اخر الروايات

رواية عروس ديابلو الفصل الرابع 4

رواية عروس ديابلو الفصل الرابع 4


كاجوناس...
منتصف النهار

6


...

+


تحرَّك شيء ما قربها، فانتفضت لونا من مكانها متعرقة تلهث و تقلب بصرها الجاحظ، لتدرس زوايا الغرفة التي وجدت نفسها فيها، كانت تفترشُ مرتبة من صوفِ الماعز، تسندُ رأسها وسادة مماثلة تغلفها قشرة قطنية، و يمتدُّ فوق جسدها لحاف من الفرو الناعم، رأسها الثقيل لا زال يطوف على كتفيها، و بصرها يناضل ليهتدي إلى مصدر الحركة التي شعرت بها منذ ثوانٍ، أيعقل أنها تخيلت ذلك؟ لعله كان مجرد حلم، كأحلام عدة مبهمة خامرت عقلها مُذ سقطت مغشيا عليها!

2


و كانت كل أحلامها تدور حول ذلك الديابلو، سبر أغوار خيالها، و تسرب إلى عتمة أفكارها كما يفعل ضوء الفجر، أغمضت عينيها و فركتهما بسرعة تطرده من ساحة وعيها، لكنه ظل عنيد الحضور في اللاوعي، فترتمي للتفكير فيه دون أن تدرك لِمَ و كيف يستعمرها بهذا الشكل؟

5


رفعت لحاف الفرو مغادرة الفراش الصوفي و أنفها يؤكد لها أن هناك عطرًا مألوفًا بكل غرض حولها، و هي تفكر في مدى صحة قرار هروبها من ذلك الرجل، و عنفتها وخزات الضمير بعدما ذكرت نفسها بخجل أنه أنقذها من الموت في مناسبات متتالية، لولاه لقبضت عليها الشرطة، و لولاه لقضت نحبها في ذلك الشلال القاتل، و لولاه أيضا كانت ستتورط مع تجار المخدرات و تُقتَل على أيديهم بدم بارد! لكن عنادها قفز من العدم يحيي في ذاكرتها مشهد وجود مسدس في يد نفس الرجل الذي تصرف معها بشهامة لم تكن تنتظرها منه، ما عازةُ السلاح الناري بالنسة لرجل مثله؟ فيمَ ينتفع به إن لم يكن مجرمًا خطيرًا يتسكع بين الغابات؟ و لتتحامل عليه أكثر، و تشحن نفسها بكرهه دون سبب جلي، استرجعت الطريقة الهمجية التي تصرف بها ديابلو مع صاحب الدكان أرتورو حين لمحته لأول مرة، اشمأزت و هي تتذكر كيف أمر الرجل بكل صفاقة و عنجهية أن يملأ شاحنته بما لذ و طاب من زاد، و لعله لم يدفع لقاء ذلك أيضا، فقد تركت الدكان قبل أن ينتهي المشهد بين الرجلين، و ليتسع اشمئزازها و يأخذ حيزًا أكبر من المعقول داخلها، كانت مجبرة على استرجاع ذكرى خنقه لها بيديه الخشنتين حين اكتشف أنها حولت مقطورة شاحنته لملجأ من الشرطة!

22


تبًّا للهمجي اللعين... لعل الهرب كان أنسب قرار... أجل هو كذلك!

18


أقنعت لونا نفسها بما فكرت، و أراحها أن تكره ديابلو، فالكره يساعدها على تلافي الوقوع تحت وطأة سحره الطاغي. ماذا قال لها بكل عجرفة؟ آه نعم! "ربما تزحفين نحوي أيضا يوما ما" ... يا للغرور السافر! حتى في كوابيسها لن يتم شيء كهذا! زحف النساء حوله جعله يؤمن أنه أشد ألقًا من السماء، و من هنا وُلِدَ اعتداده بوسامته!

