لستُ بحاجة لأزيح أي وشاح حتى أميز أي وجه خلفه يا صديقي، ديابلو يعرف جيدا كيف يجد قمره الضائع!".

155


طرف للحظة، ثم انحنى عليها و همس لها فقط:

+


"قلت لكِ من قبل... لا تشكِّكي أبدا بمهارتي في الصيد، إذا رغبتُ بشيء فأنا لا أهنأ حتى يغدو ملكي... عزيزتي لولان!".

51


تحضرت لونا لرد عنيف و هي تكور قبضتيها و تجز أسنانها، لكن الرجل الذي كانت تنوي النيل منه لم يكن في الحقيقة على خير ما يرام، انتبهت أخيرًا إلى أنفاسه المثبطة، و حبيبات العرق الناضحة من جبينه، و الحمرة الغريبة التي تُكلل زوايا عينيه، همس بإسمها مجددا متناولاً يديها، و كشف عن صف أسنانه في إبتسامة جذابة، و بدلاً من أن يحملها إلى بيته كما هو متوقع، سقط ديابلو أرضا، مما جعلها تفقد توازنها أيضا و تسقط معه، بدت عيناه ناعستان أكثر من ذي قبل، ينهشهما الذبول، لكن يده تشبثت ببعض القوة، و أماطت الوشاح عن وجهها، لتتعمق إبتسامته أكثر بالنظر إلى ملامحها البريئة، تسربل الباقون حولهما، قلقين على حبيبهم، أما هو فكان كل إنتباهه محصور فيها، أخذ بطرف سبابته شيئا من كُحل عينيه، ليطبعه على شفاهها، و لم تفهم لونا رمزية تلك الحركة، و لِمَ قام بها؟ و شيئا فشيئا خبت شعلة عينيه، فأسدل جفنيه غير قادر على تأملها أكثر، و استسلم للإغماء الكامل، ليعلو صوت غواريل مخاطبا الشباب:

21



        
          

                
"بسرعة... إحملوه إلى الداخل!".

14


شعرت لونا بقلبها ينخلع من بين جنبيها و هم يرفعونه بأذرعهم و يأخذونه بعيدًا، و ينقلونه إلى الكوخ الخاص الذي نقلت إليه هذا الصباح حين فقدت وعيها، لماذا يحدوها هذا الخوف القوي عليه؟ ألا يفترض أنها تكن الكره لهذا الرجل؟ حسنا، لعلها تشفق عليه فقط من باب رحمتها التي لا تملك حيالها أدنى مقاومة! لحقت بهم، و أصغت للزعيم و هو يضيف متجها بالخطاب إلى سوليداد التي لم تستطع مغالبة البكاء:

+


"تصبَّري! صحيحٌ أنني لم أره ينهار من قبل هكذا؛ لكنني أثق بأنها انتكاسة عابرة، لقد ربيته بهاتين اليدين... و هو مثلي لا يسقط أبدًا!".

8


ربت على كتفها يمنحها القوة التي تعوزها مستطردا:

+


"قومي بعملك! و أنا سأصلي من أجله".

6


تبعت لونا سوليداد إلى ذلك الكوخ، و دلفت تلك الغرفة بالذات، فرأته ممددا بلا حراك فوق ذلك الفراش الصوفي نفسه، و بدا لها و كأنه يحترق من الحمرة الغريبة التي كست جلده الأسمر!

+


تمالكت العرافة نفسها، و جففت دموعها متقدمة نحو الفراش، جلست قربه، و تحسست جبينه شاهقة:

+


"رباه... لا أصدق أن حرارته إرتفعت إلى هذا الحد!".

5


طفقت ترفع جفنيه تارة، و تتحسس عنقه تارة أخرى باحثة عن علامة ما تقودها إلى تحديد السبب وراء حالته تلك، حتى فكت أزرار قميصه، و اهتدت مرعوبة إلى جرح غائر يتوسط صدره، فغر فمها حين أدركت أخيرا موطن العلة، و كذلك كانت ردة فعل لونا، هرعت سوليداد كالمجنونة تخلط بعض الأعشاب، و تدقها في وعاء خاص من خشب الصندل، قبل أن تضعها على جرح ديابلو، و تضمده جيدا!

16


أخذ الفضول و القلق من لونا كل مأخذ، فكفت صمتها، و تمتمت ناقلة بصرها بينهما، خاصة بعدما لاحظت بخوف أن الجرح يبدو كلسعة أفعى كبيرة:

+


"سوليداد... هل تعرفين كيف و متى تعرض لهذه الإصابة؟!".

