رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل الثالث 3 بقلم شروق مصطفي
استيقظ عاصم من نومه مذعورًا، يلهث بعنف. كان العرق يتصبب من جبينه، وجسده يرتجف كأنه يحمل أثقالًا على روحه. أمسك رأسه بكلتا يديه، يردد اسمها بصوت مختنق وكأنها ما زالت تُناديه:
"سيلا! سيلا! آه... قلبي..."
ظل يكرر اسمها، وكأن الحلم كان حقيقة مُرَّة لا يريد تصديقها.
شعر بوخزة في قلبه، زفر بضيق ونهض بسرعة ليغسل وجهه. وقف أمام المرآة، مغمض العينين، لكنه لم يستطع منع الألم الذي مزق قلبه من العودة. اعترف لنفسه بهدوء، وبداخله وجع حارق "أفتقدها بشدة... كل ليلة أحلم بها، أبحث عنها ولا أجدها. أمد يدي لأضمها ولا تلمسني، أناديها ولا تسمعني. متى تعود إليّ؟ متى تسعدني؟ أشتاق لعناقها لأحيا من جديد... لا، لن أتخلى عنها، وعدتك ولن أخلف الوعد."
خرج من الحمام بخطوات ثقيلة وجلس على أقرب مقعد، جذب هاتفه بيد مرتجفة وأجرى مكالمة سريعة مع صديقه. أنهى المكالمة وزفر بضيق، ألقى بالهاتف بإهمال ونهض ليستعد لمهمته.
لأول مرة تهتز يده في تنفيذ مهمته؛ ظهر أمامه هدفه لكنه لم يستطع الضغط على الزناد عندما لمحها فجأة. ارتجفت يداه، وتخلى عن المهمة، موكلًا إياها لضابط آخر. نال توبيخًا شديدًا من رئيسه في العمل، لكن قلبه المشوش كان أقوى من كلمات رئيسه الغاضبة.
كلما حاول أن يخرجها من عقله، كلما زاد انقباض قلبه. أخبره صديقه بمكانها وبحادث وقع في مدخل الإسكندرية أدى إلى مبيتها ليلة في المستشفى. أضاف أنه تلقى مكالمة من أخيها يسأل عنها. لكن عاصم طلب منه عدم الرد وعدم إخبار أي شخص بمكانها في الوقت الحالي، قائلًا إن الظروف لا تسمح.
زفر بضيق شديد، متخذًا قراره. ترك مهمته لصديقه وسافر لرؤيتها. حمل حقيبته واستقل طائرته، متجهًا نحو "مجنونته العنيدة"، كما كان يلقبها دائمًا.
مرّ أسبوعان كأنهما دهر. ظل خلالها يراقبها من بعيد، يرى ألمها دون أن يستطيع مواساتها.
وفي أول يوم لمحها فيه، كان يقف بعيدًا يراقبها. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا بدا كأنه يعكس حزنها. استغل خبرته في المراقبة لتقييم المكان، باحثًا عن أنسب مدخل للشاليه دون إثارة شكوكها.
في أحد الأيام، خرجت من الشاليه لفترة قصيرة. انتهز الفرصة ودخل بكل خفة ومهارة عبر نافذة الشرفة التي تركتها مواربة. كان الشاليه صغيرًا، مكونًا من غرفة واحدة تضم سريرًا متوسط الحجم بجانب الحائط، إلى جانبه منضدة خشبية صغيرة تعج بأنواع مختلفة من الأدوية، بعضها فارغ والبعض الآخر شبه ممتلئ.
تجول عاصم في المكان، فحصه بعناية. الريسبشن كبير ويفتح على مطبخ أمريكي، والشرفة المطلة على البحر تمنح المكان جاذبية خاصة. لكنه لم يكن هناك للاستمتاع بالمشهد. زرع كاميرات صغيرة لا تُرى، واحدة في الريسبشن وأخرى داخل الغرفة، ووضع جهاز تنصت أسفل المنضدة القريبة من السرير.
