اخر الروايات

رواية جمر الجليد الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم شروق مصطفي

رواية جمر الجليد الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم شروق مصطفي


أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد.
مي نظرت إليها بترقب وقلق، وقالت بنبرة مترددة: "أوعدك، مش هقول لحد حاجة."
سيلا أخذت نفسًا عميقًا، ثم أمسكت بيد مي وشدت عليها برفق، بينما تغوص عيناها في عيني صديقتها. قالت بصوت متماسك لكنه يحمل عبق الألم:
"مي، أنا رايحة بكرة لدكتور مختص بالأورام... وهبدأ جلسات الكيماوي."

مي سحبت يدها فجأة وكتمت شهقتها العالية بيدها، وعيناها امتلأتا بالذهول: "هاااه..."

سيلا لم تتراجع، بل أعادت الإمساك بيد مي، محاولة تهدئتها، قائلة بصوت ملؤه الرجاء:
"اهدي... اسمعيني. انتي أول حد أحكيله، مش انتي قلتي إن فيَّ حاجة مش طبيعية؟ أنا حكيتلك عشان تقويني، عشان تبقي جنبي. ما أقدرش أتحمل أكتر من كده. حتى أجلت علاجي ثلاث شهور عشان خطوبة أختي."

مي كانت تهز رأسها بالرفض، غير قادرة على استيعاب الكلمات التي تسمعها. بصوت متردد ومخنوق، سألت:
"ا... اتأكدتي امتى؟"

ردت سيلا بعينين تغالب دموعها:
"قبل قراية الفاتحة بيوم. عملت أشعة، وظهر إن الورم بيكبر. أنا تأخرت على العلاج، واستغليت فرصة سفرهم عشان ما أشوفش الحزن في عيونهم. حتى همسة ما تعرفش حاجة. خايفة عليهم، مي... هتيجي معايا وتكوني جنبي، ولا أروح لوحدي؟"

لم تستطع مي منع دموعها، وارتمت في حضن صديقتها، قائلة بحنان لا يخلو من العزم:
"حبيبتي... أنا معاكي. مش هسيبك أبداً."

ظلتا متعانقتين، ومي تمسح على ظهرها برفق حتى هدأت تمامًا.

بعد لحظات من الصمت، همست سيلا:
"بكرة الدكتور هيقولنا الخطوات الجاية، والفحوصات والتحاليل المطلوبة قبل العلاج."

نظرت مي إلى داخل عينيها بعمق، وقالت بثبات:
"انتي قوية يا سيلا... فاهمة؟"

هزت سيلا رأسها بالموافقة دون أن تنطق بكلمة، وتشبثت أيديهما معًا، وكأنهما تتعاهدان على مواجهة كل شيء سوياً.

عند معتز، اجتمع الجميع حوله ليطمئنوا على حالته الصحية. أخبرهم الطبيب أن وضعه مستقر، لكنه بحاجة للبقاء تحت الملاحظة خمسة أيام على الأقل. انتهت الزيارة، وبدأ الجميع في المغادرة، لكن عاصم توقف فجأة عندما سمع صوت أخيه يناديه:

"استنى... عاوزك!"

التفت عاصم نحوه باندهاش، محاولًا إخفاء قلقه:
"خير يا حبيبي؟ محتاج حاجة قبل ما أمشي؟"

نظر إليه معتز بعينين مليئتين بالرجاء، وقال بصوت منخفض:
"عاوز أشوفها... لازم أكلمها. هتخليها تيجي، صح؟"

حاول عاصم أن يبتسم ليطمئنه، لكنه لم يستطع سوى أن يرد بتردد:
"حاضر... ارتاح إنت، وأنا هتصرف."

خرج عاصم مسرعًا، وكأن قدميه تحملانه بعيدًا عن كل شيء. كان عقله مشوشًا وداخله يضج بالأسئلة. كيف يمكنه أن يطلب منها أن تعود بعد ما حدث؟ كيف يطلب منها أن تواجه نظرات أخيه بعد تلك اللحظة التي أهانها فيها أمام الجميع؟ لكن رغم كل شيء، لم يستطع تجاهل ما رآه في عيني معتز. ذلك البريق، تلك النظرة التي تحدثت عن حب حقيقي، وعن ألم أعمق مما يمكن وصفه.

