اخر الروايات

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل التاسع 9 بقلم عفاف شريف

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل التاسع 9 بقلم عفاف شريف

دقيقة...
أعطني دقيقة...
دقيقة هدوء، وربما هروب...
من الضوضاء في العالم
إلى السكون في حضنك...
من هبوب العواصف بقلبى...
إلى الحب اللطيف بقلبك.
من واقع الآلام في عالمي
إلى وهم الحب
ووهم الشعور في عالمك.
أعطني دقيقة هروب...
ربما هروب إليك لأغفو
وربما هروب منك لأنجو...
❈-❈-❈
صباح يوم جديد وربما بدايات جديدة للبعض.
يتحرك أصحاب الأشغال لأعمالهم،
الأطفال لدراستهم،
وربات البيوت لسلسلة واجبات طويلة لا تنتهي.
ويظل النهار يدثر ظلام الأمس،
لكن في عمق هذا الروتين اليومي، هناك لحظات صامتة نسرح فيها بأفكارنا.
نتساءل: هل يحمل لنا اليوم الجديد فرصة لتغيير ما في داخلنا؟
هل هي مجرد ساعات تمضي بسرعة، أم أنها خطوات نخطوها نحو شيء غير مرئي بعد؟
ورغم تنقلنا بين واجباتنا، يبقى الأمل في كل بداية جديدة هو ما يضيء طريقنا.
❈-❈-❈
لم تعلم منذ متى هي مستيقظة.
فقد نامت نومًا مضنيًا،
مرهقًا.
أفاقت بعد نوم مقلق وغير منتظم.
تطالع الغرفة حولها بلا أي تعبير،
وظلت بعدها تتطلع نحو النافذة.
تراقب الطيور تقف تأكل وتشرب مما وضعت لهم مساء أمس قبل أن تنام.
رأَتهم أول أمس،
فقررت أن تضع لهم لليوم.
وها هم يزينون شرفتها بجمالهم،
وصوتهم المحبب لقلبها.
كانت تراقب وجودهم بعيون تائهة.
منذ أمس كسر بداخلها شيء جديد،
وكان ما بداخلها لا يكفي.
أمها، أباها،
آسيا،
وأخيرًا عمر.
خوف ما بداخلها ينهش قلبها،
يورق راحتها.
ألا يسعى لأجلها؟
يسعى.
الم يُعطِها الحب؟
بل أعطى.
إذاً ماذا يحدث؟
لِمَ خوفها؟
لم تلك الغصة؟
كيف صنعوا منها امرأة هشّة لتلك الدرجة؟
تطلعت بالجهة الأخرى من الفراش الفارغ.
ذهب عمر لعمله ولم تستيقظ هي
أو ادّعت النوم.
هي لم تُرد أن تتحدث.
أصبح الحديث ثقيلًا.
لا تريد.
فقط تريد النوم لمدة طويلة قدر الإمكان.
أغمضت عينيها لوهلة قبل أن تفتحهما.
معتدلة في جلستها،
متخلية عن رقدتها.
توجهت نحو المرآة بخطوات متعبة.
أزاحت خصلاتها من على وجهها.
تنظر لنفسها.
تمرر يدها على وجهها.
عيون منتفخة،
وجه مرهق متعب،
والخذلان يملأ عينيها.
كانها ترتوي حزنًا يومًا بعد يوم،
حتى اكتفت.
يكفي ما حدث،
ولأجل من؟
لأجلهم.
رفعت عينيها المتعبة
تناظر نفسها بعين أخرى.
أسرعت نحو الحمام،
تفيق نفسها بالماء
مرة بعد مرة.
كانها بحاجة لإزاحة كل هذا.
تزيحه بكل قوتها،
مقررة أنه كفى.
يكفيها هزيمة،
يكفيها ضعفًا وألمًا.
يكفي ما حدث.
رفعت وجهها تنظر لوجهها الأحمر
من شدة غسله.
الماء تقطر منه،
وبعينها نظرة مختلفة،
نظرة تعني كفى.
من اليوم.
لن تسمح لنفسها أن تضعف مرة أخرى.
لا تحزن نفسها هكذا أبدًا.
كفاهم ما أخذوه.