بينما كان ينهي مهمته، رأى من نافذة الشرفة أنها عائدة. اختبأ بسرعة في الزاوية، وعندما دخلت هي الشاليه، قفز إلى الخارج بصمت.
دلفت إلى الداخل وهي تشم رائحة غريبة، عطرًا فريدًا تعرفه جيدًا. تلفتت حولها بقلق، تبحث عن مصدر الرائحة، لكن المكان كان فارغًا. تمتمت بخفوت: "غريب... إيه الريحة دي؟"
نفضت من عقلها كل الهواجس، ورمت نفسها على السرير. احتضنت نفسها بألم، غارقة في أحزانها، حتى غفت أخيرًا.
…
خرج عاصم من الشاليه بعد أن انتهى من زراعة الكاميرات ووضع أجهزة التنصت، وقرر استئجار شاليه قريب من شاليه سيلا. أراد أن يكون بجانبها، لكن دون أن يشعرها بوجوده. بمجرد أن دلف إلى الشاليه الجديد، فتح حاسوبه المحمول، وأوصل الكاميرات بأجهزته، وبدأ يتابعها عن كثب.
رآها تجلس داخل شاليهها، وقد تركت شرفتها غير محكمة الإغلاق. لاحظ أنها تناولت دواءها من حقيبتها، ثم تمددت على سريرها، متألمة، حتى غفت.
شعر عاصم بوجع في قلبه وهو يراقبها، حنين جارف اجتاحه لرؤيتها عن قرب، لاحتضانها، لمسح كل هذا الألم الذي أثقل ملامحها. لكنه تردد، متسائلًا: "ماذا سيكون رد فعلها إن رأتني؟"
رغم التردد، قرر الذهاب إليها. دلف إلى شرفتها المفتوحة مرة أخرى بخفة ومهارة. وقف للحظات يتأملها وهي نائمة. كانت ملامحها منكمشة بالألم، وكأنها تخوض معركة مع نفسها حتى وهي في سبات.
اقترب منها بحذر وجثا على ركبتيه بجانبها. مد يده برفق وربت على شعرها، هامسًا بكلمات دافئة بين الحلم واليقظة:
"سيلا... أنا هنا... أنا معكِ..."
لم تستوعب كلماته تمامًا، إذ كانت بين النوم واليقظة، لكنها حركت رأسها قليلًا وكأنها تشعر بحضوره. تمنّى لو اختصر المسافة بينها وبين قلبه، أراد أن يضمها بين ذراعيه، لكنه اكتفى بتقبيل وجنتها بخفة.
دثرها جيدًا بالغطاء، وهمّ بالخروج سريعًا عندما لاحظ أنها بدأت تتحرك وكأنها ستفيق. غادر الغرفة بنفس الهدوء والخفة التي دخل بها، قافزًا عبر الشرفة.
لكنه ما إن اقترب من الشاليه الخاص به، حتى لفت نظره ظل شخص يتجه نحو شاليه سيلا. توقف مكانه يراقب بحذر، بينما هي فتحت الباب لهذا الشخص وبدأا الحديث.
تابع عاصم الموقف من بعيد، محاولًا قراءة حركة شفاههما. لكن ما أقلقه حقًا هو نظرات هذا الرجل، التي بدت مريبة بالنسبة له.
ظل يتبع الرجل حتى غادر الشاليه. عندها رآها سيلا تخرج وتجلس أمام البحر، تبدو شاردة ومليئة بالألم. بقي عاصم يتجول حول المكان، يراقبها من بعيد.
لاحقًا، عاد الرجل الذي كان معها ووقف بجانبها، يتحدث معها من جديد. تقدمت سيلا نحوه ببضع خطوات، لكن عاصم، الذي كان يختبئ خلف أحد الأشجار، شعر أنها لاحظت وجوده. فجأة، ركضت بسرعة نحو شاليهها، وأغلقت الباب خلفها بعنف.
ابتسم عاصم لنفسه بهدوء، واطمأن أنها شعرت بشيء ما جعلها تعود إلى الداخل.
