رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل الخامس والعشرون 25 والاخير بقلم شروق مصطفي
حاول عاصم تهدئتها، فأمسك بيدها برفق وقال بنبرة مطمئنة:
"حبيبتي، ده شغل والله. عندي مهمة هحاول أنجزها بسرعة. أنتي عارفة إننا أجّلنا سفرنا للعمرة، وخليت معتز يطلع شهر العسل الأول، وعقبال ما أرجع، نطلع كلنا سوا، رحلة واحدة."
لم يبدُ أن كلماته قد خففت من قلقها، بل زاد اضطرابها وهي تتساءل بحزن:
"هتسيبوني لوحدي يعني؟ وأسبوع كمان؟!"
لم يكن عاصم يريد أن يخبرها بإمكانية تأخره أكثر، فحاول أن يوضح لها الأمر دون أن يزيد من مخاوفها:
"قلبي، ده شغل، وانتي عارفة إنه مفيهوش دلع، ومش شغل شركات ولا فنادق، لأن ولاد عمي قايمين بالواجب هناك. إنما شغلي التاني ده... بيجي لما تكون في مهمات خطيرة."
زادت كلماتُه من قلقها أكثر، فعقدت حاجبيها وقالت بضيق واضح:
"يعني كنت عارف قبل كده، ومقولتليش إلا دلوقتي؟!"
زفر عاصم بهدوء، محاولًا امتصاص غضبها، ثم قال بصوت رزين:
"كنت عارف إن فيه مهمة قريبة، لكن امتى بالظبط؟ لسه قافل معايا من شوية، وللأسف لازم اتحرك على الفجر."
نظرت إليه سيلا بعينين تمتلئان بالخوف، ثم همست بصوت مرتجف:
"أنا خايفة عليك أوي... ما تسبنيش."
رأى في عينيها مزيجًا من الحب والقلق، فأمسك وجهها بين يديه برفق، ونظر في عينيها مباشرة، ثم ابتسم بحنان وهمس:
"عمري ما هسيبك، يا سولي... انتي محفورة هنا." أشار إلى قلبه وتابع: "وده بينبض بيكي."
ابتسمت رغم قلقها، واندفعت لتعانقه بقوة، وكأنها تحاول أن تحفر حضنه في ذاكرتها قبل أن يغيب عنها. تمتمت بخفوت:
"تروح وترجعلي بألف سلامة يا رب."
ربت على ظهرها بحنان، ثم قال ممازحًا وهو يمرر أصابعه في شعرها:
"أول ما نرجع، هيكون معتز ومي رجعوا، وساعتها هنفّذ وعدي ليكي."
رفعت وجهها إليه بابتسامة صغيرة وهمست:
"يا رب."
بعد قليل، توجهت سيلا إلى خزانته، وأحضرت حقيبته، وبدأت بتجهيز أغراضه الشخصية ولوازم السفر. كانت تطوي ملابسه بعناية، وتضع كل شيء في مكانه وكأنها تضع جزءًا من قلبها داخل الحقيبة، ليكون معه أينما ذهب. وبينما كانت تنشغل بتجهيز أغراضه، كانت عيناها تتلألآن بدموع خفية، لكنها حاولت التماسك، متمنية أن تمر الأيام سريعًا حتى يعود إليها سالماً.
...
في منزل وليد وهمسة، كان الجو مختلفًا تمامًا…
جلس وليد على الأريكة، يراقب همسة التي كانت تتلوى بألم، تمسك بطنها بحركة غريزية وكأنها تحاول تخفيف الضغط. كان يحاول التخفيف عنها بأسلوبه المرح، فابتسم وقال بمزاح:
"تقعدي تقولي عايزة أرقص، عايزة أرقص!"
لكن همسة لم تكن في مزاج يسمح لها بتقبل المزاح. أطلقت تأوّهًا متألمًا، ثم رمقته بنظرة مرهقة، وردّت بحدّة:
"خلاص بقا يا وليد! آه، مش قادرة… البت ولا كأنها بتشوط كورة في بطني!"
نظر إليها وليد بحيرة، محاولًا أن يجد حلاً. تقدم منها قليلًا ثم قال بلطف:
"طيب ارتاحي شوية ونامي على جنبك، يمكن ترتاحي."
لكن الألم كان يزداد حدة، مما جعلها تصيح متذمرة:
"مش بترضى تنيمني، بتضربني… هاااه!"
زاد قلق وليد، وأخذ يفكر سريعًا في أي شيء يمكنه فعله ليساعدها. ثم نهض فجأة من مجلسه، وقال بحزم:
"طيب، أقوم أعملك حاجة دافية، يمكن تهدي وتعرفي تنامي."
غاب لدقائق، ثم عاد يحمل كوبًا من المشروب الساخن. تناولت همسة الكوب بيدين مرتجفتين، ارتشفت منه القليل، وشعرت بجسدها يرخو شيئًا فشيئًا، وكأن الألم بدأ يخف تدريجيًا. نظرت إلى وليد، فوجدته قد غطّ في نوم عميق بجانبها، وكأنه كان مرهقًا من القلق عليها أكثر مما كان يُظهر.
ابتسمت بحنان، وهمست بخفوت:
حبيبي.
ثم، دون أن تشعر، زحفت بهدوء حتى دفنت نفسها بين ذراعيه، وأغمضت عينيها، لتغفو أخيرًا على إيقاع أنفاسه الهادئة.
---
في مكان آخر، كانت سيلا تراقب عاصم وهو يضع حقيبته على كتفه، يستعد للرحيل. نظرت إليه بعينين ممتلئتين بالقلق، بينما هو يحاول أن يبدو قويًا أمامها، رغم أنه كان يشعر بثقل الفراق يضغط على صدره.
وقف عند الباب للحظة، استدار لينظر إليها، وكأنه يريد أن يطبع صورتها في ذاكرته قبل أن يمضي. قال بصوت دافئ لكنه حازم:
خلي بالك من نفسك، هكلمك أول ما ألاقي فرصة.