❈-❈-❈
كان يجلس يتابع مع أحد زملائه أحد الأعمال بإجهادٍ، اليوم من بدايته إلى نهايته، عملٌ دون توقف، ولا يجد وقتًا حتى لتناول لقمة ليكمل اليوم.
فـ "روفيدا" تضع على كاهله ما لا يحتمل.
انتفض هو وزميله على الملف الذي سقط على المكتب بعنف،
وروفيدا تصيح بعصبية: "ممكن تفهمني إيه اللي في الملف ده؟ إيه الإهمال ده يا عمر؟"
نظر لها بعدم فهم، وحينما لم تجبه،
لم يضع وقتًا وهو يأخذ الملف يقلب فيه محاولًا فهم ما حدث،
إلى أن وقعت عيناه على الخطأ.
اتسعت عيناها وهو يحاول الاستيعاب،
كيف حدث هذا؟
لم تحدث من قبل أن وقع في خطأ كهذا.
زم شفته بضيق،
وهو يحاول التذكر،
أغمض عينيه بيأس، في الأغلب أمس وهو ينهي العمل بمنزله.
طالعها بضيق وهو يردد باعتذار مجبرًا: "بعتذر جدًا، أستاذة روفيدا، معرفش الحقيقة حصل إزاي. دي أول مرة. حضرتك عارفة أن..."
قاطعه حديثه وهي تضرب المكتب بقوة وترد بصلف وعجرفة: "أسفك مش مقبول. خصم أربع أيام. وهتقعد زيادة عن الكل. اللي عايز يشتغل هنا، يكون عينه وسط راسه. لعب العيال ده أنا مش همسح بيه. وده ثاني إنذار ليك. الثالثة تابته."
وأكملت بصوتٍ عالٍ وعينيها عليه: "واللي مش عاجبه الوضع، الباب يفوت جمل."
اتسعت عيناه وهو يسمع تهديدها المبطن.
ناظرها بغضبٍ وشعور بالإهانة يقتله،
لكنه لم يستطع التحدث،
ليكتم غضبه وهو يراها تغادر بكبرياء،
بعد أن أهانته متعمدة.
نظر حوله لنظرات زملائه،
لينتفض من مكانه مغادرًا الغرفة،
يكاد يحطمها فوق رؤوسهم،
رأسها هي تحديدًا.
يعلم نيتها،
ويعلم السبب،
يعلم الآن أي جحيم سيعيش.
❈-❈-❈
دلف لشركته وهو يتحدث مع آلاء موبخًا إياها على ما حدث أمس، وهو يؤكد لنفسه أنه يجب وبسرعة وضع حد لما يحدث.
لتجيبه مبررةً مدافعة عن نفسها بمرح:
"يا أخي تعبنا منك، اتجوز وريحنا بقى. نفسنا نشوفك مع عروستك وتملي البيت عيال يا تيمو."
تنهد وهو يجيبها بهدوء مارًا بالمكاتب يتفقد الوضع بها، وهو يقول:
"آلاء، أنا تعبت من الكلام في الموضوع ده. أنا لعيال صغير ولا فاقد الأهلية عشان تحاولوا تحطوني قدام الأمر الواقع. الموضوع هيتقفل، وهيتقفل يعني هيتقفل. وأنا مش بهزر، أنا بتكلم جد. وكفاية أوي إني لسه محاسبتكيش على الموقف الزفت اللي حطيتني فيه أنتِ وبابا. وأنا بتفاجئ بإني في قاعدة تعارف. أروح؟ أه بس بمزاجي وبرضايا. بس مش طبيعي أتغفل يعني. مينفعش بجد. أنتو بتضغطوا عليَّ أكثر من اللازم، واللي بيحصل ده تهريج ولازم يخلص وفورًا."
قالها بصرامة، جعلت الأخرى تجفل وتبكي.
استغفر ربه وهو يتنهد بصوت، ليتحدث بعدها بهدوء:
"آلاء، ممكن تصلي على النبي وتستهدي بالله؟"
قالها وهو يشير لسكرتيره الخاص أن يعد له فنجان قهوة قبل أن يدلف لمكتبه.
ف رأسه ستنفجر.
خلع سترته ملقيًا إياها على أحد المقاعد وهو يجلس يحادثها بهدوء:
"اقفلي، هكلمك فيديو."
وأغلق واتصل بها، ليقابله وجهها المحتقن بالبكاء.