عاد بدوره إلى شاليهه، وجلس أمام حاسوبه، يراقبها وهي تتحرك داخل الغرفة حتى استلقت على السرير من جديد. كانت تنام بوضعية الجنين، تحتضن نفسها وكأنها تبحث عن أمان مفقود.
همس لنفسه وهو يتأملها عبر الشاشة:
"نفسي أفهم عنادك ده هيوديكي فين... لحد إمتى دماغك الناشفة دي؟ بس خلاص، هخلص كام حاجة بخصوص المستشفى والدكتور اللي متابع حالتك، وبعدها هكسر دماغك الحجر دي."
ظل الحاسوب أمامه، يراقبها بعين متعبة وقلب مليء بالشوق، حتى غلبه النعاس ونام وهو يتمنى لو كانت بين ذراعيه.
صباح جديد مليء بالمفاجآت على جميع أبطالنا.
استيقظت سيلا من نومها بتأفف شديد على صوت طرقات الباب المتتالية. نهضت وهي تتمتم بضيق:
"وبعدين بقى في الرزل ده؟ كل شوية دَق دَق... ما وراهوش غيري؟ هف!"
اتجهت نحو الباب بخطوات ثقيلة، منادية بصوت مرتفع:
"أيوه... مين؟"
جاءها الرد سريعًا، صوت مألوف لكن مزعج:
"أنا مازن... لو سمحتي، نسيت الشاحن عندك امبارح."
خبطت يدها على جبينها باندفاع، متذمرة بصوت خافت:
"آه... دا أنا نسيت! شديت التلفون وسِبت الشاحن."
أسرعت وأحضرت الشاحن، فتحت الباب فتحة صغيرة، ومدت يدها به قائلة بلهجة معتذرة:
"آسفة جدًا، بجد نسيت خالص."
ابتسم مازن وهو يأخذ الشاحن منها، قائلاً بلطف:
"بتحصل، ولا يهمك. بس ممكن طلب لو مش هيضايقك؟"
نظرت إليه باستغراب:
"طلب؟ لا عادي، اتفضل."
قال مازن بابتسامة عريضة:
"إيه رأيك لو أعزمك على فنجان قهوة في الكافيه القريب هنا؟"
وأشار إلى كافيه صغير يقع في الممر الفاصل بين صفين طويلين من الشاليهات المطلة على البحر. ثم أكمل بنبرة حماسية:
"على فكرة، افتكرت حاجة! أنتي تعرفي هيثم؟ دكتور الأطفال؟ طول الليل بحاول أفتكر شوفتك فين، لحد ما افتكرتك أخيرًا!"
سيلا شعرت بالارتباك، فردت بسرعة وصوتها يحمل القلق:
"مي! أنت تعرف مي؟! أوعى تكون كلمتها أو قلت لها على مكاني!"
اندفاعها المفاجئ أثار دهشة مازن، الذي رفع حاجبيه مستغربًا وقال:
"آه... مي أخت هيثم، بس أنا معرفش مي كويس، أعرف هيثم لأنه صديقي. لكن لا تقلقي، مكلمتش حد لسه."
أخذت نفسًا عميقًا لتهدئة أعصابها، ثم قالت:
"طيب هستأذنك أغير هدومي وأجيلك."
أغلقت الباب وارتدت ملابسها سريعًا، ثم خرجت لتجده ينتظرها. أشار لها باتجاه الكافيه، حيث جلسا معًا.
تقدم النادل إليهما، وسأله مازن:
"واحد قهوة مظبوطة. والآنسة؟"
ردت سيلا بلطف:
"لو ممكن أي مشروب فريش."
ذهب النادل لتحضير الطلبات، واغتنمت سيلا الفرصة لتسأله بوضوح:
"ممكن أعرف أنت تعرفني منين؟"
ابتسم مازن وقال:
"زي ما قلتلك، أنا طبيب نفسي وبشتغل مع هيثم في نفس المركز. بس هقولك شوفتك فين..."