1


صمتت المرأة هنيهة قبل أن تهز رأسه مدركة أنه محظوظ بنجاته، و قالت بنبرتها العطوفة:

+


"هناك كائنٌ واحدٌ يخلفُ جرحا غائرًا كهذا...".

+


سكبت سائلاً أخضرًا أعدته بنفسها بين شفتيه، ثم تابعت بكلمات نزلت على لونا كالصخور الطاحنة:

+


"...أفعى القنب... تحتمي بأوراق نبات القنب لأنه يطابقها في اللون... و يمنحها تمويها مثاليا... سُمها لا يقتل بسرعة... لكنه يسبب آلامًا فضيعة في الأطراف و العمود الفقري... و الحمى التي يخلفها قوية، إنها الأفعى الأخطر هنا... ليس لأنها قاتلة... بل لأن الأماكن التي تتواجد بها تبعد كثيرا عن المستشفيات... لذا غالبا ما يصعب النجاة من الموت بعد التعرض للسعتها!".

28


هزت لونا رأسها تأمل أن تكون سوليداد مخطئة في حكمها، و كل إنش في جسمها يرتعش:

+


"ما الذي يؤكد لكِ أنها لسعة تلك الأفعى بالذات؟".

+



        
          

                
"لأنني رأيتُ علامة مشابهة من قبل... على ذراع ستانكا!".

+


مضت سوليداد تسرد لها تلك الحادثة بقلب منقبض، حين كان ستانكا المجنون ينوي الإنخراط في عصابة تتداول تجارة المخدرات قبل سنوات، و وسط الأدغال الكثيفة هاجمته أفعى القنب، لأنه كان يجهل عن تلك المناطق الغامضة الكثير!

+


أمسكت المرأة لسانها قليلاً تتفحص قسماته، ثم تساءلت كأنها تحدث نفسها بصوت جهوري:

+


"لكن ما يصعب علي فهمه هو تعرض ديابلو لشيء كهذا رغم فطنته! إنه يحفظ الأدغال كحفظه لإسمه... و من الغريب حقا أن يقترب من أراضي القنب دون أن يقي نفسه جيدا من الأفاعي! ".

24


كادت لونا تخر صريعة بعدما سمعته، الآن فهمت لِمَ تأخر في اللحاق بها إلى الطريق العام، هذا يعني أنه تعرض لهجوم الأفعى و كان سيخسر حياته بسبب تهورها، لو لم تركض هاربة منه إلى حيث ينمو ذلك النبات اللعين... لما تعرض لشيء من هذا! ظلت تمشطه بنظراتها المتأثرة طويلاً، حتى لمست سوليداد يدها و علقت باسمة:

+


"لا تخشي عليه من شيء، أنتِ لا تعرفين أي إرادة يمتلك، إنه مثل الشمس... لا يأفل إلا ليسطع أقوى من ذي قبل!".

4


تزحزحت عن مقعدها و تابعت قبل أن تغادر الغرفة و تغلق الباب خلفها:

+


"...ديابلو رجلٌ قويٌّ بكل ما للكلمة من معنى صغيرتي!".

2


أمضت لونا تلك الليلة تغير الكمادات الباردة فوق جبينه المشتعل، و تتحرى نبضه بين فينة و أخرى، أحيانا تذرف دمعة دون أن تشعر بها، لأنها لم تؤذِ مخلوقًا من قبل، و هذا الرجل بغض النظر عما حدث بينهما... كاد يفقد حياته جراء غبائها، كانت تستطيع التعبير عن مقتها له و رفضها مسلك حياته الغريب بأي شكل آخر دون إقحام نفسها في منطقة القنب، و تعريضه لخطر الموت، لكنها لا تستطيع أن تكون سوى مغناطيس الكوارث في هذا العالم!

2


أدركت لونا أن الكمادات الباردة لا تكفي لخفض حرارته، فشقت النافذة من أجل التهوية الجيدة، ثم تدبرت أمر وعاء أكبر بقليل من وعاء الكمادات، ملأته بمياه البحيرة الباردة، و مضت تبلل قدميه، مسترجعة اللحظات التي جمعتهما ليلة أمس في الأدغال، حتى إن كان شخصا سيئا بنظرها، هي مدينة له بليلة من العناية و السهر، ستنسى الآن أنه كان ساخرًا و جريئًا حدَّ الوقاحة و الصفاقة معها، ستنسى أيضا أنه سمح لنفسه بتجاوز الحدود معها و سبب لها خجلاً لن تنساه بعدما نزع ثيابها بيديه، كما ستنسى أنه مثل دور المتفرج النبيل على رقصها الأخاذ... ثم باغتها بزواج لم تخطط له... و لم تفكر به حتى في أغرب أحلامها! ستؤجل عقابه على كل هذا لاحقا... و ستأمل الآن أن يكون بخير فقط... و أن يتجاوز هذا الوعكة بسلام... حتى لا يأكلها الندم لما تبقى لها من عمر إن أصابه مكروه لا سمح الله!

