رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم شروق مصطفي
غادرت فاطمة لتحضير الإفطار، وبعد وقت قصير دخلت سيلا المطبخ، وبدأت بالتجهيز بمساعدتها. مضت الساعة سريعا وهما تعملان معا بتناغم، حتى انتهيتا من تحضير الطعام. مسحت سيلا العرق المتناثر على جبينها بكفها، ثم زفرت بارتياح وهي تهتف:
"خلاص يا دادة، سيبيهم في الفرن وخدي بالكِ منهم، هطلع أخد شاور وأغير هدومي وأنزل أعمل السلطة."
لكن فاطمة نظرت إليها بحزم قائلة:
"خلاص، هعملها أنا، دي مفيهاش حاجة. اطلعي إنتِ ريحي."
لكن سيلا هزت رأسها بإصرار:
"لا يا دادة، أنا هعملها، بس أغير وأنزل على طول."
تنهدت فاطمة برضا وهي تراقبها تصعد للأعلى، ثم تمتمت بدعاء صادق من قلبها:
"ربنا يبارك لكِ يا بنتي، ويسعدكِ، ويرزقكِ بالذرية الصالحة، يا رب."
هبطت سيلا مجددًا إلى الطابق السفلي، وقد استبدلت ملابسها بفستان بيتي طويل بلون السماء، ينسدل برقة حتى آخر قدميها، ويزينه شريط من الستان بدرجة أغمق قليلًا أسفل الصدر، مما أضفى عليه لمسة أنثوية ناعمة. زينت رأسها بتربون يحمل نفس لون الشريط، مما أكمل إطلالتها البسيطة والأنيقة.
ما إن وصلت إلى المطبخ، حتى جذبت هاتفها وفتحت على إحدى أغنيات نانسي عجرم، وبدأت تدندن بانسجام مع الموسيقى، تتمايل بخفة مع اللحن، مستمتعة بلحظتها الهادئة. راحت تقطع الخضروات بإيقاع متناغم مع الأغنية، حتى قطع صوت الأغنية برنين، فوجدت اسم صديقتها يضيء عليها، فالتقطت الهاتف بيد، وأمالت رأسها قليلًا إلى اليمين بينما واصلت تقطيع السلطة بيدها الأخرى.
هتفت بمرح، مازحة معها:
"مكلمتنيش ليه يا جزمة؟ طمنيني، عملتي إيه في موضوعك؟"
استمعت إلى ردها، ثم أطلقت ضحكة عالية، بينما تردف بمكر:
"شكلك م… ولا بلاش! حد قالك تهربي؟ اهو اقفشك، وأخوكِ سلمك تسليم أهالي!"
توقفت عن الضحك عندما سمعت توبيخ صديقتها على الطرف الآخر، فحاولت كتم ضحكاتها، قبل أن تقول بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة مرحة:
"خلاص، مش هضحك! سكت، وبعدين رحتي فين؟ عمل معاكي إيه؟"
فجأة، اتسعت عيناها باندهاش عندما جاءها الرد، فهتفت متفاجئة:
"إعااااااا بجد؟!! وافق؟! آه يا سوس، والله جدعة يا بنتي، عملتي اللي في دماغك برضه! بس كده أحسن، زي ما همسة قالت لكِ، بقا اتعرفوا بجد، يعني فرصة تصفوا لبعض وتبدأوا صفحة جديدة، وتختبريه برده!"
ثم باغتتها صديقتها بسؤال أربكها، فتلعثمت وهي تجيب:
"أنا وعاصم؟! مش عارفة... بس أكيد معاكوا طبعًا."
لكنها سرعان ما استردت ثقتها بنفسها، فردت بتفاخر ونبرة مفعمة بالاعتداد:
"يا بنتي، انتي مش عارفاني ولا إيه؟! لسه! دا أنا سيطرة وجامدة أوي، يعجبكِ قال مش هيوافق قال! امشي بس خليني أكمل تقطيع السلطة."
أغلقت سيلا المكالمة وهي تبتسم بسعادة، تشعر بنشوة الانتصار بعد أن نجحت في إقناع معتز بيوم الفرح. همست لنفسها بمكر، وهي تمط شفتيها للأمام بسخرية:
"قال مش هيوافق...!"
عادت تدندن وتتمايل مع الموسيقى، منسجمة تمامًا مع اللحظة، دون أن تنتبه لمن يقترب منها بخطوات خفيفة من الخلف، عيناه تتأملانها بلمعة مكر، وابتسامة شيطانية ترتسم على شفتيه.
وفجأة، باغتها بصوته القريب من أذنها:
"آية ياسيطرة...ااا!"
شهقت بحدة، جسدها انتفض من المفاجأة، وسقطت السكين من يدها على الطاولة. استدارت بسرعة لتجد عاصم يحاوطها بذراعيه من الخلف، يثبتها بينه وبين الطاولة، نظراته تملؤها الإثارة والعبث.
حاولت التملص، لكنه شدد من حصاره، ثم همس بصوت أجش، وكأنه يلتهمها بعينيه:
"هششش... آسف خضيتكِ، بس مقدرتش أقاوم إغراءكِ وأنت تتمايلي كده..."
انحنى قليلًا، مستنشقًا عبير عطرها الفواح، وكأنه يحاول طباعة أثره على أنفاسه، ثم همس بخبث قرب عنقها:
"بحبكِ يا سيطرة..."
