رواية عروس ديابلو الفصل الثاني 2
❞الدمعة في العين... جرحٌ في القلب!❝
24
٢✍
+
غابة كولورادوس
ليلاً...
4
سربل السحر لونا، و داعب صدرها، و طافت مع طواف الرياح البعيدة، إنه حلم... أليس كذلك؟ أن ترى نفسها في الظلام ترقص و تدور وحيدة، ثم تسقط إلى العدم، ثم تعلو إلى الشمس، و تغيب معها، ثم تفتح عينيها حينًا، فيتبدد شيء من الظلمة التي تحيطها، و يتخضبُ الشريان الأسود الذي كان ينبض حولها بشعلة ضوء تقدحُ إلى جانبها! ثم تغمض عينيها و ترخي جسدها مستسلمة لتيار الفراغ كأنها في البرزخ، لتعيد فتحهما هذه المرة واثقةً أن السحر الذي سرى فوق صدرها لم يكن سوى يد شخص يجس نبض قلبها! و شعلة الضوء ليست سوى نارًا تقدحُ هنا على بعد خطوة من المكان الذي تتمدد فوقه!
5
يبدو أن المطر توقف عن الهطول منذ مدة، لكنها لا تزال بقلب الغابة، الأشجار تهز فروعها تناجي الرياح كي تكف عن العصف و التلويح بها، و السماء تخلت عن رعودها الوامضة... و لعلها أرسلتها إلى جزء آخر من العالم!
+
ارتعشت لونا من الصدمة حين حملقت بالشخص الذي يجلس عند رأسها و فكرت أنه رجل غريب، أمعنت النظر بفزع، لا! هو ليس بغريب، إنه سائق الشاحنة المجنون، ذو العينين المكتحلتين!
5
فكرت على الفور في الفرار، لكن رفع رأسها حتى كان مستحيلاً! شعرت بألم طاحن في أطرافها المخدرة، و ظلت تجاهد بمرارة لتستند على مرفقيها و تتحرك بعيدًا دون جدوى، حتى لمس ديابلو كتفها برفق و همس بنبرة دافئة تغلفها بحة لم تسمعها من قبل في صوت رجل:
+
"إنسي الهرب الآن! لا يزال جسدكِ ضعيفًا و بحاجة للراحة!".
37
شعرت ببرودة ساحقة تتكسر فوق جسدها، عدا كتفها الذي يحترق تحت ذوبان أصابعه التي أرسلت داخلها شعورًا عجزت عن إنكار لذته، لماذا تذوب أصابعه فوقها؟ و لماذا تبدو الإسبانية بهذا الجمال على لسانه؟ سقط رأسها على الوسادة، مهلا! وسادة؟ الأشجار التي تتعانق فوقهما الآن تخبرها أنهما في الغابة بلا شك! من أين له بوسادة هنا؟ و هذه البطانية المطوية التي تستلقي فوقها! ما القصة؟ هل تهذي أم ماذا؟ أغمضت عينيها بقوة مجفلة، التقطت أذناها صوت رقرقة ماء، ثم أحست به بعدها يضع على جبينها شيئًا باردًا، فرفعت جفنيها الثقيلين، و مضت تتأمل وجهه المنحني عليها بنظرات حائرة، لينطلق إلى قدميها و يبللهما في لطف و نعومة بالمياه الباردة! آنذاك أفلتت غمغمة من بين شفتي لونا شاعرة بالدغدغة:
28
"آه... ما الذي... تفعله؟".
5
أجاب بعد صمت قصير و هو يجفف يديه بأطراف قميصه:
+
"أحاول قدر المستطاع خفض حرارتكِ!".
6
تمتمت مستغربة تتحسس بيد ضعيفة الكمادة التي على جبينها المشتعل:
+
"حرارتي؟".
+
"إنها حمى عابرة يُصابُ بها زائر الغابة المطيرة للمرة الأولى، و هذا يؤكد إحدى فرضياتي بشأنكِ!".
17
كانت لونا تعاني العياء الجسدي الشديد، لكن عقلها استطاع التجاوب معه و إدراك ما يتفوه به، لذا همست متسائلة بقلق:
+
"فرضياتُكَ بشأني؟".