شعرت سيلا بانقباض في صدرها، لم تكن تريد أن تتركه يرحل، لكنها تعلم أن لا خيار لها سوى الانتظار. ابتلعت توترها، واقتربت منه خطوة، ثم همست بصوت مرتجف لكنه محمّل بالحب:
انت اللي خلي بالك من نفسك… وطمني برسالة أول ما توصل مكانك. بحبك أوي.
ظلت واقفة عند الباب، تتابع رحيله بنظرة مشوشة، وقلبها ينبض بالدعاء، ألا يطول الغياب، وألا تأتيها الأيام بأخبار تسرق منها حلم العودة.
لأول مرة تجد نفسها وحيدة، مسحت دموعها وظلت تدعو له بعودة قريبة. دخلت غرفتهما، لكنها لم تستطع النوم حتى وصلتها رسالة تطمئنها بوصوله بسلام.
تنفست براحة، ثم التقطت إحدى مناماته وضمتها إليها، تشتمّ رائحته وكأنه بقربها. بين أنفاسها المليئة بالشوق، غفت أخيرًا.
....
بعد مرور أسبوعين، وصل كلٌّ من مي ومعتز إلى منزلهما بعد سفر دام أربع ليال. دخلا المنزل مرهقين، فقام كل منهما بتبديل ثيابه، ثم غرقا في نومٍ عميق.
في صباح اليوم التالي، حضرت والدة مي، نبيلة، برفقة أخيها هيثم للاطمئنان عليهما، وقد جلبا معهما بعض الهدايا المناسبة لكلٍّ منهما.
جلس معتز مع هيثم في غرفة المعيشة يتحدثان قليلًا، بينما جلست نبيلة مع ابنتها وحدهما، تمسك بيدها بحنان.
نبيلة، متسائلة بلهفة: ها يا حبيبتي، مبسوطة؟ معتز كويس معاكي؟
مي، بسعادة وابتسامة مشرقة: آه يا ماما، الحمد لله، مبسوطة أوي.
نبيلة، بحب: الله أكبر، ما شاء الله، ربنا يسعدك يا رب.
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
مي، متعجبة من لهجة والدتها الجادة: إنتي بتكبّري ليه يا ماما؟ محدش غريب، إحنا لوحدنا!
نبيلة، بنبرة حكيمة: يا حبيبتي، ما يحسد المال إلا أصحابه، وإنتي مش دريانة تحسدي نفسك. لازم تقدّمي المشيئة على أي حاجة حلوة بتقوليها، حتى لو كنت بتتكلمي عني.
مي، مبتسمة لهذه الأم الحنونة: مش قوي يعني يا ماما، سيبيها على الله.
نبيلة، مؤيدة كلامها لكن بحذر: أكيد كله على الله، بس وماله نحترس برضه.
مي، مستجيبة لكلام والدتها: حاضر يا ماما.
بعد بضع ساعات، وبعدما انصرف هيثم ووالدتها، جلست مي بجوار معتز في المساء، ودار بينهما حديثٌ هادئ.
مي، متسائلة وهي تنظر إليه: هي سيلا مش هتيجي تزورنا ولا إيه؟
معتز، وهو يتكئ براحة على الأريكة: مش هتبقى لطيفة لو جت لوحدها، أكيد مستنية عاصم يرجع عشان يجوا سوا.
مي، متذكرة آخر حديث بينهما: فعلاً، عندك حق. آخر مرة كلمتها، قلتلها إني راجعة بعد أربع أيام ولازم أشوفها، حسيت صوتها كان مكسور وحزين.
معتز، بنبرة مطمئنة: هانت، عاصم المفروض يكون قرّب يوصل. هو اتأخر، كان قايل إنه هيغيب عشر أيام بس... الغايب حجته معاه.
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تتنهد مي وتتمنى في سرها أن تكون سيلا بخير، بينما أخذ معتز يفكر فيما يشغل عاصم عن العودة في موعده.
اشتاقت له كثيرًا، احتضنت هاتفها علّه يهاتفها، تخشى أن يفوتها اتصاله، لكن خاب ظنها. لم يتصل بها سوى مرة واحدة فور وصوله، ومنذ ذلك الحين لم تسمع صوته. ها هو الأسبوع الثاني يمر ولا خبر منه. قلبها يؤلمها، لم يغب عنها هكذا من قبل، تشعر بالاشتياق، بالحزن، وبالغضب أيضًا.
بينما كانت مستلقية على سريرها، سارحة في أفكارها، دلفت إليها الست فاطمة، ونظرت إليها بحنو قبل أن تقول:
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
فاطمة، بلهجة تجمع بين العتاب والقلق: وبعدها لكِ يا بنتي؟ هتفضلي حابسة نفسك كده لحد إمتى؟
اعتدلت سيلا في جلستها، نظرت إلى فاطمة ثم أردفت بصوت تغلفه نبرة حزينة:
سيلا: لحد ما يرجع يا داداه، ماليش نفس أخرج.
حاولت فاطمة أن تخرجها من عزلتها، فاقتربت منها وجلست بجوارها:
فاطمة، بلطف: طيب انزلي تحت حتى، تعالي اقفي معايا في المطبخ زي ما كنتي بتحبي. إنتي مش عارفة هيرجع إمتى، عاصم لما بيطلع مؤامرات أوقات بيغيب بالشهور، حجته معاه، ده شغل، ومش دايمًا معاه تليفون لأن مهماتهم حساسة جدًا. يعني أكيد غيابه أو عدم اتصاله فوق إرادته، مش بإيده. مش بإيدينا غير إننا ندعيله يرجع بالسلامة مجبور، وينصره على أعداء الوطن. يلا يا حبيبتي، قومي معايا، مش معقول لو جا يلاقيكي بالمنظر ده. قومي يا بنتي يلا...