ثم فك حصاره عنها، لكنه لم يبتعد تمامًا، ظل قريبًا منها، وعيناه تتأملانها بمكر واضح، بينما دسّ يده داخل أحد جيوب بنطاله، منتظرًا رد فعلها.
"إيه يا سيطرة؟ سكتي يعني؟!"
ابتسمت سيلا بخجل ممزوج بالعناد، لكنها لم تمنحه إجابة مباشرة، مما زاد من تحدي الموقف بينهما، في انتظار الجولة القادمة من لعبتهما الماكرة.
سيلا، بصوت أقرب للبكاء، وضعت يدها على قلبها، وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة:
"كده خضتني يا عاصم! انت جيت من إمتى؟!"
عاصم، وهو يحدق بها بنظرة محبة لم تغادرها للحظة:
"سلامة قلبك، مش قصدي والله."
لم يمنحها فرصة للابتعاد، بل ضمها إليه مرة أخرى وربّت على ظهرها بحنان، يحاول تهدئتها، وهمس بقرب أذنها:
"آسف، حقك علي، مش هتتكرر تاني..."
لكن سرعان ما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة، ثم ضحك بصوت خافت عندما تذكر حديثها أثناء المكالمة، فغمز لها قائلًا:
"الصراحة... مقدرتش أمسك نفسي وانتي بتقولي (سيطرة) وكده."
ثم مال قليلًا للأمام وهمس بمكر:
"إلا قوليلي... مي قالت لكِ على الجديد؟"
تملصت سيلا من بين ذراعيه، وابتعدت قليلًا وهي تتحدث بعفوية:
"أيوه طبعًا! ومعتز وافق، قعدت تقول مش هيوافق، وفي الآخر وافق، وهيعملوا الفرح آخر السنة."
عاصم، وهو يغمز لها بعينيه بمكر:
"ملناش دعوة بيهم، براحتهم... ولا إيه، يا سيطرة؟"
سيلا، وقد فهمت تلميحه، نظرت إليه بحذر قبل أن ترد سريعًا:
"قصدك إيه ها؟! إحنا مش متفقين إن أنا ومي نفس اليوم؟! ها، إيه بقى؟! إيه؟! إيه؟!"
بدأت تتراجع للخلف تدريجيًا، بينما كان عاصم يقترب منها بخطوات ثابتة، وعيناه تزدادان دهاء مع كل خطوة يخطوها نحوها.
عاصم، مستدرجا إياها بذكاء:
"أه طبعًا... اتفاق، بس اثبتي كده، بترجعي ليه؟!"
تظاهرت بالتماسك، لكنه استرسل في حديثه بجدية مصطنعة:
"بصراحة، هما مخطوبين، بيتعرفوا على بعض، براحتهم، عندهم سنتين كاملين! لكن إحنا؟! إحنا إيه بقى؟! ها؟!"
ظل يتقدم بخطواته بينما كانت هي تهرب منه، حتى خرجت من المطبخ وهو يتبعها، فتحدث بصوت يحمل نبرة مسيطرة:
"إحنا قولنا لما نرجع من السفر، وسبناهم أكتر من ست شهور! قلت ماشي، آخر الأسبوع، أكيد معتز هيظبط الدنيا! ماشي، آخر الشهر... فاضل أسبوعين! أروح النهارده، يقول لي خمس شهور كمان؟! يبقى ليه؟!"
ثم أردف بصوت هادئ لكنه يحمل وعيدا ماكرًا:
"تعالي... بتبعدي ليه؟! تعالي يا بت!"
ابتسم عندما رآها تهرب إلى الطابق العلوي، فأخذ يصعد خلفها بخطوات واثقة.
سيلا، وهي تركض بصوت مرتبك بين الضحك والخوف:
"لا، لا، لا، لااااا!"
عاصم، بصوت رخيم، يقترب من باب الغرفة الذي أغلقته على عجل:
"افتحي يا سيلا، عيب! متوقفنيش بره كده، يقولوا عليا إيه؟! مش انتي اللي اتفقتي معاها وبتشجعيها؟! اشربي بقى!"
سيلا، ببراءة مصطنعة، وقد تناست تمامًا تحريضها السابق:
"لااا! مش أنا، دي... دي همسة!"
عاصم، مبتسمًا خلف الباب، صوته يفيض بمكر:
"طيب، افتحي... هكلمكِ بس."
سيلا، بتحذير وهي تتأمل الباب بريبة:
"بلاش غدر ها؟! هفتح، بس خليك مؤدب!"
لكنها لم تقتنع بسهولة، فتمتمت لنفسها بحذر:
"مش مرتاحالك..."
فتحت الباب بحذر، وما إن خطا عاصم خطوة واحدة داخل الغرفة حتى ركضت سريعًا إلى الداخل، لكنه كان أسرع منها، وأغلق الباب خلفه بإحكام، ودس المفتاح في جيبه تحت نظراتها المتوترة.
سيلا، بتوتر، وهي ترى اقترابه:
"قفلت الباب ليه؟! ها؟!"
ثم قفزت على الفراش، رافعة إصبعها نحوه بإنذار:
"عيب يا عاصم! إحنا كبار على كده! هنادي على دادة على فكرة!"
عاصم، وهو يرفع حاجبه باستهزاء:
"وهي دادة اللي هتنقذك مني ؟!"