9

                
طفقت لونا تتحرى أغراض الغرفة و هي تعترف لنفسها همسًا بأنه لم يكن مجرد رجل وسيم، ديابلو رجل مختلف بكل المقاييس، و ربما ما يجعله محفورًا بذاكرتها رغم رغبتها بنسيانه... هو الغموض الذي يلفه... و السخرية التي يتشح بها منطقه في الحديث! إنه من قبيل الرجال اللذين لا يكترثون لرأي أحد فيهم، تناقضه يثير جنونها، كيف لرجل أن يتصرف بشهامة و وقاحة معا؟ صدريتها! آه اللعين! المنحرف الساقط! كيف سمح لنفسه بلمسها و انتزاع ثيابها؟ كيف تجرأ و منح ليديه ذلك الحق! حتى خطيبها كانت شديدة التحفظ معه، و لم تشاركه الفراش رغم طلبه لذلك في مناسبات عدة، و رغم ما جمعهما من قرابة عائلية لوقت طويل، لكن هذا الغريب الذي عرفها في ظرف يوم و ليلة... تصرف معها كزوج حقيقي، و من يدري كيف تأملها و هي في تلك الحال...؟ و كيف ضبط نفسه الشهوانية كما ادَّعى و لم يمتلك جسدها الضعيف مع أنه كان يستطيع ذلك؟!

12


هزت رأسها تطرده للمرة الألف من خيالها، تقدمت نحو طاولة مرتفعة من خشب الفينو'¹' كانت تجاور الفراش، و من هناك التقطت بين أصابعها الرشيقة مرش عطر ذهبي اللون، ثم أفلتته منتشية بروائح الزهور التي فرت منه، و مضت تتفحص بعينيها إكليل الأقحوان المعلق على الباب، قبل أن يتحرك مقبضه و تدلف من ورائه المرأة التي ظنت أنها كانت حلمًا هي الأخرى!

2


"ها أنتِ ذي بخير!".

+


خطت سوليداد داخل تلك الغرفة و تحسست بكفها الدافئ حرارة جبينها، لتضيف و هي تشيح إلى الطرف الآخر باحثة عن شيء ما:

+


"أتصورُ أن الجوع أخذ منكِ كل مأخذ...".

+


شقت النافذة تستدعي هواء البحيرة الندي لينعش أجواء الغرفة، ثم لوحت لإحداهن من هناك، قبل أن تلتفت ثانية متأملة دهشة لونا و تواصل قولها بثغر باسم:

+


"صينية بيرسود على وصول، ستروق لكِ "الكاثويلا"'²' التي أعدتها اليوم".

+


───────────────────────

+


خشب الفينو: يتميز بخفة وزنه مقارنة مع بقية أنواع الخشب، و ذلك ليسهل على الغجر التنقل به من مكان لآخر دون عناء، و مصدره الأصلي رومانيا.

2


...

+


الكاثويلا: طبق تقليدي شهير لدى شعوب أمريكا الجنوبية.

7


───────────────────────

+


حافظت لونا على نظرها الذاهل في المرأة، بينما شعرت الأخرى أن هاتين العينين الزرقاوين اللتين تحملقان بها على وسعهما ليستا غريبتين عنها، و فيما هي تستغرب شعورها القوي، تمتمت لونا كالمسحورة و دمع طفيف تجمع فوق بؤبؤيها منددا ببكائها القريب:

+


"أنتِ سوليداد؟!".

+


"نعم، أنا هي".

+


ابتسمت الغجرية واثقة أن الفتاة التقطت إسمها من فم ذلك الأمريكي القذر الذي جاء بها إلى هنا، لكن شيئا جاب وجه لونا جعلنا تستدركُ ثقتها، و تشك في كونها مجرد سائحة ساذجة قدمت لترفع البرقع عن وجه الجمال في كولومبيا! و لأنها امرأة عاشت طيلة سنوات تتبع حدسها المرهف، فقد صدقت الحدس الذي أخبرها هذه المرة بأن هناك أسرارًا غامضة تجذبها نحو تلك الشقراء الأجنبية!

2



        
          

                
أضافت لونا و هي تتخذ خطوة مترددة نحوها:

+


"لا أصدق أنني أقفُ أمامكِ أخيرًا! ظننتُ أن لقاء دمعة النار حلمًا لن يتحقق!".