جذبتها فاطمة إلى صدرها، تحتضنها بحنان، تمسح على ظهرها كأنها تهدهد ألمها، قبل أن تطبع قبلة على جبينها، محاولة تشجيعها للنهوض.
فاطمة، برقة: يلا يا قلب أمك، قومي معايا نصلي العصر، وبعدها تعالي على المطبخ اشغلي نفسك شوية. وكلمي همسة، كلمتك على الأرضي وبلغتها إنك نايمة، كلميها شوفي عاوزة إيه.
تنهدت سيلا، ورغم ثقل حزنها، لم ترد أن تخذل فاطمة، فتمتمت:
سيلا: حاضر، هنزل وراكي.
حين نهضت فاطمة، أمسكت يد سيلا بين يديها وضغطت عليها بحب:
سيلا، بعاطفة: ما تحرمش منك أبدًا يا داداه، إنتي بجد نعمة الأم، ربنا يبارك لك في أولادك.
وضعت فاطمة كفها الحنون على رأسها، تمسح عليها بحب، قبل أن ترد بابتسامة دافئة: وإنتي بنتي كمان، وربنا العالم بحبك قد إيه، وانتي وعاصم زي أولادي بالظبط...
ربتت على وجنتها بحنان، ثم قالت وهي تتجه للخارج:
فاطمة: يلا، البسي وهستناكي تحت.
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
خرجت فاطمة وتركتها وحيدة. تنهدت سيلا، واستغفرت ربها، داعية بصوت خافت أن ييسر أمور عاصم ويحفظه من كل شر.
سيلا، هامسة بدعاء صادق: يا رب يرجعلي بالسلامة، وتحميه من كل شر.
نهضت، غسلت وجهها، توضأت، وأدت صلاتها. وفي سجودها، أطلقت دعواتها بحرقة، تطلب من الله أن يحفظه لها.
بعد قليل، اتجهت إلى المطبخ، محاولة إشغال نفسها. وقفت أمام الطاولة تقطع البطاطس، غارقة في أفكارها، حتى تفاجأت بيدٍ تلتف حول خصرها من الخلف ووو
....
وقفت مي في المطبخ تغني بسعادة، تدندن بحماس وهي تحضّر الغداء لأول مرة بمفردها. رفضت تمامًا أن يطلب معتز الطعام من الخارج، وأصرت بعينين متألقتين بالحماس:
مي، بحماس: لا لا، أكل بره؟ أنا زهقت منه! كفاية، النهارده هعملك الغداء من صنع إيديا.
وفي طريقها إلى المطبخ، همست لنفسها بطفولة ومرح، كأنها تخطط لمغامرة سرية:
مي، هامسة لنفسها بمكر: ياااه، أخيرًا جاتلي فرصة أدخل المطبخ وأعيش حياتي من غير ما حد يضايقني! هاجرب فيه براحتى، شريرة أنا! دا انت هتدوق مني أكل تحلف بحياتك ما تذوقت زيه! أحـم... ولا هيدوق أصلاً!
بدأت في الطهي، تقطع الخضروات بحب، تقلب في الإناء على النار، وابتسامة رضا ترتسم على وجهها، مستمتعة بلحظتها الخاصة.
في الخارج، جلس معتز على الأريكة، يقلب في قنوات التلفاز بلا تركيز حتى رن هاتفه، فرفع السماعة ورد قائلًا:
معتز، بلهجة قلقة: حمد الله على السلامة! اتأخرت ليه كده؟ كلنا قلقنا عليك.
استمع للطرف الآخر، ثم رد بارتياح:
معتز: تمام، الحمد لله، ربنا يوفقك. طيب، مكلمتنيش ليه المدة دي كلها؟
انتظر الرد، ثم أضاف مبتسمًا:
معتز: آه آه، يلا الحمد لله إنك جيت بالسلامة. كويس، روّحت ولا لسه؟ سيلا كانت هتجنن عليك! يلا يا عم، سيبك بقى، سلام.
أغلق الهاتف ونهض ببطء، ثم تسلل بخفة نحو المطبخ، حيث وجد مي منهمكة في تحضير الطعام، تقطع بعض الخضروات، وتقلب إناء الماء على النار. جلس على أحد المقاعد، مربعًا ذراعيه، وحرك رأسه للأعلى مستنشقا الروائح الشهية قبل أن يقول بمزاح:
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
معتز، مدعيًا الانبهار: امممم... إيه الروائح الجامدة دي؟! أنا متجوز شيف يا ناس! ها ها! دوقينا، إيه هدوقينا ايه النهارده؟
التفتت له مي بسرعة، وهي ترتدي مريولة المطبخ، تمسك بملعقة خشبية، وشعرها مربوط من الأمام ببندانة صغيرة. أشارت له بالمعلقة بتهديد خفيف وهي ترد بحزم مصطنع:
: امممم، بص بقى، مش بحب حد يقعد يتفرج عليا وأنا شغالة! ماشي؟ خد بعضك واطلع نام، وأنا أخلص وأجيلك أصحيك.
معتز، رافعًا يديه مستسلمًا: خلاص خلاص، مكنش سؤال، كنت بس بستفسر عن نوع الأكلة! مش عاوز أعرف، خليها مفاجأة أحسن...
نطقها وهو ينهض متجهًا لغرفته، تاركًا مي تبتسم بانتصار.
عادت إلى الطهي بحماس، ثم أخذت الملعقة الخشبية لتقلب الأرز في الإناء، لكن ما إن نظرت داخله حتى شهقت بفزع، عيناها اتسعتا بصدمة:
: إيه ده؟!!
لم يكن ما في الإناء أرزًا... بل...!
....
بينما كانت سيلا منشغلة بتقطيع أصابع البطاطس، تفاجأت بأنفاس دافئة تلامس جانب أذنها، ثم قبلة رقيقة على وجنتها وذراعان قويتان تحتضنانها من الخلف. سمعت صوته العميق يهمس بصوت دافئ: وحشتيني... وحشتيني أوي.