قاد سيارته بلا وجهة محددة، ضائعًا في أفكاره. وجد نفسه في النهاية أمام المدفن العائلي. نزل بخطوات مثقلة واتجه إلى قبر أبيه. جلس على الأرض، قرأ الفاتحة، ثم تحدث بصوت متقطع كأنه يخاطب روحًا لا ترد:

"ليه؟ ليه وصلنا للِّي إحنا فيه؟ ليه حياتنا كانت مجردة من أي إحساس؟ أنا عشت عمري كله ما أعرفش يعني إيه حضن أم... ما أعرفش يعني إيه حب. أول مرة حسيت بحاجة، كان معاها. كأنها النور اللي رجعني للحياة. لمستها... مجرد لمسة، كانت كفاية تخليني أحس بدفء أول مرة أعيشه.

يا ترى في أمل أرجع إنسان طبيعي؟ أخويا... شفت في عينيه نظرة مليانة حياة، كأنه كان بيبدأ من جديد. يا ترى لنا حق نفرح زي باقي البشر؟ ولا فات الأوان على كل حاجة؟"

صمت للحظات طويلة، وكأنه ينتظر إجابة لا تأتي. ثم قال بصوت أقرب للهمس:
"هحاول. هحاول أصلح كل حاجة. ربنا يسامحك على اختياراتك اللي دمرت حياتنا."

نهض أخيرًا، وغادر المكان بعزم جديد. كانت هناك نار تشتعل بداخله، لكنها لم تكن نار غضب أو انتقام هذه المرة، بل كانت رغبة في التغيير.

عاد إلى منزله، عازمًا على أن يبدأ من جديد، رغم إدراكه التام بأن الطريق لن يكون سهلًا. كان الماضي ثقيلًا، حمل معه كل الألم والخيبة. طفولة ممزقة، بيت غاب عنه الأمان، خيانة شاهدوها بأعينهم، وموت كانت ذكراه كالجحيم.

كل ذلك جعله وأخيه غرباء عن الإحساس. أحدهما صار حاميًا لعائلته الصغيرة، لكن قلبه صار كالصخر، لا يعرف الرحمة. والآخر عاش في عزلة، يملأه العنف والغضب، يمارس قسوته وكأنها السبيل الوحيد للتنفيس.

لكن الآن، لأول مرة، رأى بصيص أمل. ربما يستطيع أن يبدأ من جديد. ربما القدر منحه فرصة أخيرة ليحيا كإنسان.

السؤال الوحيد الذي ظل يتردد داخله: هل سأتمكن من اغتنامها، أم ستضيع كما ضاع كل شيء من قبل؟

ــــــــــــــــــــــ
بعد تأجيل كتب الكتاب، أصبح وليد رفيق همسة الدائم، يخفف عنها بحديثه اللطيف ووعوده التي تملأ قلبها أملًا. لم يتركها للحظة واحدة، وكان دائم السؤال:

"عاملة إيه النهارده؟"

تنهدت همسة وهي تجيب بهدوء:
"الحمد لله، يا وليد."

لكنه باغتها بسؤال مباشر فهتفت بغصة وهي تجيب بصوت خافت:
" أه سافروا؟ أول مرة يبعدوا عنا ويسبونب لوحدي؟"

نظر إليها بملامح متضايقة، وقال بجدية:
"وأنا؟ أنا هنا معاكي، مش كفاية؟ على فكرة، هزعل منك لو فكرتي إنك لوحدك. أنا جنبك طول الوقت، واختك كمان معاكي. كلها أسبوعين، وتنوري بيتك. أنا عارف إني مقصر معاكي، بس الظروف صعبة. بين شغل والمستشفى، وتجهيز الفيلا، وكل حاجة جات فوق بعضها. الفيلا متشطبة، آه، بس كنت بجدد حاجات بسيطة. وكنت بكلمك عشان بكرة نخرج نتفرج على الألوان ونختار حاجات العفش مع بعض."

ابتسمت همسة بخجل:
"عارفة يا وليد، وربنا يخليك ليا يا رب."