+


حضرت سوليداد للإطمئنان عليه مرتين، و في الثالثة اكتفت بالوقوف عند النافذة، تسترق النظر للقلق الذي يثقل وجه لونا من أجله، ثم إبتسمت بسرور غريب، و عادت لكوخها كأن المستقبل باح لها بشيء لا يتكشف لسواها... شيء كانت تتمناه منذ زمن بعيد ربما!

13



        
          

                
أطل الصباح مشرقا، يلقي بشمسه العالية إلى مسرح الفلك لتذكر الكون بوجودها، و تطرق النوافذ و الأبواب بخيوطها الذهبية، لمس خيطٌ رفيعٌ من الضوء خد لونا، ثم انسكب مزيدٌ من الخيوط المشابهة على جفنيها الغافيين ممزقا عنهما شرنقة النوم، لتفتح عينيها ببطء متثائبة، و تسرح في النظر حولها كالتائهين!

+


استعاد عقلها آخر أحداث حياتها بسرعة، و أدركت أنها نسيت نفسها، و لم تشعر إلا و هي تتوسد بطن ديابلو و تنام بعمق، بينما أحست بلذة غريبة أن يده منبسطة على عنقها، و أصابعه تتحرك فوق جلدها الناعم بسلاسة و عذوبة، انتفضت كقطة مذعورة، و تراجعت و هي ترمق عينيه اللتين انفتحتا باتساع كما لو أنه أجرم في حقها بتلك اللمسة!

+


"كيف تجرؤ على لمسي بهذا الشكل؟".

9


أجابها بإبتسامة مسترخية:

+


"مثلما تجرأتِ على إتخاذي وسادةً لحضرتكِ عزيزتي!".

40


وجدت أن عقلها في هذا الوقت من الصباح لا ينجح في كيل عبارات لئيمة تناسبه، و لاحظت أنه عاد لعبثه و سخريته، إذن هذا يعني أنه على خير ما يرام!

+


"لستُ عزيزتك... و لا تفكر أنني أرغبُ بالتواجد معك في نفس المكان، أنا فقط أقوم بواجبي!".

4


إختلج فمه معلقا و هو يستند على مرفقيه:

+


"آه من النساء! سريعًا تقمصتِ دور الزوجة!".

65


"لا تصدق المسرحية التي قمتَ بها أمس، أنا أحب هذا المكان و هؤلاء الناس الطيبين، لكنني لا أعترف بك زوجًا لي، و لن أفعل ما حييت، كنتُ مدينةً لك بليلةً من السهر و الرعاية، و الآن سددتُ ديني، و لم يعد هناك شيء يجبرني على البقاء قربك!".

4


تأكدت بطرف أصابعها أن جبينه لا يشتعل مثل أمس، و قبل أن تسحب يدها، قبض عليها ديابلو، فاختل توازنها مثلما جرى بعد الرقصة، و ألفت نفسها بين ذراعيه، على بعد إنشات فقط من وجهه الجذاب و فمه المغري!

+


"ألن تقبلني زوجتي في أول صباح لنا معا؟".

44


وضعت لونا يديها على صدره تحاول السيطرة على نفسها و مقاومته، لكنها ضغطت على جرحه دون أن تنتبه، و راقبت وجهه يتقلص، و عيناه تجفلان، فتداركت ذلك، و همست بعفوية:

+


"لم أقصد ذلك، هل آلمتكَ كثيرًا!".

6


تنفس ديابلو بقوة، و أجاب بصوته المبحوح:

+


"كثيرًا... يا لولان!".

18


بدا و كأنه يقول ذلك فقط ليحظى بحنان منها، فمكرت به، و زمت شفتيها حانقة على الخداع الذي يجيده صنف الرجال اللعين، و هي الساذجة التي أمضت الليل بطوله تذرف دموع الندم و القلق عند رأسه، يا له من ثعلب خبيث! يجيد اغتنام الفرص، ألم يقل ذلك؟ أليس الصياد الماهر الذي تباهى بقدرته على اقتناص الفريسة التي تحلو له؟ حسنا، فليكن! فليقتنص ما يشاء، هي ستغادر الغرفة و الكوخ، و لن تلتفت حتى للاطمئنان على وضعه، لأنه أثبت أن قول سوليداد صائب... إنه رجلٌ قويٌّ بكل ما للكلمة من معنى... و لا يحتاج حمقاء مثلها للعناية به!