+
ركز عليها بصره الضيق، و من بين خطي الكحل و الرموش السوداء في عينيه قفزت أجمل النظرات على الإطلاق، كأنه فهد أسود بمقلتين ذهبيتين تتراقص داخلهما النار! استقام و مد ذراعيه الطويلتين نحو الشجرة الأقرب، و اقتطع بخنجره شيئا ما، ثم قرفص ثانية بين النار و فراشها، و استدار يمنحها ظهره مجيبًا:
4
"أجل، الفرضية الأولى... أنكِ أجنبية! فأبناء هذه الأرض يتحملون مناخها، و لا يتوعكُ هنا سوى الأغراب!".
18
مضى ديابلو نحو النار يذكيها و يقلب حطبها المتفحم بواسطة الغصن الذي اقتطعه، و تابع لسانه الكلام كأنه يعنفها بلهجة أبوية:
6
"لقد ركضتِ مطولاً و تعرقتِ، ثم تهورتِ و ألقيتِ بنفسكِ في أكثر الشلالات برودة، ماذا تتوقعين غير الإصابة بالحمى!".
10
ابتلعت ريقها مدركة أنه دقيق الملاحظة، و همت بتصحيح مفهومه، هي ليست بغريبة، هذه أرض أمها، مدَّت يدها تتحسس التراب كأنها بذلك تحاول إثبات صلتها بالأرض لنفسها و له ربما، لكنها عجزت عن النطق بحرف، و حين التفت صوبها و لاحظ كفها المبسوطة على التراب، ظن أنها تريد شيئا منه، فمنحها يده و شد على يدها بقبضته سائلاً:
5
"ما هو مرادك؟".
19
حررت يدها من قبضته تتلافى أي احتكاك به، و مررت لسانها على حواف شفتيها تحس بظمأ شديد، مراد جسدها الآن أن ترتشف قطرة ماء على الأقل، لكنها لم تطلب أن يسقيها، بل فكرت في المراد الحقيقي الذي جعلها تفر من إسبانيا إلى أحضان هذه الأرض التي تجهل عنها الكثير، لقد حدثها والدها عن المكان الذي عاشت فيه إيزميرالدا حبيبته السمراء الفاتنة، ذات الجدائل السوداء المتطاولة أسفل خصرها الهزَّاز، و بناءً على قصصه التي كان يرويها لها قبل النوم أيام الصبا... خططت لونا لحظة هروبها من خطيبها و زوجة أبيها أن تأتي إلى كولومبيا و تبحث عن "بحيرة كاجوناس" حيث كانت تعيش قبيلة أمها الغجرية!
4
تجاهلت سؤاله حول ما تريده، و قالت باهتمام:
+
"و الفرضية الثانية؟".
+
هنا... توقف عما يفعله، خصَّ شفتيها الجافتين بنظرة ثاقبة تشبه نظرات المحققين السريين، صدمتها دقة ملاحظته حين سقاها الماء و أنهى عطشها الذي لم تعبر عنه حتى، ثم أجاب سؤالها دون مواربة:
3
"أنكِ هاربة من العدالة!".
12
اضطربت لونا و بدأ التوتر يهدر في عروقها، بل إن الذعر قبض على خناقها، ربما هي حمقاء نوعا ما و ساذجة، و لعلها أيضا متمردة و تهوى التحرر أحيانا من قيود الحياة، غير أنها في النهاية فتاة غضة رقيقة، و عرفٌ ناعم من شجرة المجتمع المخملي في مدريد، عُرفت بتهذيبها وسط الناس، و بتفوقها في مدرسة رقص "الفلامنكو" منذ نعومة أظافرها، أما عن جو المغامرات و عذاب الأدغال هذا... فهي لم تخضه من قبل، هزت رأسها بتمردها المستيقظ، و رفضت ذلك اللقب الذي نعتها به:
3
"لستُ كذلك! لِمَ تصورني كشخص سيء؟".
+
سخر منها بشكل مزعج:
+
"لماذا حقا أفعل؟ ماذا دهاني؟ كيف تتوقعين أن أفكر بكِ و أنتِ تختبئين بمقطورتي دون علمي، ثم تفرين كمجرمة حالما دوت صافرات سيارات الشرطة؟!".