3


فقدت سوليداد القدرة على تحريك لسانها للحظات، ليس و كأن عقلها كان جامدًا أيضا، فقد أضنته في القفز إلى الماضي، و جلدته بالذكريات، تتساءل بمرارة من أين تعرف هذه الغريبة لقبها أيام الشباب؟ فنادرون هم من يعرفون قصة سوليداد مع النار و الدموع!

3


نشبت فيها عينيها المكتحلتين باهتمام قائلة:

+


"من أخبركِ عني؟ لا سيما عن هذا اللقب بالذات!".

+


أمهلت لونا نفسها وقتا لترتب كلماتها و تبتلع ريقها، ثم أجابت بهمس كأنها تخشى أن يقلق صوتها الوجود:

+


"رجلٌ قرأتِ كفَّه ذات يوم و أخبرتِه أنه سيحظى بأجمل زمردة في كاجوناس، و سيحملها معه إلى ما وراء المحيط، لكنه سيخسرها هناك...".

6


أكملت سوليداد عنها مكتشفة دموعًا في عينيها أيضا:

+


"...لأن بعض الجواهر لا يجب أن تغادر عالمها!".

10


أومأت لونا فاقدة السيطرة على مشاعرها المهتزة، فسألت سوليداد مأرجحة بصرها بين عينيها المألوفتين:

+


"كيف تعرفين ذلك الرجل؟ أين التقيتِه؟ و متى تسنت له الفرصة كي يحدثكِ عني؟".

+


ملأت لونا رئتيها بالهواء، و تمتمت بصوت تعوزه القوة:

+


"كانت الفرص للحديث عن غجر كاجوناس تتسنى كل ليلة، امتلأ قلبي بحكايا الرقص و النار و العرافة سوليداد، لأنني نصفُ غجرية... لأنني جزءٌ من كاجوناس أيضا...".

+


بدأت الصورة تكتمل في عقل العرافة، و واصلت لونا قولها مؤكدة ذلك:

+


"أنا لونا رويز... إبنة الرحالة الإسباني ألبرتو رويز... و الراقصة الغجرية إيزميرالدا ميلوس!".

12


أخذ منها ذلك التصريح وقتًا طويلاً من التأمل و الحيرة، لتنطلق دموعها بغزارة، و تغمغم لامسة يديها الشاحبتين ثم ممررة أناملها على بشرة وجهها الناصعة:

2


"يبدو أن إيزميرالدا كانت شديدة الحب لكِ، فقد تمنت كثيرًا أن تنجبَ نسخة طبق الأصل عن معشوقها ألبرتو!".

6


ارتجف ذقن لونا و هي تسمع ذلك و تردف ببطء:

+


"يبدو أنكِ عرافة ماهرة، فقد حُرمتُ منها طوال عمري، خسرنا أنا و أبي تلك الزمردة النادرة، و لم أستطع أن أسألها أبدًا كم أحبتني!".

3


لم تنتظر سوليداد حتى ثانية كي تأخذ الفتاة الباكية في حضنها، و تذرفا الدموع معا، هذه تبكي الأم التي رحلت فور وضع طفلتها الوحيدة، و تلك تبكي صديقة العمر التي فجعت بالحرمان منها مرتين! مرة حين سافرت كعاشقة متألقة... و الآن كروح شاحبة فارقت جسدها منذ زمن!

12



        
          

                
...

+


حين هدأ نشيجهما، و أخمد الألم في روحيهما نيرانه، دلفت بيرسود الشابة السمراء تسند إلى خصرها صينية متاخمة بالطعام، و اعترفت لونا بعيدًا عن كل ما حدث أنها تتضور حقا من شدة الجوع، و راقت لها بالفعل وجبة "الكاثويلا" حتى كادت تنقب الصحن!