كانها تبكي منذ مدة، وليس الآن بسببه.
اقترب من الشاشة يتفحصها بقلق، غير مهتم في تلك اللحظة سوى بها هي فقط.
لا يهم سواها.
"آلاء، أنتي كويسة؟"
سألها والقلق ينهش قلبه، وهو يكمل:
"أنتِ معيطه ولا إيه؟"
رفعت صغيرها تميم النائم بين ذراعيها، وهي تمسك الهاتف باليد الأخرى قائلة بتعب وهي تضعه في الفراش:
"تعبانة بس من الولاد، إنت عارف المسؤولية مش سهلة أبدًا. كل عيل عايز وقت وطاقة وصحة."
جلست جوار صغيرها تمسح على خصلاته، تناظره بتعب شديد تمكن منها.
هي لم تعد تحتمل تلك المسؤولية وحدها.
لا طاقة، ولا صحة، ولا أي شيء.
فقط تعب وإرهاق.
أربع أطفال، أربع أطفال، بالعديد والعديد من المسؤوليات والواجبات والالتزامات، ولكل منهم مصائبه الخاصة.
توأمتيها آية وآيلا بعمر الأربع سنوات، وابنها عزّ صاحب السنتين، وأخيرًا تميم صاحب السنة الواحدة.
تأتي لها لحظات تقف وسطهم، تصرخ وتجلس باكية لا ترغب في هذا.
لا تريد سوى النوم بضع دقائق فقط.
تنهدت بتعب، وهي تخرج تغلق الباب خلفها تاركة الصغير يحظى بنوم هادئ.
وخرجت هي لتجلس على أحد الأرائك، تنظر له لعدة ثوانٍ، قبل أن تنفجر في بكاء لم تقدر على إيقافه.
انتفض من مكانه وهو يرى انهيارها أمامه بهذا الشكل، وبداخله أصبح مؤكدًا أن شقيقته ليست بخير.
ليست بخير أبدًا.
❈-❈-❈
تركها تبكي بقدر ما تحتاج.
بكت وبكت حتى اكتفت.
تنهد بضيق وهو يرى إرهاقها الواضح للأعمى إلى أي حال وصلت شقيقته.
أكانت تخدعهم بمزاحها الدائم؟
أكانت ضحكاتها كاذبة؟
وثرثرتها الفارغة لم تكن سوى غلاف تحيط به نفسها.
كيف لم يلاحظ؟
كيف أهملها لهذا الحد؟
ومن السبب في هذا؟
من أوصلها إلى تلك الحالة؟
مد يده يتلمس صورتها الباكية راغبًا وفي تلك اللحظة في ضمها بين أحضانه مربتًا عليها حاملاً كل ما يؤلم قلبها بقلبه إن استطاع يكفيه فقط هي أن تعود كما كانت ولا تزرف دمعة واحدة بهذا الشكل المؤلم.
كم كانت ذا روح مرحة، مبتسمة ومشاكسه.
كانت بهجة بيتهم.
وشعلة نشاط وطاقة.
انطفأت شمعتها وخفت بريقها.
كأنها أصبحت شخصًا آخر.
شخصًا أنهكته الحياة.
تنهيدة أخرى خرجت منه متعبة ومتألمة وهو يحادثها بهدوء قائلاً: "بقيتي أحسن؟"
هزت رأسها نافية.
هي ليست بخير.
أصبحت لا تتحمل.
أغمضت عينيها وهي تفكر.
هي التي تستيقظ قبل الجميع لتلبي احتياجاتهم، وتظل مستيقظة بعد أن يخلد الجميع للنوم لترتب، تخطط، وتفكر.
المنهكة ليست فقط من العمل البدني، بل من الضغوط النفسية والمسؤوليات التي تتزايد دون توقف. قد تُخفي تعبها بابتسامة أو دعابة تُدخل الفرح على قلب من حولها، لكنها تحمل في داخلها أوجاعًا وجروحًا لا تراها إلا هي.
هي من تُرهقها الليالي الطويلة بجانب طفلها المريض، أو تسهر على تجهيز احتياجات أسرتها دون أن تشتكي. تجدها دائمًا منشغلة، ولكن عينيها تخبرك بحجم التعب. ومع ذلك، تظل شامخة.