تجمدت لثوانٍ، غير مصدقة، ثم استدارت بسرعة وجذبته نحوها، تعانقه بقوة وتقبّله بلهفة وشوق
سيلا، بفرحة واشتياق: عاصم! حبيبي... وحشتني أوي، أوي!
ابتعدت قليلًا، تتفحص وجهه بعيون مذهولة، ثم ارتمت في أحضانه مرة أخرى وكأنها تحاول استيعاب وجوده أمامها. لم تترك السكين بعد، وقلبها ينبض بشدة وهي تلومه بعفوية:
سيلا، بملامح حزينة وعتاب دافئ: كده؟ أهون عليك تبعد عني كل ده؟
عاصم، وهو يقبلها بحنان ويضمها بقوة، بينما تتحرك يده على ظهرها ليهدئها: حقك عليا... غصب عني، والله.
استمتعت بأحضانه للحظات، ثم ابتعدت قليلًا، والشرر يتطاير من عينيها، تريد محاسبته على غيابه. أشارت إليه بالسكين التي لا تزال تمسك بها، تحركها أمامه بتهديد طفولي، وهي تتقدم للأمام بينما هو ينظر للسكين بيدها ويتراجع مبتسمًا
سيلا، بغضب: يعني مكنش فيه ولا مكالمة؟ ولا حتى رسالة؟ مرة واحدة بس، وكانت أقل من دقيقة كمان؟!
عاصم، يبتسم بحب ويحاول تهدئتها: اهدي بس، وهاتي السلاح ده الأول نتفاهم.
وانصهر الجليد
لكنها لم تنتبه لكلامه وتابعت تقدّمها نحوه، غير مدركة أنها ما زالت تمسك بالسكين.
سيلا، بعناد: مش عايزة أفهم حاجة! إزاي تنساني كل ده؟!
باغتها عاصم، فجذب يدها وأسقط السكين من قبضتها، فنظرت إلى السكين على الأرض بذهول، وقبل أن تتمكن من التحدث، غافلها بقبلة طويلة على شفتيها، تعبر عن اشتياقه العميق لها. انسجما في لحظة خاصة أخذتهما لعالم آخر، حتى ابتعد عنها قليلًا ليلتقط أنفاسه، ثم حملها بين ذراعيه واتجه بها إلى غرفتهما، حيث وضعها برفق على الفراش واستلقى بجانبها.
اعتدلت سيلا جالسة، تنظر إليه بخجل، بينما تمط شفتيها للأمام كالأطفال، بصوت ناعم: وحشتني أوي... وزعلانة منك أوي، أوي.
عاصم، بحب: مقدرش على زعل حبيبتي أبدًا.
ضمّها إلى صدره، دافئًا إياها بحنانه، ثم قال بنبرة جادة: والله أول مرة كلمتك كانت قبل ما نتحرك للموقع، وكنا في الصحراء. ما كانش مع حد فينا تليفونات، وحتى لو كان معانا، ما كانش فيه شبكة أصلاً. كنا بنستخدم اللاسلكي، وده بين القوات بس. والله ما كان بإيدي، كان لازم ألتزم بالشغل.
رفعت رأسها له، وعيناها تلمعان بشوق: ما تغيبش عني تاني... اليوم طويل من غيرك، مش أسبوعين، عدّوا عليّا سنة!
عاصم، بابتسامة مطمئنة: المهم إني جنبك دلوقتي، وإنتي في حضني... خليني أشبع منك شوية.
لكنها تملصت من بين ذراعيه ونهضت بسرعة، فنظر لها بدهشة ومزاح: هو ده "وحشتني" اللي كنت مستنيها منك؟! ولا إيه؟ تعالي هنا يا بت...
أطلقت سيلا ضحكة عالية، كأن روحها ردّت إليها بوجوده بجانبها، ثم ابتعدت وهي تقول بمكر، ضاحكة: احممم... خد شاور وارتاح شوية، وأنا هجهز لك الغدا. إيه؟ ما أكيد وحشك أكلي ولا إيه؟
عاصم، مبتسمًا: واحشني أوي يا سولي...
بعدما أخذ حمامًا دافئًا، خلد إلى النوم من شدة إرهاقه. وعندما حل المساء، استيقظ متثائبًا، ناظرًا إلى ساعته، بدهشة: ياااه! كل ده نوم؟!
تمطى قليلًا، ثم دلف إلى الحمام ليغسل وجهه ويفيق، قبل أن ينزل إلى الطابق السفلي، حيث وجد سيلا تشاهد التلفاز. جلس بجانبها، وطبع قبلة على رأسها بلطف:
سيبتيني نايم كل ده؟ مصحتنيش ليه؟
سيلا، مبتسمة: قلت أسيبك تصحى لوحدك، تاخد كفايتك من النوم. جعان؟
عاصم، متطلعًا إليها بحب: ميت من الجوع.
نهضت بسرعة وهي تقول بحماس:
سيلا: ثواني، والأكل يكون جاهز.
لكنه أمسك يدها فجأة، وأوقعها عليه هامسًا في أذنها بصوت خافت مشحون بالمشاعر: اممم... جعان، بس لحاجة تانية.
احمرّ وجهها خجلًا، واستطاعت أن تفك حصاره، ثم نهضت تعدل من هيأتها المبعثرة، مرددة بارتباك:
احم... انت قليل الأدب! أنا كنت بقول أقوم أسخن الأكل، لحسن يبرد...
عاصم، رافعًا حاجبيه مازحًا، ثم أطلق ضحكة عالية: اممم، والله؟ طيب، على فكرة بقى، أنا كنت قصدي إني جعان لحاجة تانية... كنت عايز "حلويات"! مش اللي في دماغك الشمال دي! مش زيك، دماغك سِم!
ضحكت سيلا بمرح، وهي تهرب منه إلى المطبخ، بينما هو ينظر إليها بابتسامة، سعيدا أخيرًا بعودته إليها.