+


قامت بعد ذلك بجولة حول الأكواخ بمعية الفتى أيون، تمشط جدرانها الخشبية بنظرها المعجب، و تدوس فوق التراب الممهد بالصندل المريح الذي نالته كهدية لطيفة من سوليداد، و فكرت و هي تلقي الحصى الصغير نحو الماء -تواكب الفتى و تجاريه- أن تلك المرأة بحق ودودة كما تحدث لسان والدها دائما!

+


   استعذبت ذرات الرمل الصغيرة التي نفذت إلى صندلها على شفاه البحيرة، و قالت:

+


"تحظون بحياة دافئة هنا!".

+


أضاع أيون ابتسامته الهادئة، و تمتم واجمًا:

+


"ليس حين تحدث مشادَّة بين ستانكا و حبيب الغجر!".

12


استفهمت لونا رافعة حاجبيها، ففسر كلماته ملاحظًا بطرف عينه سيارة فارهة تقترب من محيط البحيرة:

+


"ستانكا أسوء غجري عرفته هذه الأرض ربما، أنانيته تدفعه لأخذ ما يستهويه غصبًا، سواءً أتعلق الأمر بالنساء... أو بالزعامة!".

+


"الزعامة؟! ألا يزال هذا الأمر يحدث هنا؟ ظننتُ أن نظام القبيلة اندثر!".

+


حرَّك أيون رأسه نفيا، و تابع و هو أكيد هذه المرة أن السيارة الفارهة تعود لامرأة من الطبقة المخملية، و لا ريب أن توقفها أمام باب سوليداد لا يعدو كونه رغبة صريحة في قراءة الكف:

+


"قبيلة كاجوناس حافظت منذ الأزل على نظامها، و زعيمنا لا يزال حيًّا، لكن تدهور وضعه الصحي و تسرب الحياة منه شيئا فشيئا شجع ستانكا على السعي لإزاحته من مكانه، و الوحيد الذي يضعه عند حده هو...".

+


قاطعته لونا مفترضة:

+


"هذا الذي تسمونه حبيب الغجر!".

21


هزَّ رأسه إيجابًا، و التفتا معا يتأملان الرفاه الذي يغلف تلك المرأة التي استقبلتها سوليداد بود، حذاء و حقيبة يد لامعان، بنطال من جلد الأفاعي الأصلي، و سترة حريرية تلائم حلقيها الذهبيين و أحمر الشفاه القاني الذي خضب شفتيها، ابتسمت لونا بسخرية لتلك القشرة الزائفة، أليست من الطبقة الراقية ذاتها؟ لماذا إذن لا تميل لارتداء قشرة مماثلة؟ لماذا يبدو لها أيون في بنطاله الواسع و قميصه المقلمة و ربطة رأسه الغجرية الكحيلة أجمل من كل رفاه سخيف؟ لماذا تلمع البحيرة تحت وهج شمس الأصيل أفضل بكثير مما يلمع الحلقان الذهبيان؟!

+


استرعت اهتمامها عودة أيون للحديث بلهجة فخر:

+


"إنه رجلٌ أشدُّ وُسعًا و عمقًا من هذه البحيرة، يحترق ليمنح الدفء، لقد قدم لنا جنة و استبقى لنفسه جحيمًا لا يستحقها!".

19



        
          

                
طرفت بجفنيها تنتظر منه شرحًا، لكنه لملم نفسه، و تمتم بأدب أحبته قبل أن يختفي عن مسرح نظرها:

+


"اعذريني سينيوريتا، لدي أعمال متراكمة بانتظاري، تطيبُ الدردشة معكِ، لكنكِ جميلة جدا، و تمطيط الجلوس مع الحسنوات يصيبهنَّ بالحسد! بغض النظر عن هذا... آمل أن تمكثي معنا الليلة و تري بأم عينكِ عن أي الرجال أتحدث".