+



        
          

                
"مهلا يا زوجتي العزيزة!".

9


استوقفها صوته النافذ، و تابع حين نظرت نحوه بعينيها المستفهمتين:

+


"لن تذهبي إلى أي مكان هكذا!".

8


تأملت لونا نفسها، ثم ردت بغضب:

+


"سأغير ثوب الإحتفال طبعا، ثم لا شأن لك بهذا!".

2


"بلى!".

+


استقام عن الفراش كما لو أن تلك اللسعة لم ترقده كجثة هامدة طوال الليل، و دنا منها خطوة مؤكدا بنظرة حادة، و فم ضاحك:

+


"أنتِ و ملبسُكِ و كل ما يخصُّكِ... شأنٌ من شؤوني الآن!".

35


"حقا؟ و ماذا عن رغبتي أنا؟ ألا يهم موقفي في شيء هنا؟ هل أخذتَ رأيي قبل أن تحيط عنقي بهذه القلائد؟ كلا! تصرفتَ بأنانية كما يليق برجل مستبد تماما... لأنك رجلٌ مغرور تظن أن امتلاك كل النساء حقك المشروع!".

8


خطت ثانيةً باتجاه الباب، و هذه المرة استوقفها أيضا، لكن ما قاله كان مفاجئا بالفعل:

+


"صدقيني عزيزتي لولان... لو لم ألمح ستانكا يتلصص في الأفق و يستعد لإلباسكِ طوقه و امتلاككِ، لما تنازلتُ مطلقًا عن قلائد أبي... حتى من أجل أجمل امرأة خلبت لبي!".

83


ماذا سمعت بحق السماء؟ لا! فليظهر أحدهم الآن و ليصرخ أنها تعيش كابوسًا عظيما لا يوشك على الإنتهاء! لم تكد تسدد الدين برعايته كما رعاها، حتى وقَّع في ذمتها دينا جديدا، و أنقذها من المنحرف الرذيل ستانكا، الذي يُخضع النساء بالقوة، لا سيما السائحات الشقراوات من قبيلها، و إن كانت صريحة على الأقل مع نفسها، فديابلو لا تبدو عليه ذرَّةٌ من نذالة ستانكا السافل، و الرب وحده يعرف ماذا كان سيصنع بها رجلٌ في مثل وضاعته لو لم يتزوجها ديابلو قبله؟ شردت دون أن تعي، و سهت تخطو ببطء إلى النافذة، اتكأت على حافتها، و أرسلت بصرها على إمتداد البحيرة، تلامس به أعناق أشجار الغابات التي تقف في الآفاق حارسة المكان! و مضت تفكر بعمق...

+


إذن هو كرٌّ على فرٍّ، ينقذها في كل مرة دون أن تستطيع فهم أسبابه، أولا... سبح في شلال خطير من أجلها، ثم ضيع وقته في تطبيبها و الصيد و الطهو من أجل إطعامها، و تكبد خسارة أغراض شاحنته بسبب رعونتها، و كاد يفقد حياته بعد تلك اللسعة المميتة، و ها هو يتزوجها كذلك لينقذها من نوايا ستانكا الخبيثة! يا إلهي! كيف يفترض بها أن تنظر إليه في خضم ما تعيشه منذ لقائهما؟ هل هو أسوء الأشخاص... أم أكثرهم نبلاً على الإطلاق؟! التفتت و دققت النظر في وجهه، هناك سر ما به يحيرها، ليس كونه وسيمًا جدا هو ما يجذبها نحوه، إنه شيء غامضٌ تعجز عن سبره و تحليله، شيء يجيد إخفاءه ببراعة، طردت عنها ذلك الخاطر، و حدقت بالقلائد الفضية التي باتت على صدرها هي، تلمع بشدة تحت وهج الشمس المتسلل للغرفة، و قالت فجأة بهدوء لم يتوقعه منها:

+


"ما دامت قلائدكَ نفيسةً إلى هذا الحد و لها رمزية خاصة، فيستحسن أن تسترجعها!".

10


مدت أناملها إلى عنقها محاولة التجرد منها، غير أن ديابلو هز يده مانعًا ذلك، و قال بلهجة دافئة:

+



        
          

                
"دعيها مكانها! أحب وضع الأشياء النفيسة معا! القمر و الفضة ينسجمان، صحيح؟".

