رواية جمر الجليد الفصل الرابع عشر 14 بقلم شروق مصطفي
في مكان آخر، كان الحديث متوترًا، حيث كان الرجل الأول يصرخ بصوت غاضب: “يعني إيه اختفت؟!” كانت كلماته مليئة بالتهديد، عينيه تبرقان بالغضب.
رد الرجل الآخر بحذر، محاولًا التخفيف من حدة الموقف: “محدش عارف مكانها يا باشا. إحنا بنراقب بيتها، وما فيش غير اختها ووالدتها وأبوها. حتى الجرايد مش رايحة لها.”
لكن غضب الرجل الأول لم يهدأ، بل زاد تأججًا. أمسك بالرجل الآخر من عنقه، وقال بصوت مخنوق: “إنت عارف لو البت دي مظهرتش، الباشا الكبير هيصفينا كلنا! يعني لازم نجيبها! رقبتنا في خطر، فاهم؟”
أصبح الوضع أكثر توترًا، فصرخ الرجل الأول في وجهه: “امشي من قدامي، متجيش تاني إلا لما تعرف مكانها! يلا، فاهم؟”
الرجل الآخر، وقد خشي على نفسه من غضب الرجل الأول، رد بسرعة: “أمرك يا ريس.” ثم خرج مسرعًا، عاقدًا العزم على العثور عليها بأي طريقة كانت.
بعد إطلاق النار، اقترب عاصم منها بسرعة، وحملها بين ذراعيه، عائداً إلى المنزل. عند الباب، قابلته الست فاطمة التي صُدمت عندما رأت حالتها. كانت ملابسها مبللة بالدماء والأمطار، وجسدها ينزف بشدة. لطمت على صدرها، وتفجرت مشاعرها قائلة: “يا لهوي! يا لهوي! مالها؟ حصلها إيه؟ ليه مش بتتحرك كده؟ يا حبيبتي يا بنتي!”
لم يكن عاصم في حال يسمح له بالكلام الكثير. رد بسرعة: “مش عايز كلام كتير، عاوز مياه مثلجة بسرعة، وجيبي عدة الإسعافات من مكتبي، يلا بسرعة!” كان صوته عميقًا، وصدره يضيق من التوتر.
فاطمة لم تتردد، هرعت مسرعة: “حاضر، حاضر.” ثم جرت إلى مكتبه لتنفيذ أوامره.
نقلها عاصم إلى الكنبة، وتأكد من وجود نبض في جسدها، بينما كانت لا تزال فاقدة للوعي. ساعده ذلك في تحديد مكان الرصاصة، فقام بسرعة بإحضار مقص وقطع ملابسها حول يدها اليسرى. خرج الرصاصة بعناية، ثم بدأ في تعقيم الجرح. في تلك اللحظة، دخلت فاطمة ومعها المياه الباردة وعدة الإسعافات، فشرع عاصم في تعقيم الجرح مرة أخرى، ثم لفه بالشاش بإحكام. كان معتادًا على هذه الأمور من خلال المهمات التي يشارك فيها.
ظلت سيلا غارقة في إغمائها، تهمس بكلمات غير مفهومة، لكنه لم يكترث. حملها بحرص وأمر فاطمة: “تعالي ورايا.” توجه بها إلى غرفتها، حيث قال لها: “غيري لها ولبسيها الملابس دي، فيها هدوم كتير. ناديني بعد ما تخلصي.”
أجابت فاطمة: “حاضر.” ثم خرج عاصم بسرعة، متجهًا إلى غرفته. حاول أن يسيطر على غضبه الذي بدأ يشتعل داخله، فتمتم لنفسه: “أيامك سودة معايا، وانتي جربتي غضبي.” استبدل ملابسه بسرعة، ثم حضر شيئًا ما قبل أن يخرج مرة أخرى.
عندما دخل غرفتها، وجد فاطمة قد انتهت من تغيير ملابسها. سألها عاصم بصوت أجش: “خلصت؟” أجابت فاطمة: “أيوه، يا بني، خلصت. بس… إيه اللي حصل لها؟ مين اللي ضربها بالنار كده؟”
عاصم رد بنبرة غاضبة: “وانتي كنتي فين لما هربت؟ مش عايز أسمع كلمة تانية.” ثم أضاف بأمر: “أنا هديها حقنة مسكنة، هي احتمال تسخن. خليكي جنبها، وأول ما تفوق تبلغيني.”
أومأت فاطمة برأسها في طاعة، وقالت: “حاضر يا بني.”
ثم أعطى لها عاصم الحقنة، وأمسك يدها بعناية. في تلك اللحظة، وضع سوارًا حديديًا أسود اللون حول معصم يدها، ثم قفله باستخدام مفتاح خاص به. تركها في الغرفة، وخرج.