3
لأنني لستُ مذنبة، لأنني لستُ مسؤولة عن نذالة ذلك الظابط الخبيث، لأنني جميلة و هذا أسوء أقداري، لأنني لم أجد أمامي سوى مقطورتك ملجأً لي! أرادت الصراخ بكل ذلك، لكنها أحجمت عن التبرير، اللعنة عليه! فليظن بها الظنون، فيمَ سيهمها رأيه، حالما تستعيد عافيتها ستغادره طاوية صفحته إلى الأبد!
6
"هل تهربين من جريمة قتل؟".
18
تمتم بكل هدوء كما لو أنه يسأل عن عنوان بيتها، و بينما هي تقلب عينيها حانقة و تفكر في تجاهل كل كلمة تبرح شفتيه، كان هو يبحث في جيوبه عن سيجارة، و ها قد تعثر بها، و قبض عليها بأسنانه، ليمضي في بحثه عن شيء آخر و هو يحثها على قطع الصمت:
2
"أنا أنتظر جوابًا!".
+
انفجرت في وجهه ساخطة رغم خمول جسدها و تلعثم لسانها:
+
"حبا بالسماء! هل أبدو حقا كقاتلة؟".
10
برزت بين أصابعه السمراء ولاعة فضية منقوش عليها إسم لم تتبينه بوضوح، و أشعل السيجارة ممتصا دخانها ببطء، ثم ارتخى فكاه، و أفرج ثغره عن نفس رصاصي طويل أخفى ملامحه الجذابة، و ها هو يمشطها بنظرات ولع حقيقي بشكلها، و ينقل السيجارة من شفتيه إلى إصبعيه مردفًا:
+
"حاولي إقناعي أن الجمال الذي تسبحين داخله لا يقتل... و سأحاول تصديقك!".
110
عبثا بحثت عن رد تعقب به بعد تلك الكلمات التي هزت أعماقها هزًّا، لتوقن لونا أن ما يميز هذا الرجل ليس شكله و ملبسه الفريدين فحسب، فله لسانٌ مغازلٌ بشكل يفوق أي رجل آخر، و له أيضا صوتٌ مختلف و لكنة خاصة تحوله إلى ساحر يستطيع فعل ما يشاء بأي امرأة! و لكن... هل يدرك هو أنها ليست أي امرأة؟
+
"إذن أنتِ لصة؟".
10
تضرج وجهها بحمرة فضحت حجم الغضب المتعاظم داخلها، و زمجرت من بين أسنانها المرصوصة:
+
"من تنعتُ باللصوصية أيها الـ....".
5
صمتت عاجزة عن إيجاد كلمات بذيئة تمطره بها، فرمى برأسه إلى الخلف ضاحكًا، و اقترب منها إلى درجة لم تعد هناك مسافة خصوصية بينهما، ليهمس:
1
"هل قاموسكِ نقيٌّ إلى هذا الحد صغيرتي؟".
75
تأكدت أنه يريد دفعها للانفعال ليسبر أغوارها ليس إلا، فالغضب أنسب موقف يكشفُ خبايا الناس، لهذا تمسكت بعروة الهدوء و الحكمة، و ادعت أن الحوار الدائر أثقلها بالكدر و الخمول، و حتى حين وجه إليها سؤالاً آخر عن أصلها و المكان الذي أقبلت منه، تركته معلقا، و أغمضت عينيها على دمعة كانت تبرق بلهفة للسقوط، تذكرت رحلتها الفاشلة قبل إنطلاقها حتى، تذكرت رحيل والديها الباكر عن الحياة، و تذكرت نيكيل السافل و والدته الأنانية، تجمع الوجع في صدرها، و لم تعِ إلا و هي تغفو سريعًا، و دمعتها تنزلق ببطء على خدها، ليلمح ديابلو تلك الدمعة المسافرة، و يلتقطها بأنامله قبل أن تهوي نحو الوسادة و تمتزج بقماشها القطني!
5
طاردته أفكاره حولها حتى و هو يسير صوب البحيرة القريبة، ما قصة هذه الفتاة؟ ظهرت في دكان أرتورو كأنها وليدة العدم، ثم ألفاها ترتعش كطفلة داخل شاحنته، قبل أن تفر كمجرمة من أصفاد القانون، و ها هي بعد ذلك تقفز كمجنونة انتحارية إلى شلال لا تعي مدى خطورته، لتمضي الساعات اللاحقة راقدة تحت نظره تهذي بأشياء غريبة! توقف عند شفاه البحيرة مفكرًا بفضول... ترى من يكون نيكيل الذي كانت تطلب منه أن يخلي سبيلها؟
33
...