صمت قليلًا، ثم أضاف بصوت ينضح بالخبث:
"يعني تتفقوا انتي وصاحبتك، ها؟! طيب لو مسكتك..."
لم يمهلها فرصة للهرب، فحينما همت بالخروج، باغتها سريعًا، وحملها بين ذراعيه وسط قهقهته الخافتة:
"الليلة ليلتنا، يا سيطرة!"
وضعها برفق على الفراش، ثم همس لها بحنو، وهو يربت على ظهرها ليطمئنها:
"هششش... سولي، اهدي، متخافيش... أنا بحبكِ، مش هآذيكِ."
اختبأت داخل صدره من شدة الخجل، تشبثت به أكثر، فأنزل رأسه على شفتيها ينهل عليها بقبلاته الحارة، ذابت له، واستسلمت تمامًا بين ذراعيه، والتفت يداها حول عنقه، لتغوص معه في عالم آخر، حتى أصبحت له زوجة قولًا وفعلًا.
---
بعد ساعات...تململت سيلا من نومها، عندما أحست بأنفاس دافئة تلامس بشرتها، قبلات ناعمة تطوف كل شبر في وجهها، فتحت عينيها ببطء، لتجده يحدق بها بعشق، يبتسم برقة وهمس لها بصوت دافئ:
"صباحية مباركة يا عروستي."
تلونت وجنتاها بحمرة الخجل، فاندست سريعًا أسفل الغطاء، لكنه لم يترك لها فرصة، بل تسلل هو الآخر إلى أسفل الغطاء بجانبها، وقال بمكر:
"مرضتشِ تستخبي لوحدكِ؟! قولت أجي أونسك تحت الغطا كمان..."
شهقت من فعلته، ثم شدت الغطاء أكثر حول جسدها، وركضت سريعًا مبتعدة عنه، تهمس بحرج شديد:
قليل الأدب!
عاصم، بمرح، وهو يناديها ضاحكًا:
"سمعتكِ على فكرة! لما تطلعي، مااااشي!"
جلست سيلا داخل الحمام تلتقط أنفاسها، بينما تنهد هو براحة، ثم شرد قليلًا في حديث الطبيب قبل سفرهما، حينما زاره ليبلغه بعودتهما وإتمام زواجهما.
"مبارك لك الزواج، ابني. هي الآن تستطيع أن تمارس حياتها بحرية، وإتمام زواجكِ بالتأكيد، لكن... ستتأخر فقط في الإنجاب لفترة، على الأقل نظرًا لحالتها، لكن غير ذلك، فهي بصحة جيدة. التزم بهذا العلاج، مع متابعة دورية كل ثلاثة أشهر، فقط للاطمئنان."
أغمض عينيه، زفر ببطء، ثم نظر ناحية الحمام، حيث كانت هي بالداخل، وابتسم بحب وهو يهمس لنفسه:
"مهمنيش غير إنها تكون بخير... والباقي على الله."
انتبه لحركتها عند سماع صوت فتح باب الحمام، فابتسم بمكر ثم تحرك بخفة، ليختبئ بجانب الباب منتظرًا خروجها.
ما هي إلا لحظات حتى أطلت برأسها من فتحة صغيرة، تتأكد من خلو الغرفة. عندما اطمأنت أنها بمفردها، خرجت بخطوات حذرة، والمنشفة تُغطي جسدها، بينما قطرات الماء تتدلى من شعرها وتتساقط ببطء على عنقها وكتفيها، فابتلع ريقه بصعوبة وهو يراقبها، لقد أضفت عليها المياه جمالًا ساحرًا زاد من جاذبيتها.
تحركت نحو الدولاب لانتقاء ملابسها، فتبعها هو بصمت، يتقدم نحوها بخفة حتى كاد يلاصقها، وقبل أن تلتقط قطعة الملابس، شعرت بوجوده، فتجمدت في مكانها والتفتت ببطء لتجده يقف خلفها تمامًا، ينظر إليها بتسلية واضحة.
أردفت بارتباك وتوتر، وهي تحاول التظاهر بالثبات:
"أنت... لسه هنا؟!"
عاصم، وهو يشير لجسده العاري وشورت قصير، بابتسامة جانبية:
"هروح فين بذمتك بالمنظر ده؟! كنت مستنيكي تطلعي... إيه مالك يا بنتي؟! مغمضة عنيكي ليه؟!"
شهقت بخجل، وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، محاولة تجنب نظراته المتفحصة.
تمتمت بصوت خافت:
"إنت... عادي كده؟!"
ضحك بصوت منخفض، مستمتعًا بارتباكها، بينما كانت تحاول دفعه بعيدًا، تدفعه للأمام بخجل واضح، وهو يستجيب لحركتها لكن دون أن تتوقف عيناه عن مراقبة تعبيراتها المحرجة.
قالت وهي تحثه على الدخول للحمام:
"طيب يلا، يلا، أنا خلصت حمام!"
عاصم، وهو يغمز لها بمرح:
"طيب، استني بس! هروح لوحدي كده؟! طب جيبي بوسة الأول، وأنا أدخل."
سيلا، وهي تدفعه بحزم حتى وصلت به إلى باب الحمام:
"لااا! ويلا بقى!"
تظاهر بأنه استسلم ودلف للداخل، ثم أوشك على إغلاق الباب، فتنهدت براحة معتقدة أنه رحل أخيرا، لكن فجأة، فتح الباب بسرعة، فباغتها بقبلة خاطفة على وجنتها، وهمس لها بصوت دافئ:
"بحبك أوي... يا دنيتي كلها."