زفر بضيق وهو يرى الألم في ملامحها كأنها تفكر في معضلة، قبل أن يسألها: "إيه اللي حصل؟
ممكن تحكيلي؟"
صمتت لدقائق، احترمها هو.
حقها، ولو أرادت فلتأخذ وقته كله.
نظرت حولها لعدة ثوانٍ بعينين منهكتين، قبل أن تنطق بتعب: "أنا تعبت يا تميم.
تعبت ويمكن دي بجد كلمة قليلة على شعوري.
أنا بقيت حاسة إني مش قادرة أعيش طبيعي.
أبسط حقوقي مش قادرة أحصل عليها.
دقايق لنفسي.
فنجان شاي أو حتى أشم شوية هوا.
متخيل إنسان وقته كله للغير؟
مش بنام.
مش بعرف آكل لقمة من غير صراخ وعياط.
وواحد فيهم على كتفي.
مش قادرة أخد أقل حقوقي."
وأكملت بخجل مرهق: "حتى إني أدخل الحمام.
متخيل أبسط حقوق الإنسان في احترامه لنفسه؟
بقت صعبة.
لو دخلت دقيقة صراخ وعياط والأربعة عايزين يدخلوا معايا.
صراخ طول الوقت.
عياط بطريقة غير طبيعية.
لحظة هدوء حتى.
ينام ده، يصحي ده.
يخف ده، يتعب الثاني.
أنت متخيل إني المفروض أكون زوجة وأم وربّة منزل مثالية؟
أنت متخيل كم المسؤولية اللي محدش حاسس بيها غيري؟
أنا مش ناكرة أو معترضة والله يا تميم.
حاشا لله."
قالتها بأنهار.
"أنا بس كنت عايزة طفل أو اثنين أقدر أديهم حبي وحناني وطاقتي.
بس أنا مهما خدت وسائل منع حمل بحمل.
بحمل وأنا مش مستعدة.
لا جسديًا ولا نفسيًا.
بحمل غصب عني.
وأنا مش قادرة أخد بالي من اللي معايا.
مش ناكرة أبدًا والله والله أبدًا.
كل اللي يشوفني يقولي أحمدي ربنا.
غيرك مش طايل ضفرهم.
ومين قال إني مش عايزة؟
مين دخل جوايا وعرف أنا قلبي فيه إيه؟
أنا عايزهم وبحبهم.
بس عارف لما تكون عايز ومش قادر؟
صعبة أوي صح؟
إنك بجد نفسك،
بس لا في طاقة ولا صحة،
ولا أي حاجة.
مهما حاولت.
الولاد مسؤوليتهم بتكبر معاهم.
بتزيد يوم عن يوم.
محتاجين بدل العين عشرة.
وبدل اليد عشرة.
تحس إني مش ملاحقة.
بين ده وده.
ده عايز وده عايز.
ده بيصرخ وده بتضحك.
ده قاعد على ده.
وده بيخنق ده.
أنت متخيل كمية الدوشة اللي أنا فيها؟
وأن يكون أقصى آمالك في اليوم
إنك بجد تقعد عشر دقائق بهدوء.
وفي الآخر إيه النتيجة؟
النتيجة صفر.
بطلع ست مهملة.
وأم فاشلة.
وزوجة.
وزوجة ناقصة فين عين جوزها؟
زوجة مهملة في نفسها وشكلها.
إزاي يرجع ومكنش على سنجة عشرة؟
إذا مهتمتش بنفسي وشكلي.
أصلي بعمل إيه؟
أنا واحدة مش بتعمل حاجة طول اليوم.
يدوب بس
بروق بس.
بنظف وأمسح.
وأغسل.
وأطبخ وآكل وأشرب وأغير وأحمي.
أصلي بفضل ماسكة للموبايل طول اليوم.
مانا ست فاضية بقي.
مش كده يا تميم؟"
قالتها ساخرة بتعب شديد.
صمت لعدة ثوانٍ قبل أن تسأله بتعب مضنٍ:
"أنت عارف أنا عايشة إزاي وحاسة بإيه؟"
صمتت مرة أخرى،
قبل أن تغلبها مشاعرها،
فانهارت تبكي بحرقة.
❈-❈-❈
"تقف أمام مرآتها تنظر إلى نفسها. هي لم تعد هي." هي التي تحمل العالم على كتفيها دون أن تشتكي، تصحو قبل شروق الشمس لتهتم بكل شيء وتغفو على سريرها بعد أن يهدأ كل شيء، لكنها لا تنام فعليًا، لأن أفكارها تبقى مستيقظة.