"حبيبتي، ده شغل والله. عندي مهمة هحاول أنجزها بسرعة. أنتي عارفة إننا أجّلنا سفرنا للعمرة، وخليت معتز يطلع شهر العسل الأول، وعقبال ما أرجع، نطلع كلنا سوا، رحلة واحدة."
لم يبدُ أن كلماته قد خففت من قلقها، بل زاد اضطرابها وهي تتساءل بحزن:
"هتسيبوني لوحدي يعني؟ وأسبوع كمان؟!"
لم يكن عاصم يريد أن يخبرها بإمكانية تأخره أكثر، فحاول أن يوضح لها الأمر دون أن يزيد من مخاوفها:
"قلبي، ده شغل، وانتي عارفة إنه مفيهوش دلع، ومش شغل شركات ولا فنادق، لأن ولاد عمي قايمين بالواجب هناك. إنما شغلي التاني ده... بيجي لما تكون في مهمات خطيرة."
زادت كلماتُه من قلقها أكثر، فعقدت حاجبيها وقالت بضيق واضح:
"يعني كنت عارف قبل كده، ومقولتليش إلا دلوقتي؟!"
زفر عاصم بهدوء، محاولًا امتصاص غضبها، ثم قال بصوت رزين:
"كنت عارف إن فيه مهمة قريبة، لكن امتى بالظبط؟ لسه قافل معايا من شوية، وللأسف لازم اتحرك على الفجر."
نظرت إليه سيلا بعينين تمتلئان بالخوف، ثم همست بصوت مرتجف:
"أنا خايفة عليك أوي... ما تسبنيش."
رأى في عينيها مزيجًا من الحب والقلق، فأمسك وجهها بين يديه برفق، ونظر في عينيها مباشرة، ثم ابتسم بحنان وهمس:
"عمري ما هسيبك، يا سولي... انتي محفورة هنا." أشار إلى قلبه وتابع: "وده بينبض بيكي."
ابتسمت رغم قلقها، واندفعت لتعانقه بقوة، وكأنها تحاول أن تحفر حضنه في ذاكرتها قبل أن يغيب عنها. تمتمت بخفوت:
"تروح وترجعلي بألف سلامة يا رب."
ربت على ظهرها بحنان، ثم قال ممازحًا وهو يمرر أصابعه في شعرها:
"أول ما نرجع، هيكون معتز ومي رجعوا، وساعتها هنفّذ وعدي ليكي."
رفعت وجهها إليه بابتسامة صغيرة وهمست:
"يا رب."
بعد قليل، توجهت سيلا إلى خزانته، وأحضرت حقيبته، وبدأت بتجهيز أغراضه الشخصية ولوازم السفر. كانت تطوي ملابسه بعناية، وتضع كل شيء في مكانه وكأنها تضع جزءًا من قلبها داخل الحقيبة، ليكون معه أينما ذهب. وبينما كانت تنشغل بتجهيز أغراضه، كانت عيناها تتلألآن بدموع خفية، لكنها حاولت التماسك، متمنية أن تمر الأيام سريعًا حتى يعود إليها سالماً.
...
في منزل وليد وهمسة، كان الجو مختلفًا تمامًا…
جلس وليد على الأريكة، يراقب همسة التي كانت تتلوى بألم، تمسك بطنها بحركة غريزية وكأنها تحاول تخفيف الضغط. كان يحاول التخفيف عنها بأسلوبه المرح، فابتسم وقال بمزاح:
"تقعدي تقولي عايزة أرقص، عايزة أرقص!"
لكن همسة لم تكن في مزاج يسمح لها بتقبل المزاح. أطلقت تأوّهًا متألمًا، ثم رمقته بنظرة مرهقة، وردّت بحدّة:
"خلاص بقا يا وليد! آه، مش قادرة… البت ولا كأنها بتشوط كورة في بطني!"
نظر إليها وليد بحيرة، محاولًا أن يجد حلاً. تقدم منها قليلًا ثم قال بلطف:
"طيب ارتاحي شوية ونامي على جنبك، يمكن ترتاحي."
لكن الألم كان يزداد حدة، مما جعلها تصيح متذمرة:
"مش بترضى تنيمني، بتضربني… هاااه!"
زاد قلق وليد، وأخذ يفكر سريعًا في أي شيء يمكنه فعله ليساعدها. ثم نهض فجأة من مجلسه، وقال بحزم:
"طيب، أقوم أعملك حاجة دافية، يمكن تهدي وتعرفي تنامي."
غاب لدقائق، ثم عاد يحمل كوبًا من المشروب الساخن. تناولت همسة الكوب بيدين مرتجفتين، ارتشفت منه القليل، وشعرت بجسدها يرخو شيئًا فشيئًا، وكأن الألم بدأ يخف تدريجيًا. نظرت إلى وليد، فوجدته قد غطّ في نوم عميق بجانبها، وكأنه كان مرهقًا من القلق عليها أكثر مما كان يُظهر.
ابتسمت بحنان، وهمست بخفوت:
حبيبي.
ثم، دون أن تشعر، زحفت بهدوء حتى دفنت نفسها بين ذراعيه، وأغمضت عينيها، لتغفو أخيرًا على إيقاع أنفاسه الهادئة.
---
في مكان آخر، كانت سيلا تراقب عاصم وهو يضع حقيبته على كتفه، يستعد للرحيل. نظرت إليه بعينين ممتلئتين بالقلق، بينما هو يحاول أن يبدو قويًا أمامها، رغم أنه كان يشعر بثقل الفراق يضغط على صدره.
وقف عند الباب للحظة، استدار لينظر إليها، وكأنه يريد أن يطبع صورتها في ذاكرته قبل أن يمضي. قال بصوت دافئ لكنه حازم:
خلي بالك من نفسك، هكلمك أول ما ألاقي فرصة.
