اخر الروايات

رواية عروس ديابلو الفصل الثالث 3

رواية عروس ديابلو الفصل الثالث 3



❞تلمع عيناه المُكتحلة... تلمع القلائد الفضية على صدره... يلمع الخنجر الفذُّ على خصره... يلمعُ ذلك الرجل بشدة في أعماقها❝

37


٣✍

+


غابات كولورادوس
صباحًا...

+


تململت لونا قليلاً تستلذُّ بقايا النوم المطبقة على جفنيها، و ابتسمت حالمة، لا تدري في أي نعيم وقعت، قبل أن تفتح عينيها فزعة، مدركة أخيرًا أنها لا زالت في تلك الغابة، مع ديابلو المجنون!

3


و لكن... أين هو الآن؟ قلبت رأسها هنا و هناك تطرق بعينيها الباحثتين كل الأرجاء عسى أن تتعثر به، دون جدوى، كأنه لم يكن سوى مجرد سراب ليلي و اختفى!

2


لاحظت و هي تحاول الوقوف من مرقدها أن النار خمدت، و لم يبقَ منها غير الرماد الذي خضب وجنة التراب، بدأ وعيها يعود إليها، و فطنت لأشياء كثيرة غفلت عنها أمس بسبب الحمى، أخذت بارتعاش بضع خطوات، مستندة إلى جذوع الأشجار، هذا الدوار الذي ينتابها سببه طول الإستلقاء لا ريب، و ستضع له حدًّا على الفور، لأنها لن تستمر على حال المرض هذه لأجل غير مسمى، لا بد أن تتحرك و تواصل رحلتها إلى بحيرة "كاجوناس"... و تحقق الحلم.

+


بدت أصوات الغابة في تلك الصبيحة ساحرة، إنها لغة التواصل في الأدغال المتحررة من تطاول الحضارة، فكرت لو أن الإنسان لم يكن نهما لطمس كل ما هو عذري الجمال، لكان كل شبر من الأرض هكذا، لكانت مدريد أيضا هكذا، لكن... كلا! هناك دائما ما هو نادرٌ و لا يراه المرء سوى مرة في العمر، هناك أمازون واحد...

1


...و ديابلو واحد أيضا!

13


انتشت لونا بتكتكة نقار الخشب المتزامنة مع أفراد العنادل التي كانت تنشدُ ألحانها العذبة فوق أغصان أشجار المطاط الشاهقة، ثم هدل فوق رأسها نوع غريب من الحمام الرمادي، لحظة! إنه أشبه بالببغاء، و ذيله كان الإنش الوحيد من جسمه الذي ازدان بالألوان متمردا، سمعت صياحًا يشبه نقيق الضفادع، و تبين أنها مرت بجانب جذع يستوطنه عش طوقان و يُبَطِنه بالبذور اللينة و رقاقات الخشب، جذبت انتباهها الزهور البرية التي لم تستطع تمييز أغلبها، ثم استأثر باهتمامها كله الرجل الذي أنفقت في البحث عنه دقائق فقط!

1


شعرت لونا و هي تمسك خطواتها و تتجمد أن جسدها يتعرق بشدة، و نبضها يتسارع، و صدرها يعلو و يهبط بلهاث أتعبها، التصقت نظراتها بما يجري أمامها، كأن بصرها كان يفرُّ من عينيها و يسلم أمره لمعانقة ذلك المشهد، مدت يدها تسبح في الفراغ باحثة عن أقرب جذع لتحمي جسدها من السقوط، من يمكنها أن تتماسك في لحظة كهذه، كما لو أن الطبيعة أمكرت بلونا و هوت تعذيبها، فحشدت أكثر عناصرها سحرًا معا، عذوبة ماء البحيرة، أصوات مخلوقات الأدغال التي استمرت تردد في الآفاق أنها سيدة المكان، و فتنة هذا الرجل الذي كان يستحم هناك خالي البال، كإله من أساطير الإغريق، عضلات صدره المتموجة مع كل حركة تصرخ برجولته الفذة، و خصلات شعره السوداء التي ازدادت طولاً تحت سلطان الماء، ثم ها هي تهتز و تلتفُّ و تحلق معقوصة كلما هبت بها النسمات الملاطفة سارقة عطرها الخاص!

34
            
كان يظهر نصف جسده العاري فقط من سطح البحيرة، قطرات المياه نفسها التي تروي أيًا كان... راحت تتسابق على طول بشرته السمراء عطشى تواقة للإرتواء منه، بسط ديابلو كفيه يجمع بهما غرفة من الماء الصافي، ثم رفعهما عاليًا و تمتم بشيء ما ناظرًا للسماء، قبل أن يلقي بذلك الماء الذي اغترفه فوق رأسه، لتسقط قطرات عشوائية منه على خدود بتلات زهور أرجوانية اللون كانت تسترخي في هدأة على جانب من البحيرة، و كرر ذلك عدة مرات، كما لو كان يؤدي طقوسًا خاصة به. أرادت لونا أن تتأمله فقط، نسيت أمر حلمها في الذهاب لأرض الغجر، نسيت رغبتها في الرحيل عن تلك الغابة و عنه بالذات، نسيت ما عانت و ما قاست... و فكرت فقط كم يبدو هذا الديابلو مختلفا عن أي رجل قابلته حتى الآن، هو... و عالمه الذي ينسجم معه بقوة!

3


فكرت فجأة في إسمه، هذه الكلمة الإسبانية تعني "إبليس"...! غريب! أي امرأة عاقلة قد تطلق على وليدها إسمًا كهذا؟ سافر بها الخيال عند تلك الفكرة إلى والديها، لولا شاعريتهما لما حملت إسم القمر، و كاد قلبها يتوقف عن نبضه حين تذكرت الإسم الغجري الذي أطلقه عليها ديابلو ليلة أمس، لولان... القمر الضائع، ازدردت ريقها تشعر بذبذبة هادرة في عروق ذراعيها، هي لا تستطيع الإنكار أنه أجمل حتى من إسمها، لكن ما لا تستطيع استيعابه هو أن يمُتَّ هذا الرجل بأي صلة للشاعرية التي نسجت قصة الحب الخالدة بين والديها، و لو تمتم بكلمة جميلة، فلا بد أنها مجرد غزل خبيث يستخدمه أمثاله للإيقاع بالحسنوات في حبائلهم!