هي من أرهقتها تفاصيل الحياة الصغيرة؛ صرخات الأطفال، الأواني المتراكمة، العمل الذي لا ينتهي، والوقت الذي لا يكفي أبدًا. ومع ذلك، تواصل السير، لأنها تؤمن بأن تعبها يُثمر حبًا وأمانًا لمن حولها.
تعيش يومها وكأنها في سباق دائم. بين واجبات الأمومة، متطلبات العمل، وضغوط الحياة، لا تجد وقتًا حتى للنظر في المرآة أو سماع نبضها.
هي التي تشعر أنها تُهمل نفسها، لكنها تُفضّل أن تُهدي وقتها وطاقتها لكل من حولها. لأنها ببساطة، وضعت الآخرين في قلبها، وأجلت نفسها إلى أجل غير مسمى.
ليست ضعيفة، بل قوية بما يكفي لتحمل كل هذا. لكن قوتها تُنهكها، وداخلها صوت صغير يهمس: "أنا أيضًا أحتاج إلى الراحة... إلى حضن يخفف عني."
تستحق لحظة هدوء، كوب شاي دافئ في صمت، كلمة طيبة أو حضنًا دون طلب. تستحق أن يتوقف العالم قليلًا، ليُعيد لها ما تمنحه بلا توقف.
قد تبدو عادية في عيون الآخرين، لكنها بطلة خلف الكواليس. تستحق التقدير الذي ننسى أحيانًا أن نقدمه لها.
❈-❈-❈
كان يوقع بعض المستندات أمامه بعقل شارد غارق في التفكير.
يفكر بجدية أن يسافر لها، لعله يخفف عنها،
ويأخذها لبعض الأماكن لكي تتحسن نفسيتها،
أو على الأقل جلسة طويلة.
يعلم حقاً ماذا يحدث هناك،
ماذا تخفي بقلبها الصغير؟
لماذا لا تحكي له،
أو لأحد إخوته؟
حسناً، على الأقل تحادث ملك.
فلتخبرها إن كان هناك شيء مخجل مثلاً،
تخجل من الحديث به معه أو أحد إخوته.
لكن متى كان بينهم تلك الأمور؟
كان الأقرب لها،
دائماً وأبداً.
حتى في تلك المحادثة الطويلة،
لم تستفضِ كثيراً بالحديث،
فقط بكت.
بكت حتى تورمت عيناها،
وشكت بما يحدث معها مع الصغار:
عدم نومها،
رغبتها بالدخول للحمام كباقي البشر
دون صراخ.
واحد من الصغار فوق ساقيها يمشط خصلاتها
أو يقتلعها.
ولوهلة تسأل: لماذا يمشط الصغير خصلاتها في لحظة كتلك؟
ما هذا القرف؟
وحينما سأل مرة أخرى،
لم ترد أن تزيد.
ولم يرد أن يضغط عليها.
يكفيها ما يحدث معها،
وكم هذا الضغط المهلك لها.
لكنه يحزن ويتألم قلبه.
هو فقط.
لم يعتدها بهذا الضعف يوماً.
كانت قوية وأصبحت هشة.
حتى وقت فقدهم زهرة حياتهم،
أمهم الغالية،
وأغلى ما لديهم.
كانت صامدة قوية،
تشد أزر إخوتها، تقف بجانبهم تحتضن ألمهم.
كانت بجانبهم ولم تترك يدهم يوماً.
والآن دوره.
سيعلم ما بها،
ويحتضن قلبها بكل ما أوتي من قوة.
قالها لنفسه وهو يوقع آخر ملف أمامه.
تبعه دخول السكرتير الخاص به وهو يقول بهدوء:
"عندنا بعد عشر دقائق اجتماع يا بشمهندس."
أومأ له وهو يعطية الملفات،
متسائلاً بضيق:
"مع شركة ياسر الفاروقي؟"
إجابة الآخر بتأكيد:
"أيوة يا بشمهندس."
حرك رأسه قائلاً بتأكيد:
"خلي أي حد من المهندسين يجتمع بيهم،
أنا مشغول النهاردة."