شعرت سيلا بانقباض في صدرها، لم تكن تريد أن تتركه يرحل، لكنها تعلم أن لا خيار لها سوى الانتظار. ابتلعت توترها، واقتربت منه خطوة، ثم همست بصوت مرتجف لكنه محمّل بالحب:
انت اللي خلي بالك من نفسك… وطمني برسالة أول ما توصل مكانك. بحبك أوي.
ظلت واقفة عند الباب، تتابع رحيله بنظرة مشوشة، وقلبها ينبض بالدعاء، ألا يطول الغياب، وألا تأتيها الأيام بأخبار تسرق منها حلم العودة.
لأول مرة تجد نفسها وحيدة، مسحت دموعها وظلت تدعو له بعودة قريبة. دخلت غرفتهما، لكنها لم تستطع النوم حتى وصلتها رسالة تطمئنها بوصوله بسلام.
تنفست براحة، ثم التقطت إحدى مناماته وضمتها إليها، تشتمّ رائحته وكأنه بقربها. بين أنفاسها المليئة بالشوق، غفت أخيرًا.
....
بعد مرور أسبوعين، وصل كلٌّ من مي ومعتز إلى منزلهما بعد سفر دام أربع ليال. دخلا المنزل مرهقين، فقام كل منهما بتبديل ثيابه، ثم غرقا في نومٍ عميق.
في صباح اليوم التالي، حضرت والدة مي، نبيلة، برفقة أخيها هيثم للاطمئنان عليهما، وقد جلبا معهما بعض الهدايا المناسبة لكلٍّ منهما.
جلس معتز مع هيثم في غرفة المعيشة يتحدثان قليلًا، بينما جلست نبيلة مع ابنتها وحدهما، تمسك بيدها بحنان.
نبيلة، متسائلة بلهفة: ها يا حبيبتي، مبسوطة؟ معتز كويس معاكي؟
مي، بسعادة وابتسامة مشرقة: آه يا ماما، الحمد لله، مبسوطة أوي.
نبيلة، بحب: الله أكبر، ما شاء الله، ربنا يسعدك يا رب.
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
مي، متعجبة من لهجة والدتها الجادة: إنتي بتكبّري ليه يا ماما؟ محدش غريب، إحنا لوحدنا!
نبيلة، بنبرة حكيمة: يا حبيبتي، ما يحسد المال إلا أصحابه، وإنتي مش دريانة تحسدي نفسك. لازم تقدّمي المشيئة على أي حاجة حلوة بتقوليها، حتى لو كنت بتتكلمي عني.
مي، مبتسمة لهذه الأم الحنونة: مش قوي يعني يا ماما، سيبيها على الله.
نبيلة، مؤيدة كلامها لكن بحذر: أكيد كله على الله، بس وماله نحترس برضه.
مي، مستجيبة لكلام والدتها: حاضر يا ماما.
بعد بضع ساعات، وبعدما انصرف هيثم ووالدتها، جلست مي بجوار معتز في المساء، ودار بينهما حديثٌ هادئ.
مي، متسائلة وهي تنظر إليه: هي سيلا مش هتيجي تزورنا ولا إيه؟
معتز، وهو يتكئ براحة على الأريكة: مش هتبقى لطيفة لو جت لوحدها، أكيد مستنية عاصم يرجع عشان يجوا سوا.
مي، متذكرة آخر حديث بينهما: فعلاً، عندك حق. آخر مرة كلمتها، قلتلها إني راجعة بعد أربع أيام ولازم أشوفها، حسيت صوتها كان مكسور وحزين.
معتز، بنبرة مطمئنة: هانت، عاصم المفروض يكون قرّب يوصل. هو اتأخر، كان قايل إنه هيغيب عشر أيام بس... الغايب حجته معاه.
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تتنهد مي وتتمنى في سرها أن تكون سيلا بخير، بينما أخذ معتز يفكر فيما يشغل عاصم عن العودة في موعده.
اشتاقت له كثيرًا، احتضنت هاتفها علّه يهاتفها، تخشى أن يفوتها اتصاله، لكن خاب ظنها. لم يتصل بها سوى مرة واحدة فور وصوله، ومنذ ذلك الحين لم تسمع صوته. ها هو الأسبوع الثاني يمر ولا خبر منه. قلبها يؤلمها، لم يغب عنها هكذا من قبل، تشعر بالاشتياق، بالحزن، وبالغضب أيضًا.
بينما كانت مستلقية على سريرها، سارحة في أفكارها، دلفت إليها الست فاطمة، ونظرت إليها بحنو قبل أن تقول:
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
فاطمة، بلهجة تجمع بين العتاب والقلق: وبعدها لكِ يا بنتي؟ هتفضلي حابسة نفسك كده لحد إمتى؟
اعتدلت سيلا في جلستها، نظرت إلى فاطمة ثم أردفت بصوت تغلفه نبرة حزينة:
سيلا: لحد ما يرجع يا داداه، ماليش نفس أخرج.
حاولت فاطمة أن تخرجها من عزلتها، فاقتربت منها وجلست بجوارها:
فاطمة، بلطف: طيب انزلي تحت حتى، تعالي اقفي معايا في المطبخ زي ما كنتي بتحبي. إنتي مش عارفة هيرجع إمتى، عاصم لما بيطلع مؤامرات أوقات بيغيب بالشهور، حجته معاه، ده شغل، ومش دايمًا معاه تليفون لأن مهماتهم حساسة جدًا. يعني أكيد غيابه أو عدم اتصاله فوق إرادته، مش بإيده. مش بإيدينا غير إننا ندعيله يرجع بالسلامة مجبور، وينصره على أعداء الوطن. يلا يا حبيبتي، قومي معايا، مش معقول لو جا يلاقيكي بالمنظر ده. قومي يا بنتي يلا...
جذبتها فاطمة إلى صدرها، تحتضنها بحنان، تمسح على ظهرها كأنها تهدهد ألمها، قبل أن تطبع قبلة على جبينها، محاولة تشجيعها للنهوض.