أمسك يدها برفق وقال بابتسامة دافئة:
"وليا أنا كمان. بس تصدقي؟ أنا فرحان إن التأجيل حصل."

نظرت إليه باستغراب:
"فرحان؟!"

ضحك بخفة، وقال:
"أيوه. كلها أسبوعين ونبقى مع بعض على طول بدل ما نستنى ثلاث شهور. الموضوع جاي لمصلحتنا، ولا مش عاجبك كده؟"

ابتسمت بخجل، وقالت بصوت ناعم:
"أي وقت معاك بيكون جميل.
ظلا يتحدثوا قليلا.
ـــــــــــــــــــــ
مرَّ الأسبوع الأول بثقل لا يمكن احتماله. بدأت سيلا أولى جلسات العلاج الكيماوي، وكان الأثر واضحًا على جسدها وروحها. هزلت كثيرًا، وبدا عليها الإعياء الشديد منذ الجلسة الأولى. لم تفارقها مي لحظة واحدة، كانت رفيقة ليلها ونهارها، تمنحها دفئًا وسندًا لم تكن لتستمر بدونه.

لكن سيلا، رغم كل ذلك، كانت تنهار داخليًا. اختارت الانعزال داخل غرفتها، تقضي معظم وقتها في النوم أو في التظاهر به كلما حاولت همسة الاقتراب منها. لم تكن ترغب في أن ترى أختها حالتها، ولم تتحمل فكرة مشاركة ضعفها مع أحد!!.

همسة، من جانبها، لم تكن غافلة عن حالتها. شعرت بثقل غريب يجثم على قلبها، لكن وجود وليد بجانبها كان كفيلاً بتخفيف هذا العبء. كان وليد حاضرًا دائمًا، يشد على يدها ويمنحها القوة لتظل ثابتة، رغم كل ما يحدث من حولها.

في أعماقها، كانت همسة ترفع دعاءً صامتًا بأن تمر هذه الأيام العصيبة بسلام، أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن يجد كل من حولها بداية جديدة تستحق.
---
على الجانب الآخر، كان عاصم يعيش صراعًا داخليًا مريرًا. وعند سؤال شقيقه عن من خطفت قلبه يتحجج بأنه لم يرها منذ ذلك اليوم، لكنه في الحقيقة كان يراقبهم من بعيد.

فهو لم يستطع أن يبتعد عن تفاصيل حياتها، فكان يتابع حالتها بعد خروجها من المستشفى، يزور طبيبها المعالج سرًا ليطمئن عليها. أخبره الطبيب أنها تعاني من أنيميا حادة، وتحتاج إلى نظام غذائي خاص ورعاية دقيقة.

في مرة، حاول أن يوقفهم ليحدثهم عن حالتها، لكنهم تجاهلوه ومضوا بعيدًا عنه، تاركينه وحيدًا مع إحساسه بالذنب والحيرة. ومع ذلك، لم يكن ممن يستسلمون بسهولة. قرر أن يمهد الطريق، أن يصل إليها ولو بعد حين.

أما معتز، فقد عاد إلى منزله، لكن روحه بقيت عندها. لم تغب عن باله لحظة واحدة، فقرر أن يخطو خطوة جريئة، أن يذهب إليها ويحدثها، يروي لها الحكاية بأكملها، عسى أن تمنحه فرصة له.
---

في ذلك الوقت، كانت أسرة همسة قد وصلت أخيرًا إلى وجهتهم بعد رحلة طويلة عبر البحر. أول اتصال جاء منهم كان مليئًا بالفرح، طمأنوا همسة وسيلا عن حالهم، وأخبروهم عن سعادتهم بأداء مناسك العمرة. ووعدوا بالاتصال مجددًا قبل العودة، وأغلقوا الهاتف على أصواتهم المليئة بالبهجة.

لكن حين التفتت همسة نحو أختها، تفاجأت بشكلها المرهق. شحوب وجهها وهزالها كانا واضحين. بعد إنهاء المكالمة، جرت سيلا سريعًا إلى غرفتها، كأنها تهرب من أي سؤال قد يفضح ضعفها.

لحقتها همسة بخطوات سريعة قبل أن تدخل الغرفة.
"سيلا... استني!"