11


كانت قد استسلمت لسلطان شرودها، و لم تلاحظ أن ديابلو تقفى حدسه القوي الذي همس له بأن هناك من يختلس النظر إليه، و التفت صوبها محررا شفتيه المبللتين لتتخذا ابتسامة شبه ناعسة، ثم سبح حتى بلغ شاطئ البحيرة، و اتكأ بمرفقيه على حافة التراب الرطبة يداعب بأنامله بعض الزنابق التي تنمو هناك و عيناه اللتان تمسكتا بقوة بكحلهما الراسخ تنزلقان على جسد لونا، و في تلك اللحظات طرح عقله سؤالاً ألح عليه... ما الأكثر سحرًا في هذه المرأة؟ الخصلات الشقراء المائلة للون الفضة حول وجهها... أم عيناها اللتان سرقتا زرقة سماء تشرين... أم لعلها البشرة القشدية التي تغلف قدَّها الرشيق... كان البنطال الذي يخفي ساقيها الطويلتين قد بهت نوعًا ما، و القميص التي تستر نصف جسدها العلوي قد اتشحت ببعض من أوحال الغابة؛ و رغم ذلك... احتفظت لونا بجمال جعله يعجز عن تحويل عينيه بعيدًا عنها، كرر طائر الطوقان صيحته، و تغيرت أشكال السحب القطنية في عرض السماء تتسابق نحو معانقة قمم الجبال الغربية، و غادر البط البحيرة ينكش ريشه بمنقاره نافضًا بقايا الماء عن جناحيه، فأحدثت حركته تلك موجات دائرية حوله مما قلب بعض الزهرات العائلة على وجهها، و ظلت لونا طوال ذلك الوقت الذي مر تفكر، و ظل ديابلو فقط ينظر...

8


و بدا أن اللحظة ستستمر و تتطاول حتى الغد، لولا أن دغدغ شيء ما ظهر يدها التي كانت تستند بها إلى الشجرة، فظنت أنها قشعريرة سرت على جلدها جراء توتر أفكار عقلها الباطن، غير أن الدغدغة تحولت لشيء لزج يزحف على طول ساعدها، و سرعان ما ألقت نظرة، حتى أطلقت صرخة دوت في أرجاء الغابة، أزاحت بيدها الأخرى الحشرة التي تفاجأت بها تتسلق جلدها الناعم، و تأوهت من شدة القرف الذي شعرت به، كانت كائنا مقززا بالنسبة لها... و مرعبا أيضا، لتنتبه أخيرًا لافتضاح أمر مراقبتها له، و تلتقط صوته الساخر يعلق:

2



        
          

                
"إنها لا تقتل!".

2


هضمت فزعتها، و ادَّعت أنها لا تكترث لمنظرها القبيح، لكنها كادت تفقد زمام أمرها و تستفرغ حين أضاف:

+


"إذا اشتهيتِها... فسأشويها على النار من أجلك!".

29


تلوَّى وجهها تقزَّزًا مما سمعت، و غطت فمها مشيحة عن الزاوية التي فرت إليها الحشرة، فأتبع ذلك انفجاره ضحكًا، و علق مجددًا رافعًا يديه عن شاطئ البحيرة:

+


"لا داعي لهذا الوجه المعذب سينيوريتا... كانت مجرد مزحة".

40


أراحها واقع أنه يمزح، و أطربها الدلال الذي شعرت به جراء منادته لها بالآنسة في لهجة مهذبة يستعملها معها للمرة الأولى منذ لقائهما، ماذا يحدث لها؟ لا يجدر بها أن تستلطفه الآن! سمعته يستأنف قوله و هو يرجع شعره الأسود الطويل إلى الخلف مستعينا بأصابع يديه الخشنتين، فتتخلل تلك الأصابع خصلاته و تغرق فيما بينها، و يهتز صدر لونا هناك لسبب تجهله إثر ما تراه و تسمعه في آن واحد:

+


"صحيحٌ أن تلك الحشرة لا تقتل باللمس، لكن تناولها يعني الموت في أقل من ثانية!".

+


علقت بلؤم:

+


"كم أنا شاكرة لهذه المعلومة العظيمة يا أبا الأدغال!".

4


أطلق ضحكة هادئة و نظرة متسلية، و عض شفته السفلى مفكرًا في شيء ما جعل عينيه القاتمتين تلمعان، قبل أن يرفع حاجبه الأيسر بحركة مغرية و يردد:

+


"سأكون شاكرًا أيضا إذا ما انصرفتِ الآن، لأن السيطرة تنعدمُ و أنا في وضع كهذا!".

32


بدا واضحًا عليها العجز عن فهمه و سبر أغوار كلماته، و بدا أيضا أنها مستعدة هذا الصباح لمشادة لفظية طويلة، و قد كان محقا في تخمينه، إذ تجاوزت ما قاله دون أن تتكبد عناء تفسيره، و دنت منه خطوة لتسأل بحدة:

+


"لن أنصرف حتى تجيبني على بعض الأسئلة!".

+


"أسئلة الآن... في هذه الجنة؟ أليس المكان و الوقت غير مناسبين لذلك؟".

+


"أعرف جيدا متى أطرح أسئلتي!".

1


رد بهدوء:

+


"كلي آذان صاغية".

1


لوت شفتيها يستفزها استرخاؤه التام في مسبحه المبجل، و صاحت:

+


"هل راق لك استغبائي إلى هذا الحد؟".

11


أرجع رأسه للخلف مستعجبا، فتابعت:

+


"ظننتَ أن مريضة الحمى يسهلُ خداعها، صحيح؟ كنتَ على حق إذن، فأمس لم أكن قادرة على التفكير بشكل سليم، لكنني اليوم صاحية... إلى أبعد حد، و بإمكاني كشف تمثيلياتك السخيفة!".

4


"تمثيلياتي؟!".

6


لم يرد ديابلو بأكثر من ذلك الجواب المُقتضب، و استرسل في التحديق بها حائرًا ينتظر منها شرحًا أدق، فانبرت تضيف بحنق:

+



        
          

                
"أوَّلاً... مثلتَ أنك الساهر على راحتي، بينما كان من الأسهل نقلي إلى مستشفى تتولى العناية بي كما يفترض بأي شخص عادي أن يفعل، هذا إن كان أمر سلامتي قد شغلكَ حقا! و ثانيًا... لعبتَ دور الصياد العظيم... و شاحنتكَ على الطرف الآخر متاخمة بما يسد الرمق و يزيد من زاد و مشروب، أي نوع من البشر أنت؟ ما الذي كنتَ تسعى إليه بالظهور أمامي كرجل الأدغال الذي لا يقهر؟ أن ٱعجبَ بكَ و أقع بحبائله؟ هل ظننتَ حقا أن بي من الحماقة ما سيُتيح لك خداعي بعدما أستعيد وعيي و إدراكي؟".