+
تخاطفت الأحلام و الكوابيس لونا خلال تلك الغفوة القصيرة، و حالما انتابها الصحو بعد ساعة، تعثر أنفها برائحة شهية، و لاحظت أن الظلام لا يزال سيد المكان، و أن ديابلو غير كمادتها عدة مرات، و إذا به هناك على بعد ياردات منها، يوليها ظهره عاكفًا على إذكاء النار كالسابق، فسألت بفضول:
+
"ما دمتَ تحاول خفض حرارتي... فما عازةُ النار الآن؟".
2
تفاجأ بتدفق صوتها الذي يغالب النعاس، و التفت متحققا من ملامحها، و متى ما لمس جبينها و اطمأن أنها تخلصت من بعض الشحوب، علق:
+
"بدأتِ تتعرقين بشدة، و هذه بادرة خير على الشفاء القريب!".
+
حركت رأسها دلالة رفض لمسته، فابتسم مستلذا عنادها الطفولي، و عاد ببصره للدائرة المشتعلة أمامه و أجاب سؤالها مفسرًا مسلكه:
3
"النار ليست للدفء فقط، من دونها لن نستطيع تناول لقمة سائغة... و لن نتمكن أيضا من طرد الحيوانات المفترسة و الحشرات السامة عنا!".
3
اهتز صدرها بزفرة قلق، و غمغمت تنظر هنا و هناك:
+
"أ يُحتملُ أن يهاجمنا مخلوق خطير هنا؟".
4
"لا ترتعبي... صحيحٌ أن الخطر موجود، لكنني عاملُ أمان قوي... لحسن حظك!".
22
يا لغروره الصلف! و يا للرائحة الزكية التي تداعب أنفها الآن...
+
ابتسم مبرزا صف أسنانه و هو يدنو منها و يضع أمامها ورقة سعف كبيرة محولا إياها إلى طبق، و فوقها لمحت لونا سمكًا مشويًّا أسال لعابها! تجلى الذهول على قسماتها المتعرقة، و تمتمت:
+
"يبدو أن هناك مطعمًا قريبًا يجيد طهو الطعام!".
14
استخدم خنجره في تقطيع السمك، ثم أجاب بهدوء و عيناه تجوبان الأرجاء في نفس الوقت:
+
"كلا! نحن في منطقة معزولة عن المدينة، و لا مطاعم في الجوار...".
2
أفلت خنجره، و تناول كتفيها يسحبها لتتخذ وضعية جلوس مريحة، كانت الحركات الوحيدة التي تستطيع الإتيان بها هي رفرفة جفنيها و دحرجة عينيها من جهة لأخرى، لذا سندها بذراعه المتين، و مضى يطعمها بيده الحرة رويدًا رويدًا، فيما كانت هي تتفرَّسُ بنظرها المستغرق في خنجره المميز!
21
يبدو ذلك السلاح الفريد في نهايته الناتئة كالخناجر اليمنية التي كانت تزين خصور العرب في الأزمان الغابرة، لكن كل الجمال كان في مقبضه و غمده المرصعين بحجر غريب يشبه اللؤلؤ الأبيض!
15
أفاقت لونا من شرودها، و مضغت أول لقمة بصمت، و لو لم تكن في حالة مرض، لصرخت و قفزت من شدة لذة الطعم، أبصرته يراقب حركات فمها و فكيها، فظللت عينيها بصفي أهدابها المتشابكة، و امتزجت بسحر اللحظة، حرارة ناعمة تتسرب إليها من جسده الذي يسندها، ليست كحرارة الحمى التي تصارعها لساعات، و إنما شيء مختلف، يجعلها تشعر و كأنها تحيا الآن فقط! تمالكت شعورها الغريب، و حافظت مبدئيا على الصمت، لكنها عادت لتسأل مستغربة:
+
"إذن... من أين أتت هذه الأسماك؟".
18
"من البحيرة".
+
نبض قلبها بحماس مفاجئ و هي تكرر تلك الكلمة:
+
"بحيرة!".
1
"أجل! خلف سور الشجر هذا بأمتار قليلة تقع بحيرة كولورادوس".