على الجانب الأخر، ذهبَت مي إلى الجريدة كما اعتادت، متبعَة الروتين اليومي. كانت تكتب المقالات وتنسبها لسيلا، حتى تبتعد عن أي مراقبة أو تخطيط من العصابة التي كانت تطاردها. جلست على مكتبها، لكن سرعان ما طلبها المدير، أحمد.
قال أحمد وهو يبتسم: “تعالي يا مي، أنا حبيت أشكرك بنفسي على المجهود الرائع اللي بتعمليه، وأنا مش ناسي ده، وطبعًا هكافئك.”
أجابت مي بتواضع: ” يا فندم، أنا بعمل المفروض يتعمل.”
رد أحمد: “عموماً، المرة دي هننسب الموضوع ليكي أنتي. نفس الشركة اللي حضروا الافتتاح في الغردقة، لكن فرعها هنا. المدير كلمني وطلب حد من عندي، طلبك بالاسم كمان! تعملي معاه حوار عن إنجازات الشركة، ها يا ستي، مبسوطة؟”
أخذت مي نفسًا عميقًا، فشعرت بشيء غير مريح. لم ترتح لهذه المقابلة، وأيقنت أن نية المدير ليست بريئة. لكن ابتسمت ابتسامة متوترة وقالت: “أه طبعًا مبسوطة جدًا، بس… بس إيه؟ في حاجة كدة ممكن أي زميل يعمل الحوار؟”
أجاب أحمد بإزعاج: “مي، ازاي يعني؟ ده شغل يا أستاذة! هنلعب ولا إيه؟ بعدين انتي مطلوبة بالاسم! عايزني أبدلك بحد تاني؟ اتفضلي، تقدري تروحي دلوقتي، هو في انتظارك!”
مي، التي لم تجد مفرًا، ردت بقلة حيلة: “تمام يا فندم.” ثم خرجت، وهي لا تعرف ماذا تفعل، فاستقلت المواصلات وذهبت إلى منزل همسة. فتحت لها الباب ودخلتا معًا إلى غرفتها.
قالت همسة بابتسامة مشجعة:
“مي، واحشتيني أوي! عاملة إيه؟ وأخبار المعرض إيه؟”
ابتسمت مي وردت بحماس:
“الحمد لله، خلاص قرب، فاضل كام يوم بس. أكيد هتيجي معايا، ما تسبنيش في اليوم ده، انتي كمان!”
ضحكت همسة وأكدت:
“طبعًا جايه يا حبيبتي، ربنا يوفقك يا رب.”
ثم فجأة، توقفت مي وكأن شيئًا خطر ببالها، فسألت:
“سيلا، ما اتصلتش تاني بيكم؟”
تغيرت ملامح همسة للحزن وهي ترد:
“لا، للأسف.”
لاحظت همسة شحوب وجه مي، فسألتها بقلق:
“مالك يا مي؟ شكلك مش مريحني، في حاجة حصلت؟ مامتك كويسة؟”
ردت مي بتردد:
“ماما كويسة، الحمد لله. لكن أنا حاسة إني مشوشة، مش عارفة إيه اللي بيحصل لي بالضبط.”
حاولت همسة طمأنتها:
“خير يا حبيبتي، انتي قلقتيني عليكِ. فيكي إيه؟ احكي لي، يمكن أفيدك.”
أخذت مي نفسًا عميقًا وقالت:
“أنا مش عارفة، بجد. فاكرة يوم ما مشيت من عندك آخر مرة؟ فاكرة معتز، أخو عاصم، اللي وصلنا؟ اللي شوفناه يوم الغردقة؟”
ردت همسة وهي تتذكر:
“آه، فاكرة طبعًا.”
تابعت مي بنبرة مرعوبة:
“لقيته واقف تحت البيت عندي، وشكله كان مرعب أوي. طلعت فوق جري وخفت منه جدًا. بصيت عليه من الشباك لقيته فجأة رافع راسه يبص عليا، وبعدها مشي مرة واحدة. ومن وقتها وأنا خايفة، مش عارفة سبب وجوده هناك.”
تفاجأت همسة وقالت باستغراب:
“غريب جدًا! طيب ليه ما كلمتيهوش وسألتيه؟”
هتفت مي بخوف:
“أكلمه إيه؟ ده شكله كان مش طبيعي أبدًا، وكمان اللي خوفني أكتر إنه طلبني أنا تحديدًا عشان أروحله أعمل معاه حوار. أنا المفروض أكون عنده دلوقتي كمان!”
ردت همسة بقلق:
“طيب وبعدين؟ مش هتروحي؟ ده ممكن يسببلك مشكلة مع الجريدة!”