58


أسفرت تلك الكلمات الحادة التي تحرك بها لسانها بسرعة رهيبة عن لهاث قوي انتاب صدرها، و انتظرت أي رد منه، غير أن الصمت الثقيل ران بينهما أطول مما توقعت، و لو لم تكن أصوات الأدغال حولها تدب و تتردد كنبض خاص بالحياة هناك، لأقسمت لونا جزمًا أن الكون توقف عن المضي قدمًا، و أن ديابلو قد استحال تمثالاً منحوتًا إلى الأبد، لمحت منه حركة بطيئة، أنفاس هادئة هزت صدره، لمعت إثرها قلائده الفضية، و تساقطت بضع قطرات شفافة من أهدابه تخط أثرًا لامعًا على طول وجنتيه ثم تتشبث بنهاية فكيه كأنها تتوسل البقاء ملتصقة به... لتهوي آخر الأمر مستسلمة و تتفتت فوق الأرض إلى ملايين الحبيبات الصغيرة!

8


أقلق ذلك الصمت الخانق لونا، و لم تحفل بنظرته التي لا تُقرأ، ليقول فجأة في نبرة هادئة:

+


"أوَّلاً... أنتِ محقة بشأن ضرورة نقلكِ إلى المستشفى، كان يجب على أي شخص عادي أن يأخذكِ إلى هناك، و يجيب أسئلة الشرطة بشأن حادثة الغرق، ثم يسلمكِ للعدالة و ينسى أمركِ لما تبقى من حياته، لكنني لست شخصًا عاديًّا، و لا أحبُّ أفراد الشرطة اللعينة... و ما دمتُ أعلم أنهم يبحثون عنكِ فلن أسدي لهم صنيعًا كهذا!".

37


لفتها رعشة غريبة من رأسها حتى أخمص قدميها جراء الكلام الذي نطقه، و يا ليته توقف عند ذلك الحد، إذ تابع باستياء جلي في عينيه:

+


"و ثانيًا... لم يعد بحوزتي ما يسدُّ نصف الرمق حتى، فقد تم نهبُ مقطورة شاحنتي المفتوحة على مصراعيها بينما كنتُ أمنع امرأة مجنونة من الإنتحار في ذلك الشلال!".

42


أخذت الصدمة منها وقتًا قصيرًا تخبطت فيه بين الدهشة و الصمت، لكنها عثرت على لسانها، و صاحت بعصبية:

1


"لم أكن أحاول الإنتحار، أنتَ من كنتَ تطاردني، و بسببكَ انزلقتُ على الصخور!".

+


أغمض ديابلو عينيه للحظة، ثم أعاد فتحهما معلقا بضيق:

+


"مهلا يا امرأة! بات هذا الحوار خانقًا و أنا عالقٌ بهذه البحيرة!".

19


هزئت به لونا ترسم على ثغرها إبتسامة شاحبة:

+


"و من يجبركَ على البقاء عندك يا سيد الأدغال؟".

24


ارتفع حاجباه و تشكلت على وجهه أمارات المرح!

+


"تريدينني خارج البحيرة إذن؟".

7


"هل طاش عقلك؟ ما دخل مُرادي أنا بما ستفعله؟".

5



        
          

                
داعب النسيم العابر الزنابق المنتشرة على ضفاف البحيرة، ففاح عبيرها الحلو و بلغ أنف لونا، و ها هو ديابلو يترك فاصلاً قصيرًا من الصمت يمر، ثم يظلل عينيه بأهدابه المغرية، و يقول بنبرة خافتة أقرب للهمس:

+


"ألا تنظرين حولكِ أبدًا عزيزتي لولان؟".

28


استغربت ذلك منه، و ظنت للحظة أنه يلهو بأعصابها، لكنها شحبت و تسمرت بمكانها بعد إلقاء نظرة على يسارها، في نقطة تبعدُ عن مداس قدميها بنصف متر أو أقل.... ثياب ديابلو المنزوعة... بما فيها الداخلية أيضا!

39


تضرَّجت بعد ذلك الشحوب بشدة، حتى أن وجهها احتقن إلى درجة تؤكد أن الدم كان يغلي تحت جلدها، و قطرت ملامحها خجلاً و اضطرابًا و هي تسمعه يردف باستمتاع بينما ينحني أكثر على شاطئ البحيرة أمامه:

+


"و الآن... هل تريدين حقا أن أغادر المياه هكذا... أم تريدين أن تنزلي إلي؟".

37


جزَّت أسنانها بغيظ، ثم قذفته بلعنة حادة و ركضت مبتعدة عنه، قبل أن ينفذ اقتراحه و يظهر عليها دون قطعة قماش واحدة حتى تستر ما ينبغي ستره من مفاتن رجل مثله! و كانت خلال ركضها عائدة إلى حيث قضيا ليلتهما أمس لا تزال قادرة على سماع قهقته تتردد في صدى مستفز من كل حدب و صوب!

4


تأملت مجددا مكان النار، و الفراش الوحيد الذي خصصه لها، و تساءلت كيف نام هو إذن و على أي فراش مدد جسده يا تُرى...؟ أم أنه أمضى ليلته جالسًا يعتني بها! دارت حول نفسها تشعر بالغثيان كلما رفعت رأسها لأعلى كي ترى السماء و تحدد الوقت دون جدوى، فقد كانت أشجار المطاط و الماهوجني باسقة لا تسمح جذوعها المتطاولة و أغصانها الكثيفة في الأعلى برؤية شبر واحد من السماء أو بتحديد موقع الشمس!

9


رغبت لونا بتركه و المضي قدمًا لمصيرها دون أن تمنحه إشعارًا بذلك حتى، لكن شيئا غامضا لم تفهمه منعها، فجلست عند أسفل شجرة تنتظر عودته، و وجيب قلبها يتزايد بشكل غير طبيعي، لا سيما حين أطل ديابلو بكامل جاذبية مظهره و هيبة خطواته الوتيدة، ألقى إلى حجرها ثمرة مانجو ثم موزة، و قال بينما يغادر ثانية:

1


"تناولي فطوركِ سينيوريتا، سأحضرُ لكِ حذائي الإحتياطي من الشاحنة، فقد فقدتِ خاصتكِ في الشلال!".

11


أفاقت أخيرًا لكونها حافية القدمين، لا... ليس الحذاء أيضا، ألا تكفي الحقيبة و المال و أوراقها الثبوتية التي ضاعت منها؟ لمست بقرف ثيابها التي لم تغيرها منذ أن غادرت بيتها في مدريد هاربة من زواج مدبَّر! ثم انتبهت لشيء آخر...

+


"مهلاً!".

+


استوقفته و هي تتحسس الجزء العلوي من صدرها مستغربة، و صرخت مستنكرة بعدما ألقت نظرة جاحظة تحت قميصها:

+


"أين بقية ثيابي؟".