ثم أغلق الباب وراءه، تاركا إياها متجمدة في مكانها.
رفعت يدها تلامس وجنتها التي احمرت من أثر لمسته، ثم شقت ابتسامة صغيرة شفتيها، وهمست لنفسها بحب:
"وأنت حياتي كلها."
ثم تحركت ببطء نحو الدولاب، اختارت ملابسها، وارتدتها في هدوء، قبل أن تتجه لتجهيز مائدة الطعام، وابتسامة ناعمة لا تزال تعلو وجهها.
ـــــــــــــــــــــــــ
خلال الخمسة أشهر الماضية، كانت همسة تعيش فترة مليئة بالتغيرات، فقد تقدمت أشهر حملها، وازداد شعورها بالإرهاق، وأصبحت حركتها أكثر ثِقلاً، لكنها رغم ذلك كانت تنعم بحياة هادئة، فقد باتت تعرف طباع زوجها جيدًا وتتكيف معها. انشغلت بتجهيز كل ما يلزم لمولودها القادم، تلك الطفلة الصغيرة التي ستصبح فردًا جديدًا في العائلة، هديةً من الله، ونعمةً تستحق الشكر والحمد.
أما عن الميراث، فقد عاد لكلٍّ من سيلا وهمسة نصيبهما الشرعي بعد أن أدرك عمهما درس الحياة القاسي. فقدان ابنه الوحيد كان كافيًا ليعلّمه أن الطمع والجشع لا يدومان، وأن المال لا يعوض خسارة الأحباب. لقد وعى أخيرا أن راحة البال والرضا بالقسمة خير من كنوز الدنيا، فعاد إلى الله، طالبًا المغفرة والصفح.
حين يتوب العبد توبةً صادقة، نابعة من القلب، نادمًا على ما اقترفه، فإن الله لا يرده خائبًا.
وهكذا، بعد استخارتها الكثيرة ودعائها المستمر، شعرت مي بطمأنينة تسري في قلبها، فأيقنت أن الخير فيما كُتب لها. والأجمل من ذلك، أنها لم تكن وحدها في هذا الطريق، فقد أصبح معتز أكثر تمسكًا بالصلاة، ليس هذا فحسب، بل إنه هو من يوقظها لصلاة الفجر، بعد أن كان يتركها تتكاسل عنها.
في إحدى الليالي، وبعد يوم طويل أمضته في توضيب أغراضها استعدادًا للانتقال إلى منزلها الجديد، خلدت إلى النوم مُرهقة، لكن رنين هاتفها العالي قطع عليها نومها العميق.
أجابت بصوت متضايق، مُغمضة العينين:
"ألو... مين؟"
قهقه معتز من الجهة الأخرى:
" مين؟... تاني؟! كل ده نوم؟ فوقي كده، مش شايفة الوقت عدى إزاي!"
ردّت مي بصوت ناعس، متثائبة:
"والله يا معتز، لسه حاطة راسي ونايمة من ساعة! مكنتش خلصت شغل، تعبانة جدًا، خليني أنام شوية، بجد مش قادرة."
لكن معتز لم يمنحها فرصة للكسل، وأردف بحزم:
"طيب، صلّي الأول، وبعدين كملي نوم. انتي بتصحي بعد الظهر، والفجر هيضيع عليكي، وهتضطري تجمعي الصلوات. يلا، بلا كسل! هعدّي عليكي العصر نكمل نقل الحاجات، هقفل دلوقتي، فوقي بقى! سلام."
أطلقت تنهيدة مُحبطة، لكنها في النهاية نهضت بكسل، تثاءبت، استعاذت بالله من الكسل، ثم دلفت إلى الحمام للوضوء، وبعدها أدّت صلاتها، ورفعت يدها بالدعاء أن يُيسر الله لها حياتها القادمة. ثم عادت إلى فراشها، وسرعان ما غرقت في النوم مرة أخرى.
— استيقظت مي على صوت هاتفها مرة أخرى، وهذه المرة، كانت المتصلة سيلا.
ردّت مي بصوت ناعس:
"صباح الورد، حبيبتي."
أجابت سيلا بحماس:
"صباح الورد لعروستنا الجميلة!"
تمتمت بتذمر، وهي تحاول أن تستعيد وعيها:
"إنتي لسه نايمة للوقت ده؟! ليكي قلب تنامي كده؟!"
مي، وهي تحاول فتح عينيها بصعوبة:
"يا بنتي، خلصت كل حاجة متأخر جدًا، ونمت ساعة واحدة، وصحاني معتز عشان الفجر، ونمت تاني، انتي كمان صحّيتيني! كلكم متفقين عليا ولا إيه؟! سيبوني أنام شوية، مش هتطير الدنيا يعني!"
قهقهت سيلا، وردّت بمزاح:
"لا، بس معتز هو اللي هيطيرك لو فضلت نايمة كده!"
ضحكت مي أخيرًا، وقالت بمزاح:
"يطير مين؟! احنا سيطرة!"
حاولت سيلا كتم ضحكتها، لكنها لم تستطع، فأردفت بمكر:
"أحم... سيطرة، آه، ما أنا عارفة! بس بلاش تعيشي الدور قوي، وما تردديش الكلمة دي كتير، ما تضمنيش ممكن يحصل إيه!"