سرح قليلاً، مستعيدًا ما حدث منذ أشهر. قال وهو يعيد الرواية:
"كنت مخلص حالتي ونازل أجيب حاجة من كافيه المركز الطبي، لقيتك داخلة. كنتِ منشغلة بالموبايل، ولما مشيتي، خبطتي كتفي بالغلط."
قاطعته سيلا، وهي تتذكر:
"آه فعلا، افتكرت! كنت مع مي وسلمت عليك."
سيلا ضحكت بخفة:
"فرصة سعيدة"
مازن رد بابتسامة واسعة:
"أنا الأسعد. بجد، مبسوط إننا تقابلنا. بس عندي سؤال: ليه قلقتي كده لما سألت عن مي أو هيثم؟ ليه محدش يعرف مكانك؟"
بدت سيلا مترددة، لكنه قاطعها:
مش قصدي أتدخل، لكن أوقات الإنسان بيحتاج يفضفض مع حد ما يعرفوش. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود كصديق قبل ما أكون طبيب.
سيلا ردت بابتسامة خفيفة:
"مش المفروض تكون في المركز دلوقتي؟"
ضحك مازن وفهم ما تقصده، فأجاب:
"كنت في مؤتمر واتلغى، فقررت أفصل شوية. لكن لو لقيت حالة تستاهل، بشتغل عليها. خصوصًا لو الحالة قدامي وعينيها مليانة حزن زي حالتك."
سيلا تظاهرت بالضحك وقالت:
أوعدك، لو احتجت أتكلم، هقولك. لكن بشرط: ما حدش يعرف مكاني.
مازن أخرج بطاقة وضعها أمامها وقال:
"اتفقنا. ده كارت فيه أرقامي. هستنى مكالمتك."
أخذت سيلا البطاقة وابتسمت له بخجل، ثم نهضت قائلة:
"استأذن أنا."
نهض مازن بدوره ومد يده لمصافحتها، وهو يقول:
"فرصة سعيدة."
لكن قبل أن تتمكن من مد يدها، ظهر يد أخرى فجأة ومد يده بدلاً منها، يصافح مازن بقبضة قوية وصوت أجش:
"وأنا مش أسعد."
تجمدت سيلا في مكانها، مصدومة من وجوده. لم تستطع منع نفسها من الهمس:
"عاصم؟!"
"سيلا! سيلا! آه... قلبي..."
ظل يكرر اسمها، وكأن الحلم كان حقيقة مُرَّة لا يريد تصديقها.
شعر بوخزة في قلبه، زفر بضيق ونهض بسرعة ليغسل وجهه. وقف أمام المرآة، مغمض العينين، لكنه لم يستطع منع الألم الذي مزق قلبه من العودة. اعترف لنفسه بهدوء، وبداخله وجع حارق "أفتقدها بشدة... كل ليلة أحلم بها، أبحث عنها ولا أجدها. أمد يدي لأضمها ولا تلمسني، أناديها ولا تسمعني. متى تعود إليّ؟ متى تسعدني؟ أشتاق لعناقها لأحيا من جديد... لا، لن أتخلى عنها، وعدتك ولن أخلف الوعد."
خرج من الحمام بخطوات ثقيلة وجلس على أقرب مقعد، جذب هاتفه بيد مرتجفة وأجرى مكالمة سريعة مع صديقه. أنهى المكالمة وزفر بضيق، ألقى بالهاتف بإهمال ونهض ليستعد لمهمته.
لأول مرة تهتز يده في تنفيذ مهمته؛ ظهر أمامه هدفه لكنه لم يستطع الضغط على الزناد عندما لمحها فجأة. ارتجفت يداه، وتخلى عن المهمة، موكلًا إياها لضابط آخر. نال توبيخًا شديدًا من رئيسه في العمل، لكن قلبه المشوش كان أقوى من كلمات رئيسه الغاضبة.
كلما حاول أن يخرجها من عقله، كلما زاد انقباض قلبه. أخبره صديقه بمكانها وبحادث وقع في مدخل الإسكندرية أدى إلى مبيتها ليلة في المستشفى. أضاف أنه تلقى مكالمة من أخيها يسأل عنها. لكن عاصم طلب منه عدم الرد وعدم إخبار أي شخص بمكانها في الوقت الحالي، قائلًا إن الظروف لا تسمح.