+


لمحت على ثغره إبتسامة واسعة، و سمعته يعقبُ بكل بساطة:

+



        
          

                
"تقصدين صدريتَكِ الحريرية؟".

73


تكور فمها المكتنز من الغيظ، و اشتعل خداها، و احمرت أذناها كما لو أن كل قطرة من دمها حُشرت هناك، لترد بسخط و هي تركل الأرض:

+


"أيًّا كان إسمها اللعين... أين هي الآن؟".

1


"سرقها شوتا ميكا".

36


"من؟".

+


تساءلت بغباء، فأردف مفسرًا:

+


"إنه قردٌ لئيمٌ يحب سرقة أغراض البشر التي تروق له... فضيٌّ مثل شعرك و أصادفه دائما في هذا الجزء من الغابات!".

48


حاولت لونا التنفس بشكل منضبط و هي تشدد قبضتيها بقسوة، و تغرز أظافرها في باطن يديها، قبل أن تتساءل مجددا:

+


"لا زلتُ عاجزةً عن فهمك، ماذا يعني هذا؟ كيف وصل القرد إلى صدريتي؟ هل القردة في الأمازون تتحرش بالنساء المحمومات؟".

17


إنفجر ديابلو ضاحكًا، و تمتم بتسلية:

+


"لا، الصدرية كانت معي، بينما كنت أقوم بنشرها على غصن شجرة لتجف... ظهر شوتا ميكا و التقطها، ثم اختفى و لم يعد إلى غاية اللحظة!".

58


اهتاجت لونا أكثر، تدحرجت من بين يديها ثمرتا المانجو و الموز، و اتخذت نحوه خطوة تمشطه بنظر ضيق و هي تردد:

+


"أجدني عاجزةً عن الفهم بعد... كيف وصلت صدريتي اللعينة ليديك؟".

5


لم يكن بمقدور لونا في تلك اللحظة أن تتصرف بتحفظ و تهذيب كما تعودت، و لا أن تمنع لسانها من توزيع الشتائم القليلة التي تعرفها كيفما إتفق! اللعنة عليه و على جرأته إن كان ما تفكر فيه صحيحًا!

+


"إنتزعتُها بنفسي لأنها كانت مبللة و تشكل خطرًا على صحتك، لو تركتُ ثيابكِ على جسدكِ دون تجفيف... لكان وضعكِ أسوء... و لٱصبتِ بذات الرئة!".

36


امتقع وجهها أكثر من ذي قبل، و ترنحت غير مصدقة!

+


"أنتَ لا تعني أنكَ....".

+


توقفت عن متابعة العبارة حين وجدت أنه يكتم ضحكة و يهز رأسه بالإيجاب، و يكمل عنها بمكر:

+


"جردتُكِ من كل قطعة كانت تغطي جسدكِ، نظفتها جيدا في البحيرة، ثم جففتُها، و ألبستُكِ إياها مجددا كأن شيئًا لم يحدث!".

122


كررت عبارته الأخيرة بهذيان:

+


"كأن شيئًا لم يحدث... ها؟!".

3


و ليزيد من غيظها، استطرد ممررا لسانه على شفتيه:

+


"آسف بشأن الصدرية الثمينة، أنا أيضا حزين من أجلها، و لا أستغربُ سرقة شوتا ميكا لها بالذات دونًا عن القطع الأخرى، أحببتها بدوري كثيرًا، و لا أنكرُ أنني تأملتها مطوَّلاً، و نظفتها برفق حتى لا تتلف خامتها الناعمة...".

80


لاحظ أنها تشتعل حرفيا، لكنه لم يرحمها، و أضاف هامسًا ببحَّة صوته الجذابة:

+


"كانت رائعة... بلون عينيكِ...".

15



        
          

                
لم تسمح له لونا بمواصلة كلماته الحالمة، إذ هجمت عليه بقبضتيها المشدودتين، تسدد ضربات متتالية نحو صدره القوي، و تردد:

+


"أيها الخبيث المنحرف اللعين...".

11


تصاخب بضحكة طويلة في حين يتلقى ضرباتها التي لم تحدث في واجهة صدره أكثر من دغدغة عابرة، و لما هلكت و تعرقت بشدة، قبض على رسغيها، و أدارها على عقبيها، و ثبتها إلى شجرة قريبة، يداها خلف ظهرها في قبضته، و جسدها محصور بين الجذع و بينه، ألصق شفتيه بأذنها معلقا:

6


"لو كنتُ كما تصفينني... لضاجعتُكِ و أنتِ في تلك الحال!".

75


كان صوته المبحوح سلسًا كرقرقة المياه، و كانت الدماء في عروقها تهدرُ بقوة كهدير الشلالات الصاخبة، مضى ديابلو يردد كلمات بلغة غريبة، راسمًا أشكالاً مبهمة بأصابع يده الحرة على كتفها، فسحرها ذلك، و كاد يهزم دفاعاتها، أغمضت عينيها تستعذب ملمس يده، إنه فنان في مداعبة الجسد، فاتنٌ كيفما تقلب، لكن رشدها عاد إليها حين تمتم فجأة و أصابعه تتسلل شيئا فشيئا لشواطئ شفتيها الجافتين من حرارة اللحظة و غرابة الشعور الذي خلقه فيها رجل غريب:

2


"لماذا تعطين الموقف حجمًا أكبر دون داعٍ، لقد ألفتُ التحديق بأجساد النساء على اختلافهن أكثر مما أنظر إلى نفسي، حتى إن تعري إحداهن أمام ناظري بات أمرًا مضجرًا!".

42


حسنا، ربما سيعترف لنفسه بأن هذه اللونا نوع نادر، يستحيل أن تكون بجسدها الفاتن تحت بصره و يملَّ التحديق الأبدي بما تكتنزه من جمال جديد عليه!

+


"اخرس!".

8


استهجنت حديثه عن بنات جنسها بتلك الطريقة العابثة، و باتت أكيدة من أنه زير نساء وقح، فأضافت تفكر في طريقة لتحرير يديها من قبضته:

+


"لستُ بحاجة لسماع أي شيء مقزز عن غزواتِكَ العاطفية!".

2


"غزوات؟ يا له من وصف! ما يحدث في حياتي الحميمة أبعد ما يكون عن غزوة بطولية للفوز بامرأة، أنا لا أرهق نفسي عزيزتي، أمكث حيث يطيب لي منتظرًا تحرك النساء حولي و انحنائهن طوعًا لبناني!".

36


ردَّ ديابلو بزهو ثقيل، فعقبت عليه بتهكم:

+


"لا يمكنني أن أحمل نفسي على الإعتقاد بأنك ناسكٌ متعفِّف، نظرة واحدة تكفي لأعرف من أي طينة أنت!".