ضحكتا معًا، وتابعتا حديثهما، بينما كان الحماس يزداد استعدادًا ليوم الفرح المُنتظر.
"خلاص يا دادة، سيبيهم في الفرن وخدي بالكِ منهم، هطلع أخد شاور وأغير هدومي وأنزل أعمل السلطة."
لكن فاطمة نظرت إليها بحزم قائلة:
"خلاص، هعملها أنا، دي مفيهاش حاجة. اطلعي إنتِ ريحي."
لكن سيلا هزت رأسها بإصرار:
"لا يا دادة، أنا هعملها، بس أغير وأنزل على طول."
تنهدت فاطمة برضا وهي تراقبها تصعد للأعلى، ثم تمتمت بدعاء صادق من قلبها:
"ربنا يبارك لكِ يا بنتي، ويسعدكِ، ويرزقكِ بالذرية الصالحة، يا رب."
هبطت سيلا مجددًا إلى الطابق السفلي، وقد استبدلت ملابسها بفستان بيتي طويل بلون السماء، ينسدل برقة حتى آخر قدميها، ويزينه شريط من الستان بدرجة أغمق قليلًا أسفل الصدر، مما أضفى عليه لمسة أنثوية ناعمة. زينت رأسها بتربون يحمل نفس لون الشريط، مما أكمل إطلالتها البسيطة والأنيقة.
ما إن وصلت إلى المطبخ، حتى جذبت هاتفها وفتحت على إحدى أغنيات نانسي عجرم، وبدأت تدندن بانسجام مع الموسيقى، تتمايل بخفة مع اللحن، مستمتعة بلحظتها الهادئة. راحت تقطع الخضروات بإيقاع متناغم مع الأغنية، حتى قطع صوت الأغنية برنين، فوجدت اسم صديقتها يضيء عليها، فالتقطت الهاتف بيد، وأمالت رأسها قليلًا إلى اليمين بينما واصلت تقطيع السلطة بيدها الأخرى.
هتفت بمرح، مازحة معها:
"مكلمتنيش ليه يا جزمة؟ طمنيني، عملتي إيه في موضوعك؟"
استمعت إلى ردها، ثم أطلقت ضحكة عالية، بينما تردف بمكر:
"شكلك م… ولا بلاش! حد قالك تهربي؟ اهو اقفشك، وأخوكِ سلمك تسليم أهالي!"
توقفت عن الضحك عندما سمعت توبيخ صديقتها على الطرف الآخر، فحاولت كتم ضحكاتها، قبل أن تقول بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة مرحة:
"خلاص، مش هضحك! سكت، وبعدين رحتي فين؟ عمل معاكي إيه؟"
فجأة، اتسعت عيناها باندهاش عندما جاءها الرد، فهتفت متفاجئة:
"إعااااااا بجد؟!! وافق؟! آه يا سوس، والله جدعة يا بنتي، عملتي اللي في دماغك برضه! بس كده أحسن، زي ما همسة قالت لكِ، بقا اتعرفوا بجد، يعني فرصة تصفوا لبعض وتبدأوا صفحة جديدة، وتختبريه برده!"
ثم باغتتها صديقتها بسؤال أربكها، فتلعثمت وهي تجيب:
"أنا وعاصم؟! مش عارفة... بس أكيد معاكوا طبعًا."
لكنها سرعان ما استردت ثقتها بنفسها، فردت بتفاخر ونبرة مفعمة بالاعتداد:
"يا بنتي، انتي مش عارفاني ولا إيه؟! لسه! دا أنا سيطرة وجامدة أوي، يعجبكِ قال مش هيوافق قال! امشي بس خليني أكمل تقطيع السلطة."
أغلقت سيلا المكالمة وهي تبتسم بسعادة، تشعر بنشوة الانتصار بعد أن نجحت في إقناع معتز بيوم الفرح. همست لنفسها بمكر، وهي تمط شفتيها للأمام بسخرية:
"قال مش هيوافق...!"
عادت تدندن وتتمايل مع الموسيقى، منسجمة تمامًا مع اللحظة، دون أن تنتبه لمن يقترب منها بخطوات خفيفة من الخلف، عيناه تتأملانها بلمعة مكر، وابتسامة شيطانية ترتسم على شفتيه.
وفجأة، باغتها بصوته القريب من أذنها:
"آية ياسيطرة...ااا!"
شهقت بحدة، جسدها انتفض من المفاجأة، وسقطت السكين من يدها على الطاولة. استدارت بسرعة لتجد عاصم يحاوطها بذراعيه من الخلف، يثبتها بينه وبين الطاولة، نظراته تملؤها الإثارة والعبث.
حاولت التملص، لكنه شدد من حصاره، ثم همس بصوت أجش، وكأنه يلتهمها بعينيه:
"هششش... آسف خضيتكِ، بس مقدرتش أقاوم إغراءكِ وأنت تتمايلي كده..."
انحنى قليلًا، مستنشقًا عبير عطرها الفواح، وكأنه يحاول طباعة أثره على أنفاسه، ثم همس بخبث قرب عنقها:
"بحبكِ يا سيطرة..."
ثم فك حصاره عنها، لكنه لم يبتعد تمامًا، ظل قريبًا منها، وعيناه تتأملانها بمكر واضح، بينما دسّ يده داخل أحد جيوب بنطاله، منتظرًا رد فعلها.