ردت مي وهي تشعر بالارتباك:
“مش عارفة. أنا مش هروح، بس أتمنى يبعد عني. مش كفاية زمان حاولنا نقطع علاقتنا برودينا؟”
همسة أيدتها:
“فعلاً، هم ما فيهمش تفاهم. وإنتِ وذنبك إيه اللي خلاهم يعاملوا سيلا بالطريقة دي؟”
مي تنهدت بحزن:
“معرفش. كل اللي عارفاه إن وقتها كل واحد فيهم اتعصب علينا وبعد أخته تمامًا عننا. ومن يومها ما نعرفش عنها حاجة.”
حاولت همسة تهدئتها:
“متقلقيش يا مي، إحنا مع بعض.”
ردت مي وهي تبتسم وتغمز لها:
“بس ابن عمه شكله غيرهم خالص! هادي وعاقل، مش كده؟”
احمر وجه همسة قليلًا وقالت بتردد:
“مش عارفة والله.”
سألتها مي بخبث:
“مكلمكيش تاني؟”
ردت همسة بجدية:
“اتكلم، بس أنا ما أعطيتوش فرصة. إنتِ عارفة أنا مش بحب أعلق نفسي في حاجة ممكن تجرحني. ما بردش حتى على رسايله.”
وافقتها مي:
“عندك حق. اللي جاد مش هيضيع وقته في اللف والدوران.”
قطع حديثهما اتصال من ياسر، زميل مي في الجريدة.
أجابت مي بسرعة:
“ألو، إيه يا ياسر؟ عملت إيه؟”
لكن ملامحها تغيرت فجأة وهي تسمع رده:
“إيه؟ بجد؟! طيب، وانت عملت إيه؟”
أغلقت مي الهاتف بصوت متوتر:
“خلاص، هتصرف. مع السلامة.”
سألتها همسة بقلق:
“في إيه؟ مالك قلبتي كده؟”
مي بتوتر واضح قالت:
“شكي طلع في محله! هو عاوزني أنا مخصوص، مش حد تاني. أنا بعت ياسر عشان أتأكد، بس دلوقتي هيقلب عليا المدير، وهتبقى مشكلة كبيرة. مش بعيد أترفض. أنا مش فاهمة ليه حاططني في دماغه بالشكل ده! والله ما جيت جنبه أبدًا. ربنا يستر.”
همسة، محاولة تهدئتها:
“طيب، هتتصرفي إزاي؟ هتروحي تقابليه؟”
ردت مي بسرعة وحزم:
“أقابله؟ لا طبعًا! ده عصبي وما بيتفهمش مع حد. أنا بجد مش عارفة أعمل إيه. المهم، أنا همشي دلوقتي. وهكلمك بعدين عشان المسابقة بتاعتك. مع السلامة. شكلها بكره هتنفجر في الجريدة.”
همسة بتوسل:
“خليكي شوية طيب!”
لكن مي رفضت بشدة:
“لا، لا. لازم أروح وأشوف هتصرف إزاي. مع السلامة.”
…
في مكان آخر، كان معتز ينتظر بابتسامة لاستقبال الصحفي، لكنه تفاجأ بدخول شخص آخر غير المتوقع.
الشخص القادم قال بتوتر:
“أنا ياسر، من جريدة… حضرتك طلبت صحفي يقدم حوار للشركة.”
معتز، وهو يعتصر الورقة التي بيده، تحدث بحدة واضحة:
“آه، أنا كنت طلبت الأستاذة مي، لأنها حضرت افتتاح الفرع الجديد بنفسها. هي مجتش ليه؟”
ياسر رد بتوتر:
“اعتذرت، وطلبت مني أجي بدلها.”
فجأة، ارتفع صوت معتز غاضبًا:
“ده تهريج! مش شغل أبدًا! يعني إيه اعتذرت؟ أنا متفق مع المدير! ده لعب عيال ولا إيه؟! انتو مش عارفين أنا مين ولا إيه؟! ممكن أقفل الجريدة على دماغكم. بس أنا مش هعديها على خير أبداً. اتفضل! وأنا هعرف ليه كلامي ما بتسمعش لا من المدير ولا من الأستاذة!”
أشار له بالخروج، فخرج ياسر مسرعًا، متفاجئًا من غضبه وتوتره.
همس ياسر لنفسه بعد الخروج:
“يا حول الله… لازم أكلمها وأبلغها. يمكن تلحق تتصرف قبل ما يوصل الخبر للمدير!”
…
استيقظت سيلا من نومها تتأوه بألم وهي تهمس لنفسها:
“آه… أنا فين؟ آه… إيدي!”
تذكرت ما حدث، وهمست بغضب وألم:
“حيوان! آه لو شفتك قدامي، إيدي…”
لاحظت الست فاطمة نائمة بجوارها على الأريكة، وحاولت النزول من الفراش. تأوهت من الألم وهي تنادي:
“داده… يا داده! عاوزه أشرب… عطشانة داده.”