+
طرفت بأهدابها قليلاً تعاني خيبة دامغة، يا لسوء الحظ! لقد أملت أن تكون نفسها البحيرة التي قطعت كل هذه المسافة من أجلها، "بحيرة كاجوناس" ... الجنة التي عرفت ميلاد الغجرية إيزميرالدا و طفولتها و شبابها... و قصة الحب الجارفة التي جمعتها بوالدها! أغرقت في التعاسة للحظات، ثم تمهلت بعض الشيء قبل أن تنتبه لما قاله، و تسأل غير مصدقة:
+
"لحظة! هل تعني أنك... اصطدتَها بنفسك؟".
5
هزَّ رأسه بتؤدة، فعجزت عن استيعاب ذلك، كيف يمكنه اصطيادها دون عدة خاصة؟ أم أن شاحنته العجيبة مخزن متنقل لكل ما قد يحتاجه رجل مثله!
+
"هل أنتَ أبو الأدغال؟".
59
لم تتوقع أن ينفجر في قهقهة قوية إثر تعليقها الطريف، رددت أرجاء الغابة صدى ضحكته، و يا لها من ضحكة جعلت دمها في العروق يعلو و ينخفض كالزئبق! ليجيبها بتلك البحة التي يمكن لأي امرأة أن ترتعش إثرها:
+
"بل هي أمي!".
+
و تابع بعدها بنبرة حزينة لأول مرة:
+
"تعلمتُ الصيد من والدي، كان أقوى رجل عرفته هذه الأرض... و لشدة حبها له... سرقته و عانقته باكرًا... باكرًا جدا!".
16
لم تعرف لِمَ شعرت برغبة في البكاء، لم يذرف ديابلو دمعة أمامها، لكنها رأت شبح تلك الدمعة في عينيه، لعله عكسها... جيد في محاربة الدموع و طمسها!
2
هز رأسه طاردًا غمامة الحزن، و علق بمرح جعله يبدو لطيفا في نظرها:
+
"لا تشككي أبدا بمهارتي في الصيد، إذا رغبتُ بشيء فأنا لا أهنأ حتى يغدو ملكًا لي!".
45
انتابعا شعور غريب بأن كل حرف قاله موجه لها، و استكانت له بشكل حيرها، سرحت في تقاطيعه الجذابة، السُّمرة التي تغلف هذا الرجل مختلفة، بل إن كل تفصيل فيه مختلف، الندبة الرفيعة على إحدى عينيه تؤكد أنه خاض معركة ما في الماضي، هل أصابه أحدهم بخنجر؟ هل هو المدعو "بيليغرو" الذي قال أنه يود قتله؟ انزلق بصرها نحو قلائد الفضة المدلاة من عنقه، تسرتخي فوق ساحة صدره حينًا، و تترنح مجلجلة كأفاعي الجرس... حينًا آخر!
6
ناولها اللقمة الثانية، فالثالثة، دون أن يخص نفسه بشيء من ذلك، و رغم أنه غريب عنها، ساخرٌ و طليق النظرات متحرر اللهجة، و رغم أنه اتهمها بمحاولة النيل منه، و كاد يزهق روحها بيديه، و كال لها منذ قليل أبشع التهم؛ إلا أنها شعرت بالخجل و هي تشبع بطنها على حسابه، هاا... ها هي ذي طيبتها الشهيرة تستيقظ من سباتها، رفعت بصرها ترنو لعينيه الجميلتين قائلة:
+
"ما يكفي لشخص... يكفي لإثنين!".
1
نطقت تلك الكلمات بنبرة خافتة، ليس لأنها كانت تود التزام اللطف و الخضوع لسحره، بل لكونها خائرة القوى، و غير متأهبة لحرب أخرى معه، فبادرها ديابلو بابتسامة ناعسة، و من جهته أدرك يقينًا أنها ليست ذلك النمط المطيع من بنات جنسها، إنها حتما النمط المُرهِقُ عنادًا و تمرُّدًا، النمط الذي لا يثنيها عن الجنون و التعنت... سوى وعكة صحية كهذه!
1
"إذن ما هو إسمك؟".
+
خمنت أنه يجرب أن يبني معها حوارًا متينًا خيرًا مما سبق، و كان من العصي عليها أن ترفض التجاوب بعدما تسلل إليها سحر غريب، أ كان سحره أم سحر الغابة... لا فكرة لديها!