زفر بضيق شديد، متخذًا قراره. ترك مهمته لصديقه وسافر لرؤيتها. حمل حقيبته واستقل طائرته، متجهًا نحو "مجنونته العنيدة"، كما كان يلقبها دائمًا.
مرّ أسبوعان كأنهما دهر. ظل خلالها يراقبها من بعيد، يرى ألمها دون أن يستطيع مواساتها.
وفي أول يوم لمحها فيه، كان يقف بعيدًا يراقبها. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا بدا كأنه يعكس حزنها. استغل خبرته في المراقبة لتقييم المكان، باحثًا عن أنسب مدخل للشاليه دون إثارة شكوكها.
في أحد الأيام، خرجت من الشاليه لفترة قصيرة. انتهز الفرصة ودخل بكل خفة ومهارة عبر نافذة الشرفة التي تركتها مواربة. كان الشاليه صغيرًا، مكونًا من غرفة واحدة تضم سريرًا متوسط الحجم بجانب الحائط، إلى جانبه منضدة خشبية صغيرة تعج بأنواع مختلفة من الأدوية، بعضها فارغ والبعض الآخر شبه ممتلئ.
تجول عاصم في المكان، فحصه بعناية. الريسبشن كبير ويفتح على مطبخ أمريكي، والشرفة المطلة على البحر تمنح المكان جاذبية خاصة. لكنه لم يكن هناك للاستمتاع بالمشهد. زرع كاميرات صغيرة لا تُرى، واحدة في الريسبشن وأخرى داخل الغرفة، ووضع جهاز تنصت أسفل المنضدة القريبة من السرير.
بينما كان ينهي مهمته، رأى من نافذة الشرفة أنها عائدة. اختبأ بسرعة في الزاوية، وعندما دخلت هي الشاليه، قفز إلى الخارج بصمت.
دلفت إلى الداخل وهي تشم رائحة غريبة، عطرًا فريدًا تعرفه جيدًا. تلفتت حولها بقلق، تبحث عن مصدر الرائحة، لكن المكان كان فارغًا. تمتمت بخفوت: "غريب... إيه الريحة دي؟"
نفضت من عقلها كل الهواجس، ورمت نفسها على السرير. احتضنت نفسها بألم، غارقة في أحزانها، حتى غفت أخيرًا.
…
خرج عاصم من الشاليه بعد أن انتهى من زراعة الكاميرات ووضع أجهزة التنصت، وقرر استئجار شاليه قريب من شاليه سيلا. أراد أن يكون بجانبها، لكن دون أن يشعرها بوجوده. بمجرد أن دلف إلى الشاليه الجديد، فتح حاسوبه المحمول، وأوصل الكاميرات بأجهزته، وبدأ يتابعها عن كثب.
رآها تجلس داخل شاليهها، وقد تركت شرفتها غير محكمة الإغلاق. لاحظ أنها تناولت دواءها من حقيبتها، ثم تمددت على سريرها، متألمة، حتى غفت.
شعر عاصم بوجع في قلبه وهو يراقبها، حنين جارف اجتاحه لرؤيتها عن قرب، لاحتضانها، لمسح كل هذا الألم الذي أثقل ملامحها. لكنه تردد، متسائلًا: "ماذا سيكون رد فعلها إن رأتني؟"
رغم التردد، قرر الذهاب إليها. دلف إلى شرفتها المفتوحة مرة أخرى بخفة ومهارة. وقف للحظات يتأملها وهي نائمة. كانت ملامحها منكمشة بالألم، وكأنها تخوض معركة مع نفسها حتى وهي في سبات.
اقترب منها بحذر وجثا على ركبتيه بجانبها. مد يده برفق وربت على شعرها، هامسًا بكلمات دافئة بين الحلم واليقظة:
"سيلا... أنا هنا... أنا معكِ..."