التفتت إليها سيلا وقد ارتسم التعب على ملامحها:
"نعم يا همسة؟"

قالت همسة بقلق وهي تقترب منها:
"مالك يا سيلا؟ انتي تعبانه ولا إيه؟ لو تعبانه، قوليلي يا حبيبتي، أنا هنا معاكي."

ابتسمت سيلا ابتسامة شاحبة وقالت بصوت منخفض:
"مفيش... شوية إرهاق مش أكتر. أنا كويسة، بس عاوزة أنام."

تركتها سيلا واقفة في مكانها واتجهت إلى غرفتها، مغلقة الباب خلفها، بينما بقيت همسة في مكانها، قلبها يزداد قلقًا، وعيونها تراقب الباب المغلق، وكأنها تعرف أن وراءه سرًا أكبر مما تراه.
...
ظل معتز يوميًا يذهب أسفل منزلها، يجلس داخل سيارته لساعات طويلة، عله يلمحها أو يراها ولو من بعيد. كان أمله يتجدد مع كل يوم، لكنه يعود خائبًا في كل مرة. ورغم ذلك، لم ييأس. كان يشعر أن لقائهم قادم لا محالة، وأن صبره سيؤتي ثماره.

وذات يوم، وبينما هو ينتظرها كعادته، لمحها أخيرًا. خرجت من المنزل تحمل حقيبة كبيرة بيدها، تسير بسرعة وكأنها تحاول الهروب من ثقل أفكارها.

لم يتردد لحظة. أدار محرك سيارته وتوقف أمامها فجأة، قاطعًا طريقها. رفعت عينيها بدهشة، لتجده يقف أمامها.
"معتز؟!" نطقت اسمه بتعجب، وكأنها لا تصدق وجوده أمامها.

شعر معتز أن الحياة عادت إليه بمجرد سماع صوته على لسانها. ابتسم لها ابتسامة عميقة، مليئة بالشوق، وقال بصوت يحمل رجاءً:
"أخيرًا شفتك. كنت بدور عليك كل يوم. استحالة أوافق إنك تمشي تاني."

شعرت مي بالخجل من كلماته، ودهشت من صراحته المفاجئة. حاولت أن تبدو ثابتة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتباكها:
"بعد إذنك، مش هينفع كده."

نظرت حولها بسرعة، محاولة التخلص من الموقف، ثم قالت بصوت مضطرب قبل أن تهرب من أمامه:
"حمد لله على سلامتك... عن إذنك."

أسرعت بالتحرك بعيدًا عنه، واتجهت إلى موقف المواصلات، عازمة على العودة إلى صديقتها التي كانت تقيم لديها مؤقتًا، بعدما أحضرت بعض الملابس من منزلها.

أما معتز، فوقف مكانه، ينظر إليها وهي تبتعد. لقاء اليوم لم يكن كافيًا، ولن يتركها تختفي مرة أخرى. كانت هذه المرة بداية جديدة، مهما كلفه الأمر.
ــــــــــــــــــــ
مرّت الأيام ثقيلة، وجسد سيلا ينهار أكثر بعد كل جلسة علاج. كانت الآلام تفوق طاقتها، وكأن كل لحظة تمضي تزيد من احتراق روحها وجسدها معًا.

جلست مي بجانبها، تمسك بيدها المرتجفة، تحاول أن تكون مصدر قوة وسند لها، لكن سيلا، بصوتها المتعب، قالت بوجع عميق:
"أنا بموت بالبطيء، يا مي... مش قادرة أتحمل أكتر من كده. جلستين بس، وكل ده يحصل. يا رب امتى أرتاح من العذاب ده؟"

حاولت مي، رغم ألمها، أن تبدو ثابتة وهي ترد عليها بحنان:
"انتي أقوى من المرض يا سيلا. متخليش حاجة تكسر قوتك. خليكي دايمًا فوقه."

نظرت سيلا إلى السقف، كأنها تشتكي لله قسوة ما تمر به، وقالت بحرقة:
"النار بتكوي جوايا يا مي. إحساس مش ممكن يوصف. ربنا ما يكتبه على حد أبداً. نفسي ارتاح، بس مش عارفة امتى."



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close