5
"لونا!".
+
دهش للحظات، ثم شعَّ وجهه بابتسامة عجيبة، كشخص انتصر في أفكاره الخاصة على شيء ما، و علق مفتونًا بالإسم:
+
"أتساءل هل هو ظلم لكِ أن تُشبَّهي بالقمر... أم ظلمٌ للقمر أن هناك على الأرض من سرق إسمه و حُسنه؟!".
116
انفرجت شفتاها محاولة التثبت مما سمعت، لا قبله قيل لها ذلك الغزل الحلو و لا بعده على ما يبدو! صحيح أن والدها و أمها هما من أطلقا عليها ذلك الإسم الشاعري، لكنها المرة الأولى التي تشعر فيها بكل ذلك الزهو، ذابت أعطافها و تاهت، و رجحت أن للحمى آثارها أيضا، فهي لا تستلطف صاحب الشاحنة هذا، و لن تفعل... و لو كان أفضل من يغازل الجنس اللطيف في الكون!
7
حاولت لونا إقناع نفسها بذلك، لكن ديابلو كان مختلفا عن أي رجل سبق و غازلها أو نظر نحوها بشهوانية، إذ ظل يمطرها بنظرات لم يسعفها أي تفسير خمنته، و تمتم بصوت يذوب عبر تجاويف النسيم و محطات الزمن:
+
"إذا تُرِكَ الأمر لي... سأناديكِ فقط... لولان!".
43
ضيقت عينيها تستغرب كا قاله، هما يتشاركان نفس اللغة، لكنها توقفت عند حدود ذلك الإسم عاجزة عن فهم معناه، فأنجد عقلها الحائر مستطردًا:
+
"لولان إسم غجري قديم... و يعني القمر الضائع!".
35
أحيانا تشعر أن الزمن توقف فقط لأن هناك من قال شيئا لم يلامس أذنيك من قبل، و هذا عين ما بدا لها آنذاك، ليس الزمن لوحده من توقف، بل كل شيء حولهما سكن و ارتدى ثوب الجمود! ما أدراه بأسماء الغجر؟ هل هو متيم بنمط حياتهم... أم هو مثلها ينتمي إليهم دمًا و روحًا؟!
+
حشر ديابلو داخل فمها لقمة أخرى، و غير دفة الحديث كليًّا، ليعلق على شيء آخر ماضيًا في تقطيع آخر سمكة متبقية:
+
"الآن أفهمُ لِمَ لم أواجه عناءً أثناء حملك بين يدي، أنتِ أخفُّ من الحرير، لأنكِ تأكلين كالعصافير!".
46
ومضت عيناه عندما ضحكت بخفة و هزت رأسها تشاطره الرأي، هي حقا كذلك، تعودت على الأكل بأطراف شفتيها كما تنص قواعد الطبقة الراقية في أوروبا، و حتى لا تكذب على نفسها، كم تاقت لتجربة أكل الأرصفة و الشوارع، و احتساء مشروب عادي في الحانات الرخيصة، ليس لأن تلك الأماكن أفضل، بل فقط من أجل معاكسة تيار زوجة أبيها و صديقاتها المليونيرات المضجرات! حسنا، النفاذ من شباك الحرير للوقوع بين أحضان الشلالات و الغابات الخطيرة... مغامرة مثيرة للاهتمام... و تستحق العناء!
3
توقف سيل أفكارها فجأة! مهلا... ماذا قال للتو؟ لم يواجه عناءً أثناء حملها بين يديه؟ إذن... فبعض الأحلام التي راودتها كانت حقيقة، آه، صحيح! كيف يمكن أن تصل إلى هذا الفراش وسط غابة لا تعرفها دون أن يكون له دخل في الأمر؟ ألم يكن يقف بمواجهتها حين تزحلقت فوق الصخور الزلقة و هوت إلى الشلال رأسًا على عقب؟ كان هناك، يصرخ محذِّرًا إياها من مغبة القفز إلى الأسفل، لا ريب أنه منقذها، كيف تأخرت في تذكر هذه الحقيقة المهمة و استيعابها، نظرت إليه بندم غريب، و قضمت شفتها السفلى بحزن، هي تعرف طيبتها و رهافة قلبها جيدا، تتمرد مائة مرة، و تعاند ألفًا، ثم تكون الغلبة لقلبها الطاهر، لا ضغينة تدوم في العضلة التي تنبض خلف أسوار صدرها!