"إيه يا سيطرة؟ سكتي يعني؟!"
ابتسمت سيلا بخجل ممزوج بالعناد، لكنها لم تمنحه إجابة مباشرة، مما زاد من تحدي الموقف بينهما، في انتظار الجولة القادمة من لعبتهما الماكرة.
سيلا، بصوت أقرب للبكاء، وضعت يدها على قلبها، وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة:
"كده خضتني يا عاصم! انت جيت من إمتى؟!"
عاصم، وهو يحدق بها بنظرة محبة لم تغادرها للحظة:
"سلامة قلبك، مش قصدي والله."
لم يمنحها فرصة للابتعاد، بل ضمها إليه مرة أخرى وربّت على ظهرها بحنان، يحاول تهدئتها، وهمس بقرب أذنها:
"آسف، حقك علي، مش هتتكرر تاني..."
لكن سرعان ما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة، ثم ضحك بصوت خافت عندما تذكر حديثها أثناء المكالمة، فغمز لها قائلًا:
"الصراحة... مقدرتش أمسك نفسي وانتي بتقولي (سيطرة) وكده."
ثم مال قليلًا للأمام وهمس بمكر:
"إلا قوليلي... مي قالت لكِ على الجديد؟"
تملصت سيلا من بين ذراعيه، وابتعدت قليلًا وهي تتحدث بعفوية:
"أيوه طبعًا! ومعتز وافق، قعدت تقول مش هيوافق، وفي الآخر وافق، وهيعملوا الفرح آخر السنة."
عاصم، وهو يغمز لها بعينيه بمكر:
"ملناش دعوة بيهم، براحتهم... ولا إيه، يا سيطرة؟"
سيلا، وقد فهمت تلميحه، نظرت إليه بحذر قبل أن ترد سريعًا:
"قصدك إيه ها؟! إحنا مش متفقين إن أنا ومي نفس اليوم؟! ها، إيه بقى؟! إيه؟! إيه؟!"
بدأت تتراجع للخلف تدريجيًا، بينما كان عاصم يقترب منها بخطوات ثابتة، وعيناه تزدادان دهاء مع كل خطوة يخطوها نحوها.
عاصم، مستدرجا إياها بذكاء:
"أه طبعًا... اتفاق، بس اثبتي كده، بترجعي ليه؟!"
تظاهرت بالتماسك، لكنه استرسل في حديثه بجدية مصطنعة:
"بصراحة، هما مخطوبين، بيتعرفوا على بعض، براحتهم، عندهم سنتين كاملين! لكن إحنا؟! إحنا إيه بقى؟! ها؟!"
ظل يتقدم بخطواته بينما كانت هي تهرب منه، حتى خرجت من المطبخ وهو يتبعها، فتحدث بصوت يحمل نبرة مسيطرة:
"إحنا قولنا لما نرجع من السفر، وسبناهم أكتر من ست شهور! قلت ماشي، آخر الأسبوع، أكيد معتز هيظبط الدنيا! ماشي، آخر الشهر... فاضل أسبوعين! أروح النهارده، يقول لي خمس شهور كمان؟! يبقى ليه؟!"
ثم أردف بصوت هادئ لكنه يحمل وعيدا ماكرًا:
"تعالي... بتبعدي ليه؟! تعالي يا بت!"
ابتسم عندما رآها تهرب إلى الطابق العلوي، فأخذ يصعد خلفها بخطوات واثقة.
سيلا، وهي تركض بصوت مرتبك بين الضحك والخوف:
"لا، لا، لا، لااااا!"
عاصم، بصوت رخيم، يقترب من باب الغرفة الذي أغلقته على عجل:
"افتحي يا سيلا، عيب! متوقفنيش بره كده، يقولوا عليا إيه؟! مش انتي اللي اتفقتي معاها وبتشجعيها؟! اشربي بقى!"
سيلا، ببراءة مصطنعة، وقد تناست تمامًا تحريضها السابق:
"لااا! مش أنا، دي... دي همسة!"
عاصم، مبتسمًا خلف الباب، صوته يفيض بمكر:
"طيب، افتحي... هكلمكِ بس."
سيلا، بتحذير وهي تتأمل الباب بريبة:
"بلاش غدر ها؟! هفتح، بس خليك مؤدب!"
لكنها لم تقتنع بسهولة، فتمتمت لنفسها بحذر:
"مش مرتاحالك..."
فتحت الباب بحذر، وما إن خطا عاصم خطوة واحدة داخل الغرفة حتى ركضت سريعًا إلى الداخل، لكنه كان أسرع منها، وأغلق الباب خلفه بإحكام، ودس المفتاح في جيبه تحت نظراتها المتوترة.
سيلا، بتوتر، وهي ترى اقترابه:
"قفلت الباب ليه؟! ها؟!"
ثم قفزت على الفراش، رافعة إصبعها نحوه بإنذار:
"عيب يا عاصم! إحنا كبار على كده! هنادي على دادة على فكرة!"
عاصم، وهو يرفع حاجبه باستهزاء:
"وهي دادة اللي هتنقذك مني ؟!"
صمت قليلًا، ثم أضاف بصوت ينضح بالخبث:
"يعني تتفقوا انتي وصاحبتك، ها؟! طيب لو مسكتك..."