30


ظلت تراقب ظله المنصرف بحيرة إلى أن تلاشى، أرجعت بصرها إلى البحيرة، حيث يركدُ الماء المخضرُّ لثوانٍ فقط، ثم لا تتركه أجنحة البجعات البيض بسلام، فتصفق هنا و هناك جاعلة إياه يتكدر و يرتج. شعرت لونا أنها تغرق أكثر في سحر المكان مع كل لحظة تمر، راقت لها الحكمة التي تحدث بها أيون و هو لم يتجاوز سن مراهقته بعد، خلب لبها سلسالٌ ثقيلٌ راح يترنح مجلجلاً على صدر إحدى الغجريات هناك و هي تتمايلُ بغنج بينما تقصدُ كوخها، و أغرى أنفها عطر مبخرة سوليداد المعلقة أعلى نافذتها، قبل أن تلتفت متفاجئة لتجد نفسها وجهًا لوجه مع فتاتين من القبيلة، تبدوان في ثيابهما الفضفاضة، المشدودة عند الخصر، جاهزتين لهز وسطيهما على ترنيمة الغابات المترامية خلف البحيرة، إحداهما كانت أشدُّ فتنة، و أكثر سمارًا من الأخرى، و أبغض في التصرف كذلك، إذ خاطبت لونا بترفع لم يعجبها، و خلت لهجتها من أي حفاوة و ترحاب و هي تقول بامتعاض:

+


"لا يسرحنَّ بكِ عقلكِ كثيرًا أيتها الشاحبة، أحلام البيض لا تتحقق هنا!".

33


رأت لونا فيما سمعته هجومًا صاعقًا لم تتأهب له، و كمًّا رهيبًا من العنصرية، متى كان الغجر يهتمون لمثل هذه الفروق السطحية السخيفة بينهم و بين أقوام غيرهم... أم أن هذه السمراء المتعالية تسعى لمجرد إذلالها كونها ضيفة غير مرغوب بها؟!

+


لكزتها صديقتها تخشى أن يكون كلامها قاسيًا على الشقراء، لكن الأخرى تابعت بتعجرف جارح و أصابعها الطويلة تلوي ظفيرتها السوداء:

+


"حبيبنا لا يحب الغرباء، لذا لا أظنها فكرة سديدة من أيون الساذج أن تمكثي و تشاركي في الإحتفال!".

26


لكزتها الفتاة الأخرى مجددا محذرة:

+


"أوه مالا! احرصي ألا تسمع سوليداد هذا، تعرفين أنها تبجل السياح البيض، و تمضي في تدليلهم إلى حد يُعجبُ له!".

4


لوت مالا شفتيها المكتنزتين، و علقت متأففة:

+


"كفى لجاجةً خوانيتا! أنتِ تحبين التنورة الجديدة خاصتي! صحيح؟ سأتنازل عنها لكِ شرط أن تعيريني صمتكِ!".

3


ابتهجت خوانيتا، و برقت عيناها البنيتان طمعًا في التنورة التي حسدت عليها صديقتها منذ أيام، لتعود مالا بالحديث إلى لونا، فقالت و هي تمشطها متفرسة بكل إنش من ثيابها التي تحولت إلى خرقة بالية بعدما كانت عبارة عن قطعتين من الحرير الفاخر و الجينز الأصيل:

+


"تصرفي كسائحة مملة، و ٱغربي عن هذا المكان، لأن كاجوناس آخر أرض قد تناسب أمثالك!".

3


عجبت لونا لمنطقها، ما الخطيئة التي اقترفتها حتى حنقت عليها هذه الفتاة هكذا؟ لو لم تقف بنفسها على رحابة صدر سوليداد و بيرسود و أيون لصدقت جزمًا بأن الغجر تخلفوا عن الوفاء لكرم ضيافتهم، و تنكروا لما جُبلوا عليه من حب عادل لكل سكان بقاع الأرض!

5



        
          

                
إذن يبدو أن هذه المالا مجرد حاقدة ماكرة تستمتع بإهانتها كي تبقيها فقط بمنأى عن إحتفالهم المجيد، و ما أضافته تاليًا يثبت صحة تخمين لونا:

+


"هذا ليس مجرد إحتفال عابر على شرف عيد ما كما يحدث في بلدانكم، نحن هنا في كل ليلة قمرية مشعة نتلألأ من أجل الرجل الذي جعل كل يوم من حياتنا عيدا، نرقص فوق أرضه على شرفه، و نستعد دائما لإسعاده و تحقيق رغباته، و إن طلب أرواحنا كانت له!".