توترت ملامح الآخر ليجيبه بسرعة:
"بس أستاذ ياسر طالب حضرتك تكون موجود،
بيقول مش هيوقع غير وحضرتك موجود."
زم شفتيه بغيظ من هذا الياسر.
يمقته ولا يحبه.
ثقيل على قلبه.
ذا طلبات متكررة معقدة.
عبء ثقيل عليه.
ويصعب إرضاؤه.
لكن يبقى العمل معه شيئاً لابد منه.
حرك رأسه موافقاً وهو يخبره بإجهاد:
"تمام يا علي، ابعتلي لو سمحت فنجان قهوة كبير.
طالما فيها ياسر،
يبقى صداع للصبح."
أخفى على ابتسامة وهو يتوجه سريعاً للخارج
لجلب قهوة لمديرة ولنفسه.
فحقاً، هذا الياسر مزعج.
❈-❈-❈
الجميع في غرفة الاجتماعات منذ ثلاث عشر دقيقة، والياسر في مكالمة مهمة يبدو أنها ستطول.
اعتذر مساعده للمرة السابعة عشر لتميم قائلاً بتوتر:
"بعتذر بشمهندس تميم،
بس أكيد حضرتك عارف مكالمات مهمة،
لابد منها."
ناظرةً بحدة، أوقفته عن التبرير.
وظل مكانه يرتشف من فنجان القهوة بهدوء،
وهو يرى ياسر يدلف للمكتب ببتسامة مزعجة كشخصه.
وهو يقترب من تميم، يمد يده ليصافحه.
نظر ليده تارة وله تارة،
قبل أن يرد بقلة ذوق وهو يرفع الفنجان مرة أخرى لفمه:
"معلش، إيدي مشغولة.
اتفضل."
قالها بابتسامة صفراء،
وهو يراه يجلس بغضب، أرضاه حقيقة.
وبعد أن شرب القهوة في خمس دقائق ببطء السلحفاة،
وحرق دمه مرة أخرى،
بدأوا الاجتماع.
وبداخله هو يريد أن يبرح ياسر ضرباً مبرحاً لعله يهدأ قليلاً.
لكنه، ورغم عدم حبه لشخصيته، يراه شخصًا ناجحًا، مجتهدًا، ذا عزيمة قوية وشريفة، يشرفه العمل معه دون معاندة.
❈-❈-❈
خرجت من المطبخ تحمل بين يديها كوب الشاي بحليب الساخن وطبق كبير به عدّة شطائر من الفول والفلافل، وهناك أيضاً شرائح البطاطس، ومعهم أيضاً شرائح الباذنجان والفلفل المقلي بخليط شهيّ غريب وحار للغاية،
وبصل، لكن لن تأكل البصل.
وجدتهم صباحاً بالمطبخ.
يبدو أن عمر أحضرهم لها صباحاً وهي نائمة.
وضعتهم من يدها فوق الطاولة،
وأخذت تشمشم فيهم.
حسناً، كانت باردة وبحاجة للتسخين،
لكن لا بأس،
تفي بالغرض.
جلست تمسّد على معدتها برفق.
أصبحت تؤلمها في كل وقت، وأيضاً تعاني من بعض الانتفاخ في بعض الأحيان.
نظرت للشطائر بضيق.
أصبحت ذات معدة حساسة للغاية،
حساسة حقاً ومقرفة.
اختلاف نوعية الطعام أثر عليها بشكل كبير.
هي بالغت في تناول ما لا يجب،
ولا يناسب جسدها ولا نظام حياتها السابق.
هي عاشت عمراً تأكل الطعام الصحي جداً:
مسلوق وخضروات،
ممتنعة عن أبسط الدهون.
والآن تأكل المعبي به،
وأيضاً عندما أعدّت الطعام وضعت سمن،
سمن يا فريدة!
منذ أن تزوجت، تتناول كل ما ينافي هذا.
أصبحت تتألم بشدة من عدم تحملها،
حتى لشرب الماء.
صوت رنين هاتفها أخرجها من أفكارها.
كانت سارة.
فتحت المكالمة وهي تلتقط شطيرة الفول،
وضعت عليها شريحة باذنجان وفلفل كما يفعل عمر لترفعها إلى فمها تلتهما ممهّدة لمعدة الألم القادمة،
وهي تغمغم بفم ممتلئ:
"أرغي،
وأشجيني."