لم يمهلها فرصة للهرب، فحينما همت بالخروج، باغتها سريعًا، وحملها بين ذراعيه وسط قهقهته الخافتة:
"الليلة ليلتنا، يا سيطرة!"
وضعها برفق على الفراش، ثم همس لها بحنو، وهو يربت على ظهرها ليطمئنها:
"هششش... سولي، اهدي، متخافيش... أنا بحبكِ، مش هآذيكِ."
اختبأت داخل صدره من شدة الخجل، تشبثت به أكثر، فأنزل رأسه على شفتيها ينهل عليها بقبلاته الحارة، ذابت له، واستسلمت تمامًا بين ذراعيه، والتفت يداها حول عنقه، لتغوص معه في عالم آخر، حتى أصبحت له زوجة قولًا وفعلًا.
---
بعد ساعات...تململت سيلا من نومها، عندما أحست بأنفاس دافئة تلامس بشرتها، قبلات ناعمة تطوف كل شبر في وجهها، فتحت عينيها ببطء، لتجده يحدق بها بعشق، يبتسم برقة وهمس لها بصوت دافئ:
"صباحية مباركة يا عروستي."
تلونت وجنتاها بحمرة الخجل، فاندست سريعًا أسفل الغطاء، لكنه لم يترك لها فرصة، بل تسلل هو الآخر إلى أسفل الغطاء بجانبها، وقال بمكر:
"مرضتشِ تستخبي لوحدكِ؟! قولت أجي أونسك تحت الغطا كمان..."
شهقت من فعلته، ثم شدت الغطاء أكثر حول جسدها، وركضت سريعًا مبتعدة عنه، تهمس بحرج شديد:
قليل الأدب!
عاصم، بمرح، وهو يناديها ضاحكًا:
"سمعتكِ على فكرة! لما تطلعي، مااااشي!"
جلست سيلا داخل الحمام تلتقط أنفاسها، بينما تنهد هو براحة، ثم شرد قليلًا في حديث الطبيب قبل سفرهما، حينما زاره ليبلغه بعودتهما وإتمام زواجهما.
"مبارك لك الزواج، ابني. هي الآن تستطيع أن تمارس حياتها بحرية، وإتمام زواجكِ بالتأكيد، لكن... ستتأخر فقط في الإنجاب لفترة، على الأقل نظرًا لحالتها، لكن غير ذلك، فهي بصحة جيدة. التزم بهذا العلاج، مع متابعة دورية كل ثلاثة أشهر، فقط للاطمئنان."
أغمض عينيه، زفر ببطء، ثم نظر ناحية الحمام، حيث كانت هي بالداخل، وابتسم بحب وهو يهمس لنفسه:
"مهمنيش غير إنها تكون بخير... والباقي على الله."
انتبه لحركتها عند سماع صوت فتح باب الحمام، فابتسم بمكر ثم تحرك بخفة، ليختبئ بجانب الباب منتظرًا خروجها.
ما هي إلا لحظات حتى أطلت برأسها من فتحة صغيرة، تتأكد من خلو الغرفة. عندما اطمأنت أنها بمفردها، خرجت بخطوات حذرة، والمنشفة تُغطي جسدها، بينما قطرات الماء تتدلى من شعرها وتتساقط ببطء على عنقها وكتفيها، فابتلع ريقه بصعوبة وهو يراقبها، لقد أضفت عليها المياه جمالًا ساحرًا زاد من جاذبيتها.
تحركت نحو الدولاب لانتقاء ملابسها، فتبعها هو بصمت، يتقدم نحوها بخفة حتى كاد يلاصقها، وقبل أن تلتقط قطعة الملابس، شعرت بوجوده، فتجمدت في مكانها والتفتت ببطء لتجده يقف خلفها تمامًا، ينظر إليها بتسلية واضحة.
أردفت بارتباك وتوتر، وهي تحاول التظاهر بالثبات:
"أنت... لسه هنا؟!"
عاصم، وهو يشير لجسده العاري وشورت قصير، بابتسامة جانبية:
"هروح فين بذمتك بالمنظر ده؟! كنت مستنيكي تطلعي... إيه مالك يا بنتي؟! مغمضة عنيكي ليه؟!"
شهقت بخجل، وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، محاولة تجنب نظراته المتفحصة.
تمتمت بصوت خافت:
"إنت... عادي كده؟!"
ضحك بصوت منخفض، مستمتعًا بارتباكها، بينما كانت تحاول دفعه بعيدًا، تدفعه للأمام بخجل واضح، وهو يستجيب لحركتها لكن دون أن تتوقف عيناه عن مراقبة تعبيراتها المحرجة.
قالت وهي تحثه على الدخول للحمام:
"طيب يلا، يلا، أنا خلصت حمام!"
عاصم، وهو يغمز لها بمرح:
"طيب، استني بس! هروح لوحدي كده؟! طب جيبي بوسة الأول، وأنا أدخل."
سيلا، وهي تدفعه بحزم حتى وصلت به إلى باب الحمام:
"لااا! ويلا بقى!"
تظاهر بأنه استسلم ودلف للداخل، ثم أوشك على إغلاق الباب، فتنهدت براحة معتقدة أنه رحل أخيرا، لكن فجأة، فتح الباب بسرعة، فباغتها بقبلة خاطفة على وجنتها، وهمس لها بصوت دافئ:
"بحبك أوي... يا دنيتي كلها."