31


"على رسلكِ عليها مالا، لعل هذه الشقراء لا تعي أيا من ذلك، و لا تدركُ ما هو الرقص بالأساس!".

1


تضرج وجه لونا بحمرة الإنفعال، اتقدت عيناها من شدة وقع الإهانة التي شعرت بها، بينما كانت الأخريين تلهثان عقب ضحكة سافرة، و ما إن ظنتا أنهما سجلتا نقطة قوية ضدها، و انحرفتا يمينا لتبتعدا عنها، حتى استوقفتهما لونا بلهجة عنيدة ملؤها التحدي:

+


"لا أظن الرقص بالأمر الصعب على امرأة تنتمي بالفطرة إلى هذا المكان!".

5


لم يعجب ذلك التصريح مالا، استدارت بعنف تود لو ترمي بلونا إلى البحيرة، و علقت بجفاف قاسٍ:

+


"ٱنظري لنفسك، الإنتماء إلينا ليس بهذه البساطة!".

+


ردَّت لونا بلهجة لئيمة كبدت الأخرى خجلاً جعل وجهها يمتقع:

+


"و من تحدث عن الإنتماء إلى مخلوقة شائكة مثلكِ؟ إذا كنتُ أنتمي إلى هنا أم لا، فهذا تحدده دمائي الغجرية... و رقصتي الليلة!".

38


تبادلت مالا و خوانيتا نظرة مصعوقة، لتنفجرا ثانيةً في ضحكة صاخبة!

1


"ماذا؟ هل قالت رقصتها؟".

+


تعاملت لونا مع سخريتهما ببرود تُحسدُ عليه، و عقبت بهدوء:

+


"دعا هذه القهقهة للإحتفال، أحب أن أراها تنشق و تنخلع عن وجهيكما بعد أن أميل بخصري كما يفترض بغجرية أن تفعل، و إن كنتِ إبنة كاجوناس حقيقية فلن تخشي التحدي!".

19


دنت من مالا ترفع سقف الحوار لمستوى ناري، و تابعت بثقة يفتقر إليها السياح أمام الغجر عادة:

+


"ما رأيك؟ رقصة تنافسية نثبت فيها من الأكثر مهارة بيننا!".

6


جزت مالا أسنانها، تجاهلت رفض خوانيتا للفكرة، و تمتمت بحدة من بين شفتيها النافرتين:

+


"موافقة! لكنكِ بحاجة لتعرفي الكثير عنا!".

+


أضافت مالا بخبث:

+


"نحن لا نرقص داخل البناطيل الرجالية، التنانير الواسعة رمز لثقافتنا، و الصندل الذي تنتعلينه الآن لا يكفي ليمنح قدميكِ رشاقة الراقصات!".

4


هضمت لونا تلك الملاحظة اللئيمة على شكلها، و أنهت الحوار على منوال خاص، و رغم أنها تمقت ديابلو رجل الأدغال ذاك، إلا أنها وجدت نفسها تقتبس كلماته بسعادة:

+



        
          

                
"ما أعرفه كافٍ جدا... هناك مثل قديم يقول: (لا تتحدث عن الغد لأنك لا تملكه بعد!) الرقص يحتاج روحًا قبل الثياب و الجسد، و سواء كانت قدماي بصندل أو بدونه، فإنهما تجيدان محاكاة الأرض، من يدري؟ ربما تصفق لي الرمال قبل الأيادي!".

41


كان من الصعب حقا أن يعثر عقل مالا على الرد المناسب، أفحمتها كلمات لونا، و زاد من ذلتها أن الشقراء الدخيلة أشاحت عنها كما لو كانت بعوضة حقيرة، و انطلقت تتمشى على شاطئ البحيرة كأنها قضت كل عمرها هنا!

+


"لم تصغِ حتى لما تبقى من الشروط! أتتصورين أنها تعرف طبيعة الحفل الكاملة؟".