+


"مخطئة يا عزيزتي، نظرة واحدة لا تكفي مطلقًا! هناك أشياء خُلقت لتتكرر!".

4


أسقط شفتيه أكثر فوق عنقها، و سكب سحره، باحثًا بأنفاسه الملتهبة عن وريدها المرتجف، كأن به رغبةً مجنونةً لالتهام نبضها المستنفر، أو لطبع بصمته الخاصة هناك كوسمٍ صارخٍ بالتملك!

1


و في اللحظة التي ضغطت أصابعه على شفتها السفلى مستثارة بملمسها الرطب، جمعت لونا كل قوة تمتلكها، و عضت أول إصبع تسلل بين أسنانها، كتم ديابلو صيحة و هو يفلتها بحاجبين معقودين، تصلب فكاه، و أطلق شتيمة سافرة، يا للهول! إنها تعض بشكل أقسى من مخلوقات الأدغال، تفرس كل منهما بالآخر طويلاً، نقل بصره بين صدرها اللاهث و وجهها المكشر، و سخر متفاجئا:

8



        
          

                
"يبدو أنكِ أكثر شراسة مما توقعت! و هذا ما يجعلكِ أشدَّ فتنة!".

+


ظلت لونا ترمقه بحذر، تفرك معصميها بعصبية و انفعال، و تنتظر منه محاولة أخرى لإخضاعها، لكنه لم يأتِ بأي خطوة نحوها رغم أنه لا يزال يقف على مقربة منها، غريب أمر هذا الرجل! تارة يضع يده في النار فقط ليمنع نفسه من العبث معها، و أخرى يلغي كل مسافة بينهما و يطيب له لمسها بأكثر الطرق حنانًا و رقَّة! ما خطبه؟ هل يعاني خللاً في ضبط شهواته تجاه النساء... أم أن هذا الخلل متعلق بها فقط؟!

1


"لماذا تحدق بي هكذا؟".

+


"أحاول أن أجد وجه شبه واحد بينكِ و بين كل امرأة كانت بين ذراعي من قبل".

+


رائع! يا له من رجل واضح! إنه لا يتورع عن كشف أفكاره القذرة، امتعضت مردفة:

+


"لا ترهق نفسكَ في المقارنات، أنا لستُ من شاكلتهن، لأن آخر ما قد أقبل به هو أن أكون بين ذراعي رجل مثلك!".

26


هز رأسه ضاحكًا، و علق بشكل غامض:

+


"هناك مثل قديم يقول... (لا تتحدث عن الغد... فأنت لا تملكه بعد) ... نصيحتي لكِ عزيزتي لولان... لا تستبقي شيئا في الحياة... فهي دائما ما تذهلكِ بمفاجآتها!".

8


"أنا في غنًى عن نصائحكَ العظيمة، وفِّرها لخليلاتكَ البائسات...".

+


قالت ذلك بنفور جلي و أضافت:

+


"أتمنى أن يستعدنَ رشدهنَّ و يزحفن بعيدًا عنك في أقرب وقت!".

3


عاد للضحك و هو يردفُ بثقة:

+


"ستذهبُ أمنيتُكِ أدراج الرياح، لأنهن رغم كل شيء لا يوقفن الزحف نحوي!".

6


التقط بإصبعين خصلة شردت عن شعرها الذي توهج كالفضة المنقوعة في الذهب تحت أشعة شمسية رفيعة تسللت من منافذ صنعتها فروع الأشجار المتشابكة، و قال كما لو أنه يتلو قصيدة غزل:

+


"من يدري...؟ ربما تزحفين نحوي أيضا... يوما ما... و عندها قد أرفض كل النساء من أجلك!".

51


الثقة في لهجته لم تستطع قراءتها سوى غرورًا صلفًا من جانبه، مما جعلها تردُّ بكبرياء:

+


"حسنا، أفضل الموت على الزحف إليك، أنا لستُ من النساء الحمقاوات اللاتي يرتمين عند قدميك!".

5


أطاحت بيده فورًا تحرر خصلة شعرها، و تتراجع إلى الخلف خطوة لتؤكد له أنها أصعبُ منالاً مما يظن، لكنها لسوء حظها تعثرت بثمرة المانجو، و أوشكت على السقوط... لولا ذراعه الذي امتد في اللحظة المناسبة و طوق خصرها بسرعة و ألصقها به، و كان جسده قد احتفظ بعطور الزهور البرية التي شاركته حمام البحيرة، فامتزجت تلك العطور برائحة جلده الرجولية الخاصة، ثم طرقت أنفها، و اختلطت بأنفاسها، و بات الخطأ في عقلها لا يفرق شيئًا عن الصواب!

+


بالنظر إليه و هو على ذلك القرب منها تغدو مقاومتها لسحره أضعف، رأت رأسه ينحني عليها من عليائه، و يرنو لثغرها المرتعش، لقد حاول ديابلو كثيرًا إبقاء نفسه بعيدًا عن هذه المرأة، لكنها تجذبه بشكل لا يصدقه، يروق له الجمال الفذ الذي خصَّتها به السماء، و تروق له أكثر الطريقة التي يحمرُّ بها وجهها، و لا سيما تمنُّعها عنه، إنها المرة الأولى التي تصده فيها امرأة، امرأة مختلفة فائضة الٱنوثة، النساء عادة لا يولين الأدبار حين يرومُ رجل مثله وصالهن، أما هذه، فتنظر إليه كما لو كان آخر رجل يمكن أن تصبو إليه، و ترتعش بين يديه كما لو أنها لم تختبر أحضان رجل من قبل! و كانت لونا من جهتها في أعلى مراتب الذوبان و النشوة حين طفق يلثم شفتيها ببطء و رقة لم تتوقعهما، لقد تصورته رجلاً خشنًا بليدًا يعنف النساء، لا يكترث بما يشعرن، و لا يهمه سوى تحقيق مآربه و إشباع غرائزه! غير ما عاشته بين ذراعيه كان النقيض تماما لتصوراتها، و لعلها لم تختبر قبلة في مثل ذلك الحنان و تلك الحرارة طوال حياتها! لكن كلماته حول خليلاته رنَّت في رأسها بقوة، و جعلتها تستعيد سيطرتها على أطوار جسدها، و تضع حدًّا لما يجري، كانت روحها تصرخ شاعرةً أن من القسوة حقا أن تفارق شفتيه الساحرتين، لكنه رغم كل شيء الرجل الذي لا تشعر نحوه سوى بالمقت و النفور!