قالتها بثقة من الحديث القادم،
وسينتهي بحظرها إن شاء الله.
❈-❈-❈
وصل إلى المقهى المعتاد له ولأحمد.
يريد أن يريح رأسه لبعض الوقت.
طالت اجتماعات اليوم،
ولم يعد في رأسه مكان أبداً.
يريد شرب أي مشروب دافئ،
وأكل أي شيء يملأ معدته الخاوية.
طلب لنفسه فطائر محشوة وأضاف خضروات وجبن إضافي.
وطلب لأحمد طلبه المعتاد.
جلس يقلب في هاتفه في انتظار أحمد أو الطعام، من يأتي أولاً.
لفت انتباهه الإشعارات المتكررة.
فتحها ليُري ما لفت انتباهه أكثر.
كان طلب صداقة.
لم يهتم للوهلة الأولى،
لكن صورة الحساب جعلته يتسمّر لوهلة.
كانت قريبة قطعه السكر خاصته.
المدعوة "آسيا".
❈-❈-❈
نظر للحساب بفضول فقط لشئ واحد،
ليس لها،
بل لقطعة السكر.
لكن وقبل أن يبحث عن حسابها،
توقفت يداه.
هو ليس هذا الوغد؟
منذ متى يقبل على الآخرين ما لا يقبله على أهل بيته؟
إن أرادها فليذهب ويأخذها من قلب بيتها،
أمام الجميع،
لا أن يراقبها بتلك الطريقة الوقحة.
أغلق الصفحة والهاتف بضيق،
قبل أن يلقيه على الطاولة وهو يرى النادل يقترب منه ليضع الطعام أمامه بابتسامة.
شكره وهو ينظر للفطيرة بسعادة.
صدق من قال إن الطريق لقلب الرجل معدته.
أمسك بقطعة وقبل أن يرفعها إلى فمه،
رأى أحمد يدخل المقهى بملامح عابسة،
يحادث أحدهم، وطبعا كانت خطيبته.
وضع القطعة من يده،
واثقاً أن القادم سيفقده شهيته.
تبا للأصدقاء.
❈-❈-❈
جلس أحمد يتحدث بغضب بعد أن ألقى الهاتف في حقيبته الصغيرة،
وهو يهتف بستياء:
"يلعن أبو الحب يا أخي، عليَّ اللي عايز يحب!"
رفع تميم حاجبه باستهجان،
قبل أن يقول مصححاً:
"اشتم نفسك بس،
مالِكش دعوة بالناس،
مالك يا أخويا،
منكدة عليك ولا إيه؟"
هز رأسه بإرهاق وهو يتمتم:
"منكدة...
ده أنا بقيت أنا والنكد أخوات، أخوات كده.
لو في يوم ما اتخانقناش ببقى عايز أزغرط!"
أفلتت من تميم ضحكة لم يقدر على كبحها،
ليضحك وهو يقول:
"مَنَا قلتلك يا بني،
أنتو مش نافعين،
هي غيرك،
أحلامها غيرك."
حصل إيه؟
إيه سبب النكد المرة دي؟"
زفر أحمد بضيق وهو يخبره بإرهاق:
"متخيل عايزة تشتري فستان الفرح بكام؟
خمسين ألف يا تميم،
والميك أب آرتيست بعشر آلاف،
وطالبة عشرة للتفاصيل الصغيرة.
ولما قلتلها نشوف حاجة أقل يا بنتي،
ده كثير أوي،
فوق طاقتي بجد،
تقولي أنت بتكسر فرحتي.
هو أنا أقل من بنت عمي اللي لبست مش عارف إيه؟
ولا بنت خالي اللي سوت إيه؟
أنا مالي؟
أنا ببنت عمها وبنت خالها؟
أنا ليّا بيا.
هي عارفة إني عينيَّ ليها،
بس مش طبيعي استلف من طوب الأرض عشان فستان هيتلبس كام ساعة
ويتركن في الدولاب.
بجد غلبت
كلام،
ومداديه،
ومحايله!
ويا بنتي يهديكي، يرضيكي!"
أبداً،
أبداً يا تميم!
مُصرة !
وأكمل بضيق:
"أنت مش فاكر عملت إيه وقت التجهيز ولا وقت العفش؟
يا ابني، ده أنا كنت مش بنام الليل عشان أجمع كل قرش،
وأجيب اللي نفسها فيه.