43


داعبت كلماته روحها لشيء من الزمن، لكن السحر تلاشى، و امتعضت لونا رغما عنها، ها قد عاد لعبثه مجددا! ما أجمل غزله، لكن ترى لكم من امرأة يقول أشياء كهذه في اليوم؟ احتدت نظراتها، و ردت فورا بحنق:

1


"إنسجام صفعتي مع وجهك سيروق لك أيضا!".

89


إنفجر ضاحكًا، و أردف مقتربا منها خطوة أخرى:

+


"ما يروق لي حقا هو تحسن ردودكِ القاسية، يبدو أن قاموسكِ اكتسب الكثير مؤخرًا!".

7


ادعت الإبتسام و ردت بلهجة ساخرة:

+


"لعل التشرد رفقة سيد الأدغال المنحرف نفعني!".

20


استأنف ضحكته الرنانة، ثم هدأ فجأة، و لاحظت أنه اقترب كثيرًا حتى لم يعد هناك ما يفصلهما، و التصقت لونا بالنافذة، و أرجعت رأسها إلى الخلف تتوقع منه قبلة نارية كالتي تبادلاها في الغابة، لكنه ما إن بلغ حدود شفتيها، حتى سيطر على نفسه، و انحرف يسارا، لتتوقع هذه المرة أن تكون القبلة من نصيب عنقها، لكنه توقف عند أذنها مغمغما:

3


"سينتهي التشرد بدءً من اليوم يا زوجتي المصون، فالشرطة تبحث عنكِ في كل مكان، و الوحيد القادر على حمايتكِ الآن... هو زوجك المنحرف ديابلو!".

48


أبقى يديه حول خصرها، و انحنى أكثر لقطف زهرة جميلة بأسنانه، تنمو بحرية قرب النافذة متسلقة بفروع شجيرتها الشباك، ثم ثبتها بنفس الطريقة الغريبة فوق أذنها، و استطرد قائلاً برقة أسرتها:

+


" مكان زهرة كاتاليا'⁶' على جسد امرأة مثلك، إنها تبدو و كأنها ولدت من وجنتيكِ... لكن لكِ بصمة مختلفة... لولان!".

32


──────────────────────

+


⁶•كاتاليا: هي نوع من الأوركيد، تدعى أيضا فينوس كاتاليا، و تعد الزهرة الوطنية لكولومبيا، تتميز بالإمتزاج الفريد في بتلاتها الناعمة بين اللونين الزهري و الأبيض، كما يميزها أيضا عطرها الفواح.

7



  

      ⁶•كاتاليا: هي نوع من الأوركيد، تدعى أيضا فينوس كاتاليا، و تعد الزهرة الوطنية لكولومبيا، تتميز بالإمتزاج الفريد في بتلاتها الناعمة بين اللونين الزهري و الأبيض، كما يميزها أيضا عطرها الفواح
  
    
        
    
    
      
        
        
      
    
   
  

9



  

    
    Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.
  

──────────────────────

+



سرى الإرتجاف في جسدها بأكمله، في حين استنشق هو عطر عنقها، و تابع مسحورًا:

+


"لو لم أضع الكحل على شفاهكِ لأحميكِ من العين الحاسدة... لمحوتُه الآن بقبلة لن تعرفي أبدًا كيف بدأت و متى إنتهت!".

105


شعرت به يسحب يديه عنها ببطء، ثم ينصرف إلى فراشه، لكن دون أن يتمدد كسابق عهده، اكتفى بتزرير قميصه مخفيا عنها جرحه و عضلاته المثيرة، و تخلص من الرباط الذي تزين به أمس، لينسدل شعره الحريري الأسود على جبينه متهدلا، و يطلق نحوها نظرة مفاجئة، و قولاً لم تحضر نفسها له:

+


"أنتِ الآن مجبرة على الإختيار... إما الذهاب إلى السجن... أو إلى بيتي!".

44


شحبت، و غصت بريقها، و لم تعرف ما إذا كان يهددها... أو يصف لها الخيارات التي يفرضها عليها القدر؟! لكنها و كما قال بالفعل... كانت مجبرة على الإختيار!

+


نهاية الفصل الخامس.

2


🤎🤎🤎

+


هاي رويالزي الغاليين أتمنى لكم قراءة ممتعة و لا تنسوا التصويت و ترك أثر جميل، أتوق لقراءة تعليقاتكم الرائعة، شكرا مجددا لأنكم جزء من هذه الرواية، أحبكم من القلب❤️

13


السادس من هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close