35



        
          

                
دفعته عنها بجهد مرير، و ترقبت رد فعله بينما تحاول إخفاء رعشات جسدها و هزاته، و تسأل نفسها أي قبلة عجيبة كانت تلك؟ أما هو... فكان يطالعها من مكانه بغموض، هادئا للغاية... كأنه يحصي أنفاسها، قبل أن يستأنف طريقه نحو الشاحنة و هو يردد بلهجة باهتة:

+


"سأحضر الحذاء و أعود على الفور... لا تتسكعي هنا و هناك، المكان محفوفٌ بالمخاطر!".

+


اللعنة عليه إن انتظرته بعدما حدث، ما الذي يضمن لها أنه لن يستغل ضعفها و يعتدي عليها؟ إن خطييها نيكيل قد تجاسر و فعل... فكيف سيمتنع هذا الغريب عن ذلك؟ ديابلو هو الخطر الوحيد الذي يحوم حولها منذ أمس، و كونها حافية القدمين لن يعيقها عن السير في الغابة، تستطيع تدبر أمرها دون تلقي خدماته العظيمة، فليذهب إلى الجحيم هو و شاحنته و حذاءه!

10


غادرت بالفعل ذلك المكان، تتنقل بسرعة عبر ممرات الأدغال الكثيفة، تحاشت الإقتراب من البحيرات و الأنهار حتى لا يتكرر حادث أمس، و لأنها لم تتناول الثمرتين اللتين قدمهما لها، فقد تضورت جوعًا و هلكت لتجد شيئًا صالحًا للاستهلاك دون أن تفلح، ترى من أين أتى بالموز و المانجو؟ زفرت منهارة عند ٱجمة من النباتات الغريبة شديدة الخضرة، و أوشكت على الإنتحاب كالأطفال بعدما اقتنعت أخيرًا أنها لن تؤمن الطعام لنفسها أبدًا، إنها ليست إبنة هذه الأرض، و تخشى أن تمد يدها و تقطف شيئا غير مألوف فيتسبب بموتها! لو ظلت مع ذلك الديابلو لما كانت الآن بهذه الحال؟ أطرقت السمع قليلاً تلتقط صوت همهمة أحدهم! إبتسمت على الفور بغبطة غريبة، لا شك أنه يبحث عنها، استقامت واقفة تستعد للهتاف فتسترعي انتباهه و يهتدي لمكانها، لكنها ابتلعت لسانها حين وجدت نفسها وجهًا لوجه مع أشخاص غُرباء، سمرتهم الشديدة تؤكد أنهم كولومبيون، و الشرار المتطاير من أعينهم لا يبشر بخير، تأملوها للحظات معتقدين أنها و لا بد سائحة أجنبية بسبب شقرتها الفريدة، ثم تبادلوا فيما بينهم حوارًا حادًّا:

+


"هل يعقل أنها أمريكية و ضاعت في كولورادوس؟".

+


"أرجحُ أنها فرنسية أو إنجليزية، و اللعنة إن رأت ما كنا نفعله!".

+


"حذرتكم من مغبة المجيء في وضح النهار!".

+


"هل تتصور أنها تعرف اللغة التي نتحدث بها؟".

+


"لا يهم ذلك بكل الأحوال!".

+


شحبت لونا و فقدت الشعور بساقيها و هي ترى واحدًا منهم -و كان الأشعث بينهم و الأكثر إطالةً لشعر ذقنه- يستلُّ خنجرًا من حزام بنطاله البني و يهمُّ بقتلها مرددا:

+


"لأنها لن تعيش بعدما رأته!".

10


تراجعت إلى الخلف و تثاقل الدم بعروقها من شدة الخوف، أغمضت عينيها جاهلةً ما الذي يتحدثون عنه، و تمتمت بصلاة أخيرة حين تأكد لها أن الأشجار خلفها تآمرت عليها أيضا و حاصرتها، لكن صوتًا قويًّا انطلق من مكان ما، يشبه الطلق الناري، صم أذنيها، و تلاه صراخ ذلك الرجل الذي هاجمها، و هتافات رفاقه الأربعة و هم يسحبونه بعيدًا، ثم توارى الكل خلف سد أخضر من نباتات الأدغال، و تلاشت أصواتهم و دعساتهم، لتفتح لونا عينيها بذعر، و تكتشف أن ديابلو أنقذ حياتها للمرة الثانية!

+



        
          

                
"هل أنتِ على ما يُرام؟".

+


جففت بطرف قميصها العرق الذي نضح من عنقها و صدرها، و مضت تهز رأسها بالإيجاب، فاستطرد بغضب مكتوم:

+


"تقفزين إلى شلال قاتل، ثم تتجاهلين تحذيري و تتورطين مع مهربي القنب! يا لكِ من نعمة!".

59


كانت الصدمة عنيفة عليها، إذن هذا هو ما كانوا يفعلونه و ظنوا أنها شاهدة عليه و تستحق الموت، قطف القنب بطريقة غير مشروعة! شعرت أنها تعيسة، و لا تستقطب سوى الكوارث، رفعت بصرها نحوه، فثبت أن مشيحٌ عنها، يتطلع بريبة نحو المنفذ الذي فر منه أولائك الأوغاد. أرادت أن تنفجر بكاءً بين يديه، و ترتمي على صدره ممتنة لظهوره في اللحظة المناسبة دائما، لكن رؤيتها لمسدس بيده زادها رعبًا، من هنا أتى الطلق الناري إذن، شحبت و هي تفكر أنه رجل خطير بلا شك، و بينما كان هو ينظر في الإتجاه الآخر يتأكد من أمان الطريق، ركضت لونا دون سابق إنذار تنجو بنفسها من أسراره الغامضة أيضا، خشيت أن تكون قد تورطت مع مجرم أخطر من هؤلاء المهربين، معه مسدس! ألا يكفي هذا لتهرب؟ لعلها حماقة مضافة لما عاشته حتى الآن، لكنها لا تطمئن له، و لن تفعل، ستهرب، ستبتعد عنه قدر ما تستطيع! من يدري أي نوع من المجرمين هو؟

50


ضاعفت من سرعتها، حتى ظهرت على الطريق العام، لم تصدق مدى فرحتها بذلك، التفتت خلفها تتوقع أن تجده مكشرا في أثرها، لكن ديابلو اختفى باختفاء الأدغال الساحرة، و من أفق الطريق المعبدة برزت حافلة سياحية تزينها شرائط غريبة ملونة، و مع إقترابها تباطأت شيئا فشيئا، حتى توقفت أمامها، و من إحدى نوافذها أطل رجل أشقر، و خاطبها بود و لهجة أمريكية:

+


"مرحبا آنستي! توصيلة؟".

3


هزت لونا رأسها مطمئنة مبدئيا للباقته، ففتح لها السائق الأسمر الباب الأمامي مرحبا، أخيرا التقت برجل يعرف كيف يحدث الجنس اللطيف بأدب... دون أن يكون خبيثًا مثل الظابط... أو ساخرًا و منحرفًا مثل ديابلو!

21


...

+


لم تقلق لونا لكونها السائحة الوحيدة في الحافلة، و لم تشكك في الإبتسامة الواسعة التي رسمها ذلك الأشقر على شفتيه و هي تحدثه عن بحيرة الغجر التي تتوق لزيارتها... دون إبداء أسبابها الخاصة طبعا، إذ اكتفت بالقول أنها طالبة تجري دراسة حول الغجر و أنماط عيشهم!

5


"بالطبع سأصحبُكِ لهناك سينيوريتا، إنه أكثر مكان أعرفه!".

24


قدم الأمريكي نفسه على أنه المدعو "كارل جوردان"، و ظهر عليه أنه في أواخر عشريناته، يافعًا و مرحًا صاحب نكتةٍ حية، فيما خاطب السائق الكولومبي بإسم "فونسو"! و الرجل الآخر الذي يجلسُ بآخر الحافلة عرفه على أنه صديقهم "ماليزيل" و حمَّالُ حقائب السياح...

13


ثم أضاف كارل و هو يعود بنظره إلى السائحة الإسبانية الفاتنة و يغرق بجمال عينيها:

+


"أنا هنا منذُ طفولتي... أحفظ هذه الأرض كخطوط يدي... و أتعامل كثيرًا مع قبائل الرُّومَن'¹' هنا!".

+



        
          

                
───────────────────────

+


1_الرُّومَن: هم شعب الرُّوما، الغجر اللذين يعود أصلهم لأوروبا الشرقية، و يقالُ أنهم ينحدرون من شمال شرق الهند.
───────────────────────

9


كان كارل قد تحول للحديث بلغتها الأم، و كان قلب لونا قد اهتز بعنف حين ناداها بالسينيوريتا! تذكرت على الفور ديابلو، غير أنها طردته من ذاكرتها، و فكرت بدلاً من ذلك في عمل هذا الأشقر اللطيف كدليل سياحي هنا، لا بد أنه يساعد السياح في الوصول إلى منطقة البحيرات حيث يعيش الغجر، و يؤجرُ لقاء ذلك، توترت فجأة ما إن تذكرت أنها خسرت كل مالها صباح أمس، بماذا ستنقدُ هذا الشاب الودود، سألها فيمَ شردت و لأي سبب فقدت سحر إبتسامتها، فتمتمت بخجل ترجع خصلات شعرها الشقراء التي عبثت بها الرياح القوية المندفعة من النافذة خلف أذنيها:

+


"تعرضتُ لموقف محرج، و فقدتُ كل ما معي من مال، يمكنكَ القول أنني معدمةٌ الآن، لا أعرف كيف سأقول هذا... لكنني... مع الأسف...".

+


"لا تستطيعين الدفع لي لقاء التوصيلة!".

7


أكمل عنها و أضاف ضاحكًا بلطف عجبت له حين أومأت بخدين محمرين:

+


"لا تشغلي بالكِ سينيوريتا، الغجر كرماء جدا، و سيدفعون عنكِ في كل الأحوال!".

23


طربت لونا بتصريحه الواثق، و مضت تدندن لحنًا خافتًا و هي سعيدة لتخلصها من ديابلو و تعرفها على كارل اللطيف، تأملت وجهه الشاب لوهلة، لم يكن وسيمًا إلى الحد الذي يجعل قلب المرأة يخفق بجنون، لكن خطوط جبينه الرفيعة أظهرت أنه اختبر حياةً مثيرة، و شفاهه الرقيقة كشفت عن حبه للمغامرات، و أنفه الناتئ بدا لها أكبر دليل على تمرده، الجسد يعبر جيدا عن صاحبه، أليس كذلك؟ أم أن المظاهر مخادعة كما قال الأوَّلون؟ هي لا تعرف، لكنها لا تخشى هذا الشاب الأمريكي الغريب، و عكسه كان يبدو على فونسو السائق أنه يخفي شيئا ما، إذ رمق ماليزيل في المرآة العاكسة بنظرات غامضة عدة مرات بينما كان ينعطف بالحافلة عبر ممرات المرتفعات الوعرة، و كانت لونا خلال ذلك تتطلع من النافذة إلى سحر البحيرات الشاسعة التي بدأت تعرض نفسها في المنحدرات و السفوح و بين أقدام الجبال، تربض كخرزات زمردية اللون و فيروزية أحيانا بين أسراب الأشجار و الصخور الذهبية، و كما قال والدها عن تلك البحيرات... فقد كانت تلمع مثل القمر، و أضاف خيالها منتشيا... مثلما لمعت قلائد ديابلو الفضية و مثلما لمع خنجره مستحما بضوء النار ليلة أمس، آه، يا للحال التي هي فيها! ألن يتخلى خيالها عن استحضار طيف ذلك الرجل؟ ركزت أفكارها و بصرها على البحيرات أسفل المنعطف العالي الذي كانت تشقه الحافلة، و حول حلقات المياه الراكدة رأت منظرًا جعلها تكاد تقفز من مكانها سرورًا... نسوةٌ بتنانير واسعة ملونة يتجاذبن الأحاديث على شفاه البحيرات الندية، و لعلهن يتمايلن عشقا للحياة العذبة، و يتضاحكن أيضا... إنهن دون ريب نسوة الغجر... فاتنات الطبيعة، ترى أي تلك البحيرات هي... "كاجوناس" التي أتت من أجلها؟!

4



        
          

                
توقف فونسو أمام أول البحيرات و أكبرها، كانت لونا على وشك الإمتنان لرفاقها كونهم قد حققوا الأمنية التي ظنت أنها خسرت الحق فيها بضياع مالها و متاعها، لكن ما حدث عندما ترجلت من الحافلة كان صاعقا لها إلى حد بعيد، إذ سيقت بعنف و قسوة من طرف ماليزيل إلى خارج المركبة!

+


"أفلتني! ما الذي تفعله ماليزيل؟ أنتَ تؤلمني!".

+


حين تململت يائسة بسبب تفوقه عليها قوة، و نظرت خلفها إلى كارل، هز هذا الأخير كتفيه لا مباليا، و قال بعجرفة و هو يلوي حبلاً صغيرًا بين يديه ليقيدها به:

17


"آسف يا جميلتي، لكن هذا هو واقعُ الحال، الساذجات دائما يصلنَ إلى هنا!".

42


أضاف بعدما قيدها بمساعدة ماليزيل إلى عامود يتوسطُ ذلك المكان و نفض يديه مستمتعا بأمارات الفزع على وجهها:

+


"في غابر الأزمان كان الأوروبيون يقيدون الفاتنات لحرقهن، لكن لا تقلقي... نحن هنا ألطف بكثير... إذ نكتفي ببيعهن بين قوافل الغجر ليُمتِّعنَ الرجال!".

24


و حالما فرغ من جملته أطلق صفيرًا طويلاً كأنه ينادي أحدهم...

+


تجمع حولها في البداية أطفال سمرٌ يتفرسون باستغراب بقدميها الحافيتين و جلدها الفاتح و خاصة الشعر الأشقر المتطاير فوق رأسها مع النسمات، واثقين أن أبصارهم لم تقع على امرأة تشبهها، قبل أن يولولوا كصغار الهنود الحمر و يتراكضوا هنا و هناك يطرقون أبواب الأكواخ التي تسترخي قرب تلك البحيرة و هم يرددون:

+


"كارل أحضر جنية!".

6


"جنية البحيرات حقيقية!".

10


خرجت بعض النسوة يقلبن أبصارهن، يقسمن أن أطفالهن قد ألمَّ مسٌّ ما بعقولهم لما يرددونه، فيما ضاق صدر كارل و صاح بالأطفال كي يخرسوا، و ظل يقارع ظهور شخص ما، لكن إمرأة تجاوزت الخمسين على ما يبدو امتعضت لمنظر الفتاة المقيدة بشكل مهين، و صاحت به:

+


"ألن تقلع عن هذه العادة الرذيلة كارل؟ حذرتكَ سابقًا من العودة إلى هنا!".

+


"لا شأنِ لكِ بهذا أيتها العرافة! أين ستانكا؟ عليه أن يرى المحظية الجديدة!".

10


قبَّل كارل أطراف أصابعه و هو ينظر باتجاه لونا التي أحرقتها الشمس الساطعة، و أذابها الجوع، فزاغ بصرها، و ازدادت أسى و هي تسمع ذلك السافل الأشقر يضيف كأنه يبيعها بالمزاد:

+


"الليلة سيقامُ حفلٌ على شرف حبيبكم ككل ليلة يكتمل فيها القمر، و ستُقدَّمُون الهدايا له كالعادة، صحيح؟ حسنا، بما أنني لم أعتد بيع النساء سوى للمنحرف ستانكا، في ظل غيابه إذن، و بما أنكم تعشقون حبيبكم الغالي، و تستعدون دائما لمنحه كل شيء، حتى بناتكم، فما الضير هذه المرة في منحه هذه القطعة النادرة، ٱنظري سوليداد...".

24


خاطب العرافة المكشرة و هو يشير لشعر لونا التي لم تعد قادرة على الإستمرار بالوقوف:

+


"...ٱنظري لهذا الشعر الفضي الذي يلمع الآن، ألا يعشق حبيب الغجر الفضة؟ ألا تظنين أنه سيقع صريعًا في عشق هذه الٱنثى الفريدة؟".

21


نقلت سوليداد بصرها بين الأمريكي و رفاقه و الفتاة المقيدة، مشفقةً عليها، رافضةً أن تدعها على تلك الحال، لقد تعود الغجري ستانكا على شراء الفتيات من الخبيث كارل و إجبارهن على معاشرته، و اعتادت هي على إفشال مخططات الإثنين و تحريرهن، و هذا عين ما ستفعله الآن، اقتربت سوليداد من العامود تنظر إلى الأسيرة بقلب ممزق، نظر الجميع إلى لونا على أنها آية جمال تستحق الأسر و التمتع بتأملها، و لخوفهم من ستانكا الهمجي، التزموا الصمت إزاء ربطها بتلك الطريقة خاصة النساء منهم، بينما كانت سوليداد الوحيدة التي لم تعبأ برأي ستانكا في الموضوع، و أمرت فتى غجريا في الرابعة عشر من عمره قائلة:

6


"أيون... حرر الفتاة فورًا!".

+


أطاع الفتى الأمر، في حين لوح كارل من هناك بيده ينتظر ٱجرته، فزفرت المرأة المسنة بقوة تكاد أن تنهال عليه بصندلها فتنقب دماغه، لكنها تصبرت، و خشيت أن تعانده فيعود لأخذ الأسيرة البائسة و يلقي بها في معترك آخر! أخرجت من صدريتها بعض النقود، و رمت بها كارل كي يأخذ وجهه النتن بعيدًا، و حذرته من تكرار تلك العادة الشنيعة، لكنه فور ركوبه الحافلة، أطل من النافذة هاتفًا بوقاحة:

+


"لا أحد يتخلى عن عمله عزيزتي سوليداد!".

11


سند الفتى أيون لونا حتى لا تقع، نجحت في سير بضعة خطوات تدنو برفقته أكثر من سوليداد، الإسم لوحده أحيا في ذاكرتها صورًا كثيرة، لكن وشم القمر و الشمس المتعانقين الذي لمحته على ظهر يد تلك العرافة جعلها تسترجع امرأة غجرية حدثها عنها والدها كثيرًا، قال أنها صديقة والدتها... لا تخطئ أبدًا في قراءة الكف... تضع ذلك الوشم على ظهر يسراها... و تُدعى "سوليداد".

+


ابتسمت لها المرأة بلطف تطمئنها:

+


"ستكونين بخير صغيرتي، شحوبكِ يؤكِدُ أنكِ جائعة، تعالي معي... أعدت "بيرسود" وجبة دسمة، سنتناول الطعام... ثم ننظرُ في أمرك!".

6


حاولت لونا قول شيء ما للمرأة، لكنها بلغت ذروة التحمل، فجأة... تلاشى كل شيء من أمامها، خانتها ساقاها و الكلمات، و فأسلمت نفسها للإنهيار، و سقطت دون حراك...

8


نهاية الفصل الثالث.

+


🤎🤎🤎

+


هاي رويالز أتمنى أن يكون الفصل قد نال إعجابكم🤗

6


ما رأيكم بأحداث الغابة بين لونا و ديابلو🔥؟

2


هروب لونا🥺؟

5


عصابة كارل الخبيث😐؟

2


شراء ستانكا للسائحات😬؟

+


تصرف سوليداد🥰؟

6


علاقة سوليداد بأهل لونا😍؟

+


أين ديابلو الآن😭 و لماذا لم يلحق بهاربته لونا؟

17


إلى اللقاء في الفصل القادم أحبتي
قراءة ممتعة
أحبكم دائما❤️

5


𝓠𝓾𝓮𝓮𝓷


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close