ثم أغلق الباب وراءه، تاركا إياها متجمدة في مكانها.
رفعت يدها تلامس وجنتها التي احمرت من أثر لمسته، ثم شقت ابتسامة صغيرة شفتيها، وهمست لنفسها بحب:
"وأنت حياتي كلها."
ثم تحركت ببطء نحو الدولاب، اختارت ملابسها، وارتدتها في هدوء، قبل أن تتجه لتجهيز مائدة الطعام، وابتسامة ناعمة لا تزال تعلو وجهها.
ـــــــــــــــــــــــــ
خلال الخمسة أشهر الماضية، كانت همسة تعيش فترة مليئة بالتغيرات، فقد تقدمت أشهر حملها، وازداد شعورها بالإرهاق، وأصبحت حركتها أكثر ثِقلاً، لكنها رغم ذلك كانت تنعم بحياة هادئة، فقد باتت تعرف طباع زوجها جيدًا وتتكيف معها. انشغلت بتجهيز كل ما يلزم لمولودها القادم، تلك الطفلة الصغيرة التي ستصبح فردًا جديدًا في العائلة، هديةً من الله، ونعمةً تستحق الشكر والحمد.
أما عن الميراث، فقد عاد لكلٍّ من سيلا وهمسة نصيبهما الشرعي بعد أن أدرك عمهما درس الحياة القاسي. فقدان ابنه الوحيد كان كافيًا ليعلّمه أن الطمع والجشع لا يدومان، وأن المال لا يعوض خسارة الأحباب. لقد وعى أخيرا أن راحة البال والرضا بالقسمة خير من كنوز الدنيا، فعاد إلى الله، طالبًا المغفرة والصفح.
حين يتوب العبد توبةً صادقة، نابعة من القلب، نادمًا على ما اقترفه، فإن الله لا يرده خائبًا.
وهكذا، بعد استخارتها الكثيرة ودعائها المستمر، شعرت مي بطمأنينة تسري في قلبها، فأيقنت أن الخير فيما كُتب لها. والأجمل من ذلك، أنها لم تكن وحدها في هذا الطريق، فقد أصبح معتز أكثر تمسكًا بالصلاة، ليس هذا فحسب، بل إنه هو من يوقظها لصلاة الفجر، بعد أن كان يتركها تتكاسل عنها.
في إحدى الليالي، وبعد يوم طويل أمضته في توضيب أغراضها استعدادًا للانتقال إلى منزلها الجديد، خلدت إلى النوم مُرهقة، لكن رنين هاتفها العالي قطع عليها نومها العميق.
أجابت بصوت متضايق، مُغمضة العينين:
"ألو... مين؟"
قهقه معتز من الجهة الأخرى:
" مين؟... تاني؟! كل ده نوم؟ فوقي كده، مش شايفة الوقت عدى إزاي!"
ردّت مي بصوت ناعس، متثائبة:
"والله يا معتز، لسه حاطة راسي ونايمة من ساعة! مكنتش خلصت شغل، تعبانة جدًا، خليني أنام شوية، بجد مش قادرة."
لكن معتز لم يمنحها فرصة للكسل، وأردف بحزم:
"طيب، صلّي الأول، وبعدين كملي نوم. انتي بتصحي بعد الظهر، والفجر هيضيع عليكي، وهتضطري تجمعي الصلوات. يلا، بلا كسل! هعدّي عليكي العصر نكمل نقل الحاجات، هقفل دلوقتي، فوقي بقى! سلام."
أطلقت تنهيدة مُحبطة، لكنها في النهاية نهضت بكسل، تثاءبت، استعاذت بالله من الكسل، ثم دلفت إلى الحمام للوضوء، وبعدها أدّت صلاتها، ورفعت يدها بالدعاء أن يُيسر الله لها حياتها القادمة. ثم عادت إلى فراشها، وسرعان ما غرقت في النوم مرة أخرى.
— استيقظت مي على صوت هاتفها مرة أخرى، وهذه المرة، كانت المتصلة سيلا.
ردّت مي بصوت ناعس:
"صباح الورد، حبيبتي."
أجابت سيلا بحماس:
"صباح الورد لعروستنا الجميلة!"
تمتمت بتذمر، وهي تحاول أن تستعيد وعيها:
"إنتي لسه نايمة للوقت ده؟! ليكي قلب تنامي كده؟!"
مي، وهي تحاول فتح عينيها بصعوبة:
"يا بنتي، خلصت كل حاجة متأخر جدًا، ونمت ساعة واحدة، وصحاني معتز عشان الفجر، ونمت تاني، انتي كمان صحّيتيني! كلكم متفقين عليا ولا إيه؟! سيبوني أنام شوية، مش هتطير الدنيا يعني!"
قهقهت سيلا، وردّت بمزاح:
"لا، بس معتز هو اللي هيطيرك لو فضلت نايمة كده!"
ضحكت مي أخيرًا، وقالت بمزاح:
"يطير مين؟! احنا سيطرة!"
حاولت سيلا كتم ضحكتها، لكنها لم تستطع، فأردفت بمكر:
"أحم... سيطرة، آه، ما أنا عارفة! بس بلاش تعيشي الدور قوي، وما تردديش الكلمة دي كتير، ما تضمنيش ممكن يحصل إيه!"
ضحكتا معًا، وتابعتا حديثهما، بينما كان الحماس يزداد استعدادًا ليوم الفرح المُنتظر.