10


"لا فكرة لدي خوانيتا، ما أتصوره الآن هو أن تصمتي و تغربي عني في هذه الآونة! العفاريت السوداء تثب حولي بجنون".

3


ربتت على ظهرها تلك مؤاسية:

+


"هوني عليكِ مالا، إنسي أمر الشقراء البائسة، جميع من يأتين إلى هنا يعتقدن أنهن قادرات على التأقلم مع نمط حياتنا، لكنهم يلذنَ بالفرار في الصباح التالي! يجب أن تفكري فقط في حبيب القلب الليلة، شدي زنارك، و الوي خصركِ أمام ناظريه، مصيره أن يهتدي يوما ما لسحرك!".

16


كانت مالا تُعرف هناك بالراقصة الأولى، لا سيما في ليالي البدر المكتمل، حين تدق الطبول، و ترتعش أوتار القيثارة، و تصفق الصاجات، و تعصف بالأرواح موجة التمايل مع عذوبة الألحان، و تسكن الأجساد حينا و تهتز حينا آخر، و تتجه الأعين كلها نحو مالا السمراء، ذات الجديلة السوداء، و القامة الهيفاء، و الشفاه الممتلئة إغراءً، و مع ذلك يظل حبيب الغجر... الرجل المرغوب من كل إمرأة... منيعًا... بعيدًا... صعب المنال!

25


...

+


كاجوناس
ليلاً...

+


أطلت لونا تتقصى ضوء القمر، الساحر الذي اكتمل، نوره استرسل في كل اتجاه، و امتلك عينيها الهائمتين، لكنه في الوقت ذاته هزها هزا، حين ذكرها بديابلو، و بالإسم الذي أطلقه عليها بكل شاعرية ممكنة "لولان" القمر الضائع! ألا يرحم خيالها مطلقا؟ ألا تخلي مشاهده سبيل ذاكرتها؟ 

4


تأكدت أن اللباس الذي قدمته لها سوليداد ناسبها تماما، و للحظة كادت تذرف الدموع متطلعة بشكلها في المرآة، لقد قالت العرافة و هي تضعه بين يديها بحرص شديد:

3


"هذا يعود لوالدتك، الشيء الوحيد الذي ظل معي من أثرها، لقد حافظتُ عليه من أجل لحظة كهذه، في تقاليدنا... حين يموت الغجري أو يختفي دون رجعة تُحرق أغراضه ليحظى بسلامه، لكن إن كان له وارث، فمن حق هذا الأخير أن يحصل على ما كان لوالده من قبل، و لطالما آمنتُ بأن إيزميرالدا لن تُحرق أغراضها لأنها لم تمت بعد، إنها موجودة بكل تفاصيلك صغيرتي، و رغم الشبه الكبير بينكِ و بين ألبرتو إلا أنها نجحت في البقاء حية داخلكِ!".

2



        
          

                
أحاطت لونا عنقها بالسلسال الفضي الذي يعود لأمها و يعكس في المرآة لمعة عينيها، ثم دارت وسط تلك الغرفة ضاحكة من إنتفاخ تنورتها الواسعة، الآن هي غجرية كما تمنت دوما، و لن يضيرها أن ترقص اليوم أمام رجل غريب، أخبرتها بيرسود بما يجري عادة في الحفلات السابقة بينما تساعدها بتبخير شعرها عقب الحمام الذي أخذته، و تضع بعض الحنة السوداء على ذقنها و يديها!

+


"عادة تجتمع الراقصات في حلقة أمامه، و يتنافسن فيما بينهن من أجل الفوز بإعجابه، على أمل أن يتفاعل معهن، لكنه يكتفي بالتصفيق، و برمي حفنة من الرمال إلى النار تعبيرًا عن تقديره للجهد الذي بذلنه!".

25


عقدت لونا حاجبيها متسائلة:

+


"و ماذا يتوقعن منه عدا ذلك؟".

+


ضحكت بيرسود مردفة:

+


"مرافقته إلى بيته طبعا!".