وفي الآخر أنا مش بقدرها ومش بحبها!
بالله عليك ده كلام ناس عاقلة؟
أنا زهقت!"
قالها وهو حقاً يشعر بالضغط.
طالعة تميم بنظرات مشفقة.
خطبة دامت لسنتين من الضغط العصبي والنفسي.
تطالب هي بما يفوق طاقته.
تريد وتريد،
مثل هذه وتلك.
وهو لا يقصر،
يعمل ليل نهار،
وفي النهاية،
هو المقصر بأي حال من الأحوال.
وهو لا يعلم كيف يساعده.
زم شفتيه ناطقاً بما يعلم أنه سيرفضه:
"أحمد،
أنت عارف أني بقول كده مش مجرد كلام.
اسمح لي فستان عروستك يكون هدية مني ليكم."
رفع أحمد رأسه يناظره بحدة،
قبل أن يحمل حقيبته وينتفض من مكانه مقرراً المغادرة.
لتمنعه يد تميم التي أمسكت بمعصمه،
وهو يقول مشدداً:
"أحمد، لو سمحت اقعد!"
نظر له الآخر لعدة ثوانٍ،
قبل أن يلقي حقيبته مرة أخرى جالساً قائلاً بحسم:
"آخر مرة يا تميم،
أنا مش بحكيلك عشان تقولي كده،
عيب يا تميم.
معقول متعرفنيش؟"
رمقه الآخر بغضب وهو يقول:
"شكلك أنت اللي مش عرفني.
أنت عارف أني عارف أنك بتفضفض،
بس قولي لو أنا صاحبك الوحيد مشلتش همك
وشلت عنك،
مين يشيل؟
أنا اللي زعلان يا أحمد.
المفروض أنا أول حد تطلب منه،
مش تروح للأغراب.
أنا أقرب ليك منهم.
أنا صاحبك،
اللي لو طلبت عيني هديهالك وأنا مغمض.
اللي بينا أكبر من صداقة.
أنت أخويا يلا،
قالها وهو يربت على كتفه وهو يكمل:
"أنت زي حسام وأمير عندي،
ويعلم ربنا،
بس أنت مضغوط هتعمل إيه.
يا عم اعتبرهم دين،
ووقت ما تحب وربك ييسر سدد.
ولو أنك عارف رفضي للموضوع،
بس تمام لأجل كرامتك يا أخويا."
قالها ممازحاً.
تنهد أحمد بضيق وهو يقول:
"لا يا تميم،
أنت فاكر أن ده الحل يعني؟
أن كل ما تحتاج حاجة فوق طاقتي
هروح أستلف.
ليه بجد؟
ما هي زيي شايفه الوضع والغلاء.
ليه تيجي عليا؟
لا يا تميم!
أنا خلاص جبت آخِرِى بجد.
ليه أنا بس الطرف اللي بيعافر في العلاقة دي؟
كأني بحب من طرف واحد."
الجملة الاخيرة لامست قلب تميم،
ذكرته بنفسه.
❈-❈-❈
وصل إلى منزله بعد خوض نقاش طويل مع أحمد. هو لا يعلم كيف يساعده، يرفض أي مساعدة، رغم أنه لا يراها هكذا. هو أخوه مثل حسام، كيف يتركه هكذا؟ كيف يطاوعه قلبه؟
دلف إلى المنزل الهادئ، قابل منير وقد كان مغادرًا، ليسأله بهدوء:
"بابا نام يا عم منير؟"
أومأ له الآخر مجيبًا بتأكيد:
"أيوة يا ابني، وأنا همشي اهو. أحطلك العشا قبل ما امشي."
ربت على كتفه وهو يهز رأسه نافيًا، شاكرا إياها.
ليسرع بالصعود والاطمئنان على والده قبل أن يخلد للنوم.
❈-❈-❈
اطمأن عليه، دثره جيدًا وقبل جبينه. كم يعاني ليُرضيه، لكن كيف تلك المرة؟ وقلبه هو المتضرر.
صوت وصول رسالة ظنها من أحمد. أخرج هاتفه وفتحه بلا مبالاة، لتصطدم عيناه برسالة لم تكن من حسام، كانت من اخر من توقع آسيا، قريبة قطعة السكر.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close