لم تستوعب كلماته تمامًا، إذ كانت بين النوم واليقظة، لكنها حركت رأسها قليلًا وكأنها تشعر بحضوره. تمنّى لو اختصر المسافة بينها وبين قلبه، أراد أن يضمها بين ذراعيه، لكنه اكتفى بتقبيل وجنتها بخفة.
دثرها جيدًا بالغطاء، وهمّ بالخروج سريعًا عندما لاحظ أنها بدأت تتحرك وكأنها ستفيق. غادر الغرفة بنفس الهدوء والخفة التي دخل بها، قافزًا عبر الشرفة.
لكنه ما إن اقترب من الشاليه الخاص به، حتى لفت نظره ظل شخص يتجه نحو شاليه سيلا. توقف مكانه يراقب بحذر، بينما هي فتحت الباب لهذا الشخص وبدأا الحديث.
تابع عاصم الموقف من بعيد، محاولًا قراءة حركة شفاههما. لكن ما أقلقه حقًا هو نظرات هذا الرجل، التي بدت مريبة بالنسبة له.
ظل يتبع الرجل حتى غادر الشاليه. عندها رآها سيلا تخرج وتجلس أمام البحر، تبدو شاردة ومليئة بالألم. بقي عاصم يتجول حول المكان، يراقبها من بعيد.
لاحقًا، عاد الرجل الذي كان معها ووقف بجانبها، يتحدث معها من جديد. تقدمت سيلا نحوه ببضع خطوات، لكن عاصم، الذي كان يختبئ خلف أحد الأشجار، شعر أنها لاحظت وجوده. فجأة، ركضت بسرعة نحو شاليهها، وأغلقت الباب خلفها بعنف.
ابتسم عاصم لنفسه بهدوء، واطمأن أنها شعرت بشيء ما جعلها تعود إلى الداخل.
عاد بدوره إلى شاليهه، وجلس أمام حاسوبه، يراقبها وهي تتحرك داخل الغرفة حتى استلقت على السرير من جديد. كانت تنام بوضعية الجنين، تحتضن نفسها وكأنها تبحث عن أمان مفقود.
همس لنفسه وهو يتأملها عبر الشاشة:
"نفسي أفهم عنادك ده هيوديكي فين... لحد إمتى دماغك الناشفة دي؟ بس خلاص، هخلص كام حاجة بخصوص المستشفى والدكتور اللي متابع حالتك، وبعدها هكسر دماغك الحجر دي."
ظل الحاسوب أمامه، يراقبها بعين متعبة وقلب مليء بالشوق، حتى غلبه النعاس ونام وهو يتمنى لو كانت بين ذراعيه.
صباح جديد مليء بالمفاجآت على جميع أبطالنا.
استيقظت سيلا من نومها بتأفف شديد على صوت طرقات الباب المتتالية. نهضت وهي تتمتم بضيق:
"وبعدين بقى في الرزل ده؟ كل شوية دَق دَق... ما وراهوش غيري؟ هف!"
اتجهت نحو الباب بخطوات ثقيلة، منادية بصوت مرتفع:
"أيوه... مين؟"
جاءها الرد سريعًا، صوت مألوف لكن مزعج:
"أنا مازن... لو سمحتي، نسيت الشاحن عندك امبارح."
خبطت يدها على جبينها باندفاع، متذمرة بصوت خافت:
"آه... دا أنا نسيت! شديت التلفون وسِبت الشاحن."
أسرعت وأحضرت الشاحن، فتحت الباب فتحة صغيرة، ومدت يدها به قائلة بلهجة معتذرة:
"آسفة جدًا، بجد نسيت خالص."
ابتسم مازن وهو يأخذ الشاحن منها، قائلاً بلطف:
"بتحصل، ولا يهمك. بس ممكن طلب لو مش هيضايقك؟"
نظرت إليه باستغراب:
"طلب؟ لا عادي، اتفضل."