21


شحبت لونا، فضحكت الأخرى بصوت أعلى، و طمأنتها:

+


"لا تجزعي! قلتُ لكِ أنه شاهد أجمل النساء و أمهر الراقصات هنا، و مع ذلك لم يختر منهن واحدة مطلقا!".

42


اطمأنت لونا نسبيا، و سألت مجددا:

+


"و كيف يفترض بالإختيار أن يتم؟".

+


"الفائزة بإعجابه ترافقه كزوجة حسب قانون الغجر، لكن ذلك لا يتم دون أن ينجح في إزاحة الوشاح عن وجهها، تسمى تلك رقصة الوشاح، فإن نجح في رؤية وجهها ألقى شيئا يخصه حول عنقها، و بذلك يمتلكها للأبد، و يصبح كسر تلك الرابطة المقدسة شيئا مستحيلاً!".

80


لم تفهم لونا لِمَ دق قلبها بعنف آنذاك، لعل أندادها يعتبرون هذا النسق في الزيجات تخلفا و رجعية، لكنه راق لها لسبب غريب، ربما لكونه تقليدًا غجريًّا، أو لكونه غير مألوف بالنسبة لما سمعت عنه طيلة حياتها بهذا الخصوص!

7


في كل الأحوال بيرسود أقسمت لها أن حبيب الغجر هذا لم يتحرك من مجلسه طيلة الإحتفالات السابقة حتى، و لم تثر أي راقصة إهتمامه إلى حد أن تجذبه نحوها و يشاركها رقصة الوشاح!

20


تناولت لونا الوشاح الشفاف الذي ستضعه فوق وجهها خلال الرقص، ثم غادرت كوخ سوليداد، تتجه بخطاها الواثقة إلى شاطئ البحيرة، صوب جماعة من الغجر اللذين تحلقوا متسامرين حول النار، و بينهم صف الراقصات السمراوات يتأهبن للتمايل و خطف القلوب، و كان هناك عازف قيثارة طويل الشعر و اللحية، أشمط الصدغين، يكتحل كبقية رجال الغجر، و يضع في كل إصبع خاتما بحجر مختلف، و عن يمينه و يساره شابان يدقان طبلين بشكل فاتر استعدادًا لموسيقى ثائرة على ما يبدو، رمت لونا بصرها حيث تتجه أنظار الكل، و كان صادما منظر الرجل الذي مضت الأفواه تشير نحوه بلقب "الحبيب"، شعرت ببرودة البحيرة تسحق جلدها، و بنيران اللهب تستبد بأعماقها، كان حقا وجه ديابلو العابث كحيل العينين... آخر وجه توقعت أن تراه الليلة، و كان تخمين أنه نفسه "حبيب الغجر" مستحيلاً عليها، يربض كالفهود مسترخيا، ينقل بصره الناعس بين أصابعه و دائرة النار كأن الحسنوات اللاتي ينتظرن منه شبح الإهتمام لا يعنين له شيئا يذكر!

51


كانت لونا ستفر كعادتها، شيء ما فيه يدفعها للهرب و محاولة النجاة منه، لكن كلمات مالا رنت داخل رأسها، و ضحكتها الرنانة بين الراقصات جعلت جنونا غريبا يثب من أطرافها و يحثها على الإنضمام لهن غير عابئة بجحوظ عيني ديابلو الذي جذبه لمعان شعرها المميز فورًا، خشيت أن يكون قد لاحظها، غير أن مكوثه بمجلسه يعني العكس! و رغم ذلك، أدركت أن حلم التواجد مع الغجر أهم من الهرب منه، إذن... سترقص... سترقص كما لم تفعل غجرية من قبل... ستتمايل مع النار و بها... و ستجعل القمر نفسه مسحورًا بفتنتها! في كل الأحوال... ديابلو لن يعرفها من خلف ذلك الوشاح و بتلك الثياب... أم أن رجلاً بنظر ثاقب مثله قد يفعل؟!

74


نهاية الفصل الرابع.

2


🤎🤎🤎

+


قراءة ممتعة رويالز


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close