فاطمة، برقة: يلا يا قلب أمك، قومي معايا نصلي العصر، وبعدها تعالي على المطبخ اشغلي نفسك شوية. وكلمي همسة، كلمتك على الأرضي وبلغتها إنك نايمة، كلميها شوفي عاوزة إيه.
تنهدت سيلا، ورغم ثقل حزنها، لم ترد أن تخذل فاطمة، فتمتمت:
سيلا: حاضر، هنزل وراكي.
حين نهضت فاطمة، أمسكت يد سيلا بين يديها وضغطت عليها بحب:
سيلا، بعاطفة: ما تحرمش منك أبدًا يا داداه، إنتي بجد نعمة الأم، ربنا يبارك لك في أولادك.
وضعت فاطمة كفها الحنون على رأسها، تمسح عليها بحب، قبل أن ترد بابتسامة دافئة: وإنتي بنتي كمان، وربنا العالم بحبك قد إيه، وانتي وعاصم زي أولادي بالظبط...
ربتت على وجنتها بحنان، ثم قالت وهي تتجه للخارج:
فاطمة: يلا، البسي وهستناكي تحت.
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
خرجت فاطمة وتركتها وحيدة. تنهدت سيلا، واستغفرت ربها، داعية بصوت خافت أن ييسر أمور عاصم ويحفظه من كل شر.
سيلا، هامسة بدعاء صادق: يا رب يرجعلي بالسلامة، وتحميه من كل شر.
نهضت، غسلت وجهها، توضأت، وأدت صلاتها. وفي سجودها، أطلقت دعواتها بحرقة، تطلب من الله أن يحفظه لها.
بعد قليل، اتجهت إلى المطبخ، محاولة إشغال نفسها. وقفت أمام الطاولة تقطع البطاطس، غارقة في أفكارها، حتى تفاجأت بيدٍ تلتف حول خصرها من الخلف ووو
....
وقفت مي في المطبخ تغني بسعادة، تدندن بحماس وهي تحضّر الغداء لأول مرة بمفردها. رفضت تمامًا أن يطلب معتز الطعام من الخارج، وأصرت بعينين متألقتين بالحماس:
مي، بحماس: لا لا، أكل بره؟ أنا زهقت منه! كفاية، النهارده هعملك الغداء من صنع إيديا.
وفي طريقها إلى المطبخ، همست لنفسها بطفولة ومرح، كأنها تخطط لمغامرة سرية:
مي، هامسة لنفسها بمكر: ياااه، أخيرًا جاتلي فرصة أدخل المطبخ وأعيش حياتي من غير ما حد يضايقني! هاجرب فيه براحتى، شريرة أنا! دا انت هتدوق مني أكل تحلف بحياتك ما تذوقت زيه! أحـم... ولا هيدوق أصلاً!
بدأت في الطهي، تقطع الخضروات بحب، تقلب في الإناء على النار، وابتسامة رضا ترتسم على وجهها، مستمتعة بلحظتها الخاصة.
في الخارج، جلس معتز على الأريكة، يقلب في قنوات التلفاز بلا تركيز حتى رن هاتفه، فرفع السماعة ورد قائلًا:
معتز، بلهجة قلقة: حمد الله على السلامة! اتأخرت ليه كده؟ كلنا قلقنا عليك.
استمع للطرف الآخر، ثم رد بارتياح:
معتز: تمام، الحمد لله، ربنا يوفقك. طيب، مكلمتنيش ليه المدة دي كلها؟
انتظر الرد، ثم أضاف مبتسمًا:
معتز: آه آه، يلا الحمد لله إنك جيت بالسلامة. كويس، روّحت ولا لسه؟ سيلا كانت هتجنن عليك! يلا يا عم، سيبك بقى، سلام.
أغلق الهاتف ونهض ببطء، ثم تسلل بخفة نحو المطبخ، حيث وجد مي منهمكة في تحضير الطعام، تقطع بعض الخضروات، وتقلب إناء الماء على النار. جلس على أحد المقاعد، مربعًا ذراعيه، وحرك رأسه للأعلى مستنشقا الروائح الشهية قبل أن يقول بمزاح:
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
معتز، مدعيًا الانبهار: امممم... إيه الروائح الجامدة دي؟! أنا متجوز شيف يا ناس! ها ها! دوقينا، إيه هدوقينا ايه النهارده؟
التفتت له مي بسرعة، وهي ترتدي مريولة المطبخ، تمسك بملعقة خشبية، وشعرها مربوط من الأمام ببندانة صغيرة. أشارت له بالمعلقة بتهديد خفيف وهي ترد بحزم مصطنع:
: امممم، بص بقى، مش بحب حد يقعد يتفرج عليا وأنا شغالة! ماشي؟ خد بعضك واطلع نام، وأنا أخلص وأجيلك أصحيك.
معتز، رافعًا يديه مستسلمًا: خلاص خلاص، مكنش سؤال، كنت بس بستفسر عن نوع الأكلة! مش عاوز أعرف، خليها مفاجأة أحسن...
نطقها وهو ينهض متجهًا لغرفته، تاركًا مي تبتسم بانتصار.
عادت إلى الطهي بحماس، ثم أخذت الملعقة الخشبية لتقلب الأرز في الإناء، لكن ما إن نظرت داخله حتى شهقت بفزع، عيناها اتسعتا بصدمة:
: إيه ده؟!!
لم يكن ما في الإناء أرزًا... بل...!
....
بينما كانت سيلا منشغلة بتقطيع أصابع البطاطس، تفاجأت بأنفاس دافئة تلامس جانب أذنها، ثم قبلة رقيقة على وجنتها وذراعان قويتان تحتضنانها من الخلف. سمعت صوته العميق يهمس بصوت دافئ: وحشتيني... وحشتيني أوي.