3
غزت وجهه أمارات لم تفهم أبعادها و هو يدرس الطريقة الفريدة التي تعض بها شفاهها، يبدو أن كل ما يتعلق بها فريد من نوعه!
3
عجزت عن تأمله دون أن تكن له امتنانا كامنا لأنه منع موتها المحتم، هي مدينة له بحياتها، شاءت أم أبت، و مدينة مسبقا لشاحنته بنفاذها من الشرطة! و يا له من دين ثقيل على كتفيها.
+
لاحظ ديابلو صمتها الغريب، انطفأ التحدي في عينيها الزرقاوين، و كأنها رامت فقط التحديق باتجاهه من تحت أهدابها المغرية، و ليتها ما أسرت إليه بذلك الإمتنان العذب في لمعان عينيها، لأن ديابلو رأى فيهما ما يفوق ذلك بكثير، و شعر أن صاحبة الخصلات الشقراء هذه لا تشبه أي امرأة كانت بين ذراعيه يومًا، و كاد ينحني نحوها محتميًا بشفتيها من لسعات رغبته، لكنه و بصمود يُعجب له، أبقى رأسه بمحله، و دون أن تفهم لونا السبب، رأته يتراجع عنها، و يضع يده في ألسن اللهب!
32
"ما الذي تفعله أيها المجنون؟".
+
لم تصدق أنها كادت تغادر فراشها و تستوي واقفة لتمنع ذلك السلوك الغريب، لم تصدق أبدا أنها شعرت بالخوف من أجله رجل غريب يشبه قطاع الطرق فقط لأنه أنقذها من الغرق و سهر يحرسها من النسمات العابرة!
+
و لم تنل منه سوى نظرة مبهمة، أشار آمرًا أن تلازم مكانها، كونها لا تزال مهزوزة خائرة القوى، ثم تمتم دون أن يتألم حتى و لو قليلاً جراء احتراق يده:
+
"هكذا فقط يمكنني إبقاء يدي بعيدتين عنكِ عزيزتي لولان!".
111
أنهى عبارته، و منحها ظهره يولي وجهه شطر النار التي أحرقته منذ ثانيتين، لتغرق لونا في تفكيرها المتراوح بين إعجاب و نفور، كيف يعقل أن يكون الرجل المتجهم و المرح في الوقت ذاته؟ كيف ينقذها من الموت ثم يتهمها بالقتل و اللصوصية؟ أي رجل بهذا العالم ينظر إلى إمرأة برغبة مشتعلة ثم يرمي يده في النار فقط حتى لا يلمسها دون وجه حق و يدنس عفة جسدها؟!
17
أشاحت عنه و منحته ظهرها أيضا، حائرة كيف يمكنها أن تفكر برجل مثله، له مظهر المتسكع بين الشوارع، أو زعيم العصابات الذي لا يتورع عن ارتكاب الويلات، لكنه صوته يشبه كمان الغجر، و غمزات عينيه تشبه الأوتار المرتجفة في قلب عود شرقي، كلما داعبتها الأنامل هطلت كحلاً أكثر فتنة من السحر، آه إنها كلما تطلعت به و تأملته تتذكر ذلك السحر، سحر الغجر الخمري، سحر الغمام الأسود في لياليه البيض، حين لا ينتهي الرقص، و لا تكل الحناجر من الإنشاد، حين تتبادل الأقدام الراقصة و الأرض الغافية لغتها الخاصة، متى فقط... متى تحظى بليلة مشابهة... لتكون أيضا جزءً من الغجر؟ عند أعقاب ذلك السؤال الحالم... أسلمت نفسها للنعاس، و لفلفتها شغاف النوم على الفور.
5
نهاية الفصل الثاني.
2
🤎🤎🤎
+
هاللو هاللووو حبايبي
كيف كان الفصل الثاني من مغامرة لونا🥰؟
7
ما رأيكم في الإسم الذي أطلقه ديابلو على بطلتنا؟
5
و ما هي توقعاتكم القادمة؟
1
أعرف أن كثيرًا منكم سيرون ديابلو في أحلامهم الليلة😌!
6
قراءة ممتعة رويالز✨🦋
1
أحبكم جميعً