لم تجد استجابة، فجمعت شجاعتها وتحاملت على نفسها للوقوف. بالكاد استطاعت الوصول إلى الباب، وعندما همّت بفتحه، وجدته يفتح من تلقاء نفسه.
ظهر أمامها فجأة، فتصلبت ملامحها وهتفت بغضب، دون أن تخفي رعشة صوتها:
“نعم؟ جاي تكمل على إيدي التانية؟ لعلمك، أنا مش هعدّي اللي عملته ده على خير، فاهم؟!”
ارتفع صوتها، فأفاقت الست فاطمة من على الأريكة، وسارعت نحوها:
“فوقتي يا حبيبتي؟ عاملة إيه دلوقتي؟”
نظرت سيلا لفاطمة بحب، وردت بصوت هادئ:
“الحمد لله، أحسن.”
أشار هو للست فاطمة بحزم:
“روحي انتي يا فاطمة، ارتاحي. أنا هكمل مكانك.”
هزت الست فاطمة رأسها وقالت:
“حاضر يا بني.”
بقلم شروق مصطفى
خرجت، لكن سيلا انتفضت وهي تصيح بغضب:
“اطلع برا! أنت! أنت داخل ليه؟ برا!”
لم يأبه لصراخها، بل تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وعيناه تلمعان بشرارات غضب واضحة. أشارت إليه بأحد أصابع يدها السليمة قائلة بتحدٍ:
“عارف لو قربت أكتر؟ أنت… أنت حر! فاهم؟ هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟ والله أنت مجنون!”
وقف أمامها بثبات، وتحدث ببرود قاتل وهو يشير إلى ذراعها الملفوفة:
“دي كانت قرصة ودن صغيرة. لكن لو حاولتي تاني… مش هتتوقعي الضربة تبقى فين، أو ممكن أعمل إيه. أبعدي عن غضبي… لأن غضبي وحش!”
لم تتراجع سيلا، بل نظرت إليه بتحدٍ صارخ وهتفت:
“غضبك؟ أنا مش خايفة منك! فاكر إنك تخوفني باللي عملته؟ أنا مش هسيب حقي، فاهم؟ لو كنت فاكر إنك أقوى مني، يبقى إنت غلطان!”
اقترب خطوة أخرى، لكنها لم تتحرك، وظلت تواجهه بشجاعة رغم الألم الذي ينهش جسدها.
نظر إليها بحدة وهو يقترب خطوة أخرى، حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد تختفي. نبرة صوته كانت أشد برودة وهو يرد:
“حقك؟ اللي زيك ما ليهش حق عندي! أنتي تعديتي حدودك، وأنا عرفت كويس إزاي أوقفك عندها. لو كنتي عاقلة، كنتي فهمتي الرسالة من أول مرة.”
سيلا لم تتراجع، رغم أن قلبها يخفق بقوة من مزيج الخوف والغضب، وهتفت بشجاعة مصطنعة:
“إنت فاكر نفسك مين عشان تهددني كده؟ أنا مش لعبة بين إيديك! واللي عملته مش هيسكتني، بالعكس، ده السبب اللي هيخليني أواجهك وأقف ضدك لآخر نفس!”
رفع حاجبه بسخرية، وضيق عينيه وهو يقترب أكثر:
“أواجهني؟ تقفي ضدّي؟ أنتي مش عارفة بتلعبي مع مين. المرة دي هعدّيها، لكن لو حصلت تاني… مش هتلاقي حد ينقذك، ولا حتى نفسك.”
لم تتراجع سيلا، ولكن صوتها بدا أكثر هدوءًا وهي ترد:
“روح هدّد حد غيري. أنا مش زي الباقيين اللي بتخوفهم كلمتين. لو عندك الشجاعة اللي بتدعيها، وريني أفعال مش كلام!”
اشتعلت عيناه بالغضب من تحديها، لكنه فجأة ابتسم ابتسامة ساخرة وقال بنبرة تنم عن الهدوء المريب:
“زي ما تحبي، يا سيلا. بس وقت ما تغلطي تاني، ما تلوميش غير نفسك.”
تراجع خطوة للخلف، لكنه قبل أن يغادر أضاف:
“بس خلي بالك… اللعب معايا خطير، وأنتِ لسه ما شفتيش الوجه الحقيقي لي.”
خرج من الغرفة بهدوء، تاركًا إياها تواجه أفكارها المتشابكة ومشاعرها المختلطة بين الغضب والخوف، وبين إحساسها بأنها دخلت لعبة أكبر مما كانت تتصور.
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها:
“ما فيش حد فوق القانون… هوريك مين اللي غلطان.