تجمدت لثوانٍ، غير مصدقة، ثم استدارت بسرعة وجذبته نحوها، تعانقه بقوة وتقبّله بلهفة وشوق
سيلا، بفرحة واشتياق: عاصم! حبيبي... وحشتني أوي، أوي!
ابتعدت قليلًا، تتفحص وجهه بعيون مذهولة، ثم ارتمت في أحضانه مرة أخرى وكأنها تحاول استيعاب وجوده أمامها. لم تترك السكين بعد، وقلبها ينبض بشدة وهي تلومه بعفوية:
سيلا، بملامح حزينة وعتاب دافئ: كده؟ أهون عليك تبعد عني كل ده؟
عاصم، وهو يقبلها بحنان ويضمها بقوة، بينما تتحرك يده على ظهرها ليهدئها: حقك عليا... غصب عني، والله.
استمتعت بأحضانه للحظات، ثم ابتعدت قليلًا، والشرر يتطاير من عينيها، تريد محاسبته على غيابه. أشارت إليه بالسكين التي لا تزال تمسك بها، تحركها أمامه بتهديد طفولي، وهي تتقدم للأمام بينما هو ينظر للسكين بيدها ويتراجع مبتسمًا
سيلا، بغضب: يعني مكنش فيه ولا مكالمة؟ ولا حتى رسالة؟ مرة واحدة بس، وكانت أقل من دقيقة كمان؟!
عاصم، يبتسم بحب ويحاول تهدئتها: اهدي بس، وهاتي السلاح ده الأول نتفاهم.
وانصهر الجليد
لكنها لم تنتبه لكلامه وتابعت تقدّمها نحوه، غير مدركة أنها ما زالت تمسك بالسكين.
سيلا، بعناد: مش عايزة أفهم حاجة! إزاي تنساني كل ده؟!
باغتها عاصم، فجذب يدها وأسقط السكين من قبضتها، فنظرت إلى السكين على الأرض بذهول، وقبل أن تتمكن من التحدث، غافلها بقبلة طويلة على شفتيها، تعبر عن اشتياقه العميق لها. انسجما في لحظة خاصة أخذتهما لعالم آخر، حتى ابتعد عنها قليلًا ليلتقط أنفاسه، ثم حملها بين ذراعيه واتجه بها إلى غرفتهما، حيث وضعها برفق على الفراش واستلقى بجانبها.
اعتدلت سيلا جالسة، تنظر إليه بخجل، بينما تمط شفتيها للأمام كالأطفال، بصوت ناعم: وحشتني أوي... وزعلانة منك أوي، أوي.
عاصم، بحب: مقدرش على زعل حبيبتي أبدًا.
ضمّها إلى صدره، دافئًا إياها بحنانه، ثم قال بنبرة جادة: والله أول مرة كلمتك كانت قبل ما نتحرك للموقع، وكنا في الصحراء. ما كانش مع حد فينا تليفونات، وحتى لو كان معانا، ما كانش فيه شبكة أصلاً. كنا بنستخدم اللاسلكي، وده بين القوات بس. والله ما كان بإيدي، كان لازم ألتزم بالشغل.
رفعت رأسها له، وعيناها تلمعان بشوق: ما تغيبش عني تاني... اليوم طويل من غيرك، مش أسبوعين، عدّوا عليّا سنة!
عاصم، بابتسامة مطمئنة: المهم إني جنبك دلوقتي، وإنتي في حضني... خليني أشبع منك شوية.
لكنها تملصت من بين ذراعيه ونهضت بسرعة، فنظر لها بدهشة ومزاح: هو ده "وحشتني" اللي كنت مستنيها منك؟! ولا إيه؟ تعالي هنا يا بت...
أطلقت سيلا ضحكة عالية، كأن روحها ردّت إليها بوجوده بجانبها، ثم ابتعدت وهي تقول بمكر، ضاحكة: احممم... خد شاور وارتاح شوية، وأنا هجهز لك الغدا. إيه؟ ما أكيد وحشك أكلي ولا إيه؟
عاصم، مبتسمًا: واحشني أوي يا سولي...
بعدما أخذ حمامًا دافئًا، خلد إلى النوم من شدة إرهاقه. وعندما حل المساء، استيقظ متثائبًا، ناظرًا إلى ساعته، بدهشة: ياااه! كل ده نوم؟!
تمطى قليلًا، ثم دلف إلى الحمام ليغسل وجهه ويفيق، قبل أن ينزل إلى الطابق السفلي، حيث وجد سيلا تشاهد التلفاز. جلس بجانبها، وطبع قبلة على رأسها بلطف:
سيبتيني نايم كل ده؟ مصحتنيش ليه؟
سيلا، مبتسمة: قلت أسيبك تصحى لوحدك، تاخد كفايتك من النوم. جعان؟
عاصم، متطلعًا إليها بحب: ميت من الجوع.
نهضت بسرعة وهي تقول بحماس:
سيلا: ثواني، والأكل يكون جاهز.
لكنه أمسك يدها فجأة، وأوقعها عليه هامسًا في أذنها بصوت خافت مشحون بالمشاعر: اممم... جعان، بس لحاجة تانية.
احمرّ وجهها خجلًا، واستطاعت أن تفك حصاره، ثم نهضت تعدل من هيأتها المبعثرة، مرددة بارتباك:
احم... انت قليل الأدب! أنا كنت بقول أقوم أسخن الأكل، لحسن يبرد...
عاصم، رافعًا حاجبيه مازحًا، ثم أطلق ضحكة عالية: اممم، والله؟ طيب، على فكرة بقى، أنا كنت قصدي إني جعان لحاجة تانية... كنت عايز "حلويات"! مش اللي في دماغك الشمال دي! مش زيك، دماغك سِم!
ضحكت سيلا بمرح، وهي تهرب منه إلى المطبخ، بينما هو ينظر إليها بابتسامة، سعيدا أخيرًا بعودته إليها.
الجزء الثالث من هنا