قال مازن بابتسامة عريضة:
"إيه رأيك لو أعزمك على فنجان قهوة في الكافيه القريب هنا؟"
وأشار إلى كافيه صغير يقع في الممر الفاصل بين صفين طويلين من الشاليهات المطلة على البحر. ثم أكمل بنبرة حماسية:
"على فكرة، افتكرت حاجة! أنتي تعرفي هيثم؟ دكتور الأطفال؟ طول الليل بحاول أفتكر شوفتك فين، لحد ما افتكرتك أخيرًا!"
سيلا شعرت بالارتباك، فردت بسرعة وصوتها يحمل القلق:
"مي! أنت تعرف مي؟! أوعى تكون كلمتها أو قلت لها على مكاني!"
اندفاعها المفاجئ أثار دهشة مازن، الذي رفع حاجبيه مستغربًا وقال:
"آه... مي أخت هيثم، بس أنا معرفش مي كويس، أعرف هيثم لأنه صديقي. لكن لا تقلقي، مكلمتش حد لسه."
أخذت نفسًا عميقًا لتهدئة أعصابها، ثم قالت:
"طيب هستأذنك أغير هدومي وأجيلك."
أغلقت الباب وارتدت ملابسها سريعًا، ثم خرجت لتجده ينتظرها. أشار لها باتجاه الكافيه، حيث جلسا معًا.
تقدم النادل إليهما، وسأله مازن:
"واحد قهوة مظبوطة. والآنسة؟"
ردت سيلا بلطف:
"لو ممكن أي مشروب فريش."
ذهب النادل لتحضير الطلبات، واغتنمت سيلا الفرصة لتسأله بوضوح:
"ممكن أعرف أنت تعرفني منين؟"
ابتسم مازن وقال:
"زي ما قلتلك، أنا طبيب نفسي وبشتغل مع هيثم في نفس المركز. بس هقولك شوفتك فين..."
سرح قليلاً، مستعيدًا ما حدث منذ أشهر. قال وهو يعيد الرواية:
"كنت مخلص حالتي ونازل أجيب حاجة من كافيه المركز الطبي، لقيتك داخلة. كنتِ منشغلة بالموبايل، ولما مشيتي، خبطتي كتفي بالغلط."
قاطعته سيلا، وهي تتذكر:
"آه فعلا، افتكرت! كنت مع مي وسلمت عليك."
سيلا ضحكت بخفة:
"فرصة سعيدة"
مازن رد بابتسامة واسعة:
"أنا الأسعد. بجد، مبسوط إننا تقابلنا. بس عندي سؤال: ليه قلقتي كده لما سألت عن مي أو هيثم؟ ليه محدش يعرف مكانك؟"
بدت سيلا مترددة، لكنه قاطعها:
مش قصدي أتدخل، لكن أوقات الإنسان بيحتاج يفضفض مع حد ما يعرفوش. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود كصديق قبل ما أكون طبيب.
سيلا ردت بابتسامة خفيفة:
"مش المفروض تكون في المركز دلوقتي؟"
ضحك مازن وفهم ما تقصده، فأجاب:
"كنت في مؤتمر واتلغى، فقررت أفصل شوية. لكن لو لقيت حالة تستاهل، بشتغل عليها. خصوصًا لو الحالة قدامي وعينيها مليانة حزن زي حالتك."
سيلا تظاهرت بالضحك وقالت:
أوعدك، لو احتجت أتكلم، هقولك. لكن بشرط: ما حدش يعرف مكاني.
مازن أخرج بطاقة وضعها أمامها وقال:
"اتفقنا. ده كارت فيه أرقامي. هستنى مكالمتك."
أخذت سيلا البطاقة وابتسمت له بخجل، ثم نهضت قائلة:
"استأذن أنا."
نهض مازن بدوره ومد يده لمصافحتها، وهو يقول:
"فرصة سعيدة."
لكن قبل أن تتمكن من مد يدها، ظهر يد أخرى فجأة ومد يده بدلاً منها، يصافح مازن بقبضة قوية وصوت أجش:
"وأنا مش أسعد."
تجمدت سيلا في مكانها، مصدومة من وجوده. لم تستطع منع نفسها من الهمس:
"